طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,331
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
(9/529)
الكاتب : محمد رشيد رضا
من مجلة المنار
غرة رجب - 1324هـ
23 أغسطس - 1906م
23 أغسطس - 1906م
كتاب مرجليوث
في النبي صلى الله عليه وسلم
ألف الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق كتابًا بِلُغته في سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم قال في مقدمته : إنه يَعدّ النبي محمدًا من أعاظم الرجال وأنه حل
معضلة سياسية هي تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب ، وأنه يُجله ويؤدي له ما
يستحقه من التعظيم والتبجيل ، ولا يقصد بتأليف كتابه الدفاع عنه ، ولا إدانته كما
فعل غيره من كتاب المسلمين أو النصارى ، فليس من غرضه تفضيل الدين
الإسلامي على غيره ولا تقبيحه والطعن فيه ، ومَنْ علم أن هذا المؤلف عرف اللغة
العربية معرفة قلما يساويه أحد من الفرنج فيها ، واطلع على كثير من كتب
المسلمين يظن أن فهمه للإسلام وتاريخه أدق من أفهامهم ، فهو أجدر بالقدرة على
بيان الحقيقة ؛ ولكن قراءة بعض ما كتب تكفي للذهاب بهذا الظن .
يحول بين الإفرنج وفهم الإسلام وتاريخه أمور إذا سَلِمَ بعضهم من بعضها
فيندر أن يسلم منها كلها أحد ( منها ) تأثير ما تربَّوْا عليه ونُشِّئوا فيه من كراهة
الإسلام واحتقار المسلمين تعصبًا لدينهم ، ومَنْ خُتِمَ على شعوره ووجدانه من أول
نشأته بخاتم تعسَّر عليه فَضُّه ، فإن هو فضه تعسر عليه محو أثره ، وإن هو نزع
رِبْقَة التقليد ، آوى إلى ركن الاستقلال الشديد ، وناهيك إذا كانت حياته الاستقلالية
تؤيد ذلك الشيء لمصلحة سياسية ، وهذا هو الأمر الثاني وبيانه أن حرص
الأوربيين على الفتوح والتغلب وشَرَههم في الكسب من الشرق ، وما تُكنُّ صدورهم
من الضغن والحقد على جيرانهم من أهله ، كل ذلك مما يصرف أبصارهم عن
محاسن الإسلام حتى لا يكاد يقع بها إلا على ما يمكن انتقاده ، إلا أهل الإنصاف
الكامل الذين انسلخوا من تأثير التقاليد والسياسة ، ووَجَّهوا كل عنايتهم إلى معرفة
الحقائق وقليل ما هم .
( ومنها ) وهو الأمر الثالث سوء حال المسلمين في هذه القرون التي ارتفع
فيها شأن أوربا في السياسة والعلم والعمران فقد أمسى المسلمون حُجَّة على أنفسهم
وعلى دينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا .
( ومنها ) ما تعوَّدوه من الجراءة على الحكم في المسائل التاريخية وكل ما
هو غير محسوس بالقرائن الضعيفة واستنباط الأمر الكلي من أمر جزئي واحد ،
واختراع العلل والأسباب للحوادث بمجرد الرأي والتحكم .
( ومنها ) عدم إتقانهم لفهم اللغة العربية وفنونها اللغوية والشرعية ؛ لأنهم لا
يتلقون كل فن عن الأساتذة الماهرين فيه ، وقد ينبغ المحصل لبعض العلوم باجتهاده
دون التلقي عن الأساتذة المهرة حتى يبرز على كثير ممن تلقى ذلك العلم ويظهر
فضله عليهم ، ثم هو يخطئ فيما لا يخطئ فيه مَنْ هو دونه في التحصيل من أهل
التلقي ، وقد سمعت رجلاً من أَعْلَمِ المستشرقين بالعربية وأدقهم فهمًا لها يقول : إن
المسلمين يقدمون الحديث على القرآن ، فأنكرت عليه ذلك فاحتج بكلام علي لابن
عباس ( رضي الله عنهما ) لما بعثوا للاحتجاج على الخوارج ، وهو : لا تخاصمهم
بالقرآن ، فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاجّهم بالسُّنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا . اهـ . فقلت له : ليس المراد بالسُّنة هنا ما اصطلح عليه
المحدثون والفقهاء ، وإنما المراد بالسنة الطريقة التي جرى عليها النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه في العمل ، فهذه هي التي لا محيص عنها ؛ لأنها لا تحتمل
التأويل ولا القال والقيل ، وأما الأحاديث القولية فإن التأويل ينال منها كما ينال من
القرآن أو يكون أشد نَيْلاً ، ومن ذلك تأويل عمرو بن العاص الحديث الناطق بأن
عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية بقوله : إنما قتله مَنْ أخرجه يعني عليًّا ، فقال علي :
إذًا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أخرجه ، ولم نعلم أن
أحدًا من المسلمين قَويِّهم وضعيفهم متبعهم ومبتدعهم وَهِمَ من كلمة علي كرم الله
وجهه ما فهم هذا العالم المستشرق .
وجملة القول : أن المنصف من الأوربيين يعسر عليه أن يفهم الإسلام حق
فهمه بمجرد الوقوف على فنون العربية والاطلاع على كتبها ، فما بالك بغير
المنصف وغير المتقن ، وسترى فيما ننتقده على الدكتور مرجليوث أن السبب في
أكثر غلطه وخطئه في هذه السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان
أسباب الحوادث ، كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات
المنسية ، وأقله عدم فهم اللغة وإلا فهو من أعلمهم ومحبي الاعتدال فيهم ، وإننا نبدأ
بخير قوله وأقربه من الصواب .
ذكرنا ما قال في مقدمة الكتاب من أنه يَعدُّ النبي محمدًا من أعظم الرجال إلخ .
ومما عده له من المآثر غير تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب أمران
عظيمان أحدهما وجوب حسم المسائل التي تتعلق بسفك الدماء بغير الحرب ،
والثاني أنه إذا ثارت الحرب يجب الحصول بسرعة على النتيجة لا أن تعاد الحرب
وتكرر دون جدوى ( راجع ص 55 ) منه .
ومما اعترف به أن النبي كان صادق الكُرْه للشعر والسجع ، قال : ولعل
السبب في ذلك أنه لم يتعلمهما ولم يكن للعرب من أساليب الإنشاء سواهما . قال هذا
في ص 60 وفيه رَدَّ على ما نقله في ص 55 ، عن ما يدور في قوله : إن أهل
البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم اللغة وطلاقة اللسان في التعبير ، وأنه إن صح ذلك
فلا يبعد أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه ، أقول : ولو كان النبي صلى الله
عليه وسلم عني بذلك أو مارسه لعُرِفَ ذلك ولظهر أثره في لسانه في سن الشباب
ولكن لم يًنقل عنه قبل النبوة شيء من ذلك قط ، ولم يكن يوصف بالفصاحة والبلاغة
بل كان يوصف بالصدق والأمانة وأحاسن الأخلاق فقول المؤلف هو الصواب .
ومما خلط فيه الثناء بالانتقاد قوله ( في ص 63 ) : إن النبي بين لقومه بيانًا
مؤكدًا أن الكسوف والخسوف لا يكونان لأجل امرئ مهما علا قدره ، ولكنه مع ذلك
عدهما أمرًا ذا بال وأنشأ لهما صلاة مخصوصة . ونقول : إن في بيانه هذا منقبة
غير مجرد بيان الحقيقة وتطهير العقول من الوهم ، وهي أنه لم يرض أن يعظم
شأنه بالباطل ، فقد قال ذلك يوم مات ولده إبراهيم عليه السلام ، وكَسَفَت الشمس
فظن الناس أنها كسفت لأجل موته ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله ، أي من دلائل حكمته وقدرته كما بين ذلك في آيات من
كتابه كقوله : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } ( الرحمن : 5 ) وأنهما لا يكسفان
لموت أحد ولا لحياته ، والحديث في البخاري وغيره ، وأما أمره بذكر الله والصلاة
عند الخسوف والكسوف ، فذاك لأن أهم أغراض الدين التذكير بقدرة الله تعالى
وحكمته وتوجيه القلوب إليه بالشكر والدعاء ، وتأثر القلوب بذلك عند حدوث مظاهر
القدرة والحكمة والنظام ،أقوى وأكمل ؛ ولذلك كانت مواقيت الصلوات الخمس متعلقة
بما يحدث من التغيير في الطبيعة كل يوم وليلة كطلوع الفجر وزوال الشمس وميلها
وغروبها وزوال أثر ضوئها بمغيب الشفق ؛ ولذلك شُرع الذكر والدعاء أيضًا عند
نزول المطر ، فالدين يرشد الناس إلى ذكر الله تعالى عند كل حادث يذكِّر بقدرته
وحكمته كيلا ينسوه فتغلب عليهم حيوانيتهم فيفترس بعضهم بعضًا .
ومما اعترف به من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحَارَ في تعليله
على اتساع دائرة التعليل عنده كما ستعلم ما قاله في ص 63 أيضًا وهو : أنه كان له
وسائل لمعرفة الأسرار نعجز عن إدراك حقيقتها ، وأن الطبيعة دون الحنكة أعطته
موهبة يُحسد عليها ألا وهي معرفة طبائع البشر ، فقلما أخطأ في معرفة أحد بل لم
يخطئ قط ، ونحن نقول : إن إله الطبيعة هو الذي فضله بذلك ليستعين به على
هداية البشر ، وقد كان ذلك ، وما النبوة إلا تخصيص إلهي غايته هداية الناس
وإخراجهم من الظلمات إلى النور فما هذه الحيرة في التعليل ، والانقطاع في وَسَط
السبيل .
ومما حار في تعليله وهو من هذا القبيل سبب شروع النبي صلى الله عليه
وسلم في دعوى الرسالة فقد قال ( في ص 72 ) يستفاد من تاريخ أشهر الرجال أن
بَدْءَهم بالأعمال العظيمة كان لأسباب معروفة تدعو إلى ذلك ، أما النبي فلا يعلم
سبب لبدئه في دعوى الرسالة : ونقول : لو كان هذا الأمر من قَبيل تأسيس الممالك
لكان يستحيل أن يقدم عليه العاقل من غير أسباب طبيعية تمهد له النجاح : ككثرة
المال والمواطأة مع الزعماء والأعوان وسائر أسباب القوة ، ولا عجب في ذلك فإنه
كان معتمدًا على خالق الأسباب والمسببات ، وفاطر الأرض والسموات ، الذي أمره
بالدعوة والتذكير ، على أنه هو الولي له والنصير .
وقال ( في ص 74 ) : إن عظمة النبي كانت في أمرين : أحدهما معرفة أن
الأمة العربية تحتاج إلى نبي ، وثانيهما جَعْل هذه المعرفة ذات أثر ، ونقول : إن
أمر النبوة لم يكن بمثل هذا التعمّل والتدبر والعمل والتدبير ؛ إذ لو كان كذلك لكان
الاعتماد فيه على الأسباب الطبيعية ، وقد تقدم آنفًا أنه لم يكن هناك أسباب ؛ إذ لو
كانت لعُرِفَتْ ؛ لأن الأسباب التي تأتي بأعظم المسببات لا تخفى .
وقال ( في ص 80 ) سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما ( الأول ) كيف أَتَتْ
فكرة النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل العربي دون سواه ( الثاني )
كيف صادفت فيه من الصبر والعزيمة وقوة العارضة ما تحققت به ؟ ولكن نقول كما
كان يقول كارليل من أيام ( تيوبال كين ) كان الماء يصل إلى درجة الغليان وكان
الحديد موجودًا ولم يوجد من تلك الربوات من الناس من يخترع الآلات البخارية
ونقول نحن : إنه ذهل عن الفرق العظيم بين اختراع الآلات البخارية وبين النبوة ،
فإن أول مَنْ لاحظ أن لبخار الماء قوة يمكن استخدامها للرفع والدفع مثلاً لم يهتد إلى
استخدامها في تسيير المراكب البحرية والبرية ونحو ذلك ، وإنما وصل الناس إلى
هذه الغاية بتدرج بطيء يبني فيه اللاحقون على ما وضع السابقون ، والنبي ادَّعَى
النبوة ، وجاء بالشريعة وقررها بالكتاب والعمل وجذب الناس ، فتم له تكوين دين
وشريعة وأمة أحدثت بهدايته دولة قوية ومدنية راقية .
وقال ( في ص 144 ) : إن النبي كان يعتقد في نفسه أنه كأحد أنبياء بني
إسرائيل . ونقول : إن هذا ينافي ما زعم في غير موضع من أنه قام بهذا الأمر عن
فكر وتدبير ، وأنه كان يتعلم ويستفيد ويدعي أن ما استفاده من الناس وحي
من الله .
ومما أَعْياه تعليله فأحاله على الغيب ما تراه ( في ص 368 ) من قوله : لا بد
أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم وسائط سِرِّيَّة لمعرفة الأخبار بسرعة غريبة ،
يعلل بذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بالوحي والإلهام ، ولو كان هناك
وسائط لَمَا خفيت عن أولئك الأذكياء الذين كانوا معه ، وكان ذلك كافيًا لانفضاضهم
من حوله ، وعدم بذل أرواحهم في سبيل دعوته .
ومما مدح به وأثنى قوله في ( ص458 ) : إن النبي نهى عن التعذيب
والتمثيل الذي لم تُحرّمه أوربا إلا حديثًا . ونقول : إنها وإنْ حرّمته في بلادها ؛ لأن
الأمة قويت على السلطة فيها فهي تبيحه أحيانًا في غير بلادها ، فهي لم تتمكن من
هذه الفضيلة تمام التمكُّن .
هذا جُلّ ما أنصف فيه وسدد وقارب ، وسنذكر نموذجًا من خطئه في تاريخ الحوادث وبيان تعليلها وأسبابها .
في النبي صلى الله عليه وسلم
ألف الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق كتابًا بِلُغته في سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم قال في مقدمته : إنه يَعدّ النبي محمدًا من أعاظم الرجال وأنه حل
معضلة سياسية هي تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب ، وأنه يُجله ويؤدي له ما
يستحقه من التعظيم والتبجيل ، ولا يقصد بتأليف كتابه الدفاع عنه ، ولا إدانته كما
فعل غيره من كتاب المسلمين أو النصارى ، فليس من غرضه تفضيل الدين
الإسلامي على غيره ولا تقبيحه والطعن فيه ، ومَنْ علم أن هذا المؤلف عرف اللغة
العربية معرفة قلما يساويه أحد من الفرنج فيها ، واطلع على كثير من كتب
المسلمين يظن أن فهمه للإسلام وتاريخه أدق من أفهامهم ، فهو أجدر بالقدرة على
بيان الحقيقة ؛ ولكن قراءة بعض ما كتب تكفي للذهاب بهذا الظن .
يحول بين الإفرنج وفهم الإسلام وتاريخه أمور إذا سَلِمَ بعضهم من بعضها
فيندر أن يسلم منها كلها أحد ( منها ) تأثير ما تربَّوْا عليه ونُشِّئوا فيه من كراهة
الإسلام واحتقار المسلمين تعصبًا لدينهم ، ومَنْ خُتِمَ على شعوره ووجدانه من أول
نشأته بخاتم تعسَّر عليه فَضُّه ، فإن هو فضه تعسر عليه محو أثره ، وإن هو نزع
رِبْقَة التقليد ، آوى إلى ركن الاستقلال الشديد ، وناهيك إذا كانت حياته الاستقلالية
تؤيد ذلك الشيء لمصلحة سياسية ، وهذا هو الأمر الثاني وبيانه أن حرص
الأوربيين على الفتوح والتغلب وشَرَههم في الكسب من الشرق ، وما تُكنُّ صدورهم
من الضغن والحقد على جيرانهم من أهله ، كل ذلك مما يصرف أبصارهم عن
محاسن الإسلام حتى لا يكاد يقع بها إلا على ما يمكن انتقاده ، إلا أهل الإنصاف
الكامل الذين انسلخوا من تأثير التقاليد والسياسة ، ووَجَّهوا كل عنايتهم إلى معرفة
الحقائق وقليل ما هم .
( ومنها ) وهو الأمر الثالث سوء حال المسلمين في هذه القرون التي ارتفع
فيها شأن أوربا في السياسة والعلم والعمران فقد أمسى المسلمون حُجَّة على أنفسهم
وعلى دينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا .
( ومنها ) ما تعوَّدوه من الجراءة على الحكم في المسائل التاريخية وكل ما
هو غير محسوس بالقرائن الضعيفة واستنباط الأمر الكلي من أمر جزئي واحد ،
واختراع العلل والأسباب للحوادث بمجرد الرأي والتحكم .
( ومنها ) عدم إتقانهم لفهم اللغة العربية وفنونها اللغوية والشرعية ؛ لأنهم لا
يتلقون كل فن عن الأساتذة الماهرين فيه ، وقد ينبغ المحصل لبعض العلوم باجتهاده
دون التلقي عن الأساتذة المهرة حتى يبرز على كثير ممن تلقى ذلك العلم ويظهر
فضله عليهم ، ثم هو يخطئ فيما لا يخطئ فيه مَنْ هو دونه في التحصيل من أهل
التلقي ، وقد سمعت رجلاً من أَعْلَمِ المستشرقين بالعربية وأدقهم فهمًا لها يقول : إن
المسلمين يقدمون الحديث على القرآن ، فأنكرت عليه ذلك فاحتج بكلام علي لابن
عباس ( رضي الله عنهما ) لما بعثوا للاحتجاج على الخوارج ، وهو : لا تخاصمهم
بالقرآن ، فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاجّهم بالسُّنة فإنهم لن
يجدوا عنها محيصًا . اهـ . فقلت له : ليس المراد بالسُّنة هنا ما اصطلح عليه
المحدثون والفقهاء ، وإنما المراد بالسنة الطريقة التي جرى عليها النبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه في العمل ، فهذه هي التي لا محيص عنها ؛ لأنها لا تحتمل
التأويل ولا القال والقيل ، وأما الأحاديث القولية فإن التأويل ينال منها كما ينال من
القرآن أو يكون أشد نَيْلاً ، ومن ذلك تأويل عمرو بن العاص الحديث الناطق بأن
عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية بقوله : إنما قتله مَنْ أخرجه يعني عليًّا ، فقال علي :
إذًا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أخرجه ، ولم نعلم أن
أحدًا من المسلمين قَويِّهم وضعيفهم متبعهم ومبتدعهم وَهِمَ من كلمة علي كرم الله
وجهه ما فهم هذا العالم المستشرق .
وجملة القول : أن المنصف من الأوربيين يعسر عليه أن يفهم الإسلام حق
فهمه بمجرد الوقوف على فنون العربية والاطلاع على كتبها ، فما بالك بغير
المنصف وغير المتقن ، وسترى فيما ننتقده على الدكتور مرجليوث أن السبب في
أكثر غلطه وخطئه في هذه السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان
أسباب الحوادث ، كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات
المنسية ، وأقله عدم فهم اللغة وإلا فهو من أعلمهم ومحبي الاعتدال فيهم ، وإننا نبدأ
بخير قوله وأقربه من الصواب .
ذكرنا ما قال في مقدمة الكتاب من أنه يَعدُّ النبي محمدًا من أعظم الرجال إلخ .
ومما عده له من المآثر غير تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب أمران
عظيمان أحدهما وجوب حسم المسائل التي تتعلق بسفك الدماء بغير الحرب ،
والثاني أنه إذا ثارت الحرب يجب الحصول بسرعة على النتيجة لا أن تعاد الحرب
وتكرر دون جدوى ( راجع ص 55 ) منه .
ومما اعترف به أن النبي كان صادق الكُرْه للشعر والسجع ، قال : ولعل
السبب في ذلك أنه لم يتعلمهما ولم يكن للعرب من أساليب الإنشاء سواهما . قال هذا
في ص 60 وفيه رَدَّ على ما نقله في ص 55 ، عن ما يدور في قوله : إن أهل
البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم اللغة وطلاقة اللسان في التعبير ، وأنه إن صح ذلك
فلا يبعد أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه ، أقول : ولو كان النبي صلى الله
عليه وسلم عني بذلك أو مارسه لعُرِفَ ذلك ولظهر أثره في لسانه في سن الشباب
ولكن لم يًنقل عنه قبل النبوة شيء من ذلك قط ، ولم يكن يوصف بالفصاحة والبلاغة
بل كان يوصف بالصدق والأمانة وأحاسن الأخلاق فقول المؤلف هو الصواب .
ومما خلط فيه الثناء بالانتقاد قوله ( في ص 63 ) : إن النبي بين لقومه بيانًا
مؤكدًا أن الكسوف والخسوف لا يكونان لأجل امرئ مهما علا قدره ، ولكنه مع ذلك
عدهما أمرًا ذا بال وأنشأ لهما صلاة مخصوصة . ونقول : إن في بيانه هذا منقبة
غير مجرد بيان الحقيقة وتطهير العقول من الوهم ، وهي أنه لم يرض أن يعظم
شأنه بالباطل ، فقد قال ذلك يوم مات ولده إبراهيم عليه السلام ، وكَسَفَت الشمس
فظن الناس أنها كسفت لأجل موته ، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله ، أي من دلائل حكمته وقدرته كما بين ذلك في آيات من
كتابه كقوله : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } ( الرحمن : 5 ) وأنهما لا يكسفان
لموت أحد ولا لحياته ، والحديث في البخاري وغيره ، وأما أمره بذكر الله والصلاة
عند الخسوف والكسوف ، فذاك لأن أهم أغراض الدين التذكير بقدرة الله تعالى
وحكمته وتوجيه القلوب إليه بالشكر والدعاء ، وتأثر القلوب بذلك عند حدوث مظاهر
القدرة والحكمة والنظام ،أقوى وأكمل ؛ ولذلك كانت مواقيت الصلوات الخمس متعلقة
بما يحدث من التغيير في الطبيعة كل يوم وليلة كطلوع الفجر وزوال الشمس وميلها
وغروبها وزوال أثر ضوئها بمغيب الشفق ؛ ولذلك شُرع الذكر والدعاء أيضًا عند
نزول المطر ، فالدين يرشد الناس إلى ذكر الله تعالى عند كل حادث يذكِّر بقدرته
وحكمته كيلا ينسوه فتغلب عليهم حيوانيتهم فيفترس بعضهم بعضًا .
ومما اعترف به من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحَارَ في تعليله
على اتساع دائرة التعليل عنده كما ستعلم ما قاله في ص 63 أيضًا وهو : أنه كان له
وسائل لمعرفة الأسرار نعجز عن إدراك حقيقتها ، وأن الطبيعة دون الحنكة أعطته
موهبة يُحسد عليها ألا وهي معرفة طبائع البشر ، فقلما أخطأ في معرفة أحد بل لم
يخطئ قط ، ونحن نقول : إن إله الطبيعة هو الذي فضله بذلك ليستعين به على
هداية البشر ، وقد كان ذلك ، وما النبوة إلا تخصيص إلهي غايته هداية الناس
وإخراجهم من الظلمات إلى النور فما هذه الحيرة في التعليل ، والانقطاع في وَسَط
السبيل .
ومما حار في تعليله وهو من هذا القبيل سبب شروع النبي صلى الله عليه
وسلم في دعوى الرسالة فقد قال ( في ص 72 ) يستفاد من تاريخ أشهر الرجال أن
بَدْءَهم بالأعمال العظيمة كان لأسباب معروفة تدعو إلى ذلك ، أما النبي فلا يعلم
سبب لبدئه في دعوى الرسالة : ونقول : لو كان هذا الأمر من قَبيل تأسيس الممالك
لكان يستحيل أن يقدم عليه العاقل من غير أسباب طبيعية تمهد له النجاح : ككثرة
المال والمواطأة مع الزعماء والأعوان وسائر أسباب القوة ، ولا عجب في ذلك فإنه
كان معتمدًا على خالق الأسباب والمسببات ، وفاطر الأرض والسموات ، الذي أمره
بالدعوة والتذكير ، على أنه هو الولي له والنصير .
وقال ( في ص 74 ) : إن عظمة النبي كانت في أمرين : أحدهما معرفة أن
الأمة العربية تحتاج إلى نبي ، وثانيهما جَعْل هذه المعرفة ذات أثر ، ونقول : إن
أمر النبوة لم يكن بمثل هذا التعمّل والتدبر والعمل والتدبير ؛ إذ لو كان كذلك لكان
الاعتماد فيه على الأسباب الطبيعية ، وقد تقدم آنفًا أنه لم يكن هناك أسباب ؛ إذ لو
كانت لعُرِفَتْ ؛ لأن الأسباب التي تأتي بأعظم المسببات لا تخفى .
وقال ( في ص 80 ) سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما ( الأول ) كيف أَتَتْ
فكرة النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل العربي دون سواه ( الثاني )
كيف صادفت فيه من الصبر والعزيمة وقوة العارضة ما تحققت به ؟ ولكن نقول كما
كان يقول كارليل من أيام ( تيوبال كين ) كان الماء يصل إلى درجة الغليان وكان
الحديد موجودًا ولم يوجد من تلك الربوات من الناس من يخترع الآلات البخارية
ونقول نحن : إنه ذهل عن الفرق العظيم بين اختراع الآلات البخارية وبين النبوة ،
فإن أول مَنْ لاحظ أن لبخار الماء قوة يمكن استخدامها للرفع والدفع مثلاً لم يهتد إلى
استخدامها في تسيير المراكب البحرية والبرية ونحو ذلك ، وإنما وصل الناس إلى
هذه الغاية بتدرج بطيء يبني فيه اللاحقون على ما وضع السابقون ، والنبي ادَّعَى
النبوة ، وجاء بالشريعة وقررها بالكتاب والعمل وجذب الناس ، فتم له تكوين دين
وشريعة وأمة أحدثت بهدايته دولة قوية ومدنية راقية .
وقال ( في ص 144 ) : إن النبي كان يعتقد في نفسه أنه كأحد أنبياء بني
إسرائيل . ونقول : إن هذا ينافي ما زعم في غير موضع من أنه قام بهذا الأمر عن
فكر وتدبير ، وأنه كان يتعلم ويستفيد ويدعي أن ما استفاده من الناس وحي
من الله .
ومما أَعْياه تعليله فأحاله على الغيب ما تراه ( في ص 368 ) من قوله : لا بد
أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم وسائط سِرِّيَّة لمعرفة الأخبار بسرعة غريبة ،
يعلل بذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بالوحي والإلهام ، ولو كان هناك
وسائط لَمَا خفيت عن أولئك الأذكياء الذين كانوا معه ، وكان ذلك كافيًا لانفضاضهم
من حوله ، وعدم بذل أرواحهم في سبيل دعوته .
ومما مدح به وأثنى قوله في ( ص458 ) : إن النبي نهى عن التعذيب
والتمثيل الذي لم تُحرّمه أوربا إلا حديثًا . ونقول : إنها وإنْ حرّمته في بلادها ؛ لأن
الأمة قويت على السلطة فيها فهي تبيحه أحيانًا في غير بلادها ، فهي لم تتمكن من
هذه الفضيلة تمام التمكُّن .
هذا جُلّ ما أنصف فيه وسدد وقارب ، وسنذكر نموذجًا من خطئه في تاريخ الحوادث وبيان تعليلها وأسبابها .