كتاب (معاني القرآن) للفرّاء ـــ بهاء الدين الزهوري . باحث سوري .

أبو حاتم

New member
إنضم
25 أبريل 2003
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 91

مقدمة:‏

يعتبر كتاب (معاني القرآن) للفراء(1)، دراسة مكملة ـ من الناحية اللغوية ـ لكتاب (مجاز القرآن) لأبي عبيدة، لأنه يبحث في التراكيب والإعراب، وكتاب (المجاز) في الغريب والمجاز، وكلتا الدراستين متعلقتان بالأسلوب، واختلفت دراسة الفراء هنا عن دراسة أبي عبيدة، وكان لهذا الخلاف أسبابه التي سنراها عما قليل. و كان الفراء (144-207) هـ من أعلم الكوفيين بالنحو واللغة.‏

واسم الكتاب (معاني القرآن) لم يكن أول اسم أطلق على كتاب في دراسات من هذا النوع، كما كان المجاز مثلاً. وقد اهتم كثير من النحويين واللغويين في القرون الثلاثة الأولى للهجرة بوضع كثير من الكتب تحت اسم (معاني القرآن)، ومن هؤلاء: الكسائي، والنضر بن شميل، وقطرب، والأخفش... وغيرهم وأينما ذكر أصحاب التفسير أصحاب المعاني فإنما يقصدون هؤلاء.‏

تحليل الكتاب:‏

يبدأ الفراء بتفسير القرآن سورة سورة ـ بعد مقدمة قصيرة ـ بترتيب تنازلي بحيث يشرح ما في الآيات من الغريب والإعراب والقراءات شروحاً مختلفة، لغوية ونحوية وإخبارية وأدبية، وقد يبيّن أسباب النزول ثم يسند كلما وجد إلى السند سبيلاً.‏

ويرى أحد الباحثين أن الفراء أول من تناول تفسير القرآن بترتيب السور معتمداً على نص لابن النديم ليس قاطعاً(2)، إلا أن كتاب (المجاز) ينفي هذا الظن أو يشكك فيه.‏

منهج الكتاب:‏

بدأ بسورة الفاتحة، ثم البقرة... وهكذا تنازلياً، ويتعرض لآيات كل سورة آية آية بالترتيب ـ ولم يقتصر على الغريب كما فعل أبو عبيدة شارحاً ومفسراً لغريب الألفاظ ويقف كلما استدعاه الأمر للوقوف، لقراءة في آية، يصححها، وينفيها أو يضعفها، ثم يفسرها تفسيراً نحوياً، ويوجه ما يحتاج منها إلى التوجيه النحوي أو اللغوي، ويأتي بالأمثلة والشواهد ثم يدرج المسألة جميعاً تحت قاعدة عامة.‏

ويتبع في تفسير الغريب قاعدة واحدة، هي التي اتبعها أبو عبيدة من قبل، تلك هي شرح الآية بالآية، ثم بالحديث إذا تسنى ذلك، ثم بالشاهد الشعري، أو المثل، أو الكلام الفصيح. وإذا تعرض لأسباب النزول فإنما يروي بالسند عن أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين. ومثال ذلك من الكتاب: تفسيره للآية: (أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ((3) فيقول: (قرأها يحيى بن وثاب وأبو جعفر المدني): أليس الله بكاف عباده، على الجمع، وقرأها الناس: عبده، وذلك أن قريشاً قالت للنبي ( ما تخاف أن تحملك آلهتنا لعيبك إياها، فأنزل الله تبارك وتعالى: (أليس الله بكافٍ عبده( محمداً (، فكيف يخوفونك من دونه؟. والذين قالوا عباده قالوا قد همت أمم الأنبياء بها وعددهم مثل هذا فقالوا لشعيب: ‌(إِنْ نقُولُ إلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتنَا بِسُوءٍ((4) فقال الله تبارك وتعالى: ‌(أَليس الله بكافٍ‏

عبده(، أي محمداً والأنبياء قبله صلى الله عليهم وسلم، وكُلٌّ صواب.‏

ويهتم الفراء بالقراءات فيعرض لها في الآية مبيناً وجهة نظر كل قارئ مفسراً قراءته، وقد تتعدد القراءات وتتعدد آراء المفسرين، فيفاضل بين آرائهم مختاراً ما يراه قريباً من الصواب، ويرى أن النسق في الآية يوجب الترجيح لقراءة ما، أو التصحيح للفظ، مثل قوله في تفسير الآية: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ((5) فيورد بعض الأقوال في تفسير الأشد ويتبعها بقوله: (والأول أشبه بالصواب لأن الأربعين أقرب إلى النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثماني عشرة، ألا ترى أنك تقول: أخذت غالية المال أو كله، فيكون أحسن من أن تقول: أخذت أقل المال أو كله).‏

ويطرح ما لا يتفق وكلام العرب من القراءات، ولا يختلف مع التفسير، ومثال ذلك ما قال في الآية: (وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيْمٌ حَمِيْماً((6) لا يقال لحميم أين حميمك، ولست أشتهي ذلك لأنه مخالف للتفسير، ولأن القرَّاء مجمعون على يَسْأل.‏

ويغلب النقل على الكتاب، والتفسير المأثور، وكثيراً ما يذكر في ختام كلامه عبارة: (وبذلك جاء التفسير) أو (وجاء في التفسير كذا) أو (وذكر المفسرون). هذا إذا لم ينص على صاحب التفسير أو يسنده إليه.‏

وينقل عن أئمة المفسرين والصحابة، فينقل عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن البصري، وقتادة، والسدي، ومن الأخباريين عن ابن الكلبي وغيرهم، ولا يظهر اجتهاده ورأيه في شرح معاني الغريب، أو توضيح إعراب أو بيان إعلال أو إبدال، أو تغيير ما في اللفظ أو العبارة.‏

ويقلل من الشاهد الشعري، ولا يفسر به الآيات تفسيراً مباشراً، ولا يحتج على معنى الآية بمعنى البيت، لكنه يأتي بالبيت لتوضيح المعنى اللغوي القريب الذي لا شبهة وراءه، ولا يعني تزمته هذا جموداً، إذ إنه كثيراً ما يخرج على جماعة المفسرين واللغويين ويعتمد على رأيه الشخصي، الذي توصل إليه بمُدارسة كلام العرب، وسننهم وطرقهم في التعبير.‏

وقد يأخذ بظاهر اللفظ، فيفهم معنى الصورة البيانية في الآية فهماً مادياً ظاهرياً، قال في الآية: (ثم في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ((7) ذُكر أنها تدخل في دبر الكافر فتخرج من رأسه، فذلك سلكه فيها(8)، وفي الآية: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى((9) تقول للكافر يا كافر يا منافق إليَّ، فتدعو كل واحد باسمه(10). ولا يرى الفراء أن الدعاء هنا مجازي بالنسبة لجهنم، وهو دعاء معنوي بلسان الحال لا بالقول واللسان.‏

ويغلب على الكتاب الطابع النحوي، وهذا طبيعي من إمام النحويين الكوفيين في عصره، وكثيراً ما نراه يقف، ليوضح الجانب النحوي، والإعراب، وينتهي إلى النظرية العامة، فيبين قواعدها وأصولها، وأدلتها وأسبابها ومسبباتها، جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وجُوهُهُم مُسْوَدَّةٌ((11): ترفع وجوههم ومسودة، لأن الفعل وقع على الذين وجاء بعد الذين اسم له فعل فرفعته بفعله وكان فيه معنى نصب، وكذلك فافعل لكل اسم أوقعت عليه الظن، والرأي، وما أشبههما، فارفع ما يأتي بعد الأسماء إذا كان فيها أفاعيلها بعدها، كقولك: رأيت عبد الله أمره مستقيم فإن قدمت الاستقامة نصبتها ورفعت الاسم فقلت رأيت عبد الله مستقيماً أمره، ولو نصبت أمره في المسألة الأولى على التكرير كان جائزاً فتقول: رأيت عبد الله أمره مستقيم.‏

وكما يوجه عنايته للنحو والإعراب، يعنى بالصرف وبناء الألفاظ، مثل قوله في الآية: (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ((12): (زجرَ بالشتم، وازدُجِرَ افتُعِلَ من زجَرْتُ، وإذا كان الحرف أوله زاي صارت تاء الافتعال فيه دالاً، فقس عليه ما ورد)(13).‏

ويحكم القاعدة الصرفية في تصحيح القراءات أو رفضها. يقول: حدثني مسلم بن أبي سارة قال: (كان جاري زهير الفرقي يقرأ: (متَّكئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيّ حِسَانٍ((14)، فالرفارف قد تكون صواباً، وأما العباقري فلا، لأن ألف الجمع لا يكون بعدها أربعة أحرف ولا ثلاثة(15).‏

تلك هي الاتجاهات اللغوية والنحوية الغالبة على الكتاب، ولا نعدم بينها أثراً لفهم أدبي لتعبير أو صورة بيانية(16).‏

بعض ما جاء في الكتاب من الدراسات البيانية:‏

1ـ الكناية:‏

ورد هذا التعبير في مواضع عديدة من الكتاب، وهو يدل عنده بصفة عامة، على المعنى المعروف في البلاغة، فيرى في الكناية ما رآه أبو عبيدة، وقرره ابن قتيبة والمبرد.‏

يفسر قوله تعالى: (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ((17). الجلود هنا: ـ والله أعلم ـ الذكر، وهو مما كنى به الله عز وجل عنه، كما قال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ((18) والغائط: الصحراء، والمراد من ذلك أو قضى أحدكم حاجة، كما قال: (وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرَّاً((19)، يريد النكاح.‏

والكناية عنده ـ أيضاً ـ بمعنى الستر، أو الإخفاء عامة، فهي إخفاء معنى كما في الأمثلة السابقة، أو إخفاء لفظ أو استبدال غيره به، كما أخفى القول وجيء مكانه بالكتاب في قوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيْ((20) فالكتاب يجري مجرى القول. وقد يختفي اللفظ ويبدل به ضمير مثلما في قوله: (وَالنَّهارِ إِذَا جَلاَّهَا((21)، جلّى الظلمة، مجاز الكناية عن الظلمة ولم تذكر لأن معناها معروف.‏

2ـ التشبيه والمثل:‏

وهذان اللفظان أيضاً من أول الاصطلاحات التي بدأت تظهر في الدراسات القرآنية دالة على صور بيانية، لكنها ما تزال عند الفراء ـ كما كانت عند أبي عبيدة ـ تطلق في حدود المعنى اللغوي، وإن كانت تشير إلى المعنى البلاغي.‏

ومثال ذلك: قوله تعالى: (فَإِذَا انشقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ((22)، أراد بالوردة الغَرْسَ، والوردة تكون في الربيع إلى الصفرة أميل، فإذا اشتد البرد كانت وردية حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة أميل، فشبه تكون السماء بتكون الوردة، وشبهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه، ويقال إن الدهان هو الأديم الأحمر(23).‏

وتعتبر هذه المحاولة في فهم التشبيه جديدة، وخطوة متقدمة عن فهم أبي عبيدة له، وهو الذي لم يشر إلى التشبيه غير إشارات عابرة باعتباره مجازاً ولم يفصل فيه تفصيل الفراء عن فهم ودراية.‏

3ـ المجاز:‏

يتكلم الفراء على المجاز بالمعنى اللغوي الذي رأيناه بوجه عام في مجاز القرآن، وقد يتطرق إلى المجاز المعنوي أو إجازته، فيقول في الآية: (فسنيسره للعسرى( فهل في العسرى تيسير؟ فيقال في هذا: إجازته بمنزلة قوله تبارك وتعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ((24)، والبشارة في الأصل للمفرح والسارّ، فإذا جمعت في كلامين. هذا خير وهذا شر، جاز التيسير فيهما جميعاً.‏

4ـ الاستعارة:‏

ولم ينص عليها كتابة هنا، كما لم ينص عليها أبو عبيدة من قبل، ولم يستعملها الجاحظ كذلك في دلالتها الدقيقة، وكان يستعمل معها كلمة تمثيل أو بدل ولو أنها قد تجيء في بعض النصوص عنده دالة على الاصطلاح البلاغي أو قريب منه. وأفرد لها ابن قتيبة باباً في (تأويل مشكل القرآن) وهذا كله يدل أن استعمال تعبير "استعارة" لم يكن يطلق على المعنى البلاغي المفهوم، إلا بعد مرحلة أبي عبيدة والفراء على الأرجح، أي بعد مطلع القرن الثالث بربع قرن تقريباً، وقد شاع استعمال هذا التعبير بعد ذلك(25).‏

وكثيراً ما يتعرض الفراء لمواطن الاستعارة في القرآن، ولكنه لم ينص عليها، وأوضح مثال لذلك حين تعرض لقوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ((26)، القرَّاء مجمعون على ضمّ الياء، حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال وحدثني... عن ابن عباس أنه قرأ: يوم تكشف عن ساق. يريد يوم القيامة والساعة لشدتها، قال وحدثني بعض العرب لجد طرفة:‏

كَشَفَتْ لَهُمْ عن سَاقِهَا * ـ * ـ * وبَدا مِنَ الشَّرِّ البُراحِ‏

وتنبه الفراء إلى أن الصورة البيانية هنا تعبر عن الشدة، ولم يسم الصورة بالاستعارة، ولم يشأ الفراء في هذا الموقف أن ينفرد بالتفسير بل روى عن ابن عباس، لكي لا يقع في التشبيه فيقع في الحرج.‏

ويتعرض الفراء بعد ذلك لأبحاث متنوعة في الأسلوب، فيتكلم على الاستفهام وخروجه أحياناً إلى معان أخرى كالتوبيخ، والانتقال من مخاطبة الشاهد إلى الغائب، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك.‏

ويطرق الفراء أبواب أبحاث لغوية عامة، تتصل بمعاني الألفاظ وليست بالإعراب وحده. من ذلك كلامه على التكرار، وما يقصد به في القرآن من التخويف، مثل ما في قوله تعالى: (كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ((27)، الكلمة قد يكررها العرب على التغليظ والتخويف وهذا من ذلك، وقوله عز وجل: (لَتَروُنَّ الجَحِيْمَ، ثُمَّ لَتَروُنَّها عَيْنَ اليَقِيْنِ((28)، مكررين من التغليظ أيضاً.‏

ومن لطائف أسلوب القرآن التي يذكرها الفراء: أسماء العذاب والقيامة، يقول عز وجل: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ((29)، والفاقرة: الداهية، وقد جاءت ألفاظ القيامة والعذاب بمعاني الدواهي وأسمائها. وهذه التفاتة طريفة من الفراء، لتنبهه إلى ما لهذا الاستعمال القرآني من اثر في نفوس العرب، إذ يثير بهذه الألفاظ استدعاءات وجدانية تروع الناس وتخوفهم، لأنهم اعتادوا أن يقرنوا بين هذه الألفاظ وبين مدلولاتها من الدواهي، وجاءت في القرآن تؤدي دورها في إثارة معاني الفزع والخوف، وتعويد النفوس رهبة يوم القيامة لتبتعد عن المعاصي وتترك الذنوب.‏

نظم القرآن ووزنه:‏

لم ينتبه أبو عبيدة للناحية الموسيقية في نظم القرآن والتوقيع الرتيب فيه، مما جعل له نفعاً معيناً، وأثراً موسيقياً فعالاً في النفوس، ولا ينفي هذا التجاهل من أبي عبيدة إدراك الناس على عهده لهذه الخاصة، ومراعاتهم لرصف الكلام في وحدات صوتية تتبع نظاماً رتيباً يساير وقعه المعنى العام في السورة القصيرة، أو مجموعة بعينها من الآيات(30).‏

وقديماً تنبه العرب إلى وزن القرآن، فقارنوه بوزن الشعر، وإيقاع سجع الكهان ولكن هذه الملاحظات سكتت لسبب أو لآخر. ولعل هذا السكوت عن البحث في نظم القرآن من هذه الناحية يرجع إلى انصراف الناس إلى المعاني وما تحمل من تشريع وعقيدة، وهو جل اهتمامهم في ذلك الوقت.‏

ومهما يكن من شيء فالجديد في كتاب الفراء والجدير بالاهتمام، أنه لاحظ هذا النسق الصوتي، وحاول أن يتتبعه. ونراه في ملاحظاته التي أوردها مدركاً تماماً لوزن القرآن، ومدركاً الغاية التي عمد إليها في التزام وزن بعينه، وهو الترابط بين الكلمات وانسجام النغم، وتوافق الفواصل في آخر الآيات. وإذ تسترعي النباهة هذه الظاهرة، يحاول أن يضبطها بما عرف عند العرب من أوزان الشعر.‏

ويقول: حدثني مندل عن مجاهد عن ابن عباس أنه قرأ ناخرة، وقرأ أهل المدينة نخرة، وناخرة أجود الوجهين في القراءة لأن الآيات بالألف، ألا ترى أن ناخرة، والحافرة والساهرة أشبه بمجيء التنزيل، والناخرة والنخرة سواء في المعنى بمنزلة الطامع والطمع، والباخل والبخل.‏

فالكلمتان عنده مستويتان في المعنى، والنظم القرآني يختار ما يتفق والمقاطع أو الفواصل ـ رؤوس الآيات ـ وينسجم مع النسق الموسيقي العام في آيات السورة، فإذا كانت الفواصل كلها بالألف فإن القراءة الأصح لناخرة بالألف لأنها أشبه بمجيء التنزيل، كما يقول: لموافقة هذه القراءة الأخيرة لرؤوس الآيات في السورة.‏

وتارة يسمي هذا التوافق الصوتي، استقامة في القراءة، فيقول: وقوله عز وجل: (واللهُ أَعْلَمُ بما يُوعُونَ((31). الإيعاء ما يجمعون في صدورهم من التكذيب والإثم والوعي. لو قيل (والله أعلم بما يَعُون) لكان صواباً، ولكنه لا يستقيم في القراءة. أي لا يستقيم مع ما قبله من الآيات: (فَمَا لَهم لا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهمُ القُرآنُ لاَ يَسْجُدُونَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِِّبُونَ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ((32)، ولعل الفراء يقصد أن لفظ يعون لا يستقيم مع رؤوس الآيات الأخرى لأنه مفتوح الأول دون غيره المضموم الأول: يُؤمنون، يُكذِّبون، يُوعون. ثم لعله يشير إلى الوزن الموسيقي للكلمة، فهو في (يوعون) أكثر اتفاقاً منه في (يعون)، لأن (يعون) ينقصها حرف ساكن، وكل من الفواصل الأخرى مكون من ستة حروف. والضم في هذه الآيات هو النغمة السائدة ـ أو المفتاح الموسيقي ـ لها.‏

والنظم القرآني حريص على هذا التوافق، فقد يعدل من لفظ إلى آخر بل من صيغة إلى أخرى، وقد يجيز حذف أواخر الكلمات موافقة لرؤوس الآيات مع موافقة ذلك لكلام العرب، مثل قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ((33) ذكروا أنها ليلة المزدلفة، وقد قرأ القرَّاء يسري ـ بإثبات الياء ـ ويسر ـ بحذفها ـ وحذفها أحب لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولأن العرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها منها.‏

وهكذا وضع الفراء أمامنا قواعد عامة للتغيرات التي يمكن أن تطرأ على الكلمات، والتي قد يعمد إليها القرآن أحياناً للتوافق الموسيقي في نظمه(34).‏

وصلة تلك التغيرات بما يطرأ على القافية من الشعر لإقامة الوزن، ولا يفتأ الفراء يشير إلى أن القرآن في عدوله عن لفظ إلى آخر، أو تعديله للألفاظ، لا يخرج عن أساليب العرب، وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون، الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن.‏

الهوامش

(1) الفراء (144-207هـ- 761-822م) أبو زكريا يحيى بن زياد، تلميذ الكسائي، من أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وأخبار العرب. له (معاني القرآن) و(المنقوص والممدود).‏

(2) راجع في ذلك رأي أحمد أمين في ضحى الإسلام: 2/141.‏

(3) [الزمر: 39/36]‏

(4) [هود: 11/54].‏

(5) [الأحقاف: 4/15].‏

(6) [المعارج: 70/10].‏

(7) [الحاقة: 69/32].‏

(8) الفراء: معاني القرآن. تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة 1955-1972م، ص103.‏

(9) [المعارج: 70/17].‏

(10) معاني القرآن: ص105.‏

(11) [الزمر: 39/60].‏

(12) [القمر: 54/9].‏

(13) معاني القرآن: ص64.‏

(14) [الرحمن: 55/76].‏

(15) معاني القرآن: ص73.‏

(16) د. محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي. دار المعارف بمصر ط(2) 1961م، ص54.‏

(17) [فصلت: 41/20].‏

(18) [النساء: 4/13].‏

(19) [البقرة: 2/235].‏

(20) [المجادلة: 58/21].‏

(21) [الشمس: 91/3].‏

(22) [الرحمن: 55/37].‏

(23) معاني القرآن: ص170.‏

(24) [التوبة: 9/3].‏

(25) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص58.‏

(26) [القلم: 68/42].‏

(27) [التكاثر: 102/3-4].‏

(28) [التكاثر: 1/6-7].‏

(29) [القيامة: 75/25].‏

(30) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص12.‏

(31) [الانشقاق: 84/23].‏

(32) [الانشقاق: 84/20-23].‏

(33) [الفجر: 89/4].‏

(34) أثر القرآن في تطور النقد العربي، ص65.‏
 
عودة
أعلى