كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

إنضم
29/09/2012
المشاركات
314
مستوى التفاعل
4
النقاط
18
الإقامة
السعودية
الإخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله
وضعت كتاباً بعنوان: [براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه]
ويسعدني تلقي آرائكم وانتقاداتكم القيمة قبل نشره،
وهنا تجدون الفهرس والتمهيد، وسأتابع بإذن الله تعالى عرض فصوله.


الفهــــرس والتمهيد
تمــــــهيد
مقدمـــــــــــة

المدرسة الإسلامية المعتدلة
أبو حيان الأندلسي
محمد عبدالله دراز
محمد متولي الشعراوي
محمود شلتوت
يوسف القرضاوي
محمد رشيد رضا
سيد قطب
عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)
أبو إسحاق الشاطبي
محمد حسين الذهبي
محمود محمد شاكر
أمين الخولي
عباس محمود العقاد
زكي نجيب محمود
شوقي ضيف
أحمد محمود صبحي
محمد عزة دروزة
طه جابر العلواني
عبدالمجيد عبدالسلام المحتسب​
المدرسة السلفية القديمة والمعتدلة
ابن عثيمين والمدرسة السلفية القديمة
صالح الفوزان
مساعد بن سليمان الطيار
سعود بن عبدالعزيز العريفي
عبدالله الأهدل​
المدرسة الفلسفية الصوفية
محمد إقبال
ظفر إسحاق أنصاري
سيد حسين نصر
عبد الكريم سروش​
المدرسة الفلسفية الإسلامية العلموية الحديثة
عبدالوهاب المسيري
عادل ضاهر
أبو يعرب المرزوقي
رضوان السيد
محمد أبو القاسم حاج حمد
أحميدة النيفر
محمد البغدادي​
المدرسة العلمانية الفجّة والقديمة
مراد وهبه
نصر حامد أبو زيد
عزيز محمد أبوخلف
محمد كامل حسين
طه حسين
الشيخ محمد عبده
محمد أحمد خلف الله
محمد أركون
محمد عابد الجابري​
المدرسة الثقافية الإسلامية المعتدلة
حسام تمام
عبد الحق برونو كيدردوني
الحسن مصباح
علي أسعد
معتز الخطيب
عبدالرحمن حللي​
المدرسة العلموية الغربية
رشدي راشد
برويز هوودبهوي
نضال قسوم​
المدرسة الثقافية الرعناء
خالد منتصر
كامل النجار
جواد البشيتي
عايد سعيد السراج​
المراجع
------------------------------------------------------​
تمــــــهيد
هذا كتابٌ عن التفسير العلمي للقرآن، وإعجازه العلمي، وما أدراك ما إعجاز القرآن! إنه الآية الحاضرة الباقية، لا نقف على غور أوصافها إلا بقدر علم الواصف وما فيه من صدقٍ وحق. فإن كان من الراسخين المدققين كان له القرآن نبعٌ لا ينفذ، ولا تنقضي منه العجائب. فإن حاد الواصف عن جادة الصواب فالإعجاز منه براء، والعلامات على خطئه دالة في عاجل الآيام أو آجلها. وكما يُخطئ المثبت المتهافت بلا دليل، يزل الناقد النافي غير البصير، ويأثم المنكر الجاحد الذي تصده الصدود. والله تعالى حافظٌ كتابه، ومِن حِفظه تبرئته من كل قولٍ يسعى للمساس به وليس من قيمته. ولا يعلم قيمته إلا منزله في عليائه، تقدست أسماؤه، ورفرفت على الكون كلماته، وصلح عليها أمر الدنيا والآخرة.

ويأتي هذا الكتاب في الرد على الذي ترددوا في مسألة التفسير والإعجاز العلمي، أو جافوه، أو أنكروه، أو جحدوه تعنتاً من عند أنفسهم ولم يحيطوا به علما، كلٌّ بحَسَبِه. ولم نر من هاجم أو انتقد إعجاز القرآن الكريم، ممن هو جدير بعرض آرائه، لخطورتها، إلا ما جاء انتقاصاً أو نيلاً من مبدأ الإعجاز العلمي بالاصطلاح المعاصر، أو دعوى احتوائه على جميع العلوم الدينية والدنيوية باصطلاح السابقين؛ كالغزالي[1] والسيوطي[2]. وكأنّ الجفاء والنقد والجحود إنما لتخليص القرآن من هذه الدعوى – أي دعوى الإعجاز العلمي- غير المبررة حسب ظن الناقدين بأنواعهم: المجافين له كأغلب المشتغلين بالعلوم الحديثة، أو المنكرين له وأهمهم الشاطبي قديماً والشيخ المراغي والشيخ شلتوت وأمين الخولي وغيرهم حديثاً، أو الجاحدين وهم كُثُر وأغلبهم من ذوي الثقافة العلمانية.

فإن راقبنا المجافين للإعجاز العلمي، تجدهم يمثلون الغالبية الساحقة من أهل الثقافة العلمية التي تقوم مدارسنا ومعاهدنا التعليمية بنسخها من كتب الغربيين دون مراجعة أو تمحيص. بل إن مبدأ المجافاة، أو اللامبالاه، أو الإعراض، مبدأ أصيل عندهم، ويصل إلى درجة عدم الاكتراث بالمحتوى العلمي المنقول، سواء كان من الحق أو من الباطل! فتجد في كتبهم التعليمية أمثال نظرية التطور الدارويني المنكر صراحة لخلق الله تعالى لآدم على النحو الذي أقره القرآن نصاً لا تأويلا. فإن كان هذا منحاهم في ما يصطدم بصريح القرآن، فكيف بهم فيما يتطلب شيء من التأويل، والذي يمثل أغلب مسائل الإعجاز العلمي؟! – لا بد أنهم يضربون به عرض الحائط، وكأن الأمر لا يعنيهم!

أما الناقدين فلا يملكون استغراق النفي لأنه غير منحصر. فإن نفوا ما يعلمون، فما لا يعلمون قد لا ينتفي. وما كان غير عملي عند قومٍ فهو عملي عند غيرهم، أو في زمنٍ لاحق بعدهم. أما أشد المآخذ التي يحتكم إليها منكروا الإعجاز العلمي فهي تفنيد احتواء القرآن على شيء من علوم الدنيا بادعاء أن القرآن جاء للدين والهدى فيه، لا الدنيا والعمل فيها، وكأن العلم – بالمعنى الحديث- لا يحتاج إلى الهدى، وكأن الهدى لا علم معه! والحقيقة أن منكري الإعجاز العلمي ما كانوا ليصدقوا به وهُم مشحونون بانطباعات مسبقة لديهم، غير واقفين على أنها قد تكون من عند أنفسهم.

أما الجاحدين للإعجاز العلمي، المتعالين على سماع همسه ودندنة أصحابه، فتجدهم دائماً هم الجاحدون لكل ما هو ديني، وليس فقط للإعجاز العلمي، بل لصلاحية القرآن في كل شأنه. فهؤلاء تؤزهم شياطينهم، ولا يهدأ بالهم إلا بصمت الحق ولغو الباطل، ولا علينا فيما يلغو باطلهم، ولكن عليهم يعلو ويطمس على آذانهم فلا يسمعوا للحق وأهله، وما أصدق قول الله تعالى فيهم "وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"(فصلت: 44)، وقوله تعالى "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"(الأنعام:26).

وإذا سمعت الناقدين، تجد منهم من يتساءل ويقول: ما من لفظ في القرآن إلا وتشرحه معاجم اللغة منذ الخليل وسيبويه وابن سيده وابن منظور، وفي استطاعة من شاء أن يعلمها أن يعلمها، وقد استنفذ المفسرون كل آياته بالشرح والتفسير. فماذا فيما يقول أصحاب الإعجاز ليكون إعجازا غير اللغة والبيان، والبلاغة والنظم وحسن التلاوة والعبرة، وشرح الصدر والبصيرة والاطمئنان. إن كل ما يمكن أن يقال قد قيل، وما ترك الأولون للآخرين من شيء لِيُعرف لاحقاً في الدين. ولو كان، لكان السابقون أولى الناس به. أنحن أفضل حالاً منهم حتى نعلم في القرآن ما لم يعلموا؟! وهكذا تدور دوائر الإنكار، بانغلاق علم القرآن على ما قاله الأولون، وقد استنفذ القائلين ذلك أعمارهم في تعَلُّم حفظ متون الأولين وترديد أسجاع الغابرين. والحرج عند هؤلاء يكمن في أن الاعتراف بالإعجاز المتجدد اعترافٌ منهم بقصورهم وحدودهم! وهم من أهل الدين ويعتبرون أنفسهم من العلماء الراسخين! أيعترفون بالإعجاز العلمي ليقروا بعجزهم؟! ألم يقضوا عقوداً يتلون القرآن ويشرحون التفسير ناقلاً عن ناقل! ولماذا يضعون أنفسهم في هذا المقام، وهم عنه أغنياء ومن دونه هم في عزةٍ وإباء.
وقد يكون الجافي المنكر للإعجاز ممن لا يسمع القرآن إلا في عوارض الأحوال، كحضور مأتم، أو سماع خطيب المسجد من وراء الجدران. ثم كان من أهل الدرجات الجامعية المميزة، وقد احتفى به المجتمع فوضعه على رأس الوظائف، ومنحه جليل الألقاب، يوم عاد من بلاد لا تعرف القرآن. وبعلمٍ لا يعلمه أهل القرآن! فكيف له أن يعترف أن ما جاء به مزهواً فخوراً باهيا، يمكن أن يُستخرج من بين دفتي مصحف قديم، لم يره إلا ويكسوه تراب بيت جده في قرية نائية، لا وجود لها من آثار على خارطة الأرض باقية!

أنَّى يكون الأمر على هذا المنوال، ويكون للإعجاز العلمي شأن وحال؟! وهذه النماذج الفكرية؛ متوجسة كانت، أو مترددة أو جانحة، ومن نهج نهجهما قد ملأتها قناعات الكفاية، ولا يرون من الدلائل ما تستبين به صحة دعوى الإعجاز. إذ لا إعجاز إلا بما هو مُعجز، فيقول لسان حالهم: أين نرى علامات الإعجاز التي يدَّعيها المدعون؟! وأين كانت فيما مضى من سنين؟! وأين كان آباؤنا عنها غافلين؟! ولماذا نحن في آخر الأمم إذا كانت علوم الأولين والآخرين تحت أيدينا بين دفتي المصحف في كنزٍ أمين، وفي كتاب مكنون! هذا إن كان صحيحاً ما يدعيه الإعجازيون!!! .. أسئلة وأسئلة بلا إجابات شافية، ولا علامات على صدق أصحابها حاسمة بينة.

وفي خِضم هذه المعاناة النفسية المترددة، المتشككة الناقدة، الأبية المتغطرسة، المتمرسة في أقوال وتنظيرات يونانية بالية، أو نظريات غربية، يؤثر أصحابها الإعراض، وقرب الإنكار والفكاك ولو من أقرب طريق. رغم أن ما يقوله أصحاب الإعجاز لا يخرج عن كونه تنظيرات شبيهة بما علمه هؤلاء الجافين الناقدين المهاجمين المتشككين، وأصبحوا أعلاماً في العلم به، فكيف يقبلون أقوالاً في العلم الغربي لا عن قاطع البرهان، ويرفضون أقوالاً أهل الإيمان بغير حسم وتبيان! لذا نراهم في خضم هذا المَوَران، لا يبدي أحدٌ منهم الهجوم إلا بما هو مجمل من اتهامات، أو متردد بين احتمالات، أو مشتبه بين معاني وخيالات. بل منهم – المتغربين بالذات - من يدافع عن حرية الرأي إذا كان طعناً في الدين، وينتقد حرية الرأي إذا مارسه أصحاب الإعجاز فيما فهموه من مقتضى إعجاز رب العالمين. أوَليس هذا برأي، يدَافع عن حرية صاحبه، من كان صادقاً في دفاعه عن حرية الآخرين، أم أن ادعاءات الحرية في الفكر والاختيار حلال دون أعتاب بيوت المؤمنين، حرامٌ عليهم إن أتوها آمنين؟!

ولسنا من المنادين بتضييق حرية الرأي وما يلزمها من حَجْرْ ، بل نرى أن في إذاعته كل الخير، شريطة أن يكون الحق رديفه لا يفارقه، في البيان، والإذاعة، والنشر، والعرفان. فإن منعْنا الرأي الفاسد – هكذا تحجُّراً – دون تبيان فساده، كان اعترافاً بقوته، وانهزاماً أمام حجته. وإن كان الستر والخفاء أسلم للأمة من نشر فساد الآراء، لكان خفاء إبليس وقبيله من قبيل السلامة والأمان. ومعلومٌ أن خفاؤه أشد شراً وأعظم وطأة. فكذلك خفاء الآراء الفاسدة، تسري رغم أنف المانعين، وخاصة إذا كان في غياب حقٍّ مبين، يكشف زيفها ويفضح مكرها، وفي غياب بيانٍ يُعرِي باطلها وحقدها، وعندها تجد من المترددين كل نصر ومظاهرة، ومن أصحاب الأهواء كل ترحاب ومصاهرة. ومن المفسدين والظالمين كل شرٍّ ومجاهرة. ولو يعلم أصحاب القرار والأمر، أن حرية الفكر والرأي قوة عاصفة مالم يكبح جماحها، ويروض أزيزها، ويُبَصَّر طريقها، ويُعان سالكها. وليس ترويضها إعدامها، بل حُسن توجيهها ليكون في الخير مسيرها. مثلما أن الريح قوة، إلا أن الله تعالى يسوق بها الماء فيحيي بها الأرض، وبها أهلك أقواماً فسدوا في الأرض.

تفاوت علماء الإسلام في رؤية الإعجاز العلمي في القرآن:
ويتفاوت علماء الشريعة والتفسير واللغة فيما بينهم تفاوتاً شديداً في موقفهم من قضية الإعجاز العلمي. ورغم أن الشيخ يوسف القرضاوي، راية ساطعة في الاعتدال والوسطية، إلا أنه عبّر بما يشير إلى مسألة تجهيل السلف في المسائل التي يُستحدث فيها أراء جديدة في الإعجاز العلمي، فقال مُحذِّراً من المبالغة والغلو في ذلك[3]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم، يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن، وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!."، وللشيخ كل الحق في الرد على أمثال بعض المتهافتين في مسائل الإعجاز العلمي، إلا أن تعميم النقد يضيع معه الحق. كما قال مفاضلاً بين المؤيدين والمعارضين، جانحاً بالمدح جهة المعارضين حين قال: "في عصرنا من العلماء من أيد هذا الاتجاه. ولكن العلماء المحققين وقفوا ضد هذا بقوة كالشيخ أمين الخولي، والشيخ محمود شلتوت، والأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن وهو يفسر قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ"، يقول: لا ينبغي أن نُحَكِّم العلم - الذي يتغير ما بين الحين والحين – بالقرآن."

إلا أننا نجد من علماء اللغة من يقول[4]: "إن إعجاز القرآن أمر متعدد النواحي متشعب الإتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخص واحد، ولا حتى جماعة في زمن ما، مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم، وتعدد اختصاصاتهم، إنما هم يستطيعون بيان شيء من أسرار القرآن في نواح متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن مفتوحاً للنظر لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِما يجدّ من جديد. وسيجد فيه أجيال المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال. وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز. فإني سمعت وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته، ما لا يصح استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية. وقرأت وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظه مختارة في منتهى الدقة العلمية. ... وقرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن البتة. ... وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير الملك في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة. ... وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي ... بل إن هناك أموراً لم تُعرف إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب، ذلك أن الإنسان إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم، ولم تُر الشمس إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهار الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدود الغلاف الجوي، فإن تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. ... وعلى هذا فالإعجاز القرآني متعدد النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير فلا غرو أن أقول إذاً أن الإعجاز أكبر مما ينهض له واحد أو جماعة في زمن ما."

والحق الذي ينبغي أن يُصرَّح به أن "الإعجاز العلمي في القرآن" مسألة مركبة وليست بسيطة. بمعنى أن الأمر بتأييد الإعجاز العلمي إجمالاً، أو الاعتراض عليه إجمالاً لا يستقيم. وإنما الذي يستقيم هو القول المحقق في كل مسألة على حدى. والسبب أن تعميم الأقوال مُشكل، ويوقع في حرج بالغ، وأشد ما نجد من حرج في أقوال المعترضين (بأنواعهم المتباينة) على الإعجاز العلمي، قولهم[5]:

[القرآن الكريم ليس كتاب علم أصلاً!]

ورغم أننا نعلم أن صاحب هذه العبارة، أي الشيخ يوسف القرضاوي، لم يقصد منها إلا أن القرآن ليس كتاب في العلوم الحديثة في الطبيعة والأحياء وأمثالهما من موضوعات، وأنه كتاب في العلم الديني الإلهي الذي لا ينكره إلا كافر به، إلا أنها عبارة شديدة الإشكال، والمؤاخذة عليها أشد من تأييدها، كما سنبين ذلك لاحقاً بالتفصيل. ومن ثم يجب إظهار كم تمثل هذه العبارة من قول يجب إنكاره، والنهي عن التصريح بمثله، خاصة وأنها أصبحت تردد في أقوال كل المعارضين لعلمية القرآن، أو تكاد، وأصبحت مُسَلّمة من مُسَلّمات الثقافة المعاصرة، والعلمانية منها خاصة، رغم أنها مُنْكَرَة، لإجمالها الباطل مع الحق، فتقر بالباطل من حيث لا يريده بعض القائلين بها.

المؤلف
ملاحظة: سيتم تحديث الفهرس تباعاً إن شاء الله على هذا الرابط:
القرآن والعلم : كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
---------------------
[1] في كتابه "جواهر القرآن"- المقدمة.
[2] في كتابيه "الإتقان"(ج1/367) ، و "الإكليل في استنباط التنزيل" حسب ما ذكر محمد حسين الذهبي في "علم التفسير" ص 73.
[3] مقال بعنوان [القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي]، نشر على موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 14/2/2007، ونشر لاحقاً على موقع الشيخ القرضاوي:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
[4] د. فاضل صالح السامرائي، أستاذ النحو في جامعة الشارقة، في مقدمة كتابه الإلكتروني "لمسات بيانية في نصوص من التنزيل".
[5] جاء في المقال المشار إليه سابقاً:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
 
مقدمة كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

مقدمة كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه

المقدمـــــــة​
بسم الله الرحمن الرحيم​
يشترك كل من يتردد، أو يُشكك، أو يستنكر، أو يَسْخَر من: وقوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، في نفي ما قامت عليها الشواهد الكثيرة والأدلة القاطعة. وقبل استعراض الأقوال المرتابة والمستنكرة والجاحدة من أصحاب الآراء في ذلك، وقبل الدفاع وتفنيد آرائهم الضعيفة والمردودة - حيث لم نجد لهم حجج قوية - نسوق هنا شهادة عملية ممن خاض هذه التجربة من غير المسلمين ليُدلي بنتائج تجربته، وما تحقق هو منه، وساقه إلينا دون مواربة أو تردد.

يقول الطبيب والباحث الفرنسي في مقارنة الأديان والعلم، موريس بوكاي[1]: "الوحي القرآني ... ليس فقط خالياً من التناقض في النصوص – الذي هو ظاهرة كتابات الناس المختلفين في الأناجيل، بل إنه يبرز للذي يمارس اختباره وتحليله، بموضوعية كاملة في ضوء العلم، ذاتيته الخاصة به، وهي الاتفاق التام مع النظريات العلمية الحديثة (يقصد النظريات المُحَقَّقَة والمُسْتَيْقَنة)، ويكشف حقائق من النوع العلمي، تجعل من المستحيل على رجل في عصر محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يكتبه. وهكذا فإن المعارف العلمية الحديثة اليوم تُيسِّر لنا فهم بعض الآيات القرآنية التي عجز الإنسان عن فهمها حتى الآن.
ومقارنة العديد من نصوص التوراة مع النصوص القرآنية ذات الموضوع الواحد، تؤكد وجود اختلافات أساسية بين تأكيدات التوراة العلمية غير المقبولة وتأكيدات الأخبار القرآنية التي هي في كامل الاتفاق مع المعطيات الحديثة. وقد رأينا ذلك في موضوع الخلق والطوفان على سبيل المثال. وإن كنا قد رأينا بالنسبة لتاريخ خروج موسى في النص القرآني تكملة ثمينة للرواية التوراتية. على أن المجموع ينسجم انسجاماً جميلاً مع المعطيات الأثرية في تحديد عصر موسى في الزمن، والفوارق الهامة بين القرآن والتوراة بالنسبة لموضوعات أخرى دونت لترد كل ما أمكن زعمه – دون أي دليل – من ادعاء نسخ (يقصد استنساخ) محمد (عليه الصلاة والسلام) للتوراة ليوجد نص القرآن."

ويقدم موريس بوكاي هذه الشهادة – ضمن شهادات عديدة ضمنه كتابه المشار إليه – رغم أنه أعرض عن سؤالٍ، ألح عليه السائلون فيه، عياناً أمام سمعي وبصري سنة 1986، وذلك حين سألوه: هل أسلمت؟ - فأجابهم أنه لا يقدم أعماله إلا بصفته باحثاً عن الحق والصدق والعلم.

ورغم أن موريس بوكاي قد فتح مجالاً للبحث العلمي – الاستدلالي التحقيقي، بآليات المناهج البحثية التحقيقية الرصينة - في القرآن الكريم، إلا أن الدعاية الدينية المشوشة قد شوَّهت هذا الفتح الزاخر، بدعاية إعلانية، فرغت البحث العلمي في القرآن من قيمته البحثية، وروَّجت لما ثبت وما لم يثبت بعد، من مسائل إعجازية لم تستوف نصاب البحث واليقين. فكانت ردة الفعل في أغلبها، إما واقعة بين تقريع غير المصدقين! أو صخب سابق المقتنعين! فسادت الأحكام الانطباعية المسبقة، وأطلقها كل من له صوت، ومصلحة، وتعلُّق بالأمر من قريب أو بعيد. فأصبحت مسألة الإعجاز العلمي في القرآن مُشكلة ومُعضلة، بدلاً من أن تكون انفراجة عاجلة، ونصراً زاخرا.

وجدير بالاعتبار هنا أن مسألة الإعجاز العلمي في القرآن، وما يرتبط بها من تفسير علمي، ليست مسألة خاصة، تتقارب نتائج وجودها وعدمها، بل هي أهم مما يظن معظم المشتغلين بها والمعرضين عنها. وذلك من جهتين:

الأولى: أن العلم الحديث قد اتسع نطاق سيطرته على كل منحى من مناحي الفكر والنشاط الإنساني دون استثناء. وهذا يشمل نطاق الحرية الإنسانية في الاعتقاد دون مؤاخذة ولا توجيه لباطل من حق في الاعتقاد. وكأنّ الاعتقادات مثلها مثل المذاقات والروائح، يأخذ منها الآخذ، أو يدع بلا حرج ولا عتاب. ولكن إذا طالت الحرية الإنسانية المسائل العلمية الرصينة، فليس للإنسان إلا أن يتبع ما أقرته المجامع العلمية، ولا يسع أحدٌ التنكر لها، وإلا طُرد من رحمة العلماء، وناله الخذلان والحرمان. فكأن العلم الحديث قد أصبح ديناً تقوم له الحجة، ومن عاندها كفر بها، وناله التشهير والتضييق، وفي المقابل لم يعد الدين الحق صاحب حجة! حتى وإن احتوتها نصوصه!!! ... لماذا؟! – لأنها أصبحت في عرف العلم ليست حجة علمية!!! .... وإن بقيت حجة دينية، فلا بأس إذاً على من أنكرها كما يشاء. وبإسم العلم، وبإسم الحرية!!! ... فإن عورض أحدٌ في ذلك كان الاعتراض اتهاماً بغلق أبواب حرية الفكر والإبداع، وإن عارض مزاعم العلم أحدٌ، اتُّهم بإسم الحجج العلمية. فأصبح العلم الحديث هو "العلم" دون كل ما سواه، ولم يعد لدين من الأديان مثل رصانة العلم الحديث، فتراجعت مرتبة كل ما حمل اسم "دين" في القيمة العلمية، وأصبح شيئاً ما من التراث البشري، لا يحاجّ به، ولا يُحتَجُّ له!!! ... وأصبح "العلم" سابقاً ومهيمناً على الدين، كل الدين، وبلا استثناء! – وما يقال عن الحرية الشخصية في الاعتقاد، يقال على كل شأنٌ كان الدين هو المنظم له، مثل العلاقات الاجتماعية، والعدالة في الميراث، ومعنى الحياة، والعبث بالخلق، ... إلخ! .. بل أصبح الدين وأصوله مبحثاً علمياً يُنظَّر فيه وحوله، في نشأته التاريخية، واختلاق مصادر آدمية له، وتأصيل منابع الوجود الإنساني من فوضوية الأحداث الكونية، ورسم الخريطة الإنسانية على ضوء علم منكر، لأي وحي يُنسب إلى خالق الكون (جل في علاه). .. وباختصار، أصبح لـ "العلم" سعياً حثيثاً لاجتثاث الدين - كل الدين - بإسم فضيلة العلم. وأصبح غرض "العلم" الأساسي أن يضع الدين – كل الدين - مع عبثيات الفكر الإنساني الما-قبل-علمي!

الثانية: أن الإعجاز القرآني على مدى عصوره قد انحصر في البلاغة والنظم والبيان. والغريب كل الغرابة أن هذه الوجهة الشكلية الصورية للكلام الإلهي كانت هي الملمح الوحيد البارز والطاغي إذا ذُكر اصطلاح "إعجاز القرآن". ويكاد أن يكون هذا التصور مُتَّفَقاً أو مُجْمَعاً عليه بين أئمة المسلمين. وهذه المسألة – التي لم تكن مشكلة من قبل في نظر علماء الإسلام، ربما لرتابة المعارف الإنسانية، حيث لم تتبدل مع الزمن تبدلاً ذا شأن كما يجري في أيامنا هذه، إضافة إلى هيمنة الأديان على ساحات الفكر الإنساني – نراها الآن مشكلة كبرى. ولإظهار حجم هذ المشكلة نقرب المسألة بالتصور الآتي:

تحدى الله تعالى الذين أشركوا به من الناس، وقال سبحانه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"(سورة الحج:73)، فهل كان هذا التحدي بأن يصنعوا فقط ذُباباً له هيئة الذباب الذي خلقه الله تعالى جامداً لا حياة فيه، أم أن يصطنعوا، إن استطاعوا، فوق تمثُّلِه، ذباباَ حياً له الكيان المعروف، يطير ويحط، ويتكاثر ويتوالد، ويسلك مسالكه، ويسترزق رزقه؟! – مثلما حدث مع عيسى - عليه السلام - في معجزة إحياء الموتى حين قال تعالى على لسانه "أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ"(آل عمران:49). لا شك أن التحدي يشمل الهيئة والوظيفة. فالتحدي إذاً ليس في محض الهيئة، بل في خلق كائن حي، وله هيئته. فالهيئة تابعة، وليست سابقة ولا منفردة بالقيمة، بل إن جل أعمال البشر التي أشركوا فيها بالله كانت هيئاتُ أوثانٍ لا حياة فيها.

والآن، تحدى الله تعالى من كان في ريب من القرآن وقال تعالى "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(البقرة:23)– بمعنى، إن شككتم في القرآن، فاستوثقوا؛ أهو وحي من الخالق العليم الحكيم؟! أم هو من وضع محمد - عليه الصلاة والسلام؟! ومن استطاع أن يأتي بسورة من مثله، ولو بقدر سورة العصر أو الكوثر، فقد أسقط حجة القرآن! ولكن هل التحدي كان فقط بالإتيان بمثل هيئة الكلام الإلهي في القرآن من بيان ونظم وبلاغة فقط، أم بكلام (حي) صادق مقالاً وحالاً وزماناً ودواماً؟!

لا شك أن الكلام المأتي به في التحدي يجب أن يحقق كل هذه الشروط، أي: شروط حياة الكلام.

ولكن هذه الشروط لم ترِد في الحديث عن "إعجاز القرآن" على مدى عصوره وروداً تحقيقياً، وسكت الجميع عنه أو يكادون، إلا ذكراً عابرا غير ذي بال! مفترضين أن المعاني متحققة بالضرورة – لمن شاء من الناس- في أي كلام يقال، حتى أنه قد أُثر عن الجاحظ قوله[2] في تهوين الحصول على المعنى : "المعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ والبدويُّ والقرَوي والمدنيّ وإنَّما الشأنُ في إقامةِ الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج". وهذا من غرائب الأفهام والأقوال! .. وتم تسليط الضوء فقط على هيئة الكلام في تأدية المعنى – في أغلب ما قيل- دون مضمونه!

ونستغرب هنا أشد الاستغراب، إذ كيف يمكن لإنسان – يقبل تحدي القرآن- أن يُشرع في نظم كلام بديع على شاكلة إبداع القرآن، قبل أن يستوفي شروط صدق الكلام - مقالاً وحالاً وزماناً ودواماً ؟!

إن هذا الشرط - في حقيقة الأمر - مستحيل التحقيق، لمن يعلم كم هو فوق طاقة البشر، أن يتكلموا بصدق تام ودائم، عن أي شيء في هذا الوجود[3]، ولا يمكن لعاقل أن يصل إلى مرحلة النظم أبداً قبل أن يجتاز نهر الصدق التام في الكلام! فكيف بالقدماء من المسلمين قد سلطوا الضوء فقط على النظْم، مع علو قدره وقيمته، في وقت تتقدمه عقبة صدق مضمون الكلام، وبما يصبح معه الوصول إلى مرحلة النظم دونه خرط القتاد؟! .. حيث لا قيمة لنظمٍ بديع لمعانٍ لم يكتمل لها مطلق الصدق!! ... مثلما أنه لا قيمة لكلام فصيح بليغ إذا احتوى شيئاً من الكذب.

ولنلقي مزيداً من الضوء على ما قد يعنيه "مضمون الآيات" ونقول: مَن مِن الناس يستطيع أن يتكلم عن الأرض أو السماء أو الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو الحياة أو الموت، أو الإنسان أو النفس أو الخير أو الشر ... إلخ، وقبل كل ذلك وبعده، من يستطيع أن يتكلم - بكلام من عند نفسه - بحق وصدق عن ذات الله العليَّة وصفاته وإرادته ومراده وحكمته، وعلة خلقه سبحانه للبشر والكائنات والكون؟! ويكون في كل ذلك صادق الدلالة، جامع المعنى، آمن من الزيغ فيه، لا يتبدل صدقه مع الزمان ولا المكان ولا الأحوال؟!
إن المرشح الوحيد لأي قول من هذه الأقوال والمضامين والدلالات – فيما يخص الواقع المشهود بما في ذلك ظهور الديانات - هو "العلم"!

فالعلم الآن هو الذي يتصدر مشهد الحقائق النافعة، والتصريحات المبهرة، التي تتحقق في الواقع إن صادف كلامه الصدق، وتبرأ من الزيغ، ويسعى حثيثاً أن يرى ما وراء الواقع مما خفى على الحواس أو المدركات أو الطبيعيات!!! ... نعم العلم إذاً - بحكم الصرامة التي تكتنفه- وفيما يخص العالم المشهود - هو المنافس البارز لمضمون آيات القرآن.

فالإعجاز القرآني إذاً يتطلب مواجهة العلم المطروح على الساحة الفكرية قبل مواجهة النظم، إذ لا قيمة لعبارة من الكلام كاذبة مهما علا قدر نظمها. وأقل العبارات الصادقة في قيمة نظمها أعلى من أعلى العبارات الكاذبة وهي في قمة نظمها! ... ففيما يفيدنا قمة النظم إن انخدش الصدق؟!

هاتان إذاً هما المسألتان اللتان يجدر بالإعجاز العلمي للقرآن أن يواجههما:
1- مواجهة هيمنة العلم الغربي على المشهد المعرفي وإقصائه للدين الحق من المشهد.
2- إعادة تحقيق مسألة الإعجاز القرآني وتقديم المضمون المعرفي لآيات القرآن على البلاغة والنظم والبيان، ولا نقول في القيمة، ولكن في الرتبة المنطقية، والترتيب الاعتباري، والأولوية الاجتهادية.

وفي هذا الكتاب سنُجري مناقشة آراء الذين خاصموا التفسير والإعجاز العلمي في القرآن، سواء قلَّت خصومتهم له أو طغت، مع مناقشة هاتين المسألتين كلما وجدنا إلى ذلك سبيلا. وذلك ابتداءاً بأقلهم خصومة، ممن توجس أو تردد أو تشكك، ومروراً بطيف واسع منهم، وحتى نصل إلى الذين انتقصوا من ذات القرآن - جحوداً من أنفسهم- في صورة قيمته العلمية.

والحمد لله أولاً وأخراً، وتجلَّى سبحانه في عليائه، وتألقت كلماته، ورفرفرت رحماته على سحائب الأكوان والعالمين.
المؤلف
عودة إلى الفهرس المحدَّث للكتاب
-----------------------------------
[1] "التوراة والإنجيل والقرآن والعلم"، موريس بوكاي، ترجمة الشيخ حسن خالد، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1990، ص 293.
[2] كتاب الحيوان، طبعة ثانية، ج3، ص131، مطبعة الحلبي، مصر، 1965.
[3] أنظر في ذلك مقالتنا (كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟)، أو هنا على هذا الملتقى الكريم، والتي تقدم نموذجاً عملياً على استحالة الصدق العلمي المطلق على البشر جميعاً!
 
بارك الله فيك

لاشك أن تحدي القرآن للمشركين لايقتصر على اللسان والبيان بل يشمل فنونا وعلوما مختلفة
 
الإخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله
وضعت كتاباً بعنوان: [براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه]
ويسعدني تلقي آرائكم وانتقاداتكم القيمة قبل نشره،
وهنا تجدون الفهرس والتمهيد، وسأتابع بإذن الله تعالى عرض فصوله.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسأل الله أن يبارك في هذا العمل وأن ينفع به المسلمين إلى يوم الدين ،
وقد سألتَ الرأي والنقد ، فمن أي وجه تريد ، فقد لاحظت وجود بعض الكلمات التي تحتاج إلى مراجعة لغوية ، فهل أفيدك في هذا ، أم أن الكتاب سوف يدقق لغويا فيما بعد .
 
الأستاذ / علي حسين خلاف
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

بخصوص سؤالي عن الرأي والنقد فيما أعرض من مادة الكتاب، إنما قصدت منه:
1 - مدى الاتفاق أو الاختلاف مع هدف الكتاب المصرح به، ألا وهو: وقوع التفسير والإعجاز العلمي وقوعاً حقيقياً يمكن المحاجاة عنه، وما ينتج عن ذلك من هيمنة علمية دائمة للقرآن على أي مناخ معرفي إنساني، سابق أو معاصر أو لاحق، ... ثم إعادة تقييم قضية "إعجاز القرآن" التي حار فيها المسلمون على مدار 1200 عام.
2 - قوة أدلة المؤلف على تفنيد الدعاوى - الصريحة والضمنية - التي تشمل الإعراض والتردد والتشكيك والانتقاص من التفسيرات العلمية والإعجازية الرصينة والمحققة، لآيات القرآن ذات العلاقة.
3 - تلطيف أجواء عرض المادة العلمية، وخاصة ما يمكن أن يثيره منها حفيظة بعض القراء، بخصوص إعادة تقييم آراء عدد من رموز الفكر الإسلامي من مشايخنا وأساتذتنا، التي توجست أو ترددت أو ارتابت في موضوع التفسير والإعجاز العلمي، وخاصة المدرستين الأولى والثانية بترتيب الفهرس المبين أعلى.
4 - تدارك المزالق الفكرية التي يمكن أن يتعرض لها أي باحث في خضم انهماكه في دراسته، والتي يمكن أن ينبهُه إليها إخوانه. وهو الأمر الذي يُعظّم من قيمة الدراسة، ويجعل الطرح الفكري والعلمي شورى بين أهله.

هذا، مع امتناني لاهتمامكم بالموضوع، والتعقيب عليه.
 
الفصل (أ1): أبو حيان الأندلسي

الفصل (أ1): أبو حيان الأندلسي

الفصل (أ1): أبو حيان الأندلسي
من كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه​
حيث (أ، ب، ج، د، ...) هو ترقيم أبواب الكتاب، و(1، 2، 3، 4، ...) هو ترقيم الفصول داخل كل باب​

عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم

اشتبه على بعض المعاصرين أن أبا حيان الأندلسي[1] من الذين أنكروا على التفسير العلمي للقرآن! فلما راجعنا أقوالهم، وما نقلوه عنه، وما قاله هو، وجدناهم يستشهدون بفقرة له في تفسيره الشهير "البحر المحيط". وبالوقوف على مراده منها لم نجد لهم فيها حُجّة، وظهر لنا أن الأمر قد اختلط عليهم.

- فقد جاء تحت عنوان "إنكار أبو حيان الأندلسي للتفسير العلمي" لأحد الباحثين، ما نصه[2]: "يحمل أبا حيان الأندلسي في تضاعيف تفسيره على الفخر الرازي لنزعته العلمية في تفسيره ويرفع عقيرته في وجه من ينحو نحو هذا الاتجاه الذي يسميه فضولاً وتخليطاً وتخبيطاً." وينقل من قول أبو حيان عن الرازي: "إنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير، ولذا حُكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير، فقد ذكرنا في الخطبة ( خطبة تفسير البحر المحيط) ما يحتاج إليه علم التفسير، فمن زاد على ذلك فهو فضول في هذا العلم. ونظير ما ذكره الرازي وغيره .... ومن (كان) هذا سبيله في العلم فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة."

يُفهم من هذا الكلام أن أبي حيان حمل على الرازي أنه أدخل التفسير العلمي في تفسيره الكبير، أي "مفاتيح الغيب"، وذلك لنزعة علمية عنده في ذلك، وأن أبا حيان قد رفع عقيرته في وجهه ومن ينحو نحوه، وأن هذا النحو ( أي الكلام في التفسير العلمي) فضول وتخليط وتخبيط!

- وتحت عنوان "[B]رأي المعارضين[/B] (من العلماء السابقين من التفسير العلمي التجريبي)"، قال باحث آخر[3]: "نقتصر في بيان رأيه -رحمه الله تعالى- (يقصد أبا حيان الأندلسي) على ذكر مَثَل طريف ضربه مثلًا لمن فسر القرآن بالرأي، فقد انتقد في تفسيره "البحر المحيط" طريقة الرازي في تفسيره وغيره ... وذلكم رأيه لا أظنه بحاجة إلى بيان، يرفض هذا اللون ويرفض القول به، لا عجزًا عنه؛ وإنما عمدًا وقصدًا لعدم الخروج عن حدود التفسير المقبول عنده."

ونفهم من ذلك – حسبما يرى الباحث صاحب هذه العبارة - أن أبا حيان يعترض على طريقة الرازي في تفسيره، بما حواه من تفسير علمي، ويرفض هذا اللون، والقول به، وأنه خروج عن التفسير المقبول، وأنه من التفسير بالرأي (الذي يرفضه الراسخون في العلم من العلماء).

- وأدرج باحث ثالث أبا حيان في المعارضين لهذا التوجه في التفسير؛ أي التفسير العلمي، وأدرجه باعتباره الأقدم من بين سبعة عشر معارضاً. وقال[4]: "هؤلاء المعارضون تختلف عبارتهم في قسوة انتقادهم لهذا التوجه بين متشدد ومعتدل. ويجمعها كلها الرفض له، والاعتراض عليه وعدم القبول به. فقد عد أبو حيان – في معرض نقده للفخر الرازي – توسع العلماء في مباحث العلوم عند تفسير القرآن، فضولاً في العلم. وقسى فجعله: [من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة]"

ولنذهب الآن إلى جملة ما قاله ابو حيان الأندلسي في تفسيره "البحر المحيط" لنقرأ كلامه، ونعي قوله، ومراده منه.

يقول أبو حيان[5]: "تكلم المفسرون .. في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطوّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير. ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير. وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير . فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم."

يريد أبو حيان أن يقول: أن موضوع النسخ الشرعي وأحكامه لا ينبغي أن يدرج ضمن مباحث "تفسير القرآن"، وإنما يُدرج في علم أصول الفقه. وأن هذا هو المنهج العلمي الذي اعتاده العلماء، ويقصد أن يصنفوا الموضوعات العلمية بحسبها، ولا يخلطوها. وأنهم لو لم يفعلوا ذلك، وأدرجوا كل شيء في تفسير القرآن، بحكم أنها جميعاً إنما نشأت لفهم كتاب الله تعالى، لكان ذلك تطويلاً في علم التفسير، وخروجاً عن المألوف في التصنيف فيه. ثم يعطي أبو حيان مثالاً لهذا التطويل، الناتج عن خروج المصنف عن العرف المنهجي في التصنيف، وليس في صحة تناوله لعيون المسائل. وهذا المثال هو تفسير الفخر الرازي. وعلة التمثيل بما فعله الرازي أنه قد جمع في كتابه أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، مثلما أن علم التفسير ليس به حاجة لأن يضم علم الناسخ والمنسوخ. وليس بمعنى أن تلك التطويلات التي أتى بها الرازي ممتنعة في نفسها أن تكون من المباحث التي يجوز للعلماء تناولها.

ولتأكيد هذا المعنى، يسوق أبو حيان مثالاً آخر أشد تشتتاً في التصنيف ، وليس استنكاراً لعيون المسائل، يقول: "ونظير ما ذكره الرازي وغيره، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة، فذكر أن الألف في الله، أهي منقلبة من ياء أو واو؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل. ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس. ثم استطرد إلى أوصاف الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب. ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم. فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة، إذا هو يتكلم في الجنة والنار، ومن هذا سبيله في العلم، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، قدّس الله تربته، يقول ما معناه: متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف، فاعلم أن ذلك، إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات .وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير، بل إنما تركنا ذلك عمداً، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير."

فالذي يعيبه هنا أبو حيان هو الانتقال من علم النحو، إلى علم العقيدة في الله تعالى، إلى الاعتقاد في إرسال الرسل، إلى علم إعجاز القرآن، إلى علم العقيدة في البعث والثواب والعقاب، ومن كان هذا سبيله في العلم، أي في تصنيف العلوم واشتباكها، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة.

وتأكيداً أخيراً لذلك، يستشهد أبو حيان بقول أحد أئمته من العلماء، أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي، يقول: "متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف، فاعلم أن ذلك، إما لقصور علمه بذلك الفن، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه، حيث يظنّ أن المتغايرات (يقصد في التصانيف) متماثلات (أي يجوز جمعها في مصنف واحد)".

ثم يتابع أبو حيان، ويقول: "وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمداً ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير". يقصد: أن الأمر لو لم يكن كذلك في صواب المنهج في التصنيف، لضم إلى تفسيره – أي البحر المحيط – ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير، ويشمل ذلك بالطبع ما جاء به الرازي. يريد بذلك أن يرفع عن نفسه شبهة عدم الإحاطة بما دونه المصنفون. ومن ثم أراد أن يقول أنه قد ترك ذلك عمداً، حبكة لصنعة التصنيف، وليس استخفافاً بما تركه ولم يشمله بالتفسير، أو استنكاراً للخوض فيه، بل لأنه لم يرَ شموله بمصنفه التفسيري مناسباً. ويستوي في تركه لتفسيرات الفخر الرازي الطبيعية، تركه للمسائل النحوية في ألفاظ القرآن، وتركه لأمهات مسائل العقيدة في الله تعالى والرسل والثواب والعقاب ووجوب الرسل والرسالات ... إلخ.

يتبين من هذا التحليل أن أبا حيان الأندلسي لم يتعرض لسلامة مسائل التفسير العلمي التي تناولها الفخر الرازي على نحو ما فهمه الباحثون المعاصرون بظنهم!

وإن قيل: أن أبا حيان قد أنكر على الرازي في موضع أخرى، حين قال عنه[6]: "ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عز وجل."

قلنا: إن ذلك كان في معرض الشاذ من الأقوال التي يوردها الرازي على سبيل الاستقصاء، فيذكر ما قاله بعض المتصوفة، وأصحاب النجوم، أي المنجمون. ودليل ذلك أن العبارة السابقة جاءت في السياق الآتي:

قال ابو حيان:[قال ابن عطية: وذهب قوم إلى أن هذه الأشياء المذكورة (يقصد في قوله تعالى "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ"(التكوير:1-2)) استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند الموت. فالشمس نفسه، والنجوم عيناه وحواسه، وهذا قول ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى. انتهى. وهذا مذهب الباطنية، ومذاهب من ينتمي إلى الإسلام من غلاة الصوفية، وقد أشرنا إليهم في خطبة هذا الكتاب؛ وإنما هؤلاء زنادقة تستروا بالانتماء إلى ملة الإسلام. وكتاب الله جاء بلسان عربي مبين، لا رمز فيه ولا لغز ولا باطن، ولا إيماء لشيء مما تنتحله الفلاسفة ولا أهل الطبائع. ولقد ضمن تفسيره أبو عبد الله الرازي المعروف بابن خطيب الري أشياء مما قاله الحكماء عنده وأصحاب النجوم وأصحاب الهيئة، وذلك كله بمعزل عن تفسير كتاب الله عز وجل. وكذلك ما ذكره صاحب التحرير والتحبير في آخر ما يفسره من الآيات من كلام من ينتمي إلى التصوف ويسميها الحقائق، وفيها ما لا يحل كتابته ، فضلاً عن أن يعتقد.]

والخلاصة أن ما يأخذه أبو حيان على الفخر الرازي إنما فيما يشذ من أقوال يوردها عن أصحاب النجوم أو الحكماء عنده (أي: في اعتبار الرازي) من رمز أو لغز أو باطن أو إيماء، كما قال، لا في أصل التفسير العلمي لطبيعيات القرآن. وكل فعل يفعله الإنسان يأتي بعض الناس فيه بالغلو، فنبذ الغلو لا يستلزم نبذ مبدأ الفعل. ومثال ذلك أن الغلو في الدين يأتي بالبدع، فتُنبذ البدع، ويحرر منها الدين خالصاً مُخَلَّصا. وكذلك التفسير العلمي، ينبذ منه الغلو، ويحرر الصدق فيه بما قامت عليه الأدلة.

وإذا مثَّلَت الأدلة التي أوردناها أعلى أدلة نفي لما قيل من معارضة أبي حيان الأندلسي للتفسير العلمي في القرآن، فنورد فيما يلي أدلة إثبات نقيضها؛ أي: نورد أمثلة لما ذكره أبو حيان في ثنايا تفسيره، وجاء على منوال التفسير الكبير للفخر الرازي مع الإيجاز:

- ففي مسألة أن الأرض "لو كانت كروية ما استقر ماء البحار فيها" كان آخر كلامه فيها: " هذه مسألة يُتكلم عليها في علم الهيئة".
- وفي مسألة: "صوت الرعد"، قال من بين ما قال: " قيل : اصطكاك الأجرام السحابية، وهو قول أرباب الهيئة".
- وفي مسألة أحجام الشمس والنجوم، قال: " قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها، وإنها سبعة أفلاك، يجمعها الفلك المحيط".
- وفي مسألة الأرض ووصفها، قال: "ذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة، وأن البحار محيطة بها، والهواء محيط بالماء، والنار محيطة بالهواء، والأفلاك وراء ذلك. وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف ( بالدقائق ) خلافاً عن الناس المتقدمين: هل الأرض واقفة أم متحركة؟ وفي كل قول من هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها، أو لتحركها."

وخلاف هذا كثير، ولو كان ابو حيان ممن يعارض التفسير العلمي، لتجنب مثل هذه الأقوال وأمثالها.

ويُستدل من كل ما سبق أن موقف أبو حيان من التفسير العلمي، يشبه موقفه من النحو، أو الفقه، أو العقيدة، وذلك من حيث أنها علوم متباينة، يلزم لمن يصنفها أن يستقل بها عن عموم التفسير. وفيما يخص التفسير العلمي، فلا مانع عنده – لمن فهم كلامه- من أن ينشأ كعلم من علوم القرآن، كما في كتاب الإتقان عند كل من السيوطي والزركشي، أو أن يستقل في التفسير بإسم "تفسير آيات الخلق"، مثلما استقل الفقه بـ "تفسير آيات الأحكام". وفقط عندئذ سيزول التخليط والتخبيط الذي اشتكى منه أبو حيان.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب

------------------------------
[1] [هو (أبو حيان) محمد بن يوسف بن على بن يوسف ابن حيان الغرناطي الأندلسي الجيانى، النفزي، أثير الدين، أبو حيان (654 - 745هـ)، من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث والتراجم واللغات. ولد في إحدى جهات غرناطة، ورحل إلى مالقة. وتنقل إلى أن أقام بالقاهرة. وتوفى فيها، بعد أن كف بصره. واشتهرت تصانيفه في حياته وقرئت عليه. من كتبه (البحر المحيط) في تفسير القرآن، ثمانى مجلدات و (النهر) اختصر به البحر المحيط، و (مجاني العصر) في تراجم رجال عصره] (الأعلام للزركلي). وقال عنه السيوطي في "حسن المحاضرة": [اشتهر اسمه، وطار صيته، وألف الكتب المشهورة، وأخذ عنه أكابر عصره].
[2] عبد المجيد عبد السلام المحتسب، "اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، ط3، منشورات مكتبة النهضة الإسلامية، عمان الأردن، 1982، ص 295-296.
[3] فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي، " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري "، رسالة لنيل درجة الدكتوراة، جامعة الإمام محمد بن سعود، كلية أصول الدين، فرع القرآن وعلومه، العام الجامعي 1404-1405هـ، ج2/ ص605.
[4] محمد عبدالرحمن الشايع في بحثه "التفسير بمكتشفات العلم التجريبي بين المؤيدين والمعارضين"، مجلة "جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية"، العدد الرابع، رجب 1411-فبراير 1991، ص 27.
ارشيف المجلة - العدد الرابع
[5] أبو حيان الأندلسي، "تفسير البحر المحيط"، دار الكتب العلمية ، بيروت، 2001م، في تفسير آية النسخ (البقرة:106)، "ما ننسخ من آية ..".
[6] تفسير البحر المحيط، في تفسير (التكوير:5)، "وإذا الوحوش حُشرت ..".
 
أستاذي الكريم رعاك الله
أحكامكم التي قررتموها من اعتدال وفجاجة ورعونة ثم تصنيفكم الباحثين تحت مظلة هذه اﻷحكام قد لا يكون مناسبا حفظكم الله ، ولا أدري أهو أمر دارج وسائغ في الكتابات العلمية ؟
أم أن فضيلتكم قد يستحسن عرض نقده العلمي في صيغة أخرى .
واعذرني على هذا التطفل ..
 
أخي العزيز محمد عبدالله آل الأشرف
السلام عليكم ورحمة الله

هب أن موضوع الدراسة هو "حجية آيات الوحي" على البشر، .... فما غرابة أن تأتي نتائجه على النحو الآتي؟!
- الذين آمنوا
- الذين تريثوا
- الذين ترددوا
- الذين تشككوا
- الذين أنكروا
- الذين جحدوا
- الذين عادوا
علماً أن لكلٍّ حُجّة ومدرسة وتأصيل وطلاب ومريدين.

ولأن مشروع الكتاب يتعلق بالحجة العلمية في كتاب الله تعالى على البشر، في زمن يسمونه "زمن العلم"، وقد أزاح كثيرٌ من الباحثين - على مختلف مشاربهم - الوحي باعتبار أنه ليس من مصادر "العلم" القائم على الدليل والبرهان العلمي، وأنه محض إيمان محله القلب، فكان لزاماً على من يعرف حجة الله - عسى أن نكون منهم - الدفاع عن "كلام الله تعالى"؛ القرآن، بالحجة العلمية.

فإن كان هناك إشكال في ترتيب مادة الكتاب المقترحة، أو عناوين التصانيف الداخلية، وبما يثير حفيظة بعض القراء، فأُصرِّح أنها ليست مقصودة، ولا هي أصل في رسالة الكتاب، إلا لتبيين أننا - نحن البشر - متساوون جميعاً أمام حجة الله. .. ولا مانع عندي من تعديل أي أمر تصنيفي شكلي، يُقترح عليّ، ويكون أفضل مما هو معروض، وأقل وطأة على القراء.

مع خالص امتناني لملاحظتكم الكريمة
 
الفصل (أ2): محمد عبدالله دراز

الفصل (أ2): محمد عبدالله دراز

الفصل (أ2): محمد عبدالله دراز
من كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه​
صورة الشيخ محمد عبدالله دراز​

عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم
لا ينكر الشيخ محمد عبدالله دراز[1] وجود حقائق علمية في القرآن، ولكنه يتحفظ عن المبالغة فيها والتعويل عليها بشدة، فنجده يقول[2]: "القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة، لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحداث الجارية وحدها، وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة – لا بغرض دراستها وفهمها في ذاتها فحسب – وإنما لأنها تذكر بالخالق الحكيم القدير" – ثم يذكر أمثلة عديدة بصورة شديدة التحفظ لا غلو فيها.
ثم يقول[3] :"دفع الحماس بعض المفسرين المحدثين إلى المبالغة في استخدام هذه الطريقة التوفيقية لصالح القرآن، بحيث أصبحت خطرا على الإيمان ذاته؛ لأنها إما أن تقلل من الاعتماد على معنى النص باستنطاقه ما لا تحتمله ألفاظه وجمله، وإما أن تعول أكثر مما يجب على آراء العلماء وحتى على افتراضاتهم المتناقضة أو التي يصعب التحقق من صحتها، وبعد أن نستبعد هذه المبالغات عن البحث، نرى أن من مقتضيات الإيمان التي لا غنى عنها أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة."


يثير الشيخ دراز هنا مخاطر التفسير العلمي، ويذكر من ذلك: التقليل من الاعتماد على معنى النص (القرآن) في صالح معاني أخرى قد لا تحتملها ألفاظ القرآن. ومن الواضح أنه يرى أن في ذلك مخاطرة لأنها تعني الارتياب في الدراج من معاني تلك الآيات التي دونتها كتب التفسير التراثي. وإذا ارتاب المحدثون في المعاني التراثية، فقد اهتزت الثقة فيها، وربما في أصحابها. وكأننا بذلك نستبدل معنى غير مضمون (أي الجديد) بمعنى سابق (مأثور عن السلف، وكبار المفسرين، وعزيز تاريخياً).

ونقول: أن هذه المفاضلة لا تتطلب بالضرورة الاستبعاد. فالمستقبل أولى بالحكم على القيمة العلمية لمقترحات التفسير. ولا مانع من ضم جديد التفسير العلمي إلى قديمه في عرض ترجيحي. ويُترك الأمر للمفسرين والعلماء والوزن العلمي بالنظر والمناظرة، وجديد المكتشفات، التي ينجلي معها تعيُّن المعنى، فتكون القيمة للأقوى حجة، والأكثر موافقة، لما صادق النص وأحياه. ثم أن السياق التاريخي والثقافي لكل قول سابق قد يبرره، حتى وإن تفاوتت فيها المعاني أو تضاربت. غير أن البقاء سيكون لأصدق المعاني التي تحقق قصدية النص، وذلك بما يقرره قول الله تعالى "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19)

أما ثاني المخاطر فيذكر الشيخ دراز أنها التعويل أكثر مما يجب على آراء العلماء – يقصد علماء الطبيعيات والظواهر والمكتشفات- وحتى على افتراضاتهم المتناقضة أو التي يصعب التحقق من صحتها، وهو هنا يثير مسألة النظريات وتبدلها. ويشير إلى المبالغات في التنظير، وإلى وجوب استبعادها، وهذا يقتضي النظر العلمي والترجيح، ومن ثم تمييز المقبول عن المبالغ فيه مما يتوجب استبعاده.

وبعد هذا النظر العلمي الرصين، نراه يوجب الأخذ بالحق وعدم تجاهله. وذلك في قوله أنه من مقتضيات الإيمان التي لا غنى عنها أن نضاهي الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن مع نتائج العلماء المنهجية البطيئة. ونلمح تفريق الشيخ دراز بين الحقائق الفورية التي نجدها في القرآن من جهة، ونتائج العلماء المنهجية البطيئة من الجهة الأخرى! وفي هذا تفصيل. فالقرآن بحكم أنه نص عربي، يُتوقع أن تظهر معانيه ظهوراً فورياً من تلقاء قراءة النص عند أهل الخبرة، وكأنه الماء لا يحتاج إلى مضغ وهضم وتمثيل غذائي، فسرعان ما يشربه الإنسان حتى يتحقق غرضه الذي خلقه الله تعالى له. ولكن الصورة ليس دائماً هكذا. فدلالات الألفاظ تظهر وتختفي، وتتسلل وتتستر وتنكشف وتظهر أو تنزوي. وترتبط بثقافة القارئ، وبفهمه وبمعرفته بالأحوال والواقع المحكي عنه أو غفلته عما يدور في جنباته. بمعنى أن الصورة ليست دائماً على هذا النحو السلس في فهم معاني آيات القرآن، وخاصة بعد طول العهد بقديم المعاني وإلف السماع، وخشية التغيير، وتَوجُّس ردود الأفعال، ثم درجة الثقة في جديد المعاني، والتي لا يقطع بها إلا الراسخون في أمرها، والدراية بقوتها وضعفها.

أما من جهة وصف الشيخ دراز لنتائج العلماء بأنها ذات منهجية بطيئة، فهذا من حكمته في تقييم هذه النتائج، وعلمه بأن تحصيلها لا يكون عنوة، ولا أنها تحت إمرة الناظر، بل أن هذه النتائج العلمية تظهر على تُؤَدة وطول نظر، وخطوات بحثية عديدة، طويلة الأمد، ومعلومات تتراكم عبر أجيال من النُظَّار والمحققين، حتى يتزكى بها المعنى محل الفحص أو ينخذل.

غير أن ذكر الشيخ دراز لمصدرية الحقائق العلمية بأنها "مناهج العلماء"، فيبدو أنه يُبقي على وضع سائد في عصره وما زال. وهو أن مكتشف الحقائق العلمية علماء طبيعيون متخصصون، لا علاقة لهم بالقرآن والنظر فيه. وهذا يوهم القارئ بأن هذا الأمر طبيعي في مغايرة مصدر التفسير القرآني ومصدر الحقائق العلمية. غير أننا نراه غير ذلك. فالجمع بين المعرفة القرآنية والعلمية والأحكام فيهما من مصدرين علميين متغايرين؛ علماء التفسير، وعلماء الطبيعيات مثلاً، أمر لا يستقيم فيه الفصل والقطع إلا على نمط اللجان التي تتوزع التخصصات بين أعضائها في الوصول لقرار جماعي. وهذا المنهج في تخريج الأحكام النهائية لا يثلج صدر "المفتي العلمي" – إن جاز التعبير – إلا بعد أن تهضم كل المادة العلمية في قلب واحد لا قلوب متغايرة، حتى وإن جمعتهم طاولة مستديرة واحدة. لذلك، فنحن نؤيد فقط ظهور علماء تفسير جدد، يجمعون بين الدراية بأصول التفسير الصحيح، مع عمق كافٍ في التخصص العلمي الذي يفسرون به الآيات ذات العلاقة. أو بمعنى أن يتوزع تفسير القرآن على تخصصات داخلية تؤهل أصحابها لترسيخ أقدامهم بقوة في مجالات علمية عميقة، يمكنهم من خلالها القول الفصل والحجة الباهرة التي تقطع طريق الاعتراضات الغافلة، أو التأييدات العمياء.

لذلك نرى أن كلا الجانبين: النظر في معاني آيات القرآن، والنظر في النتائج المنهجية لمنطوق الوقائع الطبيعية، يتطلب التريث والحكمة الطويلة في البحث، حتى تنجلي المعاني الجديدة أمام محاولات الاختبار والنقد والتوهين، بما هو متيقن من التحصيل المعرفي ويقينيات التفسير، فيحصل التوافق أو التباين، وأن يكون ذلك في قلب واعٍ واحد، له في هذا العلم قدمين راسخين؛ إذ لا خلاف على أن القدم الواحد لا فائدة فيها، إلا بالقفز الأعرج على النتائج.
المؤلف​
--------------------
[1] الشيخ محمد عبدالله دراز (1894-1958)، حصل على شهادة العالمية من الأزهر (1916)، عمل مدرساً بالأزهر (1928) ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين، وفي عام 1947 نال درجة الدكتوراه من السربون في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى، على يد عدد من كبار المستشرقين هم: ليفي بروفنسال، لويس ماسينيون، لوسن. أصبح سنة 1949 عضوا في هيئة كبار العلماء. عُرضت عليه مشيخة الأزهر سنة 1954 ولم يقبلها لرفض شرطه باستقلال الأزهر أكاديمياً عن السلطة، كان له لقاءات واتصالات مع مالك بن نبي، وعبدالله بن باديس من الجزائر. له أربعة عشر عملاً بين مؤلفات وأبحاث علمية، أشهرها: دستور الأخلق في القرآن في ثمانمائة صفحة. من ثلاميذه: الشيخ يوسف القرضاوي.
محمد عبد الله دراز.. عاشق القرآن الكريم |المورد
ويكيبيديا - الشيخ محمد عبدالله دراز
[2] محمد عبدالله دراز، "مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن "، ترجمة محمد عبدالعظيم، مراجعة السيد محمد بدوي، دار القلم، الكويت، ط ١٤٠١، ص 175-176.
[3] السابق، ص177 الحاشية.
 
الفصل (أ3): محمد متولي الشعراوي

الفصل (أ3): محمد متولي الشعراوي

الفصل (أ3): محمد متولي الشعراوي
من كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه​
عودة إلى فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ[1]،[2]: "(إن) محاولة ربط القرآن بالنظريات العلمية .. أخطر ما نواجهه ... ذلك أن بعض العلماء في إندفاعهم في التفسير وفي محاولاتهم ربط القرآن بالتقدم العلمي .. يندفعون في محاولة ربط كلام الله بنظريات علمية مكتشفة .. يثبت بعد ذلك أنها غير صحيحة .. وهم في اندفاعهم هذا يتخذون خطوات متسرعة .. ويحاولون إثبات القرآن بالعلم .. والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت .. فالقرآن ليس كتاب علم .. ولكنه كتاب عبادة .. ومنهج .. ولكن الله سبحانه وتعالى في علمه، عَلِم أنه بعد عدة قرون من نزول هذا الكتاب الكريم .. سيأتي عددٌ من الناس .. ويقولون انتهى عصر الإيمان .. وبدأ عصر العلم .. ولذلك وضع في قرآنه ما يُعجز هؤلاء الناس .. ويُثبت أن عصر العلم الذي يتحدثون عنه قد بينه القرآن في صورة حقائق الكون .. بينه كحقائق كونية منذ أربعة عشر قرناً .. ولم يكتشف العقل البشري معناها إلا في السنوات الماضية ... مصداقاً للآية الكريمة "سنريهم آياتنا في الآفاق ..الآية" ومن هنا فإن الله سبحانه قد أعلمنا أن هناك حقائق وآيات سيكشف عنها لكل جيل .. ولكن ليس معنى هذا أن نُحمِّل معاني القرآن أكثر مما يحتمل .. وأن نتعامل معه على أساس أنه كتاب جاء يُنبئنا بعلوم الدنيا .. فالقرآن لم يأت ليُعطينا أسرار علم الهندسة .. أو علم الفلك .. أو علم الفضاء .. إلى آخر هذا .."

نؤيد الشيخ - رحمه الله تعالى - بلا أي تحفظ، بل ونشد على يديه، في قوله:
[(إن) محاولة ربط القرآن بالنظريات العلمية .. أخطر ما نواجهه ... ذلك أن بعض العلماء في إندفاعهم في التفسير وفي محاولاتهم ربط القرآن بالتقدم العلمي .. يندفعون في محاولة ربط كلام الله بنظريات علمية مكتشفة .. يَثْبُت بعد ذلك أنها غير صحيحة .. وهم في اندفاعهم هذا يتخذون خطوات متسرعة]

غير أن ما أعقب العبارة السابقة قد أثار كثيراً من اللبس. وخاصة مع ختمها بأن المحكي عنهم: [يحاولون إثبات القرآن بالعلم]، فبدى وكأن [العلم] ليس إلا [النظريات العلمية]، !!! ... وهذا غير صحيح!

فـ [النظريات العلمية] ليست إلا محطات أولية على طريق الوصول إلى [العلم]، والمطابقة بينهما تُوهِم السائر على الطريق أنه قد وصل غايته، رغم أنه لم يقطع إلا بعضه، وغني عن البيان أن من كان هذا شأنه، فقد ضل عن مبتغاه. وهذا اللبس بين [النظريات العلمية] و[العلم] هو الذي نتج عنه تعارضاً مُربكاً في مجمل كلام الشيخ، حيث أن تحليلنا لكامل عبارته سوف تُظهر معارضة الشيخ للتفسير والإعجاز العلمي من جهة، وتأييد له من جهة أخرى.

فالأقوال الآتية للشيخ تعارض مبدأ التفسير والإعجاز العلمي:
1- القرآن ليس كتاب علم، ولكنه كتاب عبادة ومنهج.
2- القرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت.
3- القرآن لم يأت ليُعطينا أسرار علم الهندسة أو علم الفلك أو علم الفضاء إلى آخر هذا.

بينما تؤيد الأقوال الآتية مبدأ الإعجاز العلمي:
1- بَيَّن القرآن حقائق الكون منذ أربعة عشر قرناً، ولم يكتشف العقل البشري معناها إلا في السنوات الماضية.
2- إن الله سبحانه قد أعلمنا أن هناك حقائق وآيات سيكشف عنها لكل جيل.

ويبدو لنا أن الشيخ لم يحسم أمره بين التأييد والاعتراض. أو كأنه يؤيد الإعجاز العلمي تحت شروط وقيود، منها عدم الغلو في تحميل القرآن ما لا يحتمل. ولكن! مَنْ الذي يقرر ما يحتمله القرآن وما لا يحتمله؟! ... وما هو الضابط الذي يعرف به احتمال آيات القرآن لمعنى من المعاني دون غيره؟! .. فكلُّ أمرٍ لا ضابط له يصبح مشاعاً وتنفك عنه الصفة العلمية. ورغم أن التحفظ الذي يبديه الشيخ في قبول دعاوى الإعجاز العلمي في صورة نظريات يُعد أقرب إلى الهجوم منه إلى الاحتضان، إلا أن تصريحه بلا علمية القرآن، وقصره لدور القرآن على العبادة والمنهج، تُجهض تأييده لبيان القرآن لحقائق الكون كما قال، وأنها سينكشف عنها الغطاء لكل جيل. إذ، لا معنى لبيان حقائق الكون في القرآن، دون الحديث عنها والإشارة إليها، على نحو ما يفهمه الناس في الأجيال الأخيرة، من اصطلاحات مستجدة، وبما يتضح له معنى راجح في القرآن. لذا، فموقف الشيخ أقرب إلى الهجوم، مع ترك الباب موارباً لشيء من الإعجاز، ولكن دون أي ضبط أو منهج في القبول والرفض، يمكن أن نعلمه في تفسير الشيخ في خواطره وما قرأناه له، أو أن الشيخ يريد أن يقف على الحياد، فيهاجم من الإعجاز ما هاجمه غيره لأسباب، ويؤيد من جهة أخرى ما أيده آخرون، ولكن لأسباب أخرى!

وأكثر ما يثيرنا في كلام الشيخ تصريحه بأن القرآن ليس بكتاب علم .. وأنه لم ينزل ليُعطينا أسرار علم الهندسة والفلك وغيرهما. ونتساءل: ما الحكم في قول من يقول إن القرآن ليس بكتاب في علم البلاغة، وأن القرآن ليس بكتاب في علم القواعد اللغوية (النحو)، وأنه ليس بكتاب في علم الجدل، أو أن يقول أن القرآن لم ينزل ليعطينا أسرار هذه العلوم وغيرها من علوم الحجاج والبرهان.

إن كان هذا القول غرضه نفي وجود شواهد هذه العلوم في القرآن، فلا ريب أن المتكلم بذلك مخطيء لأبعد الحدود، وإذا كان مقصده أن القرآن ليس بكتاب تعليمي لطلاب علم البلاغة والنحو والمجادلة فقد أصاب. ولكن ما قيمة أن ينفي عنه كونه كتاب تعليمي ولم يدَّع أحدٌ من الناس أن القرآن كتاب تعليمي مدرسي كالكتب المدرسية لتلك العلوم. فتكون النتيجة أن نفي صفة العلمية (البلاغية والنحوية والجدلية) لا تؤول إلى نفي صفة الكتب المدرسية عن القرآن لغياب الزعم بها، فضلاً عن كونها مقارنة ساقطة، ولكنها تصب فقط في نفي شواهد هذه المفاهيم العلمية عن القرآن، وهو الأمر الذي لا ينبغي أن يجرؤ عليه مُنصف، لأن الناظر في جلاء نصوص القرآن في ذلك، وأعمال العلماء الذي تناولوه بالتفسير على المدى العصور، سرعان ما يتبين له زيف هذا الكلام، للوفرة الغير منحصرة في شواهد البلاغة والنحو والحجاج.

وتنطبق نفس الحُجَّة على غير ذلك من علوم لا يجرؤ أحد على حصرها. فالقول بأن القرآن ليس بكتاب علم في الفيزياء وأنه لم ينزل ليعطينا أسرار هذا العلم يؤول إلى الجزم بخلو القرآن من شواهد، نجد كثير منها في كتب الفيزياء البشرية الصياغة. وذلك لأنه لم يزعم أحد من أصحاب التفسير والإعجاز العلمي– على مدى اطلاعنا وتنقيبنا – أن القرآن يمكن أن يكون كتاب مدرسي في علم الفيزياء. ومن ثم يكون القول بأن القرآن ليس بكتاب علم سواء على الإجمال أو العموم أو الخصوص كلام مردود، يؤدي إلى حرج بالغ في نفي حق مع باطل. هذا في وقت لم يدع أحدٌ هذا الباطل، فضلاً عن تهافته وسقوطه إن ادعاه أحد!

وإذا كان لنا أن نتساءل، ونقول: عَلِمْنا كتب العلم التي وضعها الناس لألفين أو يزيد من عمر البشرية الأخيرة، فإلى أي مدى يمكن أن يختلف عنها كتابُ علمٍ نزل به وحي الخالق الذي أبدع الكون والإنسان؟! هل سيكون كتابٌ واحد شامل، أو كتب مصنفة على شاكلة أصناف الكتب الإنسانية؟! – وهل سيَفْهَمُه الإنسان أم يستعصي على فهمه؟! – وماذا عن الاصطلاحات التي لا بد لكل علم أن يتواضع عليها صاحب العلم مع قارئي كتبه، وكيف سيتم التواضع عليها بين الله سبحانه وبين عباده ليدركوا معانيها؟! – وكيف سيفي هذا الكتاب الإلهي في العلم - سواء واحداً فريداً، أم جامعاً للعلوم عديداً – كيف سيفي بتفهيم أجيال متعاقبة في الزمان من ذوي المشارب الثقافية المتعددة والمتباينة؟! .... إن مجرد التفكير في مثل هذه الأسئلة عن كتاب علمٍ ينزل به رسولٌ من الخالق جل وعلا، لَتَتحيَّر فيه العقول، ويتيه في جنباته ذوي الألباب.

إن الإجابات المحتملة لمثل هذه الأسئلة نجدها في كتاب الله تعالى حين يقول سبحانه: " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا "(الإسراء:88)
وقوله تعلالى: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا"(الرعد:31)
وقوله تعالى: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا"(الكهف:54)
وقوله تعالى: "وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ"(النمل:6)
وقوله تعالى: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"(الحشر:21)
وقوله تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)
وقوله تعالى: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"(الأنعام:38)

إن هذه الآيات الباهرات لتهز كيان من يريد معرفة صفة كتاب العلم الإلهي. فمن يستطيع بعد ذلك أن يزعم أنه يعلم، ما الذي ينبغي أن يُعلمنا إياه هذا الكتاب الفريد ويحتويه، وما لا ينبغي أن يعلمنا إياه أو يحتويه؟! إنها جرأة لا ينبغي أن يتجرأ عليها أحد مهما بلغ مداه من العلم. بل لعل الأولى بالمتدبر لمسألة "علمية القرآن" – أي إفادة القرآن للعلم بالأشياء- أنه كلما تدبّر كتاب الله تعالى وازداد علماً، أن يُقر بلا تناهي أفق القرآن العلمي، وعدم نهاية عجائبه.

فإذا رأينا أحدٌ من الناس ينفي عن كتاب الله تعالى صفة "العلمية"، فلنا أن نسأله: أي ضوابط وضعها؟! وما الذي حكَّمها في كتاب الله، ليقطع بها على أنه ليس بكتاب علم، وأنه لا يزيد عن كونه كتاب هداية ومنهج. إن علماء القرون السابقة لو رأوا ما يتباهى به الناس الآن من علوم في كتبهم لما كان من المستغرب أن ينكروها في أيامهم، ومثلهم علماء اليوم لا يستطيعوا أن يتنبئوا بما يمكن أن تكون عليه علوم المستقبل الإنساني، فإن كان هذا هو حالهم، فأنَّى لهم أن يقطعوا بـ "علمية" أو "لا علمية" كتاب الله تعالى، وهم مختلفون في علمية كتبهم، بل وما يتباهون به من كتب سابقة، فضلاً عن اللاحقة؟!

ومن غريب ما أتى به الشيخ الشعراوي قوله أن "بعض العلماء يحاول إثبات القرآن بالعلم .. والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت"، رغم أنه أتى بقول الله تعالى في نفس الفقرة "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ "(فصلت:53). ووجه الغرابة أن "إثبات صحة القرآن بالعلم" الذي نفاه الشعراوي هو نفس معنى قول الله تعالى "يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"، لأن معيار البيان سيكون ما أوتوه من علم لاحق، فكيف ينفي ما تنص عليه الآية إثباتاً؟! وما العيب في أن يُعِين العلم على إظهار حق القرآن وصدقه وأنه فوق طاقة البشر؟! - ثم ما معنى الإعجاز إن لم يكن تعجيزاً لأن يأتي البشر - فرداً كان منهم أو جماعة أو جميعهم أو حتى لو انضم إليهم الجن- بمثل القرآن في صدق محتواه العلمي وخاصة في زمن نضوج العلم؟ - ونقصد بمثلية القرآن العلمية: المطابقة بين معاني القرآن وما تشير الآيات إليه من وقائع مكتشفة. أي أن العلم الذي هو صياغة للسنن الواقعة، إثبات لصدق القرآن، وأنه من عند الله تعالى. لذلك لا نرى وجه للاعتراض الذي أتى به الشيخ على إثبات القرآن بالعلم، إلا أن يكون الحرج من كون هذا العلم من صنيعة أو كشف أقوام من غير المسلمين! وهذا لا يطعن في صحة العلم لو كان صحيحاً، بل إنه أبلغ في إقامة الحجة؛ لأن مكتشفوه هم المقصودون في أعلى درجات القصد من إقامة الحجة عليهم، كما قال تعالى "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فُصِّلت: 53)، ولو كان المسلمون هم الذين اكتشفوا تلك العلوم الحاسمة على صدقية القرآن، لقال لهم خصومهم إنكم توافقون بالعلم الذي تستحدثون قرآنكم الذي أنتم به مؤمنون، وتقوم لهم شبهة يتذرعون بها في نبذ حجة الله تعالى عليهم، ولكانت مطية يرتاب على إثرها المبطلون.

لكل ذلك نخلص إلى نتيجة تقول بتردد الشيخ الشعراوي بين قبول التفسير والإعجاز العلمي من جهة، وردِّه من جهة ثانية، وهو تردد لا نجد له مبررا، إلا أن تكون العلاقة بين القرآن - ككتاب علم إلهي أُنزل للبشر – من جهة، والعلوم البشرية الصياغة من جهة أخرى، علاقة غير مكتملة الأركان في فهمها. وهي نتيجة تستوجب منا البحث والاستقصاء الجاد عن فهم أفضل لهذه العلاقة. دون نسيان أن المخاطَب بالقرآن هو أحد عناصر الخلق، وأنه مُؤتمن على نفسه وما حوله من خلق؛ "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ"(الأحزاب:72) وأنه مُستخلف بما أوتي من علم؛ "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"(البقرة:30)، و "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"(البقرة:31).
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
-------------------------
[1] الشيخ محمد متولى الشعراوي (1911-1998) من علماء الأزهر، و وزير أوقاف مصري سابق، ويعد من أشهر مفسري القرآن في العصر الحديث. http://chaaraoui.com، http://www.sharawe.com .
[2] الشيخ محمد متولى الشعراوي، "معجزة القرآن"، أخبار اليوم، الطبعة الاولى، 1993، ج1ص86.
 
الفصل (أ4) - محمود شلتوت

الفصل (أ4) - محمود شلتوت

الفصل (أ4) - محمود شلتوت
من كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
تحت عنوان "تفسير القرآن على مقتضى النظريات العلمية"، في مقدمة تفسيره للقرآن، يقول الشيخ شلتوت[1]،[2]: "إن طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث، وتلقنوا أو تلقفوا شيئاً من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها، أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة، ويفسرون القرآن على مقتضاها. نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ"(الأنعام: 38) فتأولوها على نحوٍ زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً، ففسروها على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ماوقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويَدْعُون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية.
نظروا في القرآن على هذا الأساس، فأفسد ذلك عليهم علاقتهم بالقرآن، وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن، ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله، فإذا مرت بهم آية فيها ذكرٌ للمطر، أو وصف للسحاب، أو حديث عن الرعد والبرق، تهللوا واستبشروا وقالوا: هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين، ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب، وكيف ينشأ وكيف تسوقه الرياح. وإذا رأوا القرآن يذكر الجبال أو يتحدث عن النبات والحيوان وما خلق الله من شيء، قالوا: هذا حديث القرآن عن علوم الطبيعة وأسرار الطبيعة، وإذا رأوه يتحدث عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم، قالوا: هذا حديث يثبت لعلماء الهيئة والفلكيين أن القرآن كتاب علم دقيق!
"

نلمح في سياق هذه الفقرة من كلام فضيلة الشيخ شلتوت عدداً من الملاحظات:

- أن المحكي عنهم طائفة من المثقفين، وأنهم أخذوا بطرف من العلم، وأنهم تلقنوا وتلقفوا شيئاً من النظريات. ورغم أن هذه التوصيفات تنطبق عليهم حقيقةً، إلا أنها تعكس تعريضاً بهم، ومن ثم بما سيُنقل عنهم من مزاعم. وكأن الثقة في كلام مثل هؤلاء غائبة، وأنهم عابرو سبيل على طريق العلم. ورغم أن جُلَّهم كذلك، إلا أن سياق الكلام ينبني على أن هؤلاء ليسوا بعلماء، وأن كلامهم خبط عشواء، ورأي من الآراء، لا يستند إلاّ إلى ثقافة مستحدثة، أفسدت علاقتهم بالقرآن، وأفضت إلى غير مراده، ولا أغراضه. فكانت النتيجة صورة سلبية عن الآراء، مثلما هي عن أصحابها. فكانت الصورة المنقولة سلبية!.. ليس فقط عن المحكي عنهم!.. بل الأهم من ذلك "المحكي عنه"، أي: مبدأ التفسير العلمي لآيات القرآن، وما يؤدي إليه من إعجاز علمي.

- استنكار الشيخ لأي فائدة لهذه المنحى الجديد، الذي اتخذه هؤلاء المثقفين، ونلمح ذلك في قوله "ظنوا أنهم بذلك يخدمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام"، وقوله " زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً "!

- استنكار الشيخ لأمثلة عابرة من التوافقات، بين ما رآه هؤلاء المثقفين من ظواهر الخلق، بعد مزيد فهمٍ وتحقيق من آثار العلوم الحديثة، وما أنزله الله تعالى في كتابه من آيات لا تخطئها العين والفهم والنظر!
ونتساءل: ما الحرج في مقابلة الآيات المكتوبة مع الآيات المنظورة؟! – هل أن ألفة الآيات المنظورة قد أبهتت صورتها، وجعلت الحديث في شأن معانيها العميقة فضلاً من الكلام؟! أم أن ما كشفته الأيام عن عميق الإبداع في الخلق شيء، وما قاله المبدع سبحانه عن خلقه شيئاً آخر؟! أم أن الاستخفاف بهذه الطائفة من المثقفين يحمل معه استخفاف بأي شيء يأتون به زيادة على ما في كتب الأولين؟! – نعم إن النفس البشرية لتتأثر ببيئة الحق إذا كانت مرذولة، أو ببيئة الباطل إذا كانت ممدوحة، فلا تعد ترى الحق حقاً، ولا ترى الباطل باطلاً، وذلك في مثل قول الله تعالى "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ"(الشعراء:111). ولكن العلماء أمثال الشيخ شلتوت لا ينبغي أن يقفوا عند هذه التشويهات العابرة، والعثرات الفاترة، بل يجب أن يروا بثاقب بصائرهم الحق جلياً ساطعاً، والباطل مخزياً فاضحا.

ثم لماذا يرى الشيخ أن هذا المنحى الجديد لا يخدم القرآن، إذا اتفقت وتآلفت بينهما المسائل؟! – أليس الحق يؤازر الحق وتنضاف قواهما، فيشد بعضُها بعضا! أم أن هذا المنحى الجديد لا حق فيه لأنه نظريات؟! – ثم أنها ليست نظريات فقط كما فهم الشيخ- أم أننا لا نعرف إن كان حقاً يؤازر الحق وينصره، أو باطل يعادي الحق ويهجره؟! وفي كلٍّ فتنه تفتن المؤمنين! وإن كنا لا نعرف، فلماذا لا نعرف، وقد أمرنا الله تعالى أن نعرف؟! – لماذا ترك الأزهر السفينة تسير بغير دفة ولا شراع، ولا بحّار بالسبيل بصير؟! لماذا لم يَقُد الأزهر مسيرة العلم ويحقق رسالة الله تعالى التي حمل أمانتها، ألم يأمرنا الله بذلك في قوله سبحانه "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ..."(العنكبوت: 20)، وقوله جل وعلا "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"(يونس:101)، وقوله سبحانه "لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"(البقرة: 219-220)، أوليس الأمر – بـ إفعل - في "أصول الفقه" يفيد الوجوب؟! أم أنه للندب أو الاستحباب؟! أم أننا نختار بين هذا أو ذاك بهامس من نشاطنا وكسلنا، أو ظننا ووهمنا، أو حُبِّنا وكُرْهنا، أو علمنا وجهلنا؟!

– فماذا كانت نتيجة هذا التراخي؟ - مدارس مدنية، وعلوم غربية، وألسنة معوَجّة، وفتن مُسوَدَّة. فإذا فسح المثقفون لأنفسهم في الطريق سبيل، وعادوا إلى كتاب الله تعالى الجليل يقرؤونه بعيون جديدة، وقلوب نابضة، أُغلق دونهم بالضبة والمفتاح، وسخر منهم الساخرون، وقالوا شرذمة قليلون منبوذون؟! وأن الدين لا يُنصر بناعقين من طوائف المثقفين!

يتابع الشيخ شلتوت ويقول: "ومن عجيب ما رأينا من هذا النوع أن يفسر بعض الناظرين في القرآن قوله تعالى: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ"(الدخان، 10-11) بما ظهر في هذا العصر من الغازات السامة، والغازات الخانقة التي أنتجها العصر البشري فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير، يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى: "رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ"(الدخان، 12-14). رُوي[3] أن رجلا جاء إلى ابن مسعود وقال له: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه، يفسر قوله تعالى: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ"(الدخان:10) بأن الناس يوم القيامة يأتيهم دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام، فقال ابن مسعود: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحطٌ وجهدٌ حتى أكلوا العظم، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد"

نرى في هذه الفقرة ثلاث تأويلات لـ "الدخان المبين": الأول، ما يتعجب منه الشيخ شلتوت من تفسيرات المحدثين، والثاني ما رُوي عن الرجل المذكور وأن هذا الدخان يأتي الناس يوم القيامة ويأخذ بأنفاسهم كهيئة الزكام، والثالث ما يقدمه ابن مسعود من أنه يوم أصاب قريش القحط والجهد، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. أما الثاني فقد رده ابن مسعود بقوله: "من لم يعلم فليقل: الله أعلم"، وما ذكره الطحاوي في مشكل الآثار[4] وزيادة في الرواية أن ابن مسعود قال أيضاً "لو كان (أي ذلك الدخان) يوم القيامة لم يكشف عنهم".

أما تفسير ابن مسعود فإنه مشكل بحق، فالوصف القرآني عن الدخان بأنه "دُخَانٍ مُبِينٍ"، وتفسير ابن مسعود يقول فيه "ينظر (أي الرجل منهم) إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد"، وهذا الوصف لا يتفق وكون الدخان مبين، ويصف المرئي بأنه كالدخان، ولكـنه ليس دخان، ثم يعلل الرؤية بأنها من الجهد، وكأن الضعف البدني الذي أصاب الرائي أوهمه برؤية تشبه الدخان من شدة الهزال. فأين هذا الوصف من قول الله تعالى "دُخَانٍ مُبِينٍ"؟!

أما التأويل الأول للمحدَثين ففيه مزية وهي تعليل العذاب المرافق للدخان بأقوى من تعليل التأويلين الآخرين (كهيئة الزكام، والجَهْد)، وبما يتناسب مع كونه عذاباً، وهو شيء لم يكن يعلم به أحد من قبل، وظهر مع العلم الحديث بوجود دخان (غازات) سامة، أو تحمل الأذى للأحياء. ورغم ذلك فتفسير الغازات السامة أبتر، ولا يكفي وحده دون قرينة أن ذلك سيحدث على الصورة التي وصفها الله تعالى، وخاصة أن مصدر الدخان السماء، وأنه مقرون بعقاب بدلالة قوله تعالى "إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ"(الدخان:15).
لذلك كانت التأويلات الثلاث مثيرة للإشكال، وليس هناك من قطع بصحة تفسير ابن مسعود إلا إذا كان الدليل هو كونه "قول صحابي"، وهذا دليل من خارج متن الرواية، والاجتهاد فيه منفصل عن تحليل محتواها، هذا بخلاف ما يسببه من إشكال مع كون الوصف القرآني للدخان "نص" أي أنه بَيِّنْ لا اجتهاد فيه، فلا ينبغي أن يُؤَوَّل بشيء يشبه الدخان.

كما وأن كتب التفاسير تؤكد عدم اتفاق الصحابة رضوان الله عليهم على رأي واحد، وإن كان العزوف عن رواية ابن مسعود أقرب، فقد قال ابن كثير بعد أن روى رواية ابن مسعود: [وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة، كما (جاء في) حديث أبي سَرِيحة حذيفة بن أسيد الغفاري، رضي الله عنه، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، و...]، وذكر الطبري في تفسيره حديثا [عن أبي سعيد، قال: يهيج الدخان بالناس. فأما المؤمن فيأخذه منه كهيئة الزكمة. وأما الكافر فيهيجه حتى يخرج من كلّ مسمع منه، قال: وكان بعض أهل العلم يقول: فما مَثل الأرض يومئذ إلا كمَثل بيت أوقد فيه ليس فيه خصاصة (خلل، أي متنفس للحرارة)]

وهذا يعيدنا إلى التفسير الثاني الذي استبعده ابن مسعود أعلى، والذي فيه كهيئة الزكام، وتعود إليه القوة بعدما يتعدل فيه لفظ القيامة إلى قبل يوم القيامة أو إلى أمارات الساعة. وإذا أرفقنا معه افتراق المؤمن عن الكافر في قدر المعاناة مع الدخان، يتقوى هذا الحديث ويترجح على حديث ابن مسعود.

وعن ابن كثير في تفسيره (بعد ذكر أحاديث أخرى) نجده ينتقد رواية ابن مسعود: (ويقول أن في تلك الأحاديث) دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة، مع أنه ظاهر القرآن (يقصد أن ظاهر القرآن كافي بنفسه في ذلك). قال الله تعالى: "فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ" أي: بيِّن واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر به ابن مسعود، رضي الله عنه: إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله: "يَغْشَى النَّاسَ" أي: يتغشاهم ويَعُمذُهم ، ولو كان أمرا خياليًّا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: "يَغْشَى النَّاسَ".

وخلاصة القول في ذلك أن الراجح في مسألة الدخان أن رواية الرجل التي فيها (كهيئة الزكام) أرجح من رواية ابن مسعود، وأن اتساع معرفتنا بأن هناك من الغازات ما هو سام، يوسع دلالة الدخان، وأنه يمكن الجمع بين هذه الرواية الراجحة، وأن الدخان من الغازات السامة، وربما أن المؤمن يكتسب مناعةٍ ما، لسبب لا يعلمه إلا الله تعالى ،فيخف عنه عذاب ذلك الدخان حتى يكون كهيئة الزكام.
ومعنى ذلك أن ميزان التفسير ينقلب لما ليس في صالح رأي الشيخ شلتوت يرحمه الله تعالى.

يقول الشيخ شلتوت: "وأغرب من هذا وأعجب أن يفسر بعض هؤلاء المفسرين الحديثين شأناً غيبياً من شئون الله الخالصة، لم ينزل بتفصيله وحي، ولم يُطلع الله على حقيقته أحداً من خلقه، ببعض الظواهر الحاضرة التي اكتشفها العلم واهتدى إليها بنو الإنسان، يفسر "الكتاب المبين" و "الإمام المبين" الذي تُحصى فيه الحسنات والسيئات ويعرض على أصحابها يوم القيامة، بالتسجيل الهوائي للأصوات، ويقول: أظهر العلم ذلك بالمخترعات البشرية، واستخدمه الإنسان فيما يختص بالأصوات. ولا يبعد أن يستخدمه فيما يختص بحفظ الحركات والسكنات والخواطر النفسية، والله القادر خلق الكون على هذه السنن لغاية أسمى من ذلك، هي محاسبة الناس يوم القيامة، وعرض أعمالهم عليهم، كشريط مسجل يضم جميع حركات الناس وسكناتهم وخواطرهم وأقوالهم، وما قدموا من عمل. يقولون هذا ويفسرون به قوله تعالى: "عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى"(طه: 52)، وقوله تعالى: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا"(الإسراء: 13)، ويهجمون على الغيب بما لم يأذن به الله، ويجدون من العلماء من يؤيدهم ويشجعهم ويزكيهم ويتمنى أن يُكثر الله من أمثالهم!"

نُخلِّص أولاً هذه العبارة بفحواها العلمي. وذلك أن هناك من المفسرين العلميين الجدد من قارنوا بين سجلات الناس الجديدة، أي وسائل حفظ البيانات، وسجلاتهم القديمة أي الرقوم والكتب. ورأوا أن الجديد في ذلك أوعى وأحفظ لتعدد وسائطه من كلام وأصوات. ثم بعد ذلك صور ساكنة، وصور حية. ولما كان سجل حفظ أعمال الإنسان لم يكن يُفهم في الماضي إلا في ضوء ثقافة الماضي من كلام مكتوب، كان التصور القديم لا يتعدى ذلك. ولكن الترقي في الوسائط فتح الباب لتصور سجلات مكتوبة وفوق المكتوبة. وأن "قياس الأَوْلَى" يجعل من المستساغ جداً أن تكون سجلات أعمال الإنسان عند الله تعالى أَوْلى مما وصل إليه الإنسان، مع ضحالة علم الإنسان البالغة بجانب علم الله. فما العيب في ذلك، ولمَ التعجب والقياس قياس فقهي. وقد مثَّل الفقهاء تمثيلات عديدة من مثل ذلك، فقال ابن تيمية رحمه الله[5]: "كانت طريقة الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه الاستدلال على الرب تعالى بذكر آياته. وإن استعملوا في ذلك "القياس" استعملوا "قياس الأَوْلَى"؛ لم يستعملوا "قياس شمول" تستوي أفراده ولا "قياس تمثيل" محض. فإن الرب تعالى لا مثيل له ولا يجتمع هو وغيره تحت كلي تستوي أفراده؛ بل ما ثبت لغيره من كمال لا نقص فيه فثبوته له بطريق الأولى، وما تنزه غيره عنه من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأَوْلَى".

ولا يمتنع أن يكون قول الله تعالى "هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"(الجاثية: 29) يجيء على الحقيقة في نطق الكتاب، وليس على المجاز، وأن يكون الاستنساخ ليس فقط لحروف كتابة وإنما لكامل معلومات الأحداث المستنسخة. كما أنه لا يمتنع أن يكون الاطلاع في قول الله تعالى "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ، أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ"(الصافات:50-55)، لا يبعد أن يكون إطلاع عن بُعد يشبه – بل يرقى عن – ما صنع الإنسان من رؤية البعيد وسماعه. ولا يمنع العقل ذلك، ولا يقفل النقل باب هذا الفهم. فدلالة الآيات تتسع وتتعمق بمثل هذه الأمثلة الجديدة، والله تعالى أقدر وأجل فيما خلق، ولا يعوزه شيء، وكل شيء إليه في عِوَز.

يقول الشيخ شلتوت: "إن هؤلاء في عصرنا الحديث لمن بقايا قوم سالفين فكروا مثل هذا التفكير ولكن على حسب ما كانت توحي به إليهم أحوال زمانهم، فحاولوا أن يخضعوا القرآن لما كان عندهم من نظريات علمية أو فلسفية أو سياسية."

هنا يتهم الشيخ – غفر الله له – الناس والمفسرين الجدد، الناظرين في كتاب الله تعالى بما أوتوا من معارف جديدة، يتهمهم بما اتُّهم به قوم سالفين. وأحسبه والله أعلم يقصد المتفلسفة، وقد كفرهم الغزالي وابن تيمية في مسائل ابتدروها وزلوا فيها. وهذا ظلم للمحدثين، وإن أخطأوا في بعض ما قالوا، فإما لأنهم وجدوا ثغور المسلمين العلمية منكشفة، ولم يقدروا على سدها إلا بما علموا، ولا يمتنع أن يستدرك عليهم من بعدهم آخرون، يحُجُّون عن الحق حق محاجته. والله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ويتابع الشيخ شلتوت ويقول: "ولسنا نستبعد – إذا راجت عند الناس في يوم ما نظرية دارون مثلاً – أن يأتي إلينا مفسر من هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول: إن نظرية دارون قد قال بها القرآن منذ مئات السنين!"

نقول للشيخ: قد صدق حدسُك، وإن لم يطابق شكَّك! فهذا بشير التركي، في كتابه "ادم عليه الصلاة و السلام"[6]، ومن بعده عبد الصبور شاهين في كتابه "أبي آدم"[7]، وثالث من بعدهما جاء بعنوان "آذان الآنعام – دراسة قرآنية علمية لنظرية دارون في الخلق والتطور"[8]، بل إن تأييد فكرة التطور على الإنسان قد أيدها محمد إقبال في ثلاثينيات القرن العشرين في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، وإن كان ذلك في سياق كلامه عن خلود الإنسان، وبعيداً عن فكرة التفسير العلمي الذي نحن بصدده. فنجد محمد إقبال يتكلم عن الإنسان ويقول[9]: "إن كائناً اقتضى تطورة ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقاً أن يُلقى به كما لو كان من سقط المتاع. وليس إلا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار، إذ يمكن أن ينتسب إلى معنى الكون"، ثم أتى بقول الله تعالى "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"(الشمس:7-10)

ولا ندعي أن هؤلاء قد أيدوا نظرية داروين تأييداً مطلقاً وأخضعوا لها القرآن الكريم، حسب ما ظن وصرح به الشيخ شلتوت، ولكنهم أفسحوا في آفاق المعاني القرآنية وراء ما جاءت به التفاسير المأثورة. وقد يُقبل من كلامهم أقوال وتُرد أقوال، لأن العبرة ليست بقبول أو رفض جملة مزاعم النظرية، ولا جملة أطروحات هؤلاء المفكرين، بل إن المسائل التي تناولوها عديدة، ومنها ما لا حرج فيه، ومنها ما فيه كل الحرج. وهذا التحليل لا ينطبق فقط على نظرية دارون، بل على كل نظرية علمية واجه بينها وبين القرآن أقوامٌ مؤمنون بالحق أو ما عقلوه منه، ويسعون لرسم صورة مؤتلفة له.

لذلك كان رفض مواجهة القرآن مع أي نظرية علمية يستحدثها الناس فيه مؤاخذة كبيرة. إذ أن الله تعالى قال في محكم آياته "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"(الأحزاب:4)، والمفكرون المحدثون يدرسون هذه النظريات ويتشربون معانيها وأدلتها، ويقبلون ويرفضون منها بحسب قوة الأدلة أو ضعفها أو تخاذلها. وهم أيضاً يقرؤون القرآن ويتمثلون معانيه ومشهور تفاسيره، فتختلج معانيه بقلوبهم وأفهامهم. ولا يستطيع المرء منهم، كما تقول الآية، أن يجمع بين معنيين؛ من القرآن، ومن النظرية العلمية في مسألة بعينها، وقد تضادا وتنافرا، وإلا كان ذو قلبين، وهو الأمر الذي تنفيه الآية، ... فتكون النتيجة أن تدفعه الضرورة العقلية إلى حل الإشكال بالتوفيق بين ما صدّقه العقل من كلا الطرفين. أما غير هؤلاء المفكرين، ممن لا يتشربون معاني هذه المسائل العلمية الجديدة، ولا يقفون على أدلتها، ومن كان التراث الإسلامي مصدر معارفهم الوحيد أو الرئيسي، فلا يعانون من هذا الحرج المفاهيمي، ولا تستنهضهم الحاجة لدرء تعارض حقيقي، أو وهمي بين تفسيرات وتأويلات قرآنية موروثة، وبين مزاعم النظريات المستحدثة.

كما وأن حجة الله تعالى بالغة، والقرآن هو حجة الله في أرضه إلى يوم الدين، ومن تحرَّج في مواجهته مع أي زعم من مزاعم النظريات العلمية المستحدثة فهو إما غير عالم بحجة الله تعالى على هذه النظرية أو مسائلها، ومن ثم يؤثر السلامة، ويتجنب الانكشاف، أو أنه ينفي عن القرآن حجته، فيبادر باستنكار المواجهة درءاً للأخطار، وهو بذلك ينكرها في وقت يدعي الإيمان بها ضمناً. فإن كان من النوع الأول؛ فأمره لا شك منكشف مع تتابع الأيام، لأن الحق لا محالة ظاهرٌ، وإن كان من النوع الثاني؛ فليراجع نفسه، وليحاسبها، فقد تكون على خطر عظيم. فإن قطع مع ذلك بأن القرآن لا علاقة له بما لم يحصِّل منه حظاً من العلم وافرا، فقد أنكر بما لم يحط به علما، وكفى به رأياً خاطئا.

وإذا افترضنا سوء نية وحجة هؤلاء الذين يواجهون بين القرآن ومقولات العلوم الحديثة كنظرية التطور، وتركنا جميعاً – تراثيين وحداثيين ممن يؤثرون السلامة- الرد على هؤلاء المرجفين في القرآن! فمن يدافع عن دين الله تعالى ويدرأ عنه افتراء المفترين، وزيغ الزائغين، وعبث العابثين، وجهل الجاهلين؟!

إن النكوص عن تبيين الحق، وتعرية الباطل في تأويل معاني كلام الله تعالى خذلان مبين، وفرار أثيم أمام الزحف الفكري المتبختر، الذي يدس السموم في أفهام الناس فيصدهم عن مراد كلام الله تعالى الحق المبين، فيفتتن بها ضعاف الإيمان، ويتحصن بها المنكرون له، ويفرح لها الذين أبغضهم الله. وفي هذا المعنى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"[10].

فإذا راجعنا كلام هؤلاء الذين أشرنا إليهم وكتبهم أعلى[11]، فنجد موجز القول في كتاب "أبي آدم"[12] – وكما جاء في تقرير مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر المرفق بالكتاب – أن المؤلف قد انتهي في موضوع بحثه إلى:
1- أن الإنسان (في صورة آدم، قد جاء) امتداداً لمخلوق واحد هو البشر، ولكنه ليس كما تقول نظرية النشوء والارتقاء (لدارون) حلقة في سلسلة تطور كانت القردة فيها حلقة سابقة، ثم تطورت إلى الإنسان الذي نعرفه.
2- أن الله تعالى خلق البشر من طين، ولكن ليس في كتاب الله تعالى – كما يرى مؤلف الكتاب- ما يقطع بأن آدم عليه السلام قد خُلق مباشرة من ذلك الطين .. وأن الاستعمال القرآني لكلمة "بشر" يدل على كائن سابق - في الزمان وفي الكيف - على الإنسان.
3- أن الله تعالى قد تناول البشر المخلوق من طين فسواه وصوره، وأن هذه التسوية لا يلزم أن تكون قد تمَّت على الفور في أعقاب الخلق، بل إن الخلق والتصوير مرحلتان في عمر البشرية .. لعلهما استغرقتا بضعة ملايين من السنين.
ويوجز المؤلف رأيه في قصة الخلق كلها بقوله: أن الإنسان خرج من البشر، وأن هذا المخلوق البشري لم يكن – قبل التسوية –إنساناً، بل كان مشروعَ إنسان في حيز القوة قبل أن يكون إنساناً في حيز الفعل. .. ويجمع المؤلف رأيه كله بقوله: "فخلق الإنسان بدأ من طين، أي في شكل مشروع بشري، ثم استخرج الله منه نسلاً (من سلالة من ماء مهين)، ثم كانت التسوية ونفخ الروح، فكان الإنسان هو الثمرة في نهاية المطاف ... عبر تلكم الأطوار التاريخية السحيقة العتيقة" ..

وبناءاً عليه يجيء رأي اللجنة العلمية التابعة لمجمع البحوث على النحو التالي:
- لم يقع المؤلف في تجاوز الحد في تأويلات النصوص القرآنية تجاوزاً يخالف به ثوابت العقيدة، أو يتناقض مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
- لا ترى اللجنة فيما كتبه المؤلف محاولة للتوفيق بين العلم والدين، بقدر ما ترى فيه اجتهاداً منه في فهم النص القرآني، وهو اجتهاد لا توافق اللجنة المؤلف على بعض أجزائه، حيث لا يكفي ما ساقه في هذا التدليل ليقرر التائج التي انتهى إليها.
- أهم ما لا تقره اللجنة من تأويلات المؤلف لبعض آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما أشار إليه من أن آدم عليه السلام – يمكن أن يكون قد خلق من أبوين، وما انتهى إليه في شأن العلاقة بين البشر والإنسان، كما أنها لا تقره على بعض التعبيرات التي استخدمها، والتي ترى اللجنة أنها غير لائقة في وصف المشيئة الإلهية في أمر الخلق.
- وفي هذا الشأن يوصي المجمع الباحثين بأن يتجنبوا - ما وسعهم - شغل عامة الناس بقضايا قد تكون لها - على أهميتها القليلة – آثارٌ جانبية غير نافعة تشغل الناس عما ينبغي أن يتوجهوا إليه، أو تُوقعهم في حيرة وسوء فهم وجدال طويل فيما لا ينفعهم.

أما عن الكتاب الثالث[13]، فنجد فيه أقوالاً شنعاء، وتأويلات حولاء:
فنجد أن مؤلفه يميز إسم (آدم) إلى آدم الإنسان، وأنه غير آدم النبي المصطفى، فعن المعنى الأول يقول[14]: "آدم هو إسم أو صفة لمجموعة من البشر، خلقها الله، ثم صورها، ثم قال للملائكة اسجدوا لهم، أي أن لفظ "آدم" هنا يقوم مقام جنس البشر، أو جنس الإنسان، وليس شخص نبي الله الأول آدم عليه السلام."

ويزعم المؤلف أن جنس آدم هذا قد أنشأه الله تعالى من ذرية قوم آخرين، وأن ذلك كما فهمه هو من القرآن، فيقول[15]: "القرآن وصف وجود الإنسان الجسدي من ذرية قوم آخرين، إذ أن الآية وصفت: "كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ"(الأنعام:133)، والإنشاء هنا يعني الاستقامة والاعتدال في المشي، بعد أن كان أسلاف البشر يمشون منحنيين على أربع كالقردة، لكن مفهوم الخلافة يرتبط بالعقل موطن التكليف، وهذا حدث فقط بعد أن نفخ الله في البشر، ونقلهم إلى إنسان عاقل. إذاً فالخلق قد تطور من ذرية قوم آخرين، لكن الخلافة لله ابتدأت بعد العقل، الذي أعطاه الله لجنس آدم، فقط بتدخل مباشر منه، وليس لكل البشر."

ويتكلم عن الملائكة التي أمرها الله تعالى بالسجود لآدم كلاماً عجيباً، يقول[16]: "كان الخالق قد خاطب كل الكون قبل أن يخضعه له (أي لآدم)، (وكان قد أشار قبلها إلى قول الله تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ"(فصلت:11)، ويكمل فيقول:)، فإننا يمكن أن نقيس على ذلك أنه تعالى قد أمر جزءاً من قوانين الكون أن تخضع لخليفته، ومن هنا نفترض أن أمر الخضوع لآدم كان موجهاً للقوانين النوعية التي تحكم حركة الكون لتدخل في إطار معرفة الإنسان، وقدرته على دراستها وفهمها وتطويعها لمصلحته. هذه القوانين أشير إليها بلفظ ملائكة، لأنه في علم الله فإن كل الكون بجماداته وأحيائه تتحكم فيه "رسل كيميائية وفيزيائية" هي التي تحدد خواص وقدرات كل موجود وتتحكم فيه، وهذه هي التي أُمرت بالخضوع لآدم، وليس ملائكة السماء العالية! .... تلك القوانين التي تحكم حركة الوجود.. سماها "ملائكة" أو "رسلاً" بناءاً على واقعها ووظيفتها"، "فالسجود هنا ليس السجود المجسد وإنما الخضوع والتسخير لقدرات .. الإنسان"[17]. أي أن هذا المؤلف يميز بين ملائكة حقيقية (ملائكة الرحمن)، وهذه عالية في السماء، وهي التي اختصمت في شأن آدم، تأويلاً[18] لقول الله تعالى "مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ"(ص:69)، وملائكة مجازية، هي التي أمرت بالخضوع (السجود) لآدم، وهذه هي قوانين الكون أو بعضها!
ويقول في تفسير قول الله تعالى: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ"، يقول المؤلف[19]: "أي أن كل المخلوقات انصاعت لأمر ربها، وأخضعت قوانينها النوعية "ملائكتها" لتصرف الإنسان وقدرته على التحكم فيها، وهذا يشمل الدواب والنبات والطبيعة، وكل ما يمكن للإنسان أن يكتشفه ويتحكم فيه، إلا إبليس – كان من الجن ففسق عن أر ربه- أي رفض أن يكشف، وبالتالي يخضع قوانينه النوعية "ملائكته" لمعرفة وتحكم الإنسان .... لذلك ذكرنا الله ... أنه (أي إبليس) يرانا ولا نراه، ويمكنه أن يضلنا من غير أن نشعر".

فإذا ذهب – صاحب هذا الكتاب- يتكلم عن العلم الطبيعي، نجد منه العجائب، يتكلم في قول الله تعالى "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"(هود:7)، ويقول[20]: "بناءاً على فهمنا العلمي؛ (فـ) لأن الماء هو أصل الكون، فمعنى هذه الآية يكون حرفياً وليس مجازياً، أي أن الشمس والقمر، وما ينتج من نور الشمس، من نور النهار وظلام الليل، كلهم يسبحون في ماء الكون. نحن الآن نعلم أن الماء له ثلاثة أشكال فيزيائية هي السائل والغاز والثلج، ولكن لما كان عرشه على الماء تعني أن الماء له الحظ الأعلى من تداخل قدرات الله، فإن أشكال وجود الماء لهي أكبر من الغاز والثلج، إذ أن كل الطاقات الكهرومغناطيسية التي تتحكم في حركة الكون ليست إلا من نواتج الماء، وما يتحرك بها وبينها فهو بلا شك يسبح في ماء الكون بشكل أو بآخر، من أشكاله التي لا يعلمها إلا الذي كان عرشه عليه!".
وهذا الكلام عن الماء وعلاقته بالطاقات الكهرومغناطيسية و ... تبعث على الدهشة، والرثاء[21].

وعن قول الله تعالى "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ"(البقرة:255)، يقول[22]: "ولعل آية الكرسي تفسر بكل بساطة ظاهرة المد والجذر التي تتعرض لها المسطحات المائية، بل وحتى تركيز الماء في خلايا جسم الإنسان، بحركة القمر وبقية الكواكب في الفضاء." – والسبب أن يعود بكلمة الكرسي إلى (الكرس)، ويقول[23]: "أن كل الموجودات على الأرض موجودة في وسط مكرس، .. والكون مكرس ومتصل بعضه ببعض ومتصل ببعضه اتصالاً مباشراً من أدنى ذرة في أي مكان على الأرض إلى أعلى مكان في السموات العلا! (وعلى ذلك يكون) استعمال لفظ "الكرسي" - والذي يعني نظام التلبد والاتصال من غير فراغات – والذي صممه الله، توحي بأن الله خلق هذا الوجود متداخلاً ومتصلاً بعضه بعضا. وإن كنا لا نرى القوى الكهرومغناطيسية التي تحافظ على الكواكب والنجوم في مداراتها."

وهكذا نقرأ من المؤلف العجائب، ولو ذهبنا نستقصى عن هذه الشناعات في التفسير، الذي يتبرأ منه العلم الطبيعي ذاته، لاقتضى الأمر مئات الصفحات بقدر ما كتبها صاحبها، غير أن البعض يغني عن الكل.

وخلاصة أمر مسألة التطور الأحيائي، أن المواجهة بين النصوص القرآنية والنظريات العلمية تفرض نفسها على عقول الدارسين، سواء صمتوا أو نطقوا - كهؤلاء الذين قرأنا لهم أعلى، وسواء تجرءوا أو استحُوا، تقدموا أو تأخروا، عارضوا الإعجاز العلمي أو أيدوه! ... وإن لم تُحسم المسألة على نحو علمي إسلامي رصين، لخرج علينا من مثل ما اطلعنا ما يشرد هنا أو ينحرف هناك، أو ينزلق هنا وينجرف هناك. وحتى لو لم يجاهر أصحاب الفكر، فالمعاني لا بد وأن تتردد في نفوسهم، وليس ببعيد أن تُلبس عليهم دينهم، فينقلبوا ملحدين كالذين نراهم على صفحات المنتديات الآن، أو تشككهم في مصداقية العلوم وعدم فائدة الانخراط في تيارها المشكك في قدسية الموروث بجملته، كمثل الذين شككوا في علوم الفلك بإسم الدين، وتنتشر أقوالهم على الإنترنت، ويصدون الناس بغير علم، وكلا الأمرين كارثي وعاقبته وخيمة، فإما أن يؤدِّي إلى تكذيب الدين وتعطيله، أو مجافاة العلم الحديث وهجرانه، وقد أصبح قوام الحياة! وفي النهاية، فوضى ثقافية، لا هي دينية ولا هي علمية. مثلها مثل المرض العضال، يفتك بجسد صاحبه الغافل عنه، وهو له متجاهل منكر، لا يقبل فيه نصيحة، ولا يعترف به وجودا ، فضلاً عن أن يعالجه أو يتقيه.

ونعود إلى الشيخ شلتوت فنقرأ له يقول تحت عنوان "جوانب الخطأ في هذا الاتجاه"[24]: "هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون وأنواع المعارف. وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز ولا يسيغه الذوق السليم. وهي خاطئة، لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار الأخير. فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً من الخرافات. فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرَّضناه للتقلب معها وتحمُّل تبعات الخطأ فيها، وأوقفنا القرآن وأنفسنا مواقف الحرج. فلندع للقرآن عظمته وجلاله، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولنعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر، ليزداد الناس إيماناً مع إيمانهم. وحسبنا أن القرآن لم يُصادم – ولن يُصادم – حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول."

نقول: إن نفي حديث القرآن عن موضوع ما، يستلزم من النافي إحاطة بما ثبت للقرآن من موضوعات، وأن ما سواها غير مشتمل فيها. وهذا لا يمكن التسليم به لأحد من العلماء، مهما بلغ الأوجُ في الإحاطة بموضوعات القرآن في زمن من الأزمان. وما من موضوع يطرأ على فكر إنساني، إلا ويمر عبر أطوار من التنظير المتصاعد، فإما إلى التباس أو إلى انكشاف. فإذا أضيف جديد من المعلومات أعيد في الموضوع النظر، فيقل الالتباس ويزداد الانكشاف، وهكذا في دورة متصاعدة من النظر وإعادة النظر، ومن تداخل الموضوعات وانبثاق أخرى جديدة. وهذه الدورة لا ترتبط بموضوع دون غيره، ولا فن أو حرفة أو صنعة دون سواها. وموضوعات الفكر لا تتعلق فقط بواجبات ومحظورات الإنسان المكلَّف، على ما سجله الفقهاء والأصوليون، بل يتعلق بكل ما يطرأ على مخيلة الإنسان من تصور للوجود، ورسالته المكلف بها في إطار متآلف مع سيرورة الوجود ذاته. بمعنى أن جل موضوعات القرآن – فيما وراء الطقوس التعبدية- بمنظورها الفكري هي موضوعات نظرية. ووسمها بالتنظير، يعني بوجوب الفكر والتدبر فيها، حيث وردت كلمة "يَتَفَكَّرُونَ"، وكلمة "يَتَدَبَّرُونَ" ومرادفاتهما ومشتقاتهما في كلام الله تعالى عشرات المرات. فإذا قيل أن القوالب التنظيرية في موضوعات القرآن المأثورة في التفاسير القديمة رتيبة ولا سبيل إلى تبدلها، قلنا إن هذا يجافي الحقيقة، ولا نقول أنها تتبدل بالزمن، ولكن نقول أنها يعاد صياغتها مع منظورات الموجودات المتجددة والمتدعمة بجديد المعلومات وانكشاف أسرار الخلق وحكمة الإبداع فيه. كما وأن الزعم بانغلاق المدونة الفكرية في القرآن على ما سطره الأولون في الإسلام اتهام سلبي من طالب علم أمام كتاب العلم الذي سيظل يتلقى المؤمن منه الفهم ما بقى حياً، فأي دافع يحمله على مثل هذا الزعم، وأي سكون يسقطه على العلم المنزل لنا من الله تعالى وما فيه من حياة متجددة، يميتها هو، ويحنطها ويطلب منا أن لا نتعبَّد إلا بهذا الأحنوط الذي تصوره الأولون دون ما يتجدد منه.

ورغم أننا نؤمن جميعاً بانغلاق المنظومة اللفظية والحرفية للعلم المنزل بوحي الله تعالى، ونعني به الآيات المتلوة في القرآن الكريم، إلا أنه لا ينبغي لغافل أن يتوهم بسببه أنه دليل على ثبات الفهم وجموده. ولو صح هذا الفهم لصح أن يستوي ثبات الفهم في الكون لثبات بنيته من أنواع الذرات والمجالات التي تنتظم فيها علاقاتها. ومثلما أن هذا الأخير لا ينحصر فهم الإنسان فيه بتجدد العصور، فكذلك القرآن، لا تنغلق معانيه، أللهم إلا على من حكم بذلك من عند نفسه! والقرآن من حكمه براء.

ثم يتمثل الشيخ شلتوت بشواهد يرى أنها تثبت صحة دعواه، فيقول: "قيل: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، لا يكون على حالة واحدة؟ فنزل قوله تعالى: "يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (البقرة: 189) ..
وإنك لتجد هذا في سؤالهم عن الروح حيث يقول الله عز وجل: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"(الإسراء:85) أليس في هذا دلال واضحة على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟"

وفي هذين المثالين اللذين يستشهد بهما الشيخ: عن الهلال والروح، يريد الشيخ أن يثبت أن السؤال عنهما كان في غير محله، وأن القرآن قد نزل يجيب صراحة عن مثل هذه الأسئلة بما يغلقها، بل وربما يفهم منه نهياً عن الوقوع في مثل ذلك لاحقاً.

فإذا دققنا النظر في مسألة الهلال، من سؤال السائلين، حول هيئة الهلال الدورية على مدار الشهر، لوجدنا أن الإجابة قد جاءت بالفائدة العملية للإنسان من هذه الظاهرة الكونية، وأنها مواقيت، وجاءت أيضاً الإجابة بوجوب ترتيب أولويات الأسئلة وما وراءها من فهم يبتغيه السائل، بتقديم الأنفع والأجدى. فكم من الباحثين الذين يسعون إلى إجابات عن أسئلة لا تنفع معرفتها مع العناء في سبيلها، ولا تضر مع الغفلة عنها. ولهذا وجب أن يتقدم عليها ما ينفع السائل والناس، مثلما أنه أجدى للعاقل أن يأتي البيوت من أبوابها لا من ظهورها. ولكن، قد تأتي المواقف التي تتطلب أن يأتي الإنسان البيت (دخولاً أو خروجاً) من ظهره وليس من بابه، وذلك مثلما حدث يوم هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما انطلق عليه الصلاة والسلام وصاحبه من [خَوخةٌ لأبي بكر في ظهر بيته][25]. فكانت الحكمة في هذا الموقف أن هذا الفعل هو الأنفع، فوجب تقديمه.

ثم أن الأنفع للإمام الخطيب في وعظه للناس من آيات القرآن، غير الأنفع للمفتي في آيات المواريث، والزكاة من حساب ونصاب وأيضاً من آيات القرآن، غير الأنفع لمؤقتي الصلوات ومستطلعي الأهلة من علم بالسماء وأجرامها والهلال وأحواله، والفلك وأغواره. وما ينفع هؤلاء جميعاً غير الأنفع فيما يستجد للناس من أحوال، لله تعالى فيها هدى في كتابه إلى يوم الدين. فكيف يغلق أي من الناس فائدة كتاب الله على ما يلزمه هو خصيصاً، دون غيره من الناس وما يعرض لهم من أحوال؟!

وهب أن إجابة سؤال الهلال قد جاءت بما نعلمه اليوم من دوران القمر حول الأرض، وعلاقة القمر في كل ليلة بوضع الشمس بالنسبة للأرض، أكانت هذه الإجابة ذات فائدة للسائلين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؟! ربما أن بعض السائلين لو كانوا سمعوها لكانوا قد التبست عليهم الأمور، أو كانت فتنة لهم تسؤهم! ومثال ذلك ما قاله الله تعالى لهم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ "(المائدة:101). وإذا سأل اليوم سائل عن الهلال، لوجب إجابته بما نعلمه اليوم، ولا نكتفي بالقول أن الأهلة مواقيت، ولا يمكن إصدار التقاويم وتنظيم الأحداث المستقبلة من تنظيم مدني وملاحي ومناخي إلا بالعلم بأوضاع الأهلة والشمس على نحو تفصيلي. بمعنى أن إجابة الأمس كانت للأمس، ولم تعد تكفي لليوم. فإن قيل إن هذا الأمر بجملته ليس من الدين! وإنه من العلم (الحديث) وأنه كان فقط من الدين في إطار ما جاء في النص القرآني، قلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل وسامح الله من فرق بين الدين والعلم، والذي لا نخاله إلا كمن فرق بين الروح والجسد.

فإذا انتقلنا إلى السؤال عن الروح، فنجد صراحة أن الله سبحانه لم يُقدِّر للإنسان أن يعلم شيئاً عن الروح أكثر مما جاءت به نصوص الوحي- سواء كان المعنى المقصود منه روح الإنسان، أو جبريل عليه السلام. وهذا السؤال خاص بالروح، ولا ينبغي أن يُتَّخذ قاعدة للحكم بالنهي عن طلب علم حقائق الكون، كما قال الشيخ: "أليس في هذا دلال واضحة على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون، وإنما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟" ونتساءل: هل الهداية لا تعم طلاب العلم في طلبهم لهذه الحقائق، وضبطهم إياها؟! وهل العلم لا إصلاح فيه؟! وهل السنن الكونية شيء غير شرع شرعه الله تعالى عليها، وسخَّرها بها، فوجب علينا معرفة ما ينفعنا منها، ومعرفة ما يتفق وكلام الله تعالى عنها، وما خبأته الآيات لنا في فهمها بتدبرها، وفهم الآيات بمعرفتها؟! – ولا نقول أن هذا يتم بمعزل عن اختبار السنن ذاتها، والوقوف على الظواهر عينها، بل نقول أن الاستعانة بما قاله الله تعالى عنها، مع معاينتها، أقدر على فهم أسرارها، وأطوع لله تعالى بالنظر في آياته وتدبُّر كلماته.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
----------------------------
[1] الشيخ محمود شلتوت (1893-1963)، حصل على شهادة الأزهر العالمية سنة 1918. عمل مدرساً بالأزهر، ثم وكيلاً لكلية الشريعة، ثم عضواً في هيئة كبار العلماء، ثم شيخاً للأزهر سنة 1958، وكان أول من حمل في ذلك لقب الإمام الأكبر.
[2] تفسير القرآن الكريم، الأجزاء العشرة الأولى، الشيخ محمد شلتوت، الطبعة الثانية عشرة، 2004، دار الشروق ، ص 11-13.
[3] الرواية في صحيح مسلم، وله رواية مجردة لقول عبدالله (ابن مسعود) فقط في البخاري.
[4] " مشكل الآثار للطحاوي "، نسخة إلكترونية، (2/451)
[5] مجموع الفتاوى، 9/141 .
[6] دار البعث للطباعة و النشر ـ قسنطينة ـ الجزائر 1985، لم يقع الكتاب تحت أيدينا.
[7] دار أخبار اليوم، قطاع الثقافة، القاهرة، 1999.
[8] لصاحبها: عماد محمد با بكر حسن، دار عزة، الخرطوم، 2007 ،نسخة إلكترونية
http://www.attaweel.com/vb/index.php
[9] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ص 141.
M. Iqbal, The Reconstruction of Religious thought in Islam, Oxford U. Press, 1934, p.112.
[10] رواه البيهقي، (صحيح)، كما جاء في "مشكاة المصابيح" لـ " محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي "، تحقيق الألباني، طبعة ثالثة، 1405، 1/53.
[11] لم نقرأ لكتاب بشير التركي إلا مراجعات آخرين عليه، لذلك لم نرى مصداقية للتعليق على مراجعات دون الوقوف على نصوص الكتاب الأصلي.
[12] لعبد الصبور شاهين، سابق، ص 198-202 بتصرف.
[13] "آذان الأنعام"، عدنان حسن.
[14] السابق، ص 75، ومثلها ص 78.
[15] السابق، ص86.
[16] السابق، ص81. وأيضاً ص284.
[17] السابق، ص82.
[18] السابق، ص83.
[19] السابق، ص83.
[20] السابق، ص281.
[21] وضعت تفسيراً مقترحا في مقالة صغيرة بعنون "حول معنى"الماء" في قوله تعالى "وكان عرشه على الماء"، لا يخدش المعنى اللغوي، ولا السياق القرآني ، ولا المعلومات الطبيعية الراجحة، يجده القارئ هنا:
القرآن والعلم : حول معنى"الماء" في قوله تعالى "وكان عرشه على الماء" .
[22] السابق، ص 284.
[23] السابق: 282-283.
[24] تفسير القرآن الكريم، الشيخ شلتوت، ص 13-14.
[25] تهذيب سيرة ابن هشام، حديث الهجرة إلى المدينة، 1/144، برنامج الشاملة.
 
الفصل (أ5) يوسف القرضاوي

الفصل (أ5) يوسف القرضاوي

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ5) يوسف القرضاوي
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول الشيخ القرضاوي عن الإعجاز العلمي[1]: "لا يجوز أن يكون هذا الفهم الجديد مبطلاً للأفهام السابقة، بحيث لا ينبغي أن تُتَّهم الأمة كلها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى ربما الرسول نفسه، بأنهم لم يكونوا يفهمون الآية[2]، وأن كل ما ورد عنهم في تفسيرها باطل، وأن المعنى الوحيد الصحيح هو ما فهمه الكاتب أو المفسر الجديد ... وإنما اللائق هنا أن يكون هذا المعنى إضافة جديدة، تُضم إلى ما سبق ولا تبطله، فمن خصائص هذا القرآن: أنه "لا تنقضي عجائبه"."

نستغرب من الحرص الشديد على نفي بطلان بعض الأفهام السابقة لبعض آيات القرآن. إذ أنه يكثر بالتفاسير القديمة آراء لا اعتبار لها، في معالجتها لكثير من الآيات التي تتعلق بالكون والخلق، أو هي آراء شديدة الضعف وتفتقر إلى الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الاستدلال الوجيه. بل إن كثيراً من هذه الآراء ما يتعاند ولا يمكن أن تصح جميعاً! فإن لم يصحح كل مفسر قولاً مرجوحاً لمفسر آخر، فما جدوى اجتهاده التفسيري؟! - ثم، ما الذي يمنع مفسرون مُجِدُّون مجتهدون من تصحيح جملة آراء مرجوحة فيما ظهر لهم فيه برهان من الخلق مفارق؟! فإذا نظرنا مثلاً في تفسير ابن عباس للـ "العاديات ضبحا" لوجدناه يقول أنها جياد الحرب والإغارة، في حين يرده علي ابن أبي طالب – رضي الله عنهما – ويقول ما يفيد أنها الإبل في الحج في إفاضة الحجيج من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى! ... ولا يمكن الجمع بين هذين التفسيرين، ولا يمنع وجودهما في كتب التفسير المنقول ورود شواهد جديدة يُطرح على إثرها تفسيرٌ أقوى[3] من هذين (الرأيين)، ومعلوم قدر ابن عباس وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، غير أن تجاوز آراءهما – التصوُّرية والمرتبطة بثقافة زمنهما- لا حرج فيه، ولا إلزام معه بضرورة الأخذ بأحدهما.

أما دعوى الشيخ القرضاوي بأن تُضم الأفهام الجديدة إلى ما سبق من أفهام ولا تبطلها، لأنه من خصائص القرآن أنه "لا تنقضي عجائبه"، فهذا يفتح باباً للنقاش لمسألة شديدة الغرابة في التفسير، دعى إليها أيضاً آخرون[4]، خلاصتها أن تضاف التفاسير المختلفة للآية الواحدة وتتراكم (مهما تنازعت فيها المعاني)، وأن تكون جميعاً صحيحة وجميعاً مطلوبة ومقبولة وأنها جميعاً من مرادات الله تعالى المتكلم بالقرآن، والمُوحِي به سبحانه إلى رسوله ليبلغنا إياه! – نقول: كيف يريد المتكلم سبحانه – الذي كلامه فصل وليس بالهزل- معنيان متمايزان أو أكثر، لكلام واحد ووحيد النظم، وأن هذان المعنيان لا يؤولان بالضرورة لمعنى كلي واحد؟! – نقول إن هذا التراكم التفسيري المتعمد، والمتفاوت المعاني، لا أصل له في قواعد الفهم اللغوي، ولا يقبله العقل اللساني، إلا أن تكون المعاني المتفاوتة أطروحات لم يبرز منها معنى دون سواه عند السامع. فتظل هكذا معلقة حتى تتفاضل، وتسقط جميعاً إلاّ أحدها، أو يجمعها جامع واحد، وبما تقوم له من الأدلة العصية على مداومة التفنيد. ولا يمتنع أن تكون جميع وجوه المعاني التي كانت مطروحة ساقطة جميعاً بظهور تهافتها وضعفها، ثم يظهر بعد حين معنى فريد، كان غائباً، يتسيد الصورة الدلالية، ويستقوى ويفرض نفسه. نقول أنه لا يمتنع أن يحدث هذا، أما الممتنع حقاً، فهو أن نقبل مطمئنين معاني متضاربة أو متمايزة ونقول أن هذا من عجائب القرآن، والصواب أن هذا من عجائبنا نحن. فالحق واحد، وإن اشتبه على النظار، إلى أن يأتي ميعاد ظهوره.

إن "واحدية المعنى" أصلٌ يجب عدم الحيود عنه في قبول التفسير، مهما كان الخاطر الاعتباري الدافع إلى هذا الحيود - مثل تنزيه المفسرين عن الخطأ! - فإذا اقترن هذا الأصل مع علمنا بتشابه بعض آيات القرآن، وهو أمر قد صرح به القرآن "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"(آل عمران:7) - وتشابه الآية يعني كمون معناها المراد – لوجدنا أن المتمسكين بقبول تفاسير متعاندة وأن أحدها صحيح بالضرورة لمجرد نقلها عن الأولين من المسلمين يتعارض بجلاء مع تقرير القرآن بتشابه بعض آياته، وأنه – لا محالة – تشابهٌ آيلٌ إلى البيان "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19). ومعنى ذلك أن تشابه بعض آيات القرآن إنما هو تشابهٌ مؤقتٌ، يتحول مع الزمن إلى الإحكام. ويتم ذلك على التمام مع انغلاق الزمان، ويكون الفاعل في هذا التحول هو ما يظهر من الآيات الكونية العيانية وبما ينطق بنفسه بمعنى الآيات المنزَّلة. وهذا هو الدليل على حدوث لاحق لجديد المعاني، بما يحسم مسائل التشابه، وبما لا يمكن للغة المنقولة وحدها أن تحسمه، وإلا لحسم مراد الآيات مَن هم أعلم باللغة وحدها.

وبناءاً على التحليل السابق يكون كلام الشيخ الآتي، محل نظر ومراجعة، يقول[5]: "ليس من الجائز - في رأيي - قبول تفسير عصري لآية من القرآن الكريم يجزم صاحبه بأنه هو وحده المراد من الآية، وأن هذا المعنى لم ينكشف إلاّ في هذا الزمان، وإنما هو العلم بطبيعته النامية المترامية، يفتح من مغاليق الأسرار كل يوم بابا، ولا يبطل حديثه قديمه." فنقول أن جزم الجازم لا يلزم أحداً إلا بما يحمل من أدلة وبراهين، لأن سلطان البرهان فوق كل سلطان. فلا خواطر، ولا اتِّباع إلا ببصيرة. أما القول بأن العلم ذو طبيعة متنامية، فهذا لا شك فيه، ولكن بشرط أن يكون التراكم لما هو راجح وفاضل عما سواه، وليس لكل ما يقوله القائلون ويلغو به اللاغون من دعاة معاني لا سند له. أما القول بأن العلم لا يبطل حديثه قديمه، فهذا ما لا يشهد له تاريخ العلم، بل على النقيض، يشهد عليه شهادة دامغة. وأدلة ذلك وفيرة، لو أردنا سردها لسودنا مجلدات لا يفرغ منها كاتبها وقارئها لو أرادا. ونتساءل عمَّ هو مشهور معلوم: أين هي الميكانيكا الكلاسيكية التي جعلت من إسحاق نيوتن قديس العلم على مدة ثلاثة قرون من الزمان، ثم ذهب ريحها أدراج الرياح وانحسرت رقعة سلطانها قبل مئة عام مع ظهور عجائب الميكانيكا الكمومية؟! ، وأين هي نظريات الفراغ الأثيري في القرن التاسع عشر؟ التي انطوت صفحتها وحل محلها الفراغ الزمكاني النسبوي، وأين هي أمواج الكهرومغنطيسية المتصلة بعد ظهور كمات الضوء المنفصلة؟ وأين ثبات الأرض واستقرارها في مركز الكون بعد ظهور زيف هذا الوهم البصري، وطواف الأرض حول الشمس مع غيرها من الكواكب السيارات؟! ثم طواف الشمس نفسها مع فيوض النجوم طوافاً لم تكن تعلم البشرية عنه شيئاً البتة قبل بضعة عقود من السنين، ... وتمتد القائمة وتطول، وتحتشد الشواهد، وتقر بأن العلوم البشرية تدول وتزول، وتتنقح وتتزين، وتزيح قديمها وتبطله.

ولنا في الفقرة التالية للشيخ مأخذان، تقول الفقرة: .. "الحرص (على أن[6]) يوضع القرآن الكريم والعلم الحديث في سباق حرص له محاذيره، وليس له في كثير من الأحيان ما يبرره، ولِم كل هذا التكلف ياسادة (يوجه الشيخ كلامه لأصحاب الإعجاز العلمي)؟! إنكم لا تهدون من أحببتم، فمجرد العلم وحده لا يكفي للإيمان، إنما ينبغي أن تسبقه هذه الفطرة السليمة، والرغبة الأكيدة لمعرفة الحق، ولا بد له من هذه الجذوة التي يلقيها الله في قلوب عباده الذين ينشدون معرفته."[7]

أما المأخذ الأول فنقول أن: هناك هيمنة ثقافية عولمية لا محالة، وصاحبها (الغرب) هو قائد للمسيرة الثقافية المعرفية العلمية العالمية وما يتبع ذلك بطييعة الأحوال، فالتفاضل والتمايز بين الثقافات، لا بد حتماً أن يقدم إحداها ويؤخر غيرها. ومن تأخر أخره الله. وكيف لا يكون هناك سباق بين القرآن وأهله من جهة، والعلم الحديث وأهله من الجهة المقابلة، وكل الشواهد الثقافية والعلمية والسلطوية التاريخية والحاضرة شهدت اقتحامات لم تكل ولم تمل من قبل الغربيين لسحب البساط دوماً من تحت من سواهم وخاصة المسلمين. ألم يزعموا أنهم لا يستهدفون الإسلام مراراً وتكراراً ثم نجدهم عقب كل إعلان من هذا القبيل يُغيرون على دولة هنا أو أمة من المسلمين هناك. أما عن دأبهم في ذلك فيشهد له الله تعالى بقوله سبحانه "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا"(البقرة:217)، وأما عن منافستهم للإسلام والقرآن، وحسبانهم أنهم سابقوه، فنقرأه في كلام الله تعالى حين يقول سبحانه "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59)، لذا فالمنافسة قائمة، يقودها أئمة الغرب بِقَدِّهم وقَديدِهم، جنودهم وعلمائهم من جهة، وبين الله سبحانه، ودينه والمؤمنين الصادقين المخلصين من الجهة المقابة. ومن لم يزكم أنفه غبار المعركة ويسمع دويها القديم الجديد، فليشك بنفسه، ولينظر مع من يصطف، وهو عن الحق غافل، عسى ألا يكون مع أعداء الله مظاهر أو ناصر لهم آثم.

أما المأخذ الثاني، ففيه أن الشيخ يشكك في فائدة الإعجاز العلمي في هداية الناس ودعوتهم إليه بالعلم، وكأن غرض كلامه أن يبعث اليأس في قلوب الذين آمنوا من ذلك، ورغم أن كلامه صحيح في أن الاهتداء إلى الله سبحانه ودينه الحق ليس نتيجة لازمة للإعجاز العلمي، إلا أن الدعوى إلى الله بكل الوسائل المشروعة أمرٌ مندوب إليه، ويصل إلى درجة الفرض لكل من هو أهلٌ له، ويشهد لذلك قول الله تعالى "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ... وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ..."(الحج:78). وقد يغنينا هنا في إظهار فائدة الإعجاز العلمي في هداية الناس وتكثير المؤمنين بالقرآن كلام الطاهر بن عاشور في تفسيره، إذ يقول[8]: [(أما) قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي أو أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" ففيه نكتتان، غفل عنهما شارحوه: الأولى: أن قوله "ما مثله آمن عليه البشر" اقتضى أن كل نبي جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به، وأعجز عنه، فيؤمنون على مثل تلك المعجزة. ومعنى آمن عليه أي لأجله وعلى شرطه، كما تقول: على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا، الثانية: أن قوله "وإنما كان الذي أوتيت وحياً"، اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأولين أفعالا لا أقوالا، كقلب العصا، وانفجار الماء من الحجر، وإبراء الأكمه والأبرص، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر، ويتدبره ويفصح عن ذلك، تعقيبه بقوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا"؛ إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا، وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا، لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان، حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم، فيكون هو أكثر الأنبياء تابعاً لا محالة..]

أما إيمان الناس جميعاً، فهو الذي أيأسنا الله تعالى منه من قبل، لأنه سبحانه قدَّر غير ذلك، وشاهد ذلك قوله تعالى "... أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا .."(الرعد:31). ونعود فنقول أن الإعجاز العلمي لا تنحصر فائدته في إيمان الناس الذين لم يؤمنوا بعد، وإنما تتخطاها لحفظ إيمان المؤمنين، كما شهد الشيخ نفسه بذلك في ثنايا كلامه في خضم الفتن العلمية والثقافية التي تغمرنا من كل حدب وصوب. ثم يأتي الأهم من كل ذلك، ألا وهو نصرة الله تعالى، والحق الذي أنزله على الناس، قرآناً يُتلى إلى يوم الدين، وإقامة الحجة على المنكرين حجة دامغة لا فكاك لهم منها، انتصاراً لدين الله تعالى. وهو غرض وغاية دونها كل غاية، وفي سبيلها تنقضي الأعمار، وتفنى الآجال، وما توفيها حقها عند كل ذي لب، وعلى طريق الله قد سار.

متى يؤيد الشيخ القرضاوي التفسير العلمي والإعجاز العلمي؟

رغم هذا النقد الذي يبديه الشيخ القرضاوي للإعجاز العلمي، إلا أنه يؤيده بين الفينة والأخرى، وخاصةً حيث تطفو المسائل ذات العلاقة، وتلح على العقل الفقهي التراثي طالبة المزيد من آفاق الفهم والدراية، فنجده يقول[9]: "يمكن أن أستفيد من العلم في تصحيح كلام المفسرين.. فقديماً قال المفسرون في قوله تعالى: "ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(الذاريات: 49)، قالوا: هذه كلية أغلبية، فرؤيتهم أنه ليس كل شيء في الكون مزدوجا، الإنسان فيه ذكر وأنثى، الحيوان فيه ذكر وأنثى، بعض النباتات مثل النخيل فيها ذكر (وأنثى) إنما ليست كل النباتات, ليست كل الجمادات، الآن بعد اكتشاف الذرة، وأنها تقوم على إلكترون وبروتون، أصبح كل شيء في الكون قائمًا على موجب وسالب، فالازدواج كما قال تعالى: "سبْحَانَ الَذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُون"(يس: 36)، فنحن نأخذ من العلم هنا لنصحح التفاسير. (كما أن له) وظيفة أخرى: وهي تقريب الحقائق الدينية إلى الذهن المعاصر، هذا أيضاً مهم، حينما يقول القرآن "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ"(الزلزلة:6)، "ووَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً"(الكهف:49)، "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً"(آل عمران:30)، المفسرون القدامى كانوا يقولون: وجدوا جزاء مما عملوا ليس العمل بمجمله؛ لأن العمل انتهى. كانوا يقولون: العمل عَرَض، والعَرَض لا يبقى زمنين. أما الآن فيقول العلماء: إن أصواتنا موجودة في الكون، وكذا العمل[10] .. كأن هذه الأعمال ستعرض علينا بذواتها، في شريط مسجل، "اقرأ كتابك"(الإسراء:14)، "ووَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً"(الكهف:49)."

وغني عن البيان التردد الذي يبديه الشيخ بين النفي والإثبات، ففي صدر كلامنا عنه رأيناه يقول: "لا يجوز أن يكون هذا الفهم الجديد مبطلاً للأفهام السابقة "، وفي الفقرة السابقة نجده يقول: "نأخذ من العلم هنا لنصحح التفاسير "! (كما نلاحظ أنه هنا يؤيد ما نفاه الشيخ شلتوت في حفظ الأعمال مسجلة بذاتها)

ونجده يقول[11]: "لا ينبغي أن تتهم الأمة كلها منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى ربما الرسول نفسه، بأنهم لم يكونوا يفهمون الآية (يقصد أي آية ذات دلالة علمية جديدة)، وأن كل ما ورد عنهم في تفسيرها باطل، وأن المعنى الوحيد الصحيح هو ما فهمه الكاتب أو المفسر الجديد." رغم أنه هو الذي قال قبل ذلك بصفحات[12]: "لا يشك متخصص متعمق في علمه، دارس للقرآن، معايش له، أنه قد تضمن إشارات علمية، بل حقائق علمية، تعتبر من باب "الإعجاز". لأنها فوق مستوى العصر الذي أنزل فيه القرآن، والأمة التي أنزل فيها القرآن، والرجل الذي أنزل عليه القرآن."!!! – ويؤلمنا ذكر هذا التعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يتعمده أحد من دعاة الإعجاز العلمي، أشد الألم، لأن المفاضلة المعرفية التي أجراها الشيخ القرضاوي لم يكن لها مُوجب، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عند ربه بِقَدْره ومنزلته وعلمه الذي علمه إياه، ولم يخبر به صحابته الكرام رفقاً بهم. ونعاتب الشيخ القرضاوي على هذا التعريض عتاباً شديدا. وماذا على رسول الله صلى الله عليه سلم، إلا أنه بلغ الرسالة كما أُمر، وسكت عن أشياء كما أُمر، فليس بسكوته عنها دلالة على أن ما سيجليه لنا الله تعالى من معانيها فوق مستوى ما علمه نبيه الكريم، أوليس قد أراه ربه ما لا يمكن لنا أن نراه - مهما أوتينا من علم - يوم أعرج به؛ "أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى"(النجم:12)، فأنّى لنا أن نماري فيما علم وما لم يعلم. نعوذ بالله من اللغو في ذلك، ونستغفر لإخواننا الذين خاضوا فيه.

وخلاصة الرأي أن الشيخ القرضاوي حفظه الله، وغفر له، وتقبل عمله الصالح لوجهه الكريم، قد تردد في تأييد الإعجاز العلمي بين الإيجاب والنفي. ويشبه تردده في ذلك تردد الشيخ الشعرواي يرحمه الله، وهو تشابه يعكس أزمة في عِلْمَي الفقه والتفسير الإسلامي المعاصِرَيْن، انعكسا على فكر هذين العَلَمَيْن البارزين في الإسلام المعاصر. وهي أزمة مفادها غياب واضح لمعالجة رصينة لمسائل التفسير والإعجاز العلمي، وهي المسائل التي تفرض نفسها دوماً مع طوفان الكشوف العلمية في القرون الأخيرة، ثم تشابُه معانيها مع ما جاء في كتاب الله تعالى من آيات وفيرة.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
----------------------
[1] "العقل و العلم في القران الكريم"، يوسف القرضاوي، 1416-1996، مطبعة المدني، القاهرة، ص 293-294.
[2] حمل د. عبد المجيد عبد السلام المحتسب في كتابه "اتجاهات التفسير في العصر الراهن"، ص 292، على الطبيب عبد العزيز اسماعيل في كتابه "الإسلام والطب الحديث"، عندما تكلم عن قول الله تعالى "خلق الإنسان من علق" وقرر في مقدمة كتابه ص 14: "أن هذه الآية وكثيراً مثلها لا يَفهم شيئاً من معناها الحقيقي إلا من درس العلوم الحديثة"، ويقصد من ذلك أن الآية تتكلم عن أشياء لا ترى إلا بالميكروسكوب، وأن العبرة من هذه الآية لم تظهر وقت نزولها، ولا بعده بمئات السنين حتى اكتُشف الميكروسكوب. فقال د. المحتسب: "في قوله هذا اتهام للرسول الكريم عليه السلام والصحابة والتابعين رضي الله عندهم بأنهم لم يفهموا شيئا من المعنى الحقيقي لبعض الآيات القرآنية لجهلهم بهذه العلوم الحديثة. والرسول الأمي – صلى الله عليه وسلم – هو شارح القرآن الأول، والصحابة رضي الله عنهم تلقوا هذا العلم عنه عليه السلام وزادوا عليه باحتهادهم. ومنهم ابن عباس رضي الله عنه ترجمان القرآن الذي دعى له الرسول الكريم بالتفقه في الدين وتعلم التاويل. (ويتابع د. المحتسب): وهذا التقرير (يقصد من د. اسماعيل) المغلوط الفاسد إنما جاء بسبب إقحام القرآن في ميدان لا يجوز لكل من فهم مراد الله تعالى أن يقحمه فيه البتة. ومن ذلك يبدو واضحاً لكل من عنده رمق من ورع وتقوى وفهم فساد هذا الاتجاه وجموحه".
نقول: "لو ميَّز د. المحتسب" بين علم اليقين وعين اليقين، لعلم أن رؤية المعلوم - بالميكروسكوب- أقرب إلى معرفة حقيقته العلمية من محض العلم النظري به، وهو ما أوجزه علماء الأصول بقولهم: [من رأى حجة على من لم يرى]. وهذا هو المعنى الذي أراده د. عبدالعزيز اسماعيل. ثم أن د. المحتسب أجاز أن يضيف الصحابة – رضوان الله عليهم - إلى العلم بالقرآن عندما قال: "وزادوا عليه باحتهادهم."، فكيف يمنع الدكتور المحتسب عن العلماء المجتهدين – ومعهم أدلتهم- ما يجيزه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهادهم؟! – وأخيراً، إذا جازت المفاضلة بين المجتهدين بعضهم بعضا، فمن يجيزها بينهم من جهة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علمه ربه بلا منازع؟! ومن ثم يكون إقحام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمفاضلة لا وجه له، لأنه أسمى من ذلك."
[3] نشرنا في ذلك تفسيراً جديداً، نرى أن له قوة استدلال ووجاهه ورجحان عن ما سبق ذكره، وخاصة أنه يحقق كل الأوصاف الواردة في سورة العاديات. القرآن والعلم : حول ضَبْح العاديات، ومَوَران قدحها، وصُبح غاراتها، و.. و..
[4] هو الدكتور زغلول النجار في قوله: "جاءت الاشارات الكونية في القرآن الكريم بصيغة مجملة‏,‏ يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني‏,‏ وتظل تلك المعاني تتسع باستمرار في تكامل لا يعرف التضاد‏." وهي عبارة تكررت مراراً في كتبه ومقالاته المنشوره، كما في المقال:http://www.ahram.org.eg/archive/2001/4/30/OPIN7.HTM ، أو قوله: "الآية الكونية الواردة في كتاب الله تتسع دلالتها مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد"، كما في:
من أسرار القرآن438ج كشف الإعجاز العلمي في القرآن‏..‏ ضرورة عصرية إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين‏
[5] "العقل و العلم في القران الكريم"، يوسف القرضاوي، 1416-1996، مطبعة المدني، القاهرة، ص 296.
[6] جاء ما بين القوسين في الأصل (على ألا) إلا أن السياق هنا يقتضي أن تكون العبارة كما كتبناها أعلى: " الحرص (على أن) يوضع القرآن الكريم والعلم الحديث".
[7] السابق، ص 296.
[8] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1420-2000، الجزء الأول، ص 125-126.
[9] "القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي"، القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
[10] هنا يجب التنويه إلى أن الأصوات والأفعال الحركية تتبع قانون الديناميكا الحرارية، وتتبدد dissipate طاقتها في محيطها neighborhood القريب، بعمليات فيزيائية لا يمكن انعكاسها، لأنها عمليات لا إنعكاسية irreversible processes في الزمن، ومن ثم لا توجد أي وسيلة فيزيائية يعلمها الإنسان يمكن أن يسترجع بها أي أصوات أو أفعال تبددت على هذا النحو، وأصبحت خبراً بعد عين. أما تسجيل الأصوات والحركات، فهذا يتطلب ملازمة عمليات التسجيل (حبس الصوت والظل) بأجهزة خاصة معدة لذلك لحظة انبعاثها، - وهو ما يوافق معنى قوله تعالى " مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ "(ق:18)- أما وراء هذا التسجيل الآني، فلا حيلة يمكن أن يدعيها أحد في الدنيا من أهل الفيزياء، ولا حتى أصحاب الخيال العلمي، يمكن أن يسترجع بها أحداثاُ عيانية ماضية، إلاّ أن ينكسر القانون المشار إليه.
[11] "العقل و العلم في القران الكريم"، مرجع سابق، ص 293. ويقول مثل ذلك في دراسة له بعنوان: "نظرات في التفسير العلمي للقرآن"، ص24.
[12] السابق، ص 289.
 
الفصل (أ6) محمد رشيد رضا

الفصل (أ6) محمد رشيد رضا

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ6) محمد رشيد رضا​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول الشيخ محمد رشيد رضا [1]،[2]: "زاد الفخر الرازي صارفاً آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة. فهو يذكر فيما يُسميه "تفسير الآية" فصولا طويلة بمناسبة كلمة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن."

وجاء في تفسير الفخر الرازي رداً على مثل هذا الاستنكار لمنهجه في التفسير؛ حيث قال الرازي[3]: "ربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها."

نقول: إذا أخذنا ظاهر كلام الشيخ رشيد رضا (رحمه الله تعالى) على ظاهره، لوجدناه يتهم سلوك الفخر الرازي بأن ما أتى به يُعد صارفاً عن القرآن، ويصد قارئ القرآن عما أنزل القرآن لأجله! ... ونستعلم: كيف يكون ما كتبه الفخر الرازي من تفسير – وقد ذكر فيه ما ذكر – صارفاً عن القرآن؟! – هل بمعنى أنه منافس للتفسير بالمأثور، أو أنه مُكَمِّل له، يستكمل ما أهمله المفسرون السابقون الذين انحسرت معارفهم عن الوقوف على تمام معاني الآيات الكونية؟! ... ولكن الرازي لم يدّع أنه منافس للتفسيرات الأسبق، فلِمَ يتعرض لمثل هذه الإدانة، وقد برر بنفسه علة هذا المنحى، وقام على ثغرة أُهملت، فرأى أن يستوفيها حقاً بما أوتي من قدرة معرفية بالطبيعيات بأقصى ما يمكن لعالم في عصره أن يحققه؟!

إن الفرق بين الفخر الرازي وغيره من المفسرين لم يكن فقط رغبة شخصية حضرته وغابت عن غيره في التفسير العلمي للقرآن، بل كان الدافع – بعد الهمة وسعة الأفق – في افتراق ثقافة الرازي عن غيره من المفسرين الآخرين. فالرازي كان واسع الاطلاع، مُنَقِّب عن المعارف في أفكار المتقدمين والمتأخرين، موسوعي المعرفة، وهذه الخصال والامتيازات، تجعل مثله إذا قرأ القرآن يستحضر سريعاً المعاني المناظرة من غير القرآن، والتي تحضره بحكم الاشتراك الموضوعي مع ما يتكلم عنه القرآن. وإذا افتقر المفسر إلى سعة المعرفة ضاقت عليه نطاقات التناظر الدلالي بين نصوص آيات القرآن، والتي يطلع عليه جل المفسرين، وما وراءها من معارف تتناول نفس الموضوعات. فيسكت عنها، لا لأنها من غير نهج القرآن، بل لأنه لا يمتلك ناصيتها، ولا يقف على مواطن الدفاع عنها أو ضدها. ولأن الإنسان يؤثر ما يعرف، ويعادي ما يجهل، تَوَزَّع المفسرون بما أملته عليهم ثقافتهم، فكانوا في ديارهم وبيوتهم فيما يألفون من ثقافة، ويشعرون بالغربة فيما لا يألفون من ثقافة، فيستنكرون، ويأنفون، ويسعى منهم من يخشى اتهامه بالتقصير عما حققه غيره، بالهجوم وسحب الثقة، لا عن ضعف الطرف الآخر، بل عن غياب صواب الحكم الجامع للعلاقة بين الثقافتين في أغلب الأحيان.

وقد صرح الشيخ القرضاوي بشعوره بمثل هذه المعاناة المعرفية، عندما قال[4]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!." – ومما لا شك فيه أن الشيخ هنا يقصد الآيات ذات الدلالات الطبيعية والكونية، ولأنها تمثل فقط بعض آيات القرآن، فكلامه مقيد بها ولا يعم كامل آيات القرآن.

فالمسألة – التي شغلت الذين توجَّسوا وارتابوا في أمر الإعجاز العلمي- تتعلق بثقافة المفسر، لا بما ينبغي أن يكون عليه تفسير القرآن كما تنطق آياته. فثقافة المفسر تتحكم به، وتوجهه، وربما تضطره إلى أن يرفض حقاً، لأنه لا يعلم قوة دليله- أو يقبل باطلاً لأنه لا يعلم قوة دليل بطلانه، والسبب أن المفسر واقع تحت تأثير ما يظنه صحيحاً بقيوده المحلية زماناَ ومكاناً. ولا يختص ذلك بخصوم التفسير العلمي، بل يعم كل مفسر، بما فيهم أصحاب التفسير العلمي أنفسهم. فالمسألة تعود لبشرية المفسر، ولعدم إحاطته المعرفية. ومن هنا يستوجب الأمر استحضار قول الله تعالى "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"(الإسراء:36)، وقيمة هذه الآية أنها توقف المتكلم في شأنٍ ما، عند حدود معرفته به، لأن معناها: "لا تتصدى لما لا تعرفه، سواء بالإقرار، من حيث لا تتيقن من الإقرار، أو بالنفي من حيث لا تتيقن من النفي". وما حدث من الشيخ رشيد رضا، غفر الله تعالى له، أنه نفى من حيث لا دليل عنده على النفي. أما الشيخ يوسف القرضاوي، فقد كان أكثر موضوعية! وفائدة كلامه، أنه يعاني من هذه المسألة ويشعر بانحسار أفق علمه الطبيعي أمام ما يستجد، ويخشى في قرارة نفسه أن يكون هناك إشكال، ينعكس سلباً على ماضي الأمة المعرفي. والأمر ليس على هذه الصورة التي آلمته، ولكنه كان موضوعياً صادقاً، لا صاداً ولا متهماً، وإن تضمن كلامه ذلك، بل عالماً محافظاً مع درجة من الانفتاح المعرفي الوسطي المتسم بالتيسير والأريحية.

غير أن الأمر ليس على هذه الحدة الظاهرة في موقف الشيخ رشيد رضا، رغم كلامه الإقصائي لسلوك الرازي في تفسيره. فالمعالجة الدقيقة لسياق كلام رشيد رضا يظهر له موقفاً قريباً أو شبيهاً بموقف أبوحيان الأندلسي! (أنظر الفصل (أ1)) .. ولتوضيح ذلك نستحضر العبارة السابقة مباشرة لما أدرجناه من عبارته التي انتقدناه فيها حتى الآن، يقول الشيخ رشيد رضا، رحمه الله:
[كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كُتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية ، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مُزجت به من خرافات الإسرائيليات] ... ثم استكمل وقال [وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر ....] وجاء بالعبارة التي انتقدناها.

ومعنى ذلك أن الشيخ رشيد رضا يضع التفسير العلمي بالعلوم الحادثة - في افتراقها عن المقاصد العالية والهداية السامية التي يراها وحدها جديرة بعلم التفسير– في مصاف (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نُكت المعاني ومصطلحات البيان) و(جدل المتكلمين) و(تخريجات الأصوليين) و(استنباطات الفقهاء)، ومعلوم أن هذه العلوم لا يستغنى عنها، مع تفاوت، إلا أنه يضيف إليها ما هو أدنى منها مثل (تأويلات المتصوفين) و (تعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض)، ثم ما هو أشد سوءاً من ذلك من (كثير الروايات) و(خرافات الاسرائيليات).

أي أن اعتراض الشيخ رشيد رضا على التفسير العلمي لآيات القرآن ليس إقصائي، بل تصنيفي. ولهذا فهو أشبه بما سبق عرضه من اعتراض أبو حيان الأندلسي (الفصل أ1). ومن ثم، يزول هذا الاعتراض إذا عولج التفسير والإعجاز العلمي – باعتباره علمٌ خاص من علوم القرآن- مثلما تُعالج هذه الأصناف التي اعترض الشيخ رشيد على إدراجها جميعاً في علم التفسير، ونقصد بها (مباحث الإعراب وقواعد النحو) و(نكت المعاني) ... إلخ.

ومما يزكي مرونة الاعتراض وأنه ليس بالحدة التي ظهرت عليها في أول الفقرات أعلى، إدراجه للعبارة: (سنن في العالم مطردة) في "المقاصد العالية"، ثم قوله اللاحق: [إن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن، فنون العربية لا بد منها، واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن؛ ضرورية أيضا، كقواعد النحو والمعاني، وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه - كل ذلك يعين على فهم القرآن]

فالإشكال إذا في موقف الشيخ رشيد رضا يكمن في رغبته في التمييز بين تفسير القرآن الذي يريد قصره على المقاصد العالية (علم ونور ، وهدى ورحمة ، وموعظة وعبرة ، وخشوع وخشية ، وسنن في العالم مطردة)، وما وراء ذلك مما فيه فائدة فيضعه في جملة علوم مُعِينة على فهم القرآن، مرتبة تقريباً حسب أهميتها، دون أن تكون من صميم علم التفسير، وتشمل فيما تشمل في آخر القائمة "التفسير العلمي لآيات القرآن".

كما يمكننا الآن أن نفهم عباراته التي وصف فيها التفسير العلمي (في تفسير الرازي) وصفاً حاداً وقال فيها أنها (صارفة عن القرآن، ... وتصد قارئها عما أنزل الله)، فيمكننا أن نفهمها على أنه يقصد أن هذه العلوم ليست مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من مقاصد عليا. لأننا رأيناه يضمها إلى علومٍ لا يمكن الاستغناء عنها، كالقواعد اللغوية، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء.

ومع كل هذه الأعذار، يبدو وكأن الشيخ رشيد رضا يتردد بدرجة ما في قبول التفسير العلمي على نحوٍ صريح، لما يشوب نقده لتفسير الرازي من هجوم، ما استطعنا تفنيده إلا بشيء من الجَهْد. وخاصة أن هجومه شمل تسمية بعض العلوم التي تبين فسادها – كقوله: العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية - والتي اقترنت بعلوم الفلسفة والمنطق ونسبتهم جميعاً إلى اليونان، وكانت تلك العلوم محل نقد لازع من علماء الإسلام، كالغزالي وابن تيمية، كما هو معلوم. وهو ما نعُدُّه تعريضاً بالإدانة لما ظهر من فساد ظاهر لتلك العلوم، ولخروجها من غير مشكاة الإسلام، ومن ثم، لإدراج الرازي لها في تفسيره بما قد يعكر صفو التفسير الخالص. إلا أن تفسير كل مفسر بثقافة عصره منحى يصعب أن ينجو منه أحد. لهذا كانت التصويبات اللاحقة على السابقة أمر ضروري في تجلية التفاسير الأقدم. هذا، إن خلت التفاسير الأحدث من الجنوح والشرود عن الجادة.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
-----------------------
[1] الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، من أصل لبناني وتوفي بمصر. من رواد الإصلاح الإسلامي، تأهل لتدريس العلوم الشرعية والعقلية والعربية، من تلاميذ الشيخ محمد عبده. أسس مجلة المنار على نمط مجلة "العروة الوثقى" التي أسسها الإمام محمد عبده، له مؤلفات عديدة من أهمها "تفسير المنار" الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده الذي توقف عند الآية (125) من سورة النساء، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى بلغ سورة يوسف وحال وفاته دون إتمام تفسيره.
[2] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج1، ص8.
[3] تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي، في معرض تفسير قوله تعالى "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ..."(الأعراف: 54)
[4] القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي
 
الفصل (أ7) سيد قطب

الفصل (أ7) سيد قطب

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ7) سيد قطب​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ يوسف القرضاوي أن "سيد قطب[1] – رحمه الله - كان من أشد المعارضين لاستخدام التفسير العلمي في القرآن والإعجاز العلمي، ولكنه كان يستفيد من هذه الأمور في توسيع مدلول النص"[2]!!! ... وإن ثبت هذا الموقف منه – رحمه الله – لحقّ لنا أن نعُدّه تردداً أو حيرة في أمر التفسير والإعجاز العلمي، حيث لا تستقيم المعارضة مع الفائدة مما يُعارض! أو ربما أن هناك اعتراضات منه على هذا المنحى التفسيري، ثم تراجعات أو استثناءات على الاعتراضات، وهو الأمر الذي سيتأكد بمراجعتنا لبعض ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا الشأن.

يقول سيد قطب[3]: "ليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقاً من النظريات التي تسمى « العلمية » حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق. فالنظريات « العلمية » قابلة دائماً للإنقلاب رأساً على عقب، كلما اهتدى العلماء إلى فرض جديد، وامتحنوه فوجدوه أقرب إلى تفسير الظواهر الكونية من الفرض القديم الذي قامت عليه النظرية الأولى. والنص القرآني صادق بذاته، اهتدى العلم إلى الحقيقة التي يقررها أم لم يهتد. وفرق بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية. فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية أما النظرية العلمية فهي قائمة على فرض يفسر ظاهرة كونية أو عدة ظواهر، وهي قابلة للتغيير والتبديل والانقلاب . . ومن ثم لا يحمل القرآن عليها ولا تحمل هي على القرآن، فلها طريق غير طريق القرآن. ومجال غير مجال القرآن."

نقر بأن "إجمال" الموجهة بين القرآن والعلم، يسبب كثيراً من الالتباس. فالمثبت لهذه المواجهة محق من جهة، والنافي لها محق أيضاً، ولكن من جهة مختلفة! وهذه الجهة الأخيرة هي موقف سيد قطب. غير أن ترك "الإجمال" على حاله، وعدم التمييز بين الجهات المختلفة في المسألة، يبقي على التباسها، ويؤصل لإبقاء الخلاف حولها. وتفصيل ذلك كالآتي:

من القرآن محكم ومتشابه، وأغلب المسائل التي يتداولها التفسير العلمي والإعجاز العلمي، تُعد من المتشابه. ومن العلم حق، وزعم؛ أي حقائق علمية تطابق الخلق على ما هو عليه، ونظريات قد تصيب وقد تخطئ، في سبيلها إلى الطريق إلى الحقائق العلمية. وإذا أجرينا التباديل المختلفة بين وجهين من الأول ووجهين من الآخر، نخرج بأربعة أوجه يجب البت فيها على التفصيل، كالآتي:

1- المقابلة بين ما هو محكم من الآيات، مع النظريات العلمية: باطل لا محالة؛ وذلك ليقين المحكم وشك النظريات. والقاعدة الفقهية تقول أن اليقين لا ينكسر بالشك. ومن هذا الوجه، يصيب سيد قطب تمام الإصابة.

2- أما المقابلة بين ما هو محكم من الآيات مع الحقائق العلمية: فإنه جائز لأن كلاهما يقين، ويعضد بعضه بعضاً، ويستبين بعضه من بعض، وكله من عند الله تعالى، ولا حرج من الخوض فيه، ولكن فقط لأهل العلم الراسخين في كلا الطرفين في آن واحد، ودون وسيط ولا ترجمان. وذلك لأنهم أحق الناس بمعرفة إحكام المحكم في القرآن، وحقائق العلم التي تخطت احتمالات التبدل، من مثل كروية الأرض، ودورانها حول مركز ثقل المجموعة الشمسية الواقع داخل الشمس غالب الأوقات، وخارجها أحياناً، وأن الشمس تجري جرياً حقيقياً – حاملة كواكبها وتوابعها - في مسارٍ لها في مجرة درب التبانة، وأن .. وأن .. إلخ. وفي هذا النوع من المواجهة، لم يكن سيد قطب من الموفَّقين بالاعتراض، كما أنه قد اختلط عليه الأمر حين أرفق "الحقائق العلمية" مع الاحتمال حين قال "فالحقيقة العلمية قابلة للتجربة وإن كانت دائماً احتمالية وليست قطعية" إلا إذا كان يقصد أن الاحتمالية تعود إلى التجربة ونتائجها، أو تأويل من يأولها. ولكن لو كانت التجربة ما زالت مطلوبة لإثبات الحقيقة العلمية، فهي ليست بحقيقة علمية بعد، وتفقد هذه الرتبة وتتدنى إلى ما دونها، أي: رتبة النظرية.

وهذا النوع الثاني من المواجهة هو الذي سبب إرباكاً لسيد قطب رحمه الله، وذلك حين عاد وقبل تطبيقاً له، ومقابلة بين تفسير قول الله تعالى "يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ "(الزمر: 5)، ومسألة دوران الأرض (على نحو ما سنرى لاحقاً). إذ أن رفضه المقابلة كما صرح أعلى كان قاطعاً، ثم كانت عودته لقبول المواجهة، وإجرائها بنفسه، أمراً يدعو للتساؤل، وهذا ما جعله يقول صراحة (وهي صراحة لا يتسم بها إلا العلماء): [ "يكور الليل ...الآية" .. تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كُشف حديثاً عن كروية الأرض، ومع أنني في هذه الظلال حريصٌ على ألا أَحْمِل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان.] ... وكانت الإشكالية أنه صنف "كروية الأرض" باعتبارها "نظرية علمية"، ومن ثم كان الحرج ومحاولة التبرير، رغم أنها "حقيقة علمية"!

3- ثالث العلاقات أن تكون المقابلة بين ما هو متشابه من آيات القرآن، مع ما هو من الحقائق العلمية: .. وهذا مندوبٌ إليه. إذ أن المتشابه من آيات القرآن هو ما ترددت فيه آراء المفسرين، وتعددت دون ترجيح بيِّن، ودون أدلة واقعية إلاّ ما تستدعيه اللغة، والأمر يتخطاها. وهذا النوع هو ما قال فيه الشيخ القرضاوي أنه يصحح آراء المفسرين[4]. ويفند هذا النوع أيضاً عموم حكم سيد قطب بعدم المقابلة، وهو أشد من النوع الثاني، لأن الآيات موضوع النقاش متشابهة، ومن ثم لم تكن محل إجماع المفسرين، ومن هنا تستدعي استئناف أدلة من خارج اللغة لفض الاختلاف، مع السعي لأن يكون الشاهد الخارجي "حقيقة علمية"، أي محل يقين. فإن لم يكن يقيناً فيجب أن يحظى بغلبة الظن بما يُرجِّح وجه تفسيري للآيات بقوة ظاهرة فوق الوجوه التفسيرية الأخرى.

4- المقابلة بين ما هو متشابه من آيات القرآن، مع ما هو "متشابه من العلم"، وهذا المتشابه من العلم هو النظريات العلمية: ونلاحظ بالتدقيق أن الطرفين هنا من رتبة النظريات/المتشابهات؛ لذلك لا حرج من المقابلة بينهما، شريطة أن تظل المسألة في محل التنظير، ويجب ألا يرتقي بها أحدٌ من الباحثين إلى مصاف الإعجاز العلمي لعدم قطعيتها، وينبغي أن تظل في منطقة التفسير العلمي فقط حتى يتيقن أحد أطرافها على الأقل. ولا حرج من سقوط النظرية العلمية إذا تبين ضعفها، مثلما أنه لم يكن هناك من حرج في سقوط تفسير من التفاسير - قديمة أو حديثة - إذا تبين خطأه وترجحت عليه تفسيرات أُخَر، وهذا الترجيح أمرٌ شائع في اختلافات المفسرين والفقهاء. وتتم المفاضلات بقوة الأدلة، وإذا ظهرت أدلة جديدة تتفق أو تختلف يعاد تقييم الوضع. ويتقدم في التفسير أرجح النظريات مع أرجح التأويلات اللُّغوية. ولا يتعارض هذا مع منهج يعتمد مثيله الأصوليون، ويأخذون بالراجح بعلة غلبة الظن، وبما يشمل العبادات. ولم يوفق أيضاً سيد قطب في عموم رفضه للنظريات العلمية ومناظرتها مع شيء من التفسير إذا اندرجا في هذا النوع.

ويتابع سيد قطب ويقول: "وتلمسُّ موافقات من النظريات « العلمية » للنصوص القرآنية هو هزيمة لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه، وأنه من لدن حكيم خبير. هزيمة ناشئة من الفتنة « بالعلم » وإعطائه أكثر من مجاله الطبيعي الذي لا يصدق ولا يوثق به إلا في دائرته. فلينتبه إلى دبيب الهزيمة في نفسه من يحسب أنه بتطبيق القرآن على « العلم » (يقتضي السياق العكس، أي: تطبيق العلم على القرآن، إلا إذا أراد محض المطابقة) يخدم القرآن ويخدم العقيدة ، ويثبت الإيمان! إن الإيمان الذي ينتظر كلمة العلم البشري المتقلبة ليثبت، لهو إيمان يحتاج إلى إعادة النظر فيه! إن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء. أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن. وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة. كما عمل على إقامة نظام للحياة يكفل لهذا العقل أن يستقيم، وأن يتحرر، وأن يعيش في سلام ونشاط . . ثم تركه بعد ذلك يعمل في دائرته الخاصة. ويصل إلى الحقائق الجزئية الواقعية بتجاربه. ولم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً. مثل أن الماء أصل الحياة والعنصر المشترك في جميع الأحياء. ومثل أن جميع الأحياء أزواج حتى النبات الذي يلقح من نفسه فهو يحتوي على خلايا التذكير والتأنيث . . . وأمثال هذه الحقائق التي صرحت بها النصوص القرآنية."

نرى في هذه الفقرة عدداً من المسائل:

1- حصر العلاقة بين القرآن والعلم في القول بـ "تلمسُّ موافقات من النظريات « العلمية » للنصوص القرآنية لجدية الإيمان بهذا القرآن واليقين بصحة ما فيه": وهذا غير صحيح. فالمسلمون وأبناؤهم يتلقون التعليم العام، ويكتسبون المعرفة على منهج العلم الغربي، منذ ما يزيد على قرن من الزمان. ومن يقرأ القرآن منهم يواجه نصوصاً قرآنية تتحدث – في كثير من مسائلها - عما يتحدث عنه التعليم الإلزامي العام أو الخاص. فتحصل المواجهة في أنفسهم، بلا تكلف ولا اصطناع من أصحابها، ولا ينبع التحقيق في هذه المواجهة من تشكك في الإيمان ومدى صدق اليقين، بل من تبعاتها التي تسبب حرجاً بالغاً، وخاصة إذا اختلفت التفاسير القرآنية عن النظريات العلمية في ذات موضوعها. ومن أمثلة ذلك ما كان يؤمن به طلبة الأزهر من أن الرجُل له ثلاثة وعشرون ضلعا[5]، وأن المرأة لها أربعة وعشرون، وذلك لأن المرأة خُلقت من أحد أضلاعه، ومُلأ مكانه لحم. فلما أدخلت مادة الثقافة العلمية بالأزهر في ثلاثينيات القرن العشرين وشملت التشريح، انتُدب لتدريسها واحداً من أنبغ علماء مصر[6] وقتئذ، وقد واجه المدرس مشكلة إقناع الطلاب بخطأ التفاسير التي ارتكنوا إليها في شأن عدد أضلاع الرجل. واحتد الخلاف ووصل الأمر أن اتهم الطلاب مُدَرِّسهم باتهامات جسيمة لمعارضة كلامه للموروث التفسيري في هذه المسألة، وكاد أن يستقيل بسببها.

ومثال ثانٍ، يتعلق بما يدرسه الطلاب في المدارس من حركة الكواكب ومنها الأرض حول الشمس، ومعارضة التفاسير الموروثة لهذا الأمر، وإصرار عدد من رجال الدين في الجزيرة العربية على صحة الموروث التفسيري في هذه المسألة[7]، وهو الأمر الذي يضع الطلاب في حرج بالغ، يستتبعه اهتزاز ثقة الطلاب في أحد مصدري المعرفة: الدين أو العلم، أو كليهما.

وتتكرر مثل هذه المواقف المحرجة ربما دون الإعلان عنها. وهو الأمر الذي يدعو إلى وضع آلية عمل بين "أولي الأمر العلمي"، لحسم أي خلافات بين مقولات التفاسير الموروثة ومقولات العلم المستدل عليه، ولا يمثل الإعجاز العلمي إلا فرعاً واحداً من هذه الآلية المقترحة، غير أنها تقع بالتأكيد في قلب مسألة التفسير العلمي للقرآن والحديث النبوي.

2- حديث سيد قطب عن الافتتان بالعلم، والظن بأنه قد تسبب في هزيمة نفسية، وأنه بتطبيق القرآن على «العلم» أو «العلم» على القرآن، فإنه يخدم القرآن ويخدم العقيدة، ويثبت الإيمان! أمر غير وارد على هذا النحو في دعوات التفسير والإعجاز العلمي! بل الوارد والحاصل أن هذه الدعوات – إذا توجهت للمؤمنين - قد دعت إلى التحصن بالقرآن ثقة فيه ودفاعاً عنه، في مواجهة تشكيكات العلمانية اللادينية، والمبثوثة في الكتب العلمية، والمتشحة بوشاح العلم. ويقول لسان حال أصحاب هذه الدعوات أن القرآن يزيد في الصفة العلمية عن العلم العلماني التصور، وأنه يعلو ولا يعلى عليه، لا أنه صحيح بتوثيق من العلوم (أي النظريات) المتهافتة وإقرار منها. إلا أن هذه الدعوة قد تصح لا باعتبار أن تطبيق العلم البشري الصناعة على القرآن يخدمه، بل باعتبار أن موضوع العلم من حقائق واقعية مكتشفة مخلوقة في ذاتها لله تعالى تؤيد وتدعم كلام الله تعالى، فتصدقه وتشهد له. وهذا لا حرج فيه. فكلا الطرفين من الله، ويستوي ذلك والقول بأن القرآن يصدّق بعضه بعضا، لأن القرآن كله من الله تعالى، وكذلك الخلق والقرآن من الله، فلا مشاحة في سؤال المخلوقات عن معاني القرآن في شأنها، وسؤال القرآن عن مخلوقات الله وإبداعه تعالى فيها، ثم الاستشهاد بذلك نصرة لله ودينه الحق.

3- أما القول بـ أن القرآن هو الأصل والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء، فيحتاج إلى مراجعة في شِقِّه الثاني؛ والسبب أن مخالفة النظريات العلمية للتفاسير الموروثة والشائعة في مشترك الموضوعات، أمر مشكل، ويضع طلاب العلم في حرج بالغ، وفتنة محرجة، ولا تخفى إشكالية خلق آدم بين تقرير النصوص الدينية والداروينية التطورية التي تزعم ظهور مشابه لآدم كبقية الأجناس الحية على اتصال تطوري من خلية أولية. فالأمر ليس كما قال سيد قطب: "سواء"، إلا إذا كان طلاب المسلمين يستظهرون العلم الحديث ولا يفهمون مراميه، أو يستظهرون القرآن ولا يفقهون آياته الكونية. وهذه فتنة علمية يقع حل إشكالاتها على عاتق الجهات التعليمية الدينية والعلمية.

4- وأيضاً القول بأن مجال الحقائق العلمية التجريبية غير مجال القرآن، وأنه لم يتعرض لذكر شيء من الحقائق العلمية إلا نادراً. محل نظر ومراجعة! إذ أن وجود مئات الآيات القرآنية التي تتحدث عن حقائق علمية في كل المجالات يجعل تلك الآيات نصوص قانونية في هذه المسائل، ولا يمكن تجاهلها فيما تخبر به، أو الاكتفاء بالتعبد بها ترتيلاً، لا فهماً وتعقيلاً، وإلا لحقنا من ذلك ملام القرآن نفسه بقول الله تعالى "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24). وقد جوبه الفخر الرازي بمثل هذا الاستنكار (أو قدَّره الرازي)، فكان جوابه[8]: "ربما جاء بعض .. وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم، وذلك على خلاف المعتاد! فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته، وتقريره: أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذَكَرَ هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها، والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها". وإذا كان الذين يتعرضون لتعلم هذه الأمور في زمن الرازي هم فقط من دفعتهم همتهم إلى تعلمها، فإنهم اليوم في زمن العلم الحديث سواد الناس، والصمت على خلافات التفاسير ومقولات العلم تنذر بكارثة محققة، وما توزع المتعلمين بين تعليم ديني يقدس التفاسير الموروثة دون غيرها، وتعليم علمي يقدس النظريات الغربية دون غيرها، إلا مظهر مُشين لهذا الشقاق بين دينيين وعلميين، أو بالأحرى؛ بين إسلاميين وعلمانيين. وهذه هي جذور الفصام التعليمي والثقافي والسياسي في الأمة الإسلامية، بل للحضور أو الغياب الإسلامي في العالم أجمع.

5- والقول بأن القرآن قد ترك للعقل البشري يعمل في الحقائق العلمية التجريبية بكامل حريته، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والإستقامة والسلامة، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة، قول صحيح، إلا أن هذه المنطقة – منطقة صحة العقل وسلامته وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة - قد دخلها العلم الغربي أيضاَ – وبإسم "العلم"- وأصبح يرتع فيها كما يحلو له، ويزيف المنطق العلمي، ويشوه الفطرة العقلية، ويلبس الحقائق بالأوهام، والوقائع بالأساطير، والعقلانية بالخرافة. ولو لم يجد طلبة العلم، من أهل القرآن، من يرشدهم ويعيدهم إلى جادة الطريق في هذه المسائل، لضلوا في مجاهل طرق الفكر الغربي المنهجي الشاطحة والمضلة. ولأن العقل السليم، والمنهجيات القويمة، لا تبنى في الهواء، ولا تُرسم على صفحات الخيال دون إعمال، لزم أن تجسدها الآيات، وتقابلها المناسبات، وتتلقاها عيون المسائل والظاهرات. فالمواجهة مع حقائق – أي: وقائع- العلم ونظرياته حتمية، والهروب منها ذو دلالات انتكاسية.

يقول سيد قطب[9]: "إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته . . أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته. بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه . . والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه - وهو (أي الإنسان) أحد أجزائه - ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته . . ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي."

نقول: إن "الإحاطة بالقرآن" لا تتبع بالضرورة حفظ متنه، ولا سرد بعض تفاسيره المطوَّلات، ولا كثرة ترتيله، ولا تحليل بعض تراكيبه، ولا تدبر بعض آياته من هذه الزاوية أو تلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبّ حامل فقه ليس بفقيه"[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم "ولا يشبع منه العلماء"[11]، وعدم الشبع يعني العطش الدائم لعطاءات القرآن، أي دوام الارتواء المعرفي رغم عدم تمام الإحاطة به. وكل ما ذكرنا من إلمام بشيء من القرآن، يفاضل بين أهل القرآن في العلم به، ولكنه لا يقف على حدوده البعيدة، إن كان له من حدود، ولا يزعم تمام امتلاكه، واكتمال الوصاية عليه إلا واهم مغرور. وأي حكم إجمالي عن القرآن – عن ما يحتوي القرآن وما لا يحتوي - لا يزيد – في اصطلاحات المنهجيين - عن كونه "استقراء ناقص". والقاطع بصدق أحكامه في إحاطته بالقرآن ومراميه وغاياته وأنه قد أحاط بكل معانيه، ولم يَدَع منها شيء، يَدَّعي مستحيلاً، ويلتحف غروراً. فالقرآن كنزٌ معرفي، لا تتكشف أسراره إلا بِقَدَرْ، ولا يقطع بدلالات متشابهاته المعلقة – بلا سلطان محدث - إلا مقتحم حمى الله مُتَجَرّئً عليها. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يصح لكائنٍ من كان، أن يدعي أن القرآن فيه أو ليس فيه من العلم شيئا؟! – فالقائل بهذا لا يقول به إلا اعتماداً على تنظيره عن القرآن، ومعلوم أن التنظير محل أخذ ورد، وقبول ورفض، أما القطع ففي مسألة مسألة، والحكم في فقه المسائل له شروطه وضوابطه وقيوده. وأخطر ما يطلق من أحكام على القرآن هو المجمل منها، وهذه مخاطرة، لأنها تقتضي الإحاطة التامة. وهذا شأن الله وحده، سبحانه، لا يعلم أسرار كتابه على تمامها إلا هو.

ويُعد التمييز بين "الإنسان" في جهة، والعلوم المادية والإبداع فيها في جهة أخرى، والقرار بأن القرآن يتعلق فقط بجهة الإنسان، ولا يتعلق بالجهة الأخرى، يُعدان من هذه الأحكام الإجمالية. وربما كان هذا الحكم موافق للواقع الرتيب في علاقة الإنسان بالعلوم المادية عندما كان يقف فقط على شواطئها، ولم يلج بعد مياهها العميقة. أما وقد أصبح غريقاً في طوفانها، مذروٌ في عواصفها، يجاهد البقاء وينافح عن النفس الهواء، امتزج الإنسان بالمادة، وذابت المادة بالأنفاس. وانكسرت بينهما حواجز ظلت منيعة، وأصبح الإنسان ركام من الذرات، والذرة طيف له إرادات. وأصبحت العلوم المادية مرتكزات للأيديولوجيات؛ رأيناها في الاشتراكية وقيامها على المادية الجدلية، والرأسمالية وقوامها على الحرية والملكية المادية. وتشكلت تصورات الإنسان بأيديولوجيات المناهج المادية، فلا بداية إلا من نقطة مكانية زمانية وما قبلها عدم، ولا بقاء بعد البرودة الكونية، وما بعدها عدم. وما غير المادة في الكون، إلا معدوم في الأكوان، موهوم في الأذهان، لا غاية ولا هدف في عقل إنسان، ولا خلق ولا إبداع في نفس فنان. ولا عقل ولا ذكاء إلا ذرات في حركات والتقاءات. ولا ضرورة لقوانين أو سنن، ولم يكن لها من سبب إلا أنها كانت ثم زالت. وكل ذلك قائم على علم وتجريب ومزاعم أمرها مُريب. وإن قلت: قال الدين، ضحك أصحاب العلم، وقالوا لا دين في العلم ولا علم في الدين. وإن قلت قال الله في الخلق، وقال الله عن السماء، وقال الله عن الأرض، قال أهل الدين، دعها لهم، فربهم أعلم بها من ربنا! ربهم رب العلم، أما ربنا فرب الإنسان! أرادوني إنساناً بلا علم، أو ذو علم ولا إنسان.

ونسألهم: هل الاقتصاد وقوانينه المالية في الربح والخسارة والعرض والطلب، إنسانية أو علمية مادية؟! فإن قالوا: علمية مادية، قلنا قد حكم علائقها القرآن، فقالوا: بل إنسانية! قلنا وكيف تحمكها المعادلات الرياضية، .. سكتوا وأُخذوا، ثم قالوا: لا نعلم!!

ونسألهم: ما الصافات؟ قالوا: الطيور! – وما الذاريات؟ قالوا الرياح! – وما العاديات؟ - قالوا الخيل! – وما وما وما ؟ قالوا مثل ما قال الأولون، لا دليل عندهم إلا معاجم الأقدمين، اشتبهت عليهم الألفاظ فظنوا أن الوصف إسمٌ، والمثل عينٌ، واللفظ صنمٌ، والمعاني قد أغلقت حوانيتها، والدقيق لا يخبز إلا قديدا. ضيقوا الدنيا، بعدما وسعها رب الدنيا والآخرة، وأنزلوا الإصر بعدما رفعه الله، وغربوا الشمس بعد أن أشرقها الله، ورفعوا القرآن بعد أن أنزله الله، وحبسوا النور بعد أن حرره الله! كل ذلك في أوهامهم، وما كان إلا ما أراد الله.

يتابع سيد قطب ويقول: "وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها. كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه! ... إن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها . . لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها . . والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه. بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره. كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطىء ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح."

نقول: هل إذا تكلم منزل القرآن سبحانه وأقسم بما خلق من مثل .. مواقع النجوم، والشفق، والليل وما وسق، والشمس، والفجر، والخنس الجوار الكنس، والصافات، والذاريات، وما تبصرون ومالا تبصرون ...، ونحن لا ندري ما هي مواقع النجوم، ولا الخنس، ولا .. ولا.. ولا .. على وجه يشفي الغليل، ويصل السبيل .. ثم يأتي الرصد والتنظير، يقرب البعيد، ويفحص القريب، ويعلل ويفسر ويحلل ويقول إن الراجح هنا، والسر هناك، والخبر هنالك هو كيت وكيت وكيت ... فنفهم لما قال الله تعالى ما قال، ولما أقسم بما أقسم. هل في ذلك ما يشين القرآن، ويخدش القسم، ويحرج المؤمنين ... إلا ربما من صدَّق تفسيراً بلا دليل، وحنط المعاني بلا تأويل؟!

وماذا لو أن الإنسان قد وضع الـمُقْسَمات بها في علوم سماها: فلكاً وكيمياء وهندسة وطباً وغير ذلك، أتتغير قيمتها وتنتكس هامتها إذا انتسبت لعلومٍ سمَّاها الإنسان؟! .... وعندها نحذف معانيها التي خُلقت فيها، ونبقي مجازيات القسم، وبلاغة النظم ليكونا العلة والغرض، فنبطل المعنى ونبقي الصورة، ونطمس المضمون ونبقى النظم؟! ألا يدخل هذا في التحريف المبطل للمعنى، والتعطيل، إلا لما فهمه الأقدمون؟!

إن موضوع القرآن الذي هو كامل فيه، لا يقرره متعلم قبل أن يكتمل تعليمه! .. ولأننا نتعلم من القرآن، فلا ينبغي أن نصادر على ما لم نعلم بعد. إن القرآن خالد ونحن فانون، ولا تنتهي عجائبه ونحن ذاهبون، فأنّى لنا نصادر عليه، ونزاحم بأنفسنا صدارته. ومن يتبع من؟ أنحن تابعون له أم القرآن تابع لـمُصادَراتنا. إن جُل ما يفعله المؤمن العالم أن يقول الذي هو أحسن مما قيل واهترأ، في مسألة مسألة، فيزيح هزيلاً، وينبذ سخيفاً، ويعلي صحيحاً، ويقدم رئيساً، ... بأدلة ساطعة، براهينها بارعة، مفاهيمها دانية، لا هي مبتورة ولا مضنونة. أما الإجمال، ثم الاستدلال، بما لا يعضده إلا الظن والخيال، فليس من طبع من أراد رضا الرب، وحسن المآل.

ويستكمل سيد قطب ويقول: "كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه . . لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه « حقائق علمية » مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره. إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أياً كانت الأدوات المتاحة له - فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها . . فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!"

نقول: لا يجادل مؤمن في أن "الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة"، ولكن يمكن الاقتراب من هذه الحقائق النهائية بحقائق غير نهائية (ولكنها أقرب إلى النهائية مما سواها)، وسنمثل لذلك بنسبة رياضية لا يعلم قيمتها الحقيقية إلا الله سبحانه، وهي لا نهائية على الحقيقة، وكيف أن الإنسان يقترب منها دوماً بما هو أحسن من سابقه، وذلك على النحو التالي:

القيمة الحقيقية النهائية لقيمة نسبة محيط أي دائرة إلى قطرها تعطى من العلاقة الآتية (ط):
[……….. 26433 23846 89793 26535 3.14159 ] وبلا نهاية من الأرقام العشرية
ولكن الإنسان استطاع الاقتراب من هذه القيمة اللانهائية بقيم نهائية عبر التاريخ[12] كالآتي:
- القرن السادس والعشرين قبل الميلاد (بناة الهرم الأكبر والأوسط) ط = (22 /7)
- القرن العشرين قبل الميلاد (بردية رند Rhind المصرية القديمة) ط = (16/ 9)2
- القرن التاسع عشر قبل الميلاد (البابليين) ط = (25 /8)
- القرن التاسع قبل الميلاد (الهند) ط = (339 /108)
- القرن الثامن الميلادي (الخوارزمي) ط = (3.1416)
- القرن السابع عشر الميلادي (إسحاق نيوتن) ط = (2 89793 26535 3.14159)
- سنة 1949 (D. F. Ferguson ، John Wrench) ط = 3 + 1120 رقم عشري
- 17 أكتوبر 2011 (Shigeru Kondo). ط = 3 + (10,000,000,000,050 رقم عشري)[13]

وعلى ذلك، فليس من الخطأ المنهجي (كما قال سيد قطب).. أن (نقترب من ، ولا نقول نعلق) الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. فالقيمة الحقيقية النهائية لـ (ط) لا يعلمها إلا الله، ولكننا نقترب منها دوماَ. والأقرب أقرب إلى الحق. فإن قيل: وما علاقة القرآن بهذا المثال، قلنا أننا نثبت هنا صحة المنهج بين الحق المطلق اللا نهائي عند الله سبحانه، وصلاحية الحسابات والتجريبيات والتنظيريات الإنسانية (بعد تحقيقها وتنقيحها) في مدى قربها من هذا الحق اللانهائي.

ويذكرنا هذا المثال الذي أتينا به، بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن من هو أعلم الناس: قال[14]: [أعلم الناس أعلمهم بالحق إذا اختلف الناس] ، والشاهد هنا أن معرفة الحق من أعلم الناس لم تكن إصابة عين الحق، بل أن يكون الأعلم بين الناس بالحق، أي الأقرب إلى الحق. ... وهذا هو ما قصدناه من الاقتراب الدائم من الحق، دون الزعم بالإحاطة الكاملة به أو مطابقته، وهو الأمر الذي لا يستطيعه أحد، وإلا لأصبح علمه بالحق كعلم الله به – سبحان الله وتعالى عن أن يساويه غيره في شيء.

يتابع سيد قطب ويقول: "هذا (أي ما سبق) بالقياس إلى « الحقائق العلمية » . . والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى « علمية ». ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية، وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره، وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه . . وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها . . فهذه كلها ليست « حقائق علمية » حتى بالقياس الإنساني. وإنما هي نظريات وفروض. كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية. إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق! ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!"

نقول: تدخل هذه المنطقة التي يتكلم عنها سيد قطب في النوع الأول والرابع من أنواع المقابلات بين القرآن والعلم التي سبق أن صنفناها أعلى، فليرُجع إليها، وكما قلنا هناك: أنه إذا كان متعلق القرآن من ذلك محكمات، ومتعلق العلم نظريات في عيون الموضوعات، فمُحكم القرآن يمحو النظريات، وإن كان متعلق القرآن متشابهات الدلالة، يتم الترجيح بين تأويلات المتشابهات وترجيحات النظريات، وما تُقَدِّمه الأدلة يتقدم، وما تؤخره يتأخر.

وكما قلنا قبل قليل، أن المسلم مكلف باتباع الأرجح والأقرب إلى الحق الذي قامت عليه الأدلة، وبما يستطيعه الإنسان الجاد، وليس إصابة عين الحق، طالما أنها إصابة بعيدة عن الإمكان، كما قال تعالى "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"(البقرة: 286). وإذا كانت المسائل مما أصبح من متطلبات التعليم والمعرفة المعاصرة، فقد خرج عن أن يكون من الترف الفكري، وأصبح أهماله أضر من اعتباره، ووجب عندها على أهل المعرفة بالله ودينه والتربية الصحيحة لأبناء المسلمين ألا يتجاهلوا هذه المسائل التي تثير الإشكالات، وأن يعالجوها بما هي أهلٌ لها.

ويتابع سيد قطب ويقول: "وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي. (فندنا ذلك أعلى) كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم . .
الأولى : هي الهزيمة الداخلية (فندناها من قبل) التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة."

نقول: فيما يخص الهيمنة العلمية، نقول: أن النفس تنقاد والعقل يسير طوعاً مع الغالب، وغلبة أهل الباطل بالعلم التجريبي طافحة، والفتنة في العيون بارقة، والمؤمنون مستكينون يستنزلون الملائكة والرحمة من ربهم، يظنون أنها مخازن المستكينين، بل المتمسكنين. فإن دعوتهم للانطلاق من كتاب ربهم، قالوا إنه دينٌ لا علم، فالدين لله وللدنيا علومها، فراحو وأعرضوا. وإن قلت علوم الدنيا إذاً، قالوا إنها غربية لا دينية، فلا عبرة بها، واتباعها ضلال، لأن متبعها يوالي أصحابَها ويَذْكُرهم بالخير لا محالة، وقد نهى القرآن عن اتباعهم. وإن دَعَى فقيهُهم إلى الأخذ بأسباب القوة والعلم الحديث، فليس إلا ذراً للرماد في العيون، فيخرج من العتاب، ويلقى من ولاة الأمر الثواب، وأن الإسلام حضارة ويدعو إلى التقدم والنضارة؛ تمتمة إعلام، وفض مجلس، وعلى الدنيا السلام. فإن عاد إلى خزانة كتبه القديمة، وجدته يعاند ما قال، وتخالفه نفسه خوفاً من الفتنة، ولو كانت النتيجة أن يعض على جذع شجرة!!! .. مأساة معرفية، كأن أصحابها في غير زمانهم يعيشون، حيارى لا يدورن أيان يُنصرون.

وإن قيل عن أصحاب التفسير والإعجاز العلمي أن " العلم (عندهم) هو المهيمن والقرآن تابع "، اُلبست الأمور غير لباسها، واتُّهم المجتهد الغافل بكل نقيصة، تُقْصِيه عن جادة الطريق من أقصر طريق. فما أسوأ الذم في مقام المدح، وما ألذعه على النفس وتحسرها من تهمة هي منها براء. هل إن لبس الحق رداءاً أخضراً أو أحمراً يتغير؟! وهل إن لبست الغفلة عمامة أو عباءة تتجمل؟! – فماذا إن حمل العلمُ حقاً، وطفحت التفاسيرُ حشواً ؟ أنترك الحق ونتبع الحشو، أم تترك الأمة دينها وتجري وراء العلم الغربي بقضه وقديده، وتظل الأزمة طاحنة. ولو قلت: كيف؟! قالوا إن الدين لله ابتهالٌ وصلاة. فإن عُدْت من طلب العلم الواجب، وأديت فرض ربك الواجب، فقد أديت الندائين ولا ملام. فإن قلت هذا في وادٍ وهذا في وادٍ! .. قالوا: لا تُلبِس الدين بالعلم والعلم بالدين. فللعلمُ موضوعٌ غير الذي للدين. فإن قلت: ليس لي قلبين! قالوا: كن سميعَاً مطيعا! .. قلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، سندافع عن رأينا ولن نستكين.

يتابع سيد قطب ويقول: "الثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناءاً يتفق - بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية - مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي. حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!"

نقول: هل نادى التفسير والإعجاز العلمي بـ "استلام المعلومات المادية جاهزة" واعتزال التجريب والرصد والتنقيب؟! – ما رأينا ولا سمعنا ولا فهمنا من أصحابه مثل ذلك! – نعم "إن القرآن حقيقة نهائية مطلقة " ولكن ما فائدة التمتمة بذلك، دون صياغة هذه الحقيقة بلغة هذا الزمان واصطلاحاته، والتي لا يفهم الناس سواها، ثم في تفعيلها في النفوس وميادين العمل على تنوعها؟! – ثم إن هذه الحقيقة النهائية ما زالت تتوالى ولم تنغلق أبوابها؛ فمن يوالي قراءتها - ليتشربها منه الناس عذباً فراتا - وأهل الدين عن ذلك معرضين أو غافلين أو صادين، .. فيحق حقها ويفند زيف المزيفين؟!

ويتابع سيد قطب ويقول: "الثالثة: هي التأويل المستمر - مع التمحل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تَثْبُت ولا تستقر. وكل يوم يَجِدَّ فيها جديد. وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا."

نقول: أي ضير في تأويل مستمر لمتشابه الدلالة في القرآن والخلق، وأين الأمر بالتدبر ودوام النظر والتفكر! أم أن الاجتهاد حفظ المتون، وتعليق الإجازات الدراسية على الجدران، والنشوة بكل لقب في العلم رنان. إن الحق لا يظهر إلا بمغالبة الباطل، وتعاركهما، وما بقى تشابه وتدبر إلا لدوام الأمر بتصحيح مفاهيم في الدين بالعلم، ومفاهيم في العلم بالدين. وهل إذا انحرف مفسر ومبطل، هل بغير العلم ترده إلى صحيح الدين. أم أن "العلم" قد سُرق أيضاً يوم سرقت علوم المسلمين؟!

يتابع ويقول: "ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات - ومن حقائق - عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن . . كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:53). ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله. وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا. فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:
يقول القرآن الكريم مثلاً: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا"(الفرقان:2) ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون . . الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا . . وبآلاف من الخصائص . . هي التي تصلح للحياة وتوائمها. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة . . هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" وتعميقه في تصورنا . . فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه . . وهكذا ..
"

يقر سيد قطب بما قلناه، ولكنه سيستثني من ذلك نوعاً – سيسرده الآن - يظنه مغايراً، غير أنه هو هو، إلا أن قائلوه جهال، والرد بتجهيلهم أولى من الرد بهدم المعبد على كل من فيه، عقلاء وخُبلاء، أو فُضلاء وخبثاء. فالعقل والفضل لمن حق الحق ولزم والتزم، وغيرهما من آثام لمن شرد ومكر وألبس الباطل حقاً، والعلم جهلا.

يقول: "هذا جائز ومطلوب . . ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً ، هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ"(المؤمنون:12) ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان . . فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية، لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!

لا. إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية. فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يُبطلها. وهي مُعَرَّضة غدا للنقض والبطلان .. بينما الحقيقة القرآنية نهائية. وليس من الضروري أن يكون هذا معناها. فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية . . وكفى . . ولا زيادة . .
"

هناك فرق بين إغلاق مبدأ المواجهة بن تفسير القرآن ومقولات العلم، وبين تخطئة المخطئ وردع المتجاوز. وكم من العلماء في الإسلام وتاريخ العلوم التجريبية الذين أخطأوا وأفحشوا، فلم يكن خطؤهم إلا على أنفسهم، ولم تتعطل مسيرة الركب في علوم الإسلام في قرونه الست الأولى، ولا التجريبيات، ولا الرياضيات، ولا الفلكيات، من جراء التباس فهم الغافلين والعابثين. ولا يكون رد الفعل هنا منع الأصوات عن آذان الناس، بل شجب النشاز، وفضح الغوغاء، وردع الندب والصراخ. وغرضنا من ذلك أن لا يُقطع الطريق على مبدأ البحث العلمي في القرآن لمجرد أن البعض يُخطئ، بل يكفي من الضبط ما يكبح التهور، أما الحجْر فيمنع الفهم مع الزيع، والخير مع الشر. فالقول (كفى .. ولا زيادة ..) هو الحجر عن التدبر، والمنع عن الفهم، وتثبيت مبدأ أنه لن يقال أفضل مما قيل!

ويأتي سيد قطب بمثال آخر ويقول: "يقول القرآن الكريم: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"(يس:38) فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري . . ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية. ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية . . ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان . . أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية - في أن الشمس تجري – وكفى، فلا نعلق هذه بتلك أبداً."

يشارك سيد قطب عملياً إذاً في التفسير العلمي! إنه ينخرط في النقاش العملي، ويقبل ويرفض، وهذا جيد. غير أنه ما زال يعترض الطريق، وأقرب إلى سده من انفراجه على مزيد من التحقيق. فالآية الكريمة لم تقل "والشمس تجري" وسكتت، بل قالت "والشمس تجري لمستقر لها"، فلم تكن الإفادة فقط محض الجريان على نحو ما أراد سيد قطب إنهائها، بل في عدة إفادات: الجريان، وأن الجريان لمستقر، وأن المستقر لها وليس بالضرورة لغيرها معها. هذا إذا لم نقرن هذه العبارة من الآية (يس: 38) مع باقي الآية، ثم مع آيات أخرى تكلمت عن الشمس أو الأجرام في السماء. يتضح إذاً أن الباب منفتح للنقاش في مسائل التفسير العلمي.[15]

ويتبقى السؤال: لماذا أراد سيد قطب إغلاق النقاش سريعاً دون الوصول إلى مزيد من النتائج؟! هل هو التردد؟ هل هي الرهبة من الجرأة على تفسير القرآن على غير ما عهده جمهور المفسرين؟! أم هل لأنه من غير المتخصصين في موضوعات التفسير كالفلك والفيزياء في حالة الشمس ومسائلها؟! – ربما تكون جملة من هذه الأسباب قد اجتمعت عليه. غير أنه يَقبل مبدأ النقاش على أي الأحوال.

ويتابع سيد قطب قائلاً: "ويقول القرآن الكريم: " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا"(الأنبياء:30) ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها . . فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية. ونقول هذا ما تعنيه الآية القرآنية! - لا . . ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية. وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة. وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء . . كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية . . ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!"

وفي هذا المثال، يفك سيد قطب الارتباط المزعوم للآية مع نظرية تَشَكُّل المجموعة الشمسية، والذي ذكره مفسرون قدامى، وظنوا أن الأجرام القريبة التي رأوها تدور ظاهرياً حول الأرض؛ أي الشمس والكواكب، أنها هي السموات. وحق له أن يفعل ذلك. حيث أن هذا التفسير القديم شديد الضعف. وقد بدى من لواحق التنظيرات العلمية (كوبرنيكوس)، والرصد الفلكي (تيكو براهيه)، وتحليل البيانات (كبلر)، ووضع المجموعة الشمسية في محيطها القريب والبعيد من الكون (هابل)، أن علاقة الشمس ومحيطها الكوكبي بالآية غير وارد. ومرة أخرى يثبت سيد قطب أن المقابلة قائمة وقابلة للبت فيها، حتى وإن كانت بسلبية العلاقة. ونحن على يقين أن قدرة سيد قطب التحليلية لن تتخاذل أمام الحقائق الموضوعية إذا ما كان هناك أطروحات تفسيرية علمية قوية تتأبى على السلبية وتشق طريقها لإيجابية المقابلة مع آيات في القرآن، وهو الأمر الذي سيتأكد عند نقاشه لآية تكوير الليل والنهار.

ويغلق سيد قطب هذا التجربة التفسيرية بقوله: "وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق . . وفرق بين هذا وذاك."

ورغم أن هذا الغرض الذي سعى إليه سيد قطب كان أحادي الاتجاه، أي من العلم الحديث إلى الآية القرآنية، وهو الأمر الذي تحرَّج منه من قبل، بل وهاجمه، عندما قال أن القرآن ليس بحاجة إلى العلم ليثبت، فإذ به يجد للعلم فائدة في توسيع مدلول الآيات. غير أن محاولة سيد قطب تضيف بُعداً أخر، ألا وهو تضعيف أو تجريح تفسيرات علمية قدمها مفسرون آخرون، وهو أمر جيد وفائدته لها قيمتها في صلاحية مبدأ المقابلة بين القرآن والعلم. ولو أن سيد قطب كان له مزيد من الخبرة في المسائل ذات الطابع العلمي الفلكي والتجريبي، لكان له إسهامات في التفسير العلمي. والأمل أن تشجع تحليلاته – التي نُبرزها هنا - آخرين، على مواصلة المحاولات، وإيجابية المواجهات، سواء لفهمنا لآيات القرآن، أو لتقييمنا للقيمة الحقيقة للنظريات العلمية، وخاصة إذا تعارضت مع آيات محكمات الدلالة، وهو ما فصلناه أعلى في العلاقات الأربعة التي اقترحناها بين القرآن والعلم الحديث.

ونتساءل: هل تخطَّى الأمر الانخراط الجزئي لسيد قطب في تجربة التفسير العلمي؟ - الإجابة هي نعم، فقد جاء على لسانه: أنه قُسِر على ذلك!!! ... فما الذي قَسَرَهُ على إعادة النظر في تأييد التفسير/الإعجاز العلمي؟ ... لنستمع له!

يقول سيد قطب[16]: ""يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ""(الزمر:5). . تعبير عجيب يقسر الناظر فيه قسراً على الالتفات إلى ما كُشف حديثاً عن كروية الأرض! ومع أنني في هذه الظلال حريص على ألا أَحْمِل القرآن على النظريات التي يكشفها الإنسان، لأنها نظريات تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتبطل غداً. والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته، ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل! .. مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسراً على النظر في موضوع كروية الأرض. فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة على وجه الأرض. فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس؛ فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهاراً. ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور. وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار. وهذا السطح مكور فالنهار كان عليه مكوراً والليل يتبعه مكوراً كذلك. وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخرى يتكور على الليل. وهكذا في حركة دائبة: "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" . . واللفظ يرسم الشكل، ويحدد الوضع، ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها. وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيراً أدق من أي تفسير آخر لا يستصحب هذه النظرية."

هنا امتلك سيد قطب ناصية الظاهرة الطبيعية لحدِّ كبير، من كون الأرض كرة تدور أمام الشمس، وأن النهار هو نصف سطح الكرة المضيئ، والليل هو النصف المقابل الذي يعس في ظل الأرض، وقد غشاها بظلمته. ثم كيف أن الدوران يجعل من الليل والنهار وشاحان يتكوران ويمسحان وجه الأرض على الدوام. ولما قَبَض سيد قطب على الظاهرة إلى هذا الحد ازدادت جرأته، وتكلم بلسان المفسر العلمي، وأصحاب الإعجاز، يدافع عن التفسير، ولا يبدو أنه يمنع ضمناً أن يكون إعجازاً! ونتساءل: ماذا لو امتلك سيد قطب نواصي غير ذلك من ظواهر طبيعية، واستشف وجود معانيها في القرآن؟ - ونجيب، أننا لا نحسبه عندئذ، إلا أحد المفسرين العلميين الذين هاجمهم، وانتقد مسعاهم! – الأمر إذاً أكثر تفصيلاً وأرحب تأويلاً من محض الزعم بأن سيد قطب هاجم التفسير العلمي والإعجاز العلمي. ويمكن القول أنه تحفظ الأمر واتقى الشبهات وتردد فيما يقبل وما يرفض، وقد قيدته حدود المعارف، ثم أطلقته لما رأى ما لم يكن يراه.

ونضيف هنا أن سيد قطب لم يمنع أن يحتوي القرآن على التاريخ كما فعل "محمد أحمد خلف الله" في كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، وسوف نقابله لاحقاً، ولا كما فعل "عبدالوهاب المسيري" في مقالته "التفسيرات الحرفية للقرآن" وغيرها، وهو ما سنراه لاحقاً أيضاً، إلا أن سيد قطب يضع الهدف التاريخي خادماً للهدف الديني، ومن ثم يأتي تبعاً له، أو لنقل: أن الهدف التاريخي من الدرجة الثانوية في الأهمية وليس الأولى، فنجده يقول[17]: "من آثار خضوع القصة في القرآن للغرض الديني أن تعرض بالقدر الذي يكفي لآداء هذا الغرض، ومن الحلقة التي تتفق معه، فمرة تعرض القصة من أولها، ومرة من وسطها، ومرة من آخرها؛ وتارة تعرض كاملة، وتارة يكتفى ببعض حلقاتها، وتارة تتوسط بين هذا وذاك، حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك. ذلك أن الهدف التاريخي لم يكن من بين أهداف القرآن الأساسية كالهدف القصصي سواء؛ فسارت القصة وهدفها الأول هو الهدف الديني" وانطلق يشرح الوجوه التي سارت عليها بعض آيات القصص القرآني في ذلك.
غفر الله له، وتقبله مع الشهداء.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب
---------------------------
[1] سيد قطب ابراهيم الشاذلي (1906-1966)، مُنظّر إسلامي، وكاتب وأديب، وكان عضواً في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، أنهى دراسته بدار العلوم عام 1933، وفي بداية الأربعينيات عمل مفتشاً للتعليم وزاد شغفه بالأدب العربي، فألف: "كتب وشخصيات"، و"النقد الأدبي - أصوله ومناهجه". ثم تحول إلى الكتابة الإسلامية، فكتب "التصوير الفني في القرآن". سافر إلى الولايات المتحدة سنة 1948 لدراسة التربية وأصول المناهج، عاد سنة 1952 متأثراً بفرح الأمريكان وسرورهم باغتيال حسن البنا، والذي لم يكن له علاقة سابقة به وبحركته! انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وفي حادثة المنشية التي قيل أن جمال عبدالناصر تعرض للاغتيال فيها قبض عليه مع آخرين وسجن عشر سنوات لاقى فيها أشد أنواع التنكيل، وفي سجنه ألف تفسيره الشهير "في ظلال القرآن"، و"معالم في الطريق"، و"المستقبل لهذا الدين". وفي سنة 1964 أفرج عنه بوساطة من الرئيس العراقي عبدالسلام عارف، ثم أعيد القبض عليه سنة 1965 مع آخرين، وأجريت له محاكمة قضت بإعدامه يوم 29 أغسطس 1966.
[2] القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
[3] "في ظلال القرآن"، في تفسير قوله تعالى "وكان عرشه على الماء" (هود:7).
[4] يوسف القرضاوي، "نظرات في التفسير العلمي في القرآن"، ص 29.
[5] ومصدرهم في ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في شرح حديث البخاري:("استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء"): قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير. أخرجه ابن إسحاق وزاد اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم. (فتح الباري 6/368)، وينظر في ذلك أيضاً تفسير المنار في تفسير قوله تعالى " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا"(الأعراف: 189)، ويوجد نص شبيه في سفر التكوين في التوراة هو: "فأوقع الرب الإله آدم في نوم عميق، ثم تناول ضلعاً من أضلاعه وسد مكانها باللحم، وعمل من هذا الضلع امرأة أحضرها إلى آدم"(2: 21-22).
[6] هو الدكتور أحمد زكي (1894-1975)، حصل على دكتوراة الفلسفة في الكيمياء (1924)، ثم دكتوراة العلوم في الكيمياء (1928)، وعمل رئيساً لمصلحة الكيمياء (1936)، ورئيس تحرير مجلة الهلال (1947-1950،) أسس (معهد فؤاد الأول للبحوث العلمية) الذي تغير اسمه إلى: المركز القومي للبحوث، وتولى رئاسته (1947-1952)، ثم أصبح وزير الشئون الاجتماعية (1952)، ثم رئيس جامعة القاهرة (1953)، إلى أن استقال عام 1954 بعد استبداد العسكر بالسلطة، وفي عام 1958 تولى الإشراف على المجلة الناشئة (مجلة العربي) الكويتية، وكانت بسببه درة المجلات العربية، وكان أول رئيس تحرير لها على مدى 17 عاماً، إلى أن توفي سنة (1975) يرحمه الله. والدكتور أحمد زكي هو الذي قال عنه عباس محمود العقاد: لا أقرأ للدكتور احمد زكي أدبا إلا وأتصوره قد جلس الي مكتبه وبيده قلم‏,‏ وبيده الأخري مسطرة.
ar.wikipedia.org/wiki/أحمد_زكي_عاكف
[7] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الفتوى رقم (15255):
http://www.alifta.net/Fatawa/fatawaChapters.aspx?View=Page&PageID=10461&PageNo=1&BookID=3
[8] تفسير "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي، في معرض تفسير قوله تعالى " إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ..."(الأعراف: 54)
[9] "في ظلال القرآن"، في تفسير قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ"(البقرة:190).
[10] رواه الترمذي.
[11] رواه الترمذي.
[12] سيتم القفز عبر التاريخ على فترات متباعدة لتقريب الفكرة فقط.
[13] Pi - 10 Trillion Digits
[14] شعب الإيمان للبيهقي، الشاملة.
[15] ويمكن متابعة هذه مسألة جريان الشمس لمستقرها؛ من تفنيد أخطاء التفسير العلمي فيها، وإلى ترجيح التفسير العلمي الرصين. ويظل الباب منفرجاً على مزيد من التحقيق.
[16] الظلال، سيد قطب، في تفسير قول الله تعالى " يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"
[17] التصوير الفني في القرآن: ص 162.
 
الفصل (أ8) بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن)

الفصل (أ8) بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن)

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ8) بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن)
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم
اشتهر عن بنت الشاطئ(*) أنها عارضت الإعجاز العلمي في القرآن. وبمراجعة كتاباتها في ذلك، وخاصة كتاب "القرآن وقضايا العصر"[1]، والذي هاجمت فيه مصطفى محمود بعد نشره لكتابه "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، وجدنا أن بنت الشاطئ كانت أقرب إلى التأييد المشروط، مع شيء من التردد، منه إلى الرفض والهجوم كما اشتُهر عنها. والحقيقة أنها لم تهاجم التفسير العلمي الرصين، وقد صرَّحت بما يعني أنها ما كانت لتهاجمه لو التزم حَمَلَتْه بالضوابط وقيود الرصانة العلمية والأهلية، بل هاجمت ما خرج إلى الناس تحت عنوان التفسير العصري. ورغم الاشتراك في الموضوع بين عنوان "التفسير العلمي" و"التفسير العصري"، إلا أن الفرق بينهما ليس بالقليل. فالتفسير العصري أقرب إلى موضة في العصر الذي نشأ فيه، وبذهاب العصر تذهب موضاته، ويحمل في مضمونه الخفة والبهرجة والاستثارة والمعاني العابرة وغياب الدقة والتوثيق والأدلة والرصانة العلمية. هذا في حين أن مستند التفسير العلمي "العلم" وليس إلا العلم، حتى وإن شابته مناخات وصياغات فكرية مؤقتة، أو عابرة. ومعلوم أن "العلم" – من حيث هو علم مطابق للمعلوم، أثبت وأبقى، حتى ولو تبدلت أنماطه بما يطرأ عليه من مزيد تمحيص وتدقيق. ورغم هذا المبدأ النبيل من جهتها – يرحمها الله – إلا أنه قد ألمَّ بها التردد في هذه المعاني الجديدة، وحرج تداخله ومدى مواءمته مع القالب الفكري التراثي الذي لم يكن يعلم شيئا عن هذه المستجدات العلمية. وهو نفس الحرج الذي وجدنا عليه من قبل الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ القرضاوي، والشيخ شلتوت، وسيد قطب – تقبل الله اجتهادهم جميعاً –".

ومن تعليقاتها التي زكَّت وتقبَّلت فيها مبدأ التفسير والإعجاز العلمي قولها[2]:
"قد أفهم أن يتكلم طبيب فيما يفهمه من آيات قرآنية يمكن أن تتصل بالطب، وأن يكتب خبير زراعي فيما يفهمه من آيات القرآن في النبات والفاكهة والزرع ولواقح الرياح، وأن يلتفت خبير كيميائي إلى آية القدرة الإلهية في تسوية بنان الإنسان لا يشتبه ببنان غيره من ملايين البشر، وأن يقف جغرافي عند آية القدرة في البحرين يلتقيان: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، وبينهما برزخ لا يبغيان، وأن يقف عالم فلكي عند آية القدرة رفعها الله بغير عمد ترونها، وما في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من آيات لأولي الألباب. قد أفهم هذا ومثله."

ولكنها توجست، وتمنعت عن قبول ما تبهرج وتزين من تفسيرات عصرية، فتابعت وقالت:
"ولكن الذي لا أفهمه، وما ينبغي لي أن أفهمه، هو أن يجرؤ مفسرون محدثون[3] على أن يخوضوا في كل هذا، فيخرج أحدهم على الناس بتفاسير قرآنية فيها طب وصيدلة وطبيعة وكيمياء، وجغرافيا وهندسة وفلك وزراعة وحيوان وحشرات وجيولوجية وبيولوجيا وفسيولوجيا وأنثروبولوجيا! إلاَّ أن أتخلى عن منطق عصري وكرامة عقلي، فآخذ في المجال العلمي بضاعة ألف صنف معروضة في الآسواق! وإلا أن أتخلى عن كبرياء علمي وعزة أصلي، فأعيش في عصر العلم بمنطق قريتي حين يفد عليها الباعة الجائلون بألف صنف، يروج لها ضجيج إعلاني بالطبل والزمر، عن كل شيء لكل شيء، أو (بتاع كله)، في فكاهتنا الشعبية الساخرة"

هذا هو إذاً بيت القصيد في معارضة بنت الشاطئ للإعجاز العلمي، وفحواه أنها لم تجد هذه الأهلية التي تُوقِّرها، وما يتبعها من رصانة وموضوعية ودقة علمية، بل وجدت ما ازعجها واعتبرته عَبَثاً يتشبَّه بالعلم، وأتت بأمثة منه فقالت[4]: "أن نُفسِّر لفظ ساعة في قوله تعالى "يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ"(الروم:55)، بدلالتها الاصطلاحية على ستين دقيقة، أو كما قال المفسر الصحفي (تقصد مصطفى محمود): "مجرد ساعة زمان، وكأنهم كانوا في غفوة أو نومة عصاري بعد أكلة ثقيلة"" (فهذا مما لا يمكن قبوله)[5]. ونرى أن بنت الشاطئ لم تُوفَّق في هذا المثال، لأن نص الآية "وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ"(الروم:55) يميز بين الساعة الأولى بمعنى القيامة، والساعة الأخرى بمعنى الزمن المنقضي بمقدار الساعة التي كانت عند العرب جزء من إثنى عشر جزء من طول النهار، وهي فترة زمنية قريبة جداً من ساعتنا المعاصرة، غير أنها تزيد عنها في الصيف بضع دقائق وتقل عنها في الشتاء مثلها، يُراجع في ذلك دراسة "توقيت وتوقيت، أعجمي وعربي" ، لذلك لم نرى في هذا الموضع بالذات خطأً ذي بال من مصطفى محمود، يرحمه ويرحم الله تعالى بنت الشاطئ.

وقالت[6]: "المفسر العصري لا يرى بأساً من أن يفسر لنا لفظ (يعشو) مثلاً بلفظ (ينصرف)[7] في آية الزخرف: " وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ"(الزخرف:36)، حين ندري من لغة القرآن، فرقاً بعيداً أقصى البعد بين الأعشى والمنصرف، فتفسير أحدهما بالآخر ليس إلا خبط عشواء."

نقول أن مصطفى محمود لم يضع كتابه الذي جاء فيه هذا القول باعتباره كتاباً في التفسير العلمي، فضلاً عن أن يكون في الإعجاز العلمي، ولا أنه تعمد استقصاء المعنى اللغوي والشرعي على نحو احترافي مثلما هو عليه الحال في كتب التفسير المتخصص، وما قصده كان إعطاء القارئ المعاصر مقاصد قرآنية كلية مدعومة بمسحة تفسيرية ذات رؤية علمية معاصرة غير استقصائية. ثم أن (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) يؤول بما فيه من تعامِي عن الحق إلى الإنصراف عن القرآن وما فيه من هدى. وهو المعنى الذي ذكره مصطفى محمود. ولا يبدو أنه مستنكراً على نحو ما يُفهم من نقد بنت الشاطئ له.

وقالت[8]: "ويفسر قوله تعالى لنبيه موسى عليه السلام: "فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"(طه:12)، بأن (المقصود بالنعلين هما النفس والجسد، فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده، بالموت أو بالزهد، والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة). وذلك لا تعرفه لغة القرآن، ولا لغة العلم، من أي سبيل."

نقول: يفترق السياق الذي جاء في كلام مصطفى محمود بعض الشيء عما يُفهم من كلام بنت الشاطئ، فالعبارة المنقولة لم تكن تفسيراً لمصطفى محمود، بل نقلها هو عن المتصوفة، وقال[9]: [يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن: " فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى"، إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد ...] ... إلا أن مصطفى محمود لا يرى غضاضة في قبول هذا المعنى باعتباره تأويلاً مقبولاً ويقول: [قد يعترض معترض قائلاً ... وما الضرورة لصرف اللفظين عن معناهما الظاهر؟ .. والواقع أن هناك ضرورة .. فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع النعلين ... وإنما التجرد الكامل هو شرطها دائما، وهو أقل ما يليق بالحضرة الجلالية .. ولا يتم التجرد إلا بخلع شواغل النفس والجسد .. فالمعنى هنا وارد والتأويل له ضرورة، وهو لا يناقض المدلول الظاهر للألفاظ.]

ولمعرفة موقف "مصطفى محمود" الصريح، من التأويل عموماً، والتفسير الباطني خصوصاً، نقرأ له يقول[10]: [(لنا) موقف من التفسير لا بد من التزامه .. هو الالتزام بحرفية العبارة ومدلول الكلمات الظاهر، لا ننتقل إلى تأويل باطني إلا بإشارة وإلهام من الكلمات القرآنية ذاتها فنفسر القرآن بالقرآن ظاهراً وباطنا، على ألا يتعارض تفسيرنا الباطن مع مدلول الكلمات الظاهر أو يكون نافياً له .. ولا يكون التفسير الباطني مقبولاً إلا إذا كان مؤيداً ومؤكداً للمعنى الظاهر.. ولا ترخيص فيه إلا بضرورة، وهذه هي الحدود التي تمليها طبيعة هذا الكتاب المحكم .. الذي لا يتقدم فيه حرف على حرف إلا بسبب عميق وضرورة لازمة.][11] وهذا الموقف من مصطفى محمود يبُرؤه من تجاوز الحدود في التأويل، بل ويشيد بدفاعه الرصين، وبراعته في فضح الكذابين[11].

تواصل بنت الشاطئ، وتقول[12]: "من وجوه الدقة في النص القرآني إستحالة تفسير صيغة من صيغه أو عبارة من عباراته، مبتورة من سياقها الخاص في الآية والسورة، ومن سياقها العام في المصحف كله، على نحو ما فعل المفسر العصري، في استشهاده ببعض الكلمات مبتورة من سياقها، ليأخذ منها دليلاً فاسداً وشاهداً يحيله السياق، كمثل عبارته في ص 51، وقد تكررت في ص 176-177: (والله يقول عن كلامه، عن القرآن،: " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ") بتر الجملة من سياقها، فحملها على كلام الله، وإنما هي في المتشابه منه فحسب، بنص الآية: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"(آل عمران: 7)"

ومرة أخرى نرى أن سياق كلام مصطفى محمود قد حُمل على غير معناه، فعبارته (ص51) تقول:
[و الله يقول عن كلامه: (( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (آل عمران: 7)، ويقول عن القرآن: (( ثم إن علينا بيانه)) (19 – القيامة)] وهذا يدل على أنه لا يطابق هنا بين دلالة مراده هو من "كلام الله" والقرآن!!! فكيف ساوت بنت الشاطئ بين الدلالتين؟! ... وعليه، تكون قد جاء بمطابقة لم يقصدها مصطفى محمود.

ولمعرفة ما يقصده هنا، نقرأ الفقرة السابقة على ما أوردناه من عبارة، يقول: [القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.. و هو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها ( أينشتين) بالمعادلات.. و لا كما يعرضها عالم ( بيولوجي) برواية التفاصيل التشريحية.. و إنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها.. و لكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة و يثبتها تفصيلا. (( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) (53 – فصلت)
و الله يقول عن كلامه: (( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (آل عمران: 7)، ويقول عن القرآن: ... ]
فالذي قصده من قوله (كلامه - سبحانه وتعالى) ما أوضحته عبارته التفصيلية عن (أسلوب القرآن المختلف عن كل الأساليب المألوفة للبشر في إشارته إلى المسائل العلمية) وليس (القرآن) كما فهمت بنت الشاطئ!

أما في ص175-177، فجاءت عبارة مصطفى محمود (بعد أن يسرد آيات سورة الكهف (93-99)عن ذي القرنين ويأجوج ومأجوج) كالآتي:
[ها هنا قصة غامضة يتخبط فيها المفسرون – يقصد عن يأجوج ومأجوج – (ويعدد بعض ما قيل في شأنهم وهل هم الصين المعروفة الآن أو لا؟، ثم يقول:) هي أمور تثير الخيال .. وهي نبؤات تتداعى الواحدة لتؤيد الأخرى، ولا نملك إلا الصمت .. فمثل هذه التأويلات لا يحق لنا أن نُؤلها، والوحي يقول لنا عن القرآن "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ"] ... وغني عن البيان أنه يقصد الآيات من القرآن التي تتطلب التأويل، أو ما لا نعلم تأويلها. ومن ثم، فالرجل لم يتجاوز الحد المقبول كما تراءى لبنت الشاطئ!

وقالت[13]: "فجأة من حيث لا نتوقع ظهر تفسير عصري لكاتب صحفي، ... يُخرج للناس ما غاب عن النبي الأمي وقومه البدو، من عصريات التكنولوجيا وحديث الطبيعيات والرياضيات وملاحة الفضاء... ونتورط من هذا إلى المزلق الخطر، يتسلل إلى عقول أبناء الأمة وضمائرهم، فيُرسِّخ فيها أن القرآن الكريم إذا لم يقدم لهم (ما لم يفهمه النبي الأمي من بيولوجيا وجيولوجيا وكيمياء عضوية وعلم أجنة وتشريح وأنثروبولوجيا ...) فليس صالحاً لزماننا ولا جديراً بأن تسيغه عقليتنا العلمية أو يقبله منطقنا العصري. .. هكذا بإسم العصرية، نغريهم بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام وصحابته، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان. .... وبإسم العلم، نخايلهم بتأويلات محدثة، تلوك الفاظ ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود وبيولوجيا الحشرات وديناميكا الصلب وجيولوجيا القمر..."

نقول أننا لا نوافق بنت الشاطئ على تصويرها للعلاقة بين القرآن والعلم الحديث بهذا المنظور، منظور التبعية المصطنعة التي يختلقها بعض المفسرين الجدد، الذين نُسمِّيهم "الإعجازيين"، والتي يجرُّون بها القرآن وراء العلم. وهذا المنظور زائف حتى وإن رأت بنت الشاطئ أن هذا هو الدافع الحقيقي – وما هو بحقيقي- وراء التفسيرات العلمية المستحدثة لآيات قرآنية عديدة. قد يفعل بعض المفسرين المتهافتين هذا، ولكنهم استثناء، ولا يمثلهم مصطفى محمود. بل إن من أتى بعده قد حشر من التفسيرات في كتاباته ومحاضراته ما يمثل هذا النموذج السيئ بصورة فجة، وتستحق كل إدانة وزجر لما فيها من مستويات متدنية من التهافتات المستهجنة، التي نبرئ القرآن منها.

إن ظهور معاني جديدة في القرآن، وقد تصادف أن الإنسان المعاصر يصنفها في علوم براقة جديدة مثل (بيولوجيا وجيولوجيا وعلم أجنة وتشريح وأنثروبولوجيا وو...) ليست اختلاقاً إنسانياً مبتوراً من الواقع، بل إنها صورة تفرض نفسها على قارئ القرآن الذي ألمَّ ببعض المعارف في هذه العلوم. أما إن كان قارئ القرآن قد خلت جعبته من هذه المعارف، فهو بعيد عن تصور هذه المعاني. وهذا القول يجعل من العلم بالخلق عند المؤمن بالقرآن دافعاً على تشويه تصوراته، ويصبح الجهل بها حصناً لتصورات الأقدمين من المؤمنين، حتى وإن كانوا هم من أقام رب العالمين الدين على أكتافهم! ولو كان الأمر كذلك لما حثنا القرآن على النظر في الخلق، ومعاودة النظر، بغية الاعتبار والوقوف على مصداق القرآن، وحكمة الخالق سبحانه فيما خلق وأنزل!

وهذا المنظور الذي صورته بنت الشاطئ بقولها أنه: (بإسم العصرية، نغري (أبناء الأمة) بأن يرفضوا فهم كتاب الإسلام بعقلية نبي الإسلام وصحابته، ليفهموه في تفسير عصري من بدع هذا الزمان) منظور خاطئ بكل المعايير. فليس هناك إغراء متعمد في أصل الموضوع، حتى وإن تعمده أو جنح إليه بعض الجهال أو المتهافتين. إنه أمر واقع لمن أحاط بمعارف العصر، لا يستطيع منع نفسه منه إلا إذا استطاع جليس بائع المسك أن يمنع نفسه من اشتمام روائحه العطرة. أما من لم يدخل على أهل العطور فيستنكر وصف عطورهم، فهو وشأنه. ... ثم أن تعميم القول على عموم (كتاب الإسلام) في وقت تختص التفسيرات الجديدة فقط بما يتعلق بالمخلوقات التي أنبأت عن نفسها بجديد من العلم، فهو تعميم يشحن القارئ ضد هذا المنحى الجديد وكأنه تبديل لدين الله! ... وما هو كذلك، ... بل إنه لا يعدو أن يكون مزيد من الفهم فيما كان متشابهاً من آيات الخلق. أي أنه محمدة للمجتهدين فيه، ... فإذا بكلام بنت الشاطئ تجعل منه مذمّة، يلام عليها أصحابها في شخص أحدهم. ويصبح عندئذ قول بنت الشاطئ (بتصرف)[14]: " (إن هذا المسلك) ضحك على العقول ببدع من التأويلات تقدم للناس من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكنولوجيا." قولاً في غير محله.

وقالت أيضاً[15]: "في ضجيج هذه الألفاظ الطنانة وخلابة ما يقدمه التفسير العصري .... تتعذر الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل، وإيماناً من زخرف قول، وبهرجة بدعة، ويفوتها أن تفصل بين منطق تفكير علمي وجرأة ادعاء وطبول إعلان ...."

هنا ننتبه إلى مشكلة تبرزها قضية (التفسير العلمي لآيات القرآن) وتعترف بها بنت الشاطئ. ألا وهي تعذّر (الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل ..). وبدلاً من الإقرار بالمشكلة، جعلت منها بنت الشاطئ نتيجة لفساد كامل المشروع التفسيري الجديد. والصحيح أن هذا المشروع يستدعي معالجة جديدة! ولكنها معالجة غير واضحة المعالم لمن يريدها، ويتعذر رؤيتها كما تبين من كلام بنت الشاطئ. وكان الأولى من استنكار العلة وأسبابها السعي للبحث عن طرق علاجها، لا قتل المريض بها! ... هذا إن كانت مرضاً، أما إن كانت فتحاً جديداً وفهماً فريدا، فاستثمارها بالحق واجب، والصد عنها صد عن سبيل جديد من سبل الله تعالى!

أما عن تلك المعالجة التي يمكن أن يزول معها التشويش الموصوف، والذي يتعذر معه الرؤية الثاقبة في التمييز بين الحق والباطل في موضوع التفسير العلمي، فهو النزول إلى أرض الواقع، ومعالجة مسائل الموضوع مسألة مسألة، وإعادة التصنيف والتبويب والتأصيل، والتنقيب عن كل نوع في أسبابه وعلله وما قاله القرآن عنه، وما نطق به الخلق عن نفسه. إنه فقه جديد، ومسائل جديدة، ... ولكنها جميعاً متجذرة فيما قال الله تعالى في كتابه، وما خلقه سبحانه من خلق وأبدعه من إبداع. .. ولا بد حتماً أن تكون الرؤية متعذرة لمن اكتفى فقط بالجلوس وراء المدونات القديمة، يريد أن يرى من خلالها ما لم يره كاتبوها. .. إن الأمر ليتطلب مدونات جديدة ينظر أصحابها نظر العين والعقل في مسائل اجتهادهم؛ يستفهمون كتاب الله عنها، ويستأنسون بما كتبه الأولون. وفي نفس الوقت، لهم عين أخرى تنظر إلى خلق الله وسننه، فتختبر وتحلل وتستدل ... وفقط عندئذ تبدأ المسائل في التفكيك، وتبدأ العلل في البزوغ، والرؤية الثاقبة في الشروق، وينجلي الضجيج والطنين، وتطرب الآذان لمعاني الآيات، وألحان المخلوقات.

وقالت بنت الشاطئ[16]: "السؤال الخطير الذي تواجهنا به القضية هو: هل نفهم القرآن كما بينه نبي الإسلام، أو كما يفهمه مفسر عصري من الصحفيين. ... لننظر في هذا التفسير العصري، من حيث هو نموذج ومثال لما يخوض فيه من يتكلمون في القرآن بغير علم، وما يتعرض له الفهم الإسلامي من بدع التأويل بالرأي والهوى."

نقول: إن نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم- لم يفسر متشابه آيات القرآن، وما يُفهم من عموم كلام بنت الشاطئ خلاف ذلك، ولو صدق كلامها لأصبحت هذه الآيات مُحكمات، وانغلقت معانيها، ثم أين هو تفسير النبي لهذه الآيات التي تُعد بالمئات. وأغلب الآيات العلمية تقع في باب "المتشابهات" من القرآن. أما استنقاص بنت الشاطئ من مصطفى محمود بتكرار وصفها له بأنه (مفسر عصري من الصحفيين) فلن نعوِّل عليه كثيرا. ولا نستطيع أن نلوم الرجل وهو يطرح كتاباته ويعنونها بـ (محاولة لفهم ..)! وكان الأَولى بأُولي العلم الذين يحجرون على محاولات الناس للفهم بأن يبينوا لهم ما استغلقت معانيه، أما إن كانوا هم أنفسهم لا يعلمون إجابات الـمُستَفهم عنه، ويعترفون بأن (الرؤية الثاقبة التي تميز حقاً من باطل، وعلماً من دجل) في هذه المسائل متعذرة عليهم، فالأجدر بهم أن يطرحوا المسائل للتفقه الأكاديمي، والتداول البحثي، ... لا أن يسخروا من السائلين، الباحثين عن الفهم،... فهماً يطمئن معه القلب، وتأتلف فيه معاني ما أنزل الله تعالى من كتاب، وما خلق من خلق.

والغريب أن عنوان الكتاب، "القرآن: محاولة لفهم عصري" كان اقتراحاً من بنت الشاطئ على مصطفى محمود بعد أن ناقشها في مادته، ووافقته على محتواه، قبل نشره، وقد التزم كما قال بكل ملاحظاتها على الكتاب، وذلك حسب ما جاء على لسانه[24].

وقد حاولت بنت الشاطئ أن تبرر سلوك أصحاب التفسير العصري ودوافعهم النفسية، فقالت[17]: "حين كانت القضية الكبرى المطروحة على الأمة في صدمتها بالتفوق المادي لحضارة الغرب الحديث، هي أن تأخذ بأسباب العلم لتستأنف خطاها من حيث وصلت إليه في العصر القيادي للحضارة الإسلامية، ظهرت محاولة ساذجة لتفسير القرآن تفسيراً علمانياً نطمئن به إلى أننا سبقنا عصرنا إلى كل ما يتطاول به الغرب علينا من علوم حديثة! ... فقدم الشيخ طنطاوي جوهري تفسير (الجواهر)"

ولنا هنا مأخذين: الأول، أن تشخيص أعراض ظاهرة التفسير العلمي في غير محلها، حتى وإن صادفت شيء من الصدق عند بعض المتهافتين على الإعجاز العلمي. فليس الباحث عن فهم آيات القرآن فيما تكلمت عنه من ظواهر، وقد بدى فيها من العلم جديداً، بالذي يُتَّهم بأن دافعه هو الصدمة الحضارية.

أما المأخذ الثاني، فهو أن تسمية "التفسير العلماني" جنوح وتشويه فج لـ "التفسير العلمي". والفرق بين العلماني والعلمي كما الفرق بين الـمُعرض عن دين الله، والقابض عليه. إلا أن تكون بنت الشاطئ لا تميز بين التسميتين، ويصبح لديها مشكلة – رحمها الله – في توصيفها وتسميتها للمسألة.

وقالت[18]: "كان الظن ألا مجال لمخدر في هدير العصر ودوامة المعركة، وإذا بمفسرين عصريين لا دراية لهم بعلوم العربية والقرآن، ولا بعلوم العصر، يتسللون بالمخدر إلى الميدان، فيتسلطون على الجماهير بتفاسير عصرية تجذب أسماعهم بكلام خلّاب عن سبق القرآن إلى نظريات الرياضيات وعلوم البيولوجيا والجيولوجيا وإرتياد الفضاء وغزو القمر."

نقول: إن التمييز بين جدية الأمر في شأن التفسير العلمي، والتوظيف السَّيء له، ضرورة توجب على أولي الأمر من العلماء تحمُّل مسئولياتهم وتبعاتهم. فإن لم يفعلوا، تداخل الحق والباطل، ولم يدرِ أهل الحق التوظيف السيء من الحسن، والمتطفلين من الجادين. وكل شأنٍ من شئون الناس فيه هذا وذاك. فهذا الدواء، إن لم يشفك أمرضك. وليس إمراضه لإنسان بالذي يوجب تحريمه، إلا إذا كان إمراضه أكبر من نفعه. فإن تأخر أولي الأمر في تحمُّل تبعاتهم، فالإثم عليهم، ولن يتوقف دولاب الحياة عن الحركة إذا توانى عن اللحاق بها بعض أهلها. أما إن كان المتأخرون عن اللحاق هم أولو الأمر، فحتماً سيتقدم غيرهم لقيادة المسيرة، ولا فائدة عندئذ من التسخيف بهم، .. بل سيلام عندئذ المتأخرون الجديرون بالتقدم، مثلما يُذم المتقدمون الجديرون بالتأخر.

وقالت[19]: "إن تحديات عصرنا، قومية وحضارية، هي التي تضعنا أمام ما يروج فينا عن تأويلات عصرية للقرآن لنحدد موقف الدين والعلم من هذه التأويلات التي تقتحم الغيب وتفتي الناس في العلم والدين بغير علم، وتلهيهم بأنباء الجن والشياطين والملائكة، وتشدهم من صميم معركة البقاء والمصير، إلى هذه المعركة الجانبية بجدلها المثار حول فهم القرآن وتفسيره. وبقدر ما تقسو هذه التحديات ، تشتد حاجتنا إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخطر، من حيث لا نستطيع أن نسير مع حركة الزمن ودفع التقدم وحتمية التطور، إذا ظل تأويل كتابنا الأكبر مباحاً لكل ذي هوى أو رأي، يلوي نصوصه لياً، لكي تلبي حاجة في نفسه."

ولنا هنا ملاحظتين، الأولى: تم في هذه العبارة حصر التأويلات العصرية للقرآن وكأنها فقط فيما يقتحم الغيب، ويمثل من ثمَّ أنباء الجن والشياطين والملائكة، أما الواقع والتفاعل معه فكأنه خارج منظومة التفسير العلمي. وأن هذه التأويلات حول فهم القرآن وتفسيره لا تمثل إلّا معركة جانبية. أما المعركة الرئيسية فهي قومية حضارية، لا دور لتفسير القرآن وتأويلاته المعاصرة فيها. ... ويعتبر هذا التصور – لبنت الشاطئ ومن تُمثِّل آراءهم من جملة العلماء وهم الأغلبية - جزء من مشكلتنا الحقيقية. إذ أن دين الله في هذا التصور يصبح جانبي الأهمية، ويُؤخَّر ليحل محله دين آخر – ما دام أن دين المرء هو المحرك الحقيقي له – وهذا هو ما تُصرِّح به صاحبة الكلام. وما ذلك إلّا "التحديات القومية والحضارية" وبمعزل عن القرآن وتفسيره!!!

الملاحظة الثانية: يمثل قولها (تشتد حاجتنا إلى تأمين هذا الموقع الفكري الخطر) الاعتراف بوجوب التصدي لمسألة التفسير العلمي بالعلم والحكمة، لا الاقصاء والتغريب. بمعنى أن بنت الشاطئ قد أعادت القضية أخيراً للتحكيم، تحكيم الخبرة، والعلم، وقضاءاً علمياً نزيهاً لا يحابي ولا يظلم، .. فقالت في موضع لاحق[20]: "من القضايا ما يحتاج إلى خبرة طبية أو اقتصادية أو فنية لا علم للقضاة بها، فيُندب الخبراء لفحصها وتقديم تقاريرهم عنها، ويظل الحكم في القضية لرجال القضاء وحدهم، دون الخبراء من الأطباء أو المحاسبين أو المهندسين أو الزراعيين أو ... ."

وقد يستغرب القارئ عن إمكانية وجود قضاءاً علمياً، يصدر حكماً بـ "علمية" أو "لا علمية" دعوىٍ ما من الدعوات التي تتشح بوشاح العلم! والحقيقة أن هذا النوع من القضاء وارد وإن كان نادراً. وخير مثال له، ذلك الحُكْم المفحم، والقاضي البليغ الذي أصدره، في حق كتاب طه حسين الشهير: "في الشهر الجاهلي". وسوف نُعرِّج على هذه القضية عند تناولنا لموقف طه حسين من التفسير والإعجاز العلمي. غير أنّنا نرى أن الفصل بين القاضي العلمي والخبراء يعيق الوصول إلى الأحكام النزيهة، وأنه لن يزيد عن إرشادات توجيهية في البحث العلمي بما لا يختلف كثيراً عن إشارات مرور الطريق لسائق السيارات ... وهو وصفٌ لا يتحقق معه المطلوب إن صدق.

هذا وقد أتت بنت الشاطئ على أمثلة عديدة مما رأت أنها تجاوزات. ومن غير المستغرب أنها ظهرت من العلماء الراسخين في العلم، إلا مما استوجبه الأمر من حداثة المسألة، ووجوب التروي في الحكم على مفرداتها. ومما يُزَكِّي موقف بنت الشاطئ في مثل هذا الهجوم غياب الأدلة العلمية عند أصحاب دعوى التفسير والإعجاز العلمي، على العموم، دون شخص مصطفى محمود الذي ضحَّت به بنت الشاطئ في خضم الهجوم، رغم أنه يعد عند التحقيق الرصين في مسائل التفسير والإعجاز العلمي من أقل الخائضين فيه أخطاءاً، فضلاً عن كونه من أبدعهم تناولاً وألطفهم في إشاراته وابتكاراته الفكرية. بل إن الأمر قد نما من بعده، وطغى زخم الإعجاز والإعجازيين، وتهافتت أمثلتهم، وكثرت أخطاؤهم، بما يجعل اكثر كلامهم بدعة لا داعي للمخاطرة بتبنيها، فكانوا أَولى بالهجوم الذي شنته بنت الشاطئ على مصطفى محمود، وأليق بالزجر والتوبيخ. والحق يقال أن مسائل التفسير العلمي تستدعي الدعم والتأهيل، ولكن! كيف يتم دعم الإعجاز والإعجازيين وحال أهلها العلمي بما هم عليه من ركاكة، وخفة قول، وهزالة مبنى؟! [21] – فكانت النتيجة أمام بنت الشاطئ وجوب إعمال القاعدة الفقهية: "درء المفسدة أولى من جلب المصلحة"، أي أن دعاة الإعجاز العلمي أنفسهم صدوا عن سبيل الإعجاز القرآني، وهذا من المفارقات العجيبة لمن يدعو إلى أي دعوى، فيكون هو الصاد عنها. و إذا كان ما يدعون إليه في نفسه حق، فكم من الإثم يتحملون؟!

وكانت النتيجة اللازمة عن تجارب التفسير الإعجازي المتهافت أن تَشَوَّش فكر الفقهاء والعلماء بهذا التفسير الذي سماه أصحابه "التفسير العصري"، وحسناً فعلوا كي يتميز عن "التفسير العلمي"، ولكن الحابل قد اختلط بالنابل، ولم يعد يتميز إعجاز علمي من تفسير علمي من دعاوى عصرية جوفاء بإسم القرآن. واجتمع مع وجوب درء المفسدة الناتجة، تلبُّسه بعدم العلم بصحة دعاوى الإعجاز في خصوصياتها العلمية، وسعة ألفاظ القرآن على تحمُّل ما أتت به الاصطلاحات من معانٍ، لم تكن مألوفة ولا ممنوعة، وكل ذلك مع ألفة ورتابة الثقافة التراثية، وانقضاء الأعمار في جِنَان الإعجاز البلاغي والبياني، فما كان من بنت الشاطئ إلا أن انتفضت تدافع عن حصون الإسلام ، وخاصة القرآن الكريم، من العبث واللهو العلمي. غير أن أمْر التفسير والإعجاز العلمي يجب ألا يُغلق لعلة عدم العلم بأحكامه بعد، بل يُعلَّق بين القبول والرفض، انتظاراً لقضاءٍ علميٍ نزيه، لا تحيز فيه لماضي ولا لحاضر، وإنما لحق مدعوم من باطل مذموم، .. وفي مسألة مسألة، .. لا تحليل بالكيْل، ... ولا تحريم بالقنطار!

والخلاصة:
1- أن بنت الشاطئ لم تكن تعارض مبدأ التفسير العلمي، غير أنها لم تجد الرصانة العلمية التي تشجعها على ذلك. ودليل ذلك قولها[22]: " قد أفهم أن يتكلم طبيب فيما يفهمه من آيات قرآنية ... وأن يكتب خبير زراعي فيما يفهمه من آيات القرآن ... وأن يلتفت خبير كيميائي إلى آية القدرة الإلهية في ... وأن يقف جغرافي عند آية القدرة في ... وأن يقف عالم فلكي عند آية القدرة في .." وهذا يوجب إعادة النظر في كلام من أدرج بنت الشاطئ بين الذين عارضوا التفسير العلمي أو الإعجاز العلمي على الإطلاق.

2- أنها استشعرت وجود أزمة في تمييز الحق من الباطل ، والغث من السمين، في مزاعم التفسير العلمي. مع غياب التحكيم، إلا بما تقترحه من قاضٍ يحكم، ولجان متخصصة يُكتفى منها بإبداء الرأي العلمي. وهي وسيلة غير ناجعة في رأينا، لأن الفصل بين الحُكم وحيثياته - التي يجب أن تختمر في ذهن القاضي – إجراءٌ يفسد الحكم. خاصة وأن صورة المسألة لا تُستحضر جاهزة لمن أرادها، بل تتطور وتتعدل وتتلون، وتعود فتختفي أو تستبين بمتابعة البحث التحقيقي في كل مسألة مسألة، ثم يأتي الترجيح والجمع والتفريق، وربما الإرجاء، أو التقديم، أو التأخير. وما يصمد من ترجيحات مع الزمن مع إضافات البيانات والأرصاد يستقوي، وما يَبْلى يُهمل وينزوي ويذهب أدراج الرياح.

3- أن بنت الشاطئ عادت وترددت واشتبهت في معاني التفسير العلمي عندما كثرت المسائل والتخصصات والعلوم التي درات رحى التفسير في جنباتها، وقالت "بإسم العلم، نخايلهم (أبناء الأمة) بتأويلات محدثة، تلوك الفاظ ساذجة صماء عن الذرة والإلكترون وتكنولوجيا السدود وبيولوجيا الحشرات وديناميكا الصلب وجيولوجيا القمر". وإذا كثرت أسماء العلوم، واستشعر القارئ بالضياع فيما لا يعلم منها، يصيبه الضجر والنفور، والوحشة والغربة، فيندفع يستنكر ما لا يألف منها. ولو أنه تذكر أن قبضة واحدة من تراب الأرض فيها (فيزياء الذرات وكيمياء عناصر التراب وهندسة الجزيئات والأحياء الكامنة في بذورها، والتاريخ المحفوظ في حفرياتها، والجيولوجيا التي فتتت الجبال إلى هذا التراب) إذا علم الإنسان أن تعدد الأسماء يرجع إلى قصور المعرفة الإنسانية عن الإحاطة وضرورة تقسيم وتصنيف ما يمكن العلم به، وأن الأصل أن هذه العلوم جميعاً أن تعمل مجتمعة في الأشياء، ... لو علم ذلك لأدرك أن القرآن كلام الله الذي أحاط بكل شيء دون التقسيم المعرفي الإنساني. وعندئذ يزول هذا الاستغراب، ويعود يرى الأشياء في تكامل، مثلما أن الآية القرآنية تتنقل بين موضوعات عدة نراها مختلفة أو متنافرة، وإنما ذلك لحدودنا وقصورنا المعرفي عن النظرة العلمية المحيطة. والشاهد من ذلك أن الإنسان المقيد المعرفة قد يطغي على الإنسان العالم في النفس الواحدة، فيعود ليرتبك بين تقسيماته المعرفية، رغم أنه عالم بأن تقسيماته هذه ليست إلا حيلة في المنهج العلمي غايتها التيسير، وليست أصيلة في الوجود والأشياء. أما كتاب الله تعالى فهو أعلى من ذلك، وأرقى. ونُخْطِئ إن عالجناه ككتب العلم التي نألفها، أو نطالبه بأن يكون نوع من أنواع العلوم التي نُصَنِّفها في زمن ما، ثم نعيد تصنيفها في زمن آخر.

4- أن بنت الشاطئ قد تحاملت على مصطفى محمود، في عدد من السياقات التي خرجت بها عن مساراتها، رغم أنه صرح بأنه يحاول الفهم، من عنوان كتابه، وقال فيما قاله[23]: [ما قام الدين أبدا منعزلا عن الحياة و لا قام ليعادي العلم بل إنه قام ليُقدِّم لنا منتهى العلم.. و ليقودنا إلى اليقين في مقابل الشك والاحتمال والترجيح.. جاء ليقول كلمة أخيرة.. فلا يمكن أن نخوض فيه دون أن نخوض في كل شيء.. و دون أن نثير القضية كاملة برمتها علما و دينا و.. .]، وكان أولى ببنت الشاطئ أن تجيبه إجابة العالم لطالب العلم فيما يريد فهمه، وإجابة العالم لزميله فيما تتعذر فيه الإجابات – رحمهما الله وتقبل اجتهادهما.
المؤلف
عودة إلى فهرس الكتاب
----------------------------------
* عائشة محمد علي عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ (1912-1998)، أستاذة جامعية مصرية وباحثة ومفكرة وكاتبة، وهي أول امرأة تحاضر بالأزهر الشريف، وأول امرأة تحصل على جائزة الملك فيصل العالمية، إضافة إلى جوائز أخرى عديدة. عملت بدرجة أستاذ دكتور بعدد من الجامعات العربية، في مصر والمغرب والجزائر بين تسع دول عربية. ومن أبرز مؤلفاتها: التفسير البياني للقرآن الكريم، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة، بين عدد وافر من الكتب والأبحاث، وكذا تحقيق الكثير من النصوص والوثائق والمخطوطات.

[1] عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا العصر، دار العلم للملايين، 1978، طبعة ثالثة، ص279 وما بعدها، و ص347 وما بعدها.
[2] مرجع سابق، ص 349-350.
[3] "مصطفى محمود"، هو محور هجوم بنت الشاطئ، ورغم وسمها له بطول النقد وعرضه باسم (الصحفي)، وعلى مدار كتابها المشار إليه، إلا أنه قبل أن يكون صحفياً كاتبا، فقد كان طبيباً، ليس كالأطباء، ومفكراً ليس كالمفكرين. فقد حكى عن نفسه – ونحسبه صادقاً - في جمع علمي كريم، ما يتضح معه أنه كان أكبر من يُستخف به:
‫حوار نادر مع الدكتور مصطفى محمود برفقة الغزالى‬‎ - YouTube
[4] مرجع سابق، ص 320.
[5] هذه العبارة بين القوسين – من عندنا- لتغلق المعنى الذي أرادته بنت الشاطئ.
[6] نفس المرجع والصفحة.
[7] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، ص 155.
[8] بنت الشاطئ، نفس المرجع، ص 320-321.
[9] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري، دار المعارف، القاهرة ، ص 131.
[10] السابق، ص 152.
[11] أما السبب الذي احتاط له مصطفى محمود بهذه الضوابط فكانت نقمته على أدعياء النبوة وافتراءاتهم على معاني القرآن بتأويلات باطنية، يتخلصون من ظاهر الحروف، ويتحللون مما توجبه. ومن ثم يتحللون من الاعتراف بحقيقة معجزات الأنبياء، لأنهم لا معجزات لهم، فيكونون والأنبياء سواء! .. وقد أعطى مثالاً لهم، وهو (مرزا حسين أحمد – مؤسس البهائية) حين فسر القرآن وجرَّده من فكرة المعجزة والغيب (الملائكة والشياطين) حتى لا تقوم عليه حجة، ويطالبه أحد بمعجزة، أو بنبأ من الغيب.(مصطفى محمود، "القرآن.. محاولة لفهم عصري"، ص 148-152)
[12] بنت الشاطئ، نفس المرجع، ص 321-322.
[13] المرجع السابق، ص279 وما بعدها.
[14] ص 426.
[15] السابق، ص 280.
[16] مرجع سابق، ص 282.
[17] مرجع سابق، ص309.
[18] مرجع سابق، ص 311.
[19] مرجع سابق، ص 311.
[20] مرجع سابق، ص 318.
[21] يوجد على هذه المدونة دراسات عديدة، قصدنا منها أن تكون أمثلة عملية من تهافتات الإعجاز العلمي، وننوي – إن شاء الله - جمعها في كتاب بعنوان: "براءة الإعجاز العلمي من التهافت". والشاهد في هذه الأمثلة أن كثرة تهافتات أصحابها يولد حسرة في النفس، ويدفع إلى وجوب إيقاف عبث العابثين، ليس بمنعهم من الكلام، بل بإثبات تهافتهم ووجوب ضبط الإعجاز العلمي كمهنة احترافية، توقف المتجرئين على معاني القرآن عند حدهم، أو إخراجهم من دائرة العلماء الموقرة أعمالهم. وأن يكون ذلك كله مع تبرئة التفسير والإعجاز العلمي، وبقائهما مَنحَيان جديدان مرتبطان ببعضهما، ويشهدان للقرآن وعلويته على ما عداه.
[22] عائشة عبد الرحمن، القرآن وقضايا العصر، ص349.
[23] مصطفى محمود، "القرآن .. محاولة لفهم عصري"، ص 42.
[24] ‫مناظره مع الدكتور مصطفى محمود‬‎ - YouTube
مع الانتقال إلى اللحظة: ساعة:دقيقة = (1:18)
 
الفصل (أ9) أبو إسحاق الشاطبي

الفصل (أ9) أبو إسحاق الشاطبي

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ9) أبو إسحاق الشاطبي​
عودة إلى فهرس الكتاب​


بسم الله الرحمن الرحيم​
لأبي إسحاق الشاطبي[1] موقف حاسم ضد القائلين بأن القرآن يحتوي بين دفتيه على شيء من المعارف التي لم يعهدها العرب، ويقيم حُجَجه في ذلك على أن "الشريعة أمِّية"، ويقول[2]: [هذه الشريعة المباركة أمية؛ لأن أهلها كذلك، فهو أُجْرِي على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور: أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ"(الجمعة:2)، وقوله: "فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ"(الأعراف:158)، وفي الحديث: "بعثت إلى أمة أمية" لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها. وفي الحديث: "نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا"، وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب. ونحوه قوله تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ"(العنكبوت:48) وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية لأن أهلها كذلك.

والثاني: أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتتنزل من أنفسهم منزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون، والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية، فالشريعة إذاً أمية.

والثالث: إنه لو لم يكن على ما يعهدون لم يكن عندهم معجزاً ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"(فصلت:44)، فجعل الحجة على فرض كون القرآن أعجميا، ولما قالوا: "إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ"( النحل:103)، رد الله عليهم بقوله: "لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ"( النحل:103)، لكنهم أذعنوا لظهور الحجة، فدل على أن ذلك لعلمهم به وعهدم بمثله، مع العجز عن مماثلته، وأدلة هذا المعنى كثيرة.
]

كتب الشيخ عبدالله دراز في شرحه على "الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي" توضيحاً لقول الشاطبي "هذه الشريعة المباركة أمية" وقال[3]: "أي: لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها (يقصد من ذلك: من حيث هي عقائد وتكاليف) إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك، والحكمة في ذلك: أولا: أن من باشر تلقيها من الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِّيون على الفطرة. ثانيا: أنها لو لم تكن كذلك، لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم، فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولا، ثم تطبيقها ثانيا، وكلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسل إليهم من عرب وغيرهم، وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف، لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال". ثم يُفَنِّد الشيخ عبدالله دراز تعميم كلام الشاطبي لصفة "الأمية" في معنى الشريعة ويقول: "أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعض الخواص منه شيئا فشيئا بحسب ما يسَّره الله لهم وما يلهمهم به، وذلك هو الواقع لمن تتبع الناظرين في كلام الله تعالى على مر العصور، يفتح على هذا بشيء ولم يفتح به على الآخر، وإذا عرض على الآخر أقره على أنه ليست كل الأحكام التكليفية التي جاءت في الكتاب والسنة مبذولة ومكشوفة للجمهور، وإلا لما كان هناك خواص مجتهدون وغيرهم مقلدون حتى في عصر الصحابة، وكل ما يؤخذ من مثل حديث "نحن أمة أمية" ما ذكرناه على أن التكاليف لا تتوقف في امتثالها على وسائل علمية وعلوم كونية وهكذا."

ونقول: أنْ يجعل كلام الشاطبي من وصف الشريعة "شريعة أمية"، ويحمل هذا الوصف لينسحب على كامل محتوى القرآن من قيمة معرفية، وتتوقف مع الزمن عند صدر الإسلام الأول، وتظل هكذا وحتى قيام الساعة، فهذه حالة عطالة معرفية، تتعارض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه"(الترمذي)، إضافة إلى أنه أمر غير مُبَرَّر ضرورةً بالعلّة التي ساقها الشاطبي، وفنّد عمومها الشيخ عبدالله دراز. وللوقوف على تفصيل ذلك، نوجز ما أقمنا عليه الحجة في دراسة "فضيلة"الأُمِّية وبراءتها من يقين الحساب الفلكي في رؤية الهلال" من معنى "الأمية" في كتاب الله تعالى "النبي الأمي" و "الأميين". وكانت خلاصة هذه الدراسة أن "الأمية" تعني الحالة المعرفية الغضة التي على مُسْتَقْبِل الشريعة أن يكون عليها كي لا يكون لتأثير ثقافته السابقة - إن لم يكن أمياً - أي تشويش معرفي، يطمس شيئاً من رونق الشريعة ونضارتها، ويعكر معانيها الخالصة، كما أرادها الشارع الحكيم، سبحانه. وقد شبّهنا في تلك الدراسة إنزال الله تعالى رسالته – القرآن - على قلب النبي – صلى الله عليه وسلم- والأمة الحافظة لها،كمن يسكب طعامه وشرابه في إناء. وإذا كان أحدنا لا يقبل أن يضع طعامه إلاّ في إناء طاهر، فكيف بالقلب الذي تتقاطر فيه آيات الله تعالى! .. أفلا يكون الأنقى والأطهر؟! .. وما ذلك إلا القلب النقي معرفياً، أي القلب الأُمّي، والأمة الخالية من آثارات الحضارات السالفة، أي الأمة الأمِّية. أي أن الأمِّية حالة معرفية قِبلية لمستقبل دين الإسلام، وليست شرط ملازم للمسلمين على الدوام.

والمفارقة أن الدراسة التي أشرنا إليها، كانت قد أُعدت لعدة أغراض، منها الرد على الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - حين قال[4] بأن شرط رؤية الهلال العيانية ارتبطت بأمية أمة الإسلام التي نزل فيها الإسلام، لعلة النص عليها في حديث النبي عن دخول الشهر الهجري، فكان حُجته أن زوال الأمية عن المسلمين تعفيهم من لزوم الرؤية، وأن الحساب الفلكي عندئذ هو الأنسب. فكانت الأمية عنده قد زالت على التمام، ومن ثم، أراد أن يمحو معها كل ما رآه قد ارتبط بها. وإذ بنا هنا نرى من الشاطبي الرأي الضد من ذلك، أي: قوله أن بقاء الأمية في الشريعة أمر لازم لمعناها الذي لزمها ليناسب من أنزلت عليهم، ومن ثم بقاء الشرع الإسلامي - ويقصد منه المحتوى المعرفي لما في القرآن بتمامه - كما هو مطابقاً لما كان عليه السلف! ومن ذلك أن عِلَّة "الأمية" قد أوّلها الراغبون في محو الشريعة بزوال الأمية على التمام[5] ومن وراء كل ما يلزم عنها حسبما يرى هو، أما الراغبون في مطابقة ما كان عليه السلف – الخطوة بالخطوة والقذة بالقذة – مهما استجدت مسائل الحياة، ، وانكشاف معاني المخلوقات، ومنهم الشاطبي، فرأوا أن الشريعة أمية لأن أهلها الذي أنزلت عليهم كانوا كذلك، فلتتطابق حياتُنا وتصوراتُنا حياتَهم وتصوراتَهم، ولنعش ما عاشوا، ولنمحُ ما لم يشاكل ما كانوا عليه. فكان التأويلان على الضد من بعضهما، الأول يجردنا من الشريعة بما تجردنا به من الأمية، والآخر يعيدنا إلى أمية ما أنزل الله بها من سلطان، و لا ريب أن كلّاً منهما قد طوع معنى "الأمية" حسب رؤيته، لا حسب معاني آيات القرآن المنزَّهة عن التصورات القريبة!

والمستَغْرب في كلام الشاطبي آليته البرهانية في إقصاء ما لا يجيزه، حيث نراه يستخدم المنطق الأرسطي في ثنائيته المتواترة بحصر الإشكال بين الصدق والكذب (إما وإما) وذلك في قوله [أن الشريعة التي بعث بها النبي الأمِّي صلى الله عليه وسلم إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما، إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية أو لا، فإن كان كذلك، فهو معنى كونها أمية، أي: منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك، لزم أن تكون على غير ما عهدوا.] حيث يضطر الخصم إلى قبول أحد الأمرين، وحيث أن الأمر الأخير لا شك في ضلاله (من كون الشريعة على غير ما عهد العرب) فيلزم الخصم أن الشريعة أُمّية! ... وهو لزوم ما لا يلزم بالمعنى الذي أراده الشاطبي. وهذه قسمة غير سديدة. فمن جهة كون المنطق الثنائي هو عين المنطق الأرسطي، فهذا يوقع الشاطبي في تناقض استخدامه المنطق الذي نبذه لاندراجه فيما يخرج عن الأمية، ومن جهة ثانية أن القسمة العقلية في موضع النزاع ليست ثنائية، لأن الشريعة أمية من الجهة (التكليفية التعبدية)، وغير أمية من الجهة (الاجتهادية العلمية). ومعلوم مدى الفساد الناتج عن إقصاء ما في الشريعة مما هو من تكاليف العلماء، ولا يمكن إدراجه في أمية شرائعية!

ونلحظ في حجج الشاطبي التي ساقها أعلى إشكال مربك، وذلك في قوله " إنه لو لم يكن (الشرع) على ما يعهدون (أي العرب) لم يكن عندهم معجزاً ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم: هذا على غير ما عهدنا، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام، من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا، وهذا ليس بمفهوم ولا معروف، فلم تقم الحجة عليهم به، ولذلك قال سبحانه: "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"(فصلت:44)" ويمكن لم شاء من خصوم الإسلام من غير أهل العربية أن يستخدم نفس حجة الشاطبي هنا ويقول بلسان قومه: "لولا فُصّلت آياته" أي بلسان القائل، يحتج بذلك لكونه غير ما يفهم من أعجميته، مثلما كان العرب ليحتجوا لو لم يكن القرآن عربياً، والذي لم يلحظه الشاطبي – عفا الله تعالى عنه – أن الآية ذاتها قد أجابت عن هذه الحجة، سواء كانت من العرب لو لم يكن القرآن عربياً، أو من العجم باعتبار أن القرآن غير أعجمي، وجاءت الإجابة صريحة موجزة بليغة فصيحة "أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ"؟! ... أي: ليست العبرة بعربية القرآن ولا أمية أهل العربية، ولا لغير عربيته لو لم يكن عربياً. ففي أي لغة نزل ففيه الهدى، إلا أن مشيئة الله تعالى، وتقديره أن يكون القرآن عربياً. فالحجة مردودة، سواء كانت من عرب لقرآن غير عربي، أو من عجم لكون القرآن عربي. فـ عِلّة الإعجاز والتحدي القرآني واقعة في المحتوى المعرفي للقرآن، وليست في كونه عربياً ولا أُمّياً. وأيما لغة نزل بها القرآن، فحتما سيكون في أعلى درجات البلاغة والنظم والفصاحة، غير أن التحدي بذلك لا يُبتدأ به إلا بعد الإتيان على معاني صادقة، وأنّى لبشرٍ أن يأتي بمعاني صادقة وتظل صادقة ما دامت على الأرض شمسٌ تشرق؟! وعلى ذلك يكون التحدي بالصدق والقيمة المعرفية أساس الإعجاز والتحدي، فمن يتجاوزه – وهيهات- فليتحدّى بالبلاغة والنظم والفصاحة والجزالة. وهذا الأخير ممتنع لممتنع –ومثله مثل من يصمم بيتاً يسكن فيه على المريخ، وهو يعلم أن الحياة على المريخ محال- فما جدوى البحث والنظر في مثل فعله؟! (أنظر في ذلك مقالة: كيف يكون القرآن العربي معجزًا للأعجمي؟)

وإذا راعى الشاطبي المعنى الحقيق للأمية، وأنها صفة قِبلية للمُرْسل إليه الإسلام، ولمن بقى منهم على فطرته وسجيته من عوامهم دون خواصهم، وأنها تتعلق بالتكاليف التعبدية والمناسك وليست للطبقات الفقهية العليا من لوازم الشريعة، التي منها علوم حسابات المواريث، والمواقيت، وأصول الدين الفقهية والعلمية، وما وراء ذلك من حجاج الكافرين، وسجالات المتفقهين، ووصف للخلق والأرض والسماء، وما يرتبط بكل ذلك من دقائق وأسرار، لما كان له أن يقول[6]: "ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب، ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ ؛ فأضافوا إليه كلَّ علمٍ يُذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم (أي الرياضيات من الهندسة وغيرها)، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من أهل الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح .. وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحدٌ منهم في شئ من هذا المُدَّعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ مما زعموا! وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"(النحل:8).وقوله "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"(الأنعام:38) ونحو ذلك …، فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين: ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"(الأنعام:38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم، النقلية والعقلية … فليس بجائز أن يُضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن يُنكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فَبِه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه، والله أعلم وبه التوفيق."

و قد رَدَّ على حجج الشاطبي، الطاهر بن عاشور - رحمه الله تعالى - في تفسيره وقال[7]: "هذا (الكلام) مبني على ما أسسه (الشاطبي) من كون القرآن لـمَّا كان خطاباً للأمِّيين وهم العرب فإنما يعتمد في مسلك فهمه وإفهامه على مقدرتهم وطاقتهم، وأن الشريعة أمّية. ... وهو أساس واهٍ لوجوه ستة:

الأول: أن ما بناه عليه يقتضي أن القرآن لم يقصد منه انتقال العرب من حالٍ إلى حال، وهذا باطل لما قدمناه، قال تعالى "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا"(هود: 49).

الثاني: أن مقاصد القرآن راجعة إلى عموم الدعوة وهو معجزة باقية فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.

الثالث: أن السلف قالوا (يقصد كما جاء في الحديث): "إن القرآن لا تنقضي عجائبه"، يعنون معانيه، ولو كان كما قال الشاطبي، لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.

الرابع: أن من تمام إعجازه أن يتضمن من المعاني مع إيجاز لفظه، ما لم تف به الأسفار المتكاثرة.

الخامس: أن مقدار أفهام المخاطبين به ابتداء، لا يقضي إلا أن يكون المعنى الأصلي مفهوما لديهم، فأما ما زاد على المعاني الأساسية، فقد يتهيأ لفهمه أقوام، وتحجب عنه أقوام، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

السادس: أن عدم تكلّم السلف عليها، إن كان فيما ليس راجعاً إلى مقاصده فنحن نساعد عليه، وإن كان فيما يرجع إليها، فلا نسلم وقوفهم فيها عند ظواهر الآيات، بل قد بيَّنوا وفصَّلوا وفرَّعوا في علوم عنوا بها، ولا يمنعنا ذلك أن نقتفي على آثارهم في علوم أخرى، راجعة لخدمة المقاصد القرآنية، أو لبيان سعة العلوم الإسلامية، أما ما وراء ذلك فإن كان ذكره لإيضاح المعنى فذلك تابع للتفسير أيضا. لأن العلوم العقلية إنما تبحث عن أحوال الأشياء على ما هي عليه، وإن كان فيما زاد على ذلك، فذلك ليس من التفسير لكنه تكملة للمباحث العلمية، واستطراد في العلم لمناسبة التفسير، ليكون متعاطي التفسير أوسع قريحة في العلوم."

وقال أيضاً في موضع آخر[8]: "والشاطبي قال في الموافقات: "إن القرآن لا تُحمَل معانيه ولا يُتَأوّل إلا على ما هو متعارف عند العرب" ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي (الخروج ) من مشكلات في مطاعن الملحدين؛ اقتصاداً في البحث وإبقاءً على نفيس الوقت، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور؟! وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته؟! وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن."

وإذا كان الطاهر بن عاشور، ومن قبله محمد عبدالله دراز، قد كَفَيانا مؤونة الرد، وخاصة ما أتى به ابن عاشور من تفصيل، إلا أنه يحق لنا أن نبحث عن علة أحكام الشاطبي، التي أدت به إلى حيود قياسه عن القبول.

وقد يكون من أمثل النماذج فيما نحن بصدده من علة الأمية في الأحكام – والتي احتكم إليها الشاطبي- مسألة الهلال ودخول الشهر القمري، وما فيها من خلاف بين النظار حول الوفاء بالرؤية البصرية للهلال كما جاء في صريح أمر النبي – صلى الله عليه وسلم - أو الاستعاضة عنها بالحساب الفلكي. فقد جاء نص حديث النبي كالآتي: [إنا أمّة أمِّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا ...] ولا خلاف على أن علة عدم استخدام الحساب هنا "أمية الأمة"، والحكم هو الاقتصار فقط على رؤية الهلال رؤية عيانية صريحة. .. ولكن، هل تُعمم هذه العلة لكل أحكام الإسلام؟! ... وما جاء به الشاطبي، ونحن بصدده في هذه الدراسة، هو أنه عمم هذا الحكم على كل أحكام الإسلام، ممثلاً بالمحتوى المعرفي للقرآن. إلَّا أن التسليم بهذا التعميم غير متيسر، ولا مأمون من الاعتراض كما رأينا. .. بل إن ما قبله من المطابقة بـالأحكام الفقهية للمحتوى المعرفي للقرآن نفسه محل تساؤل ينبغي تقريره قبل حمل الأحكام الفقهية وعلتها (الجامعة المفترضة) التي هي الأمية على معاني القرآن. لأنه معلوم أن آيات الأحكام لا تمثل فقط إلا بعضاً قليلاً من آيات القرآن. .. بل وقبل هذا وذاك، هنا علة الأمية وتحكيمها على انفراد في دخول الشهر العربي. وهي مسألة غير مُسلَّم بها، إذ لا يمتنع أن يجتمع مع علة الأمية علل أخرى، يجب الوفاء بها. وهذا كله بخلاف أن حكم الهلال وتعليله بالأمية جاء نتيجة لصراحة النص في إقرار العلة، ويصبح تعدية الحكم بالأمية لغير ذلك من مسائل لا نص فيها للعلة أمراً مشكلا. ... ومن الواضح إذاً أن اقتفاء آثار ولوازم عموم حكم الأمية الذي اعتمده الشاطبي لا يتسم باليسر ولا الصراحة التي تبدو عليها. ويصبح أصل الحكم الذي بنى عليه الشاطبي حكمه الفرعي أمراً غير مستقر، ويسهل التشكيك فيه من جهات عديدة[9].

وأخيراً، .. نرى أن لهذا الموقف والحكم والرأي – أياً كان تصنيفه- من أبي إسحاق الشاطبي، صدىً لاحق أو رنين سابق في مواقف المدرسة الدينية – على اختلاف مذاهبها – من التصنيف الفكري بجملته عند المسلم. بمعنى أن أي مظهر فكري يعترض المسلم أصبح يُصنف – تصنيفاً صريحاً أو ضمنياً – بين تصنيفين لا ثالث لهما؛ ويصبح إما أنه من الدين، وهذا مصدره النقل، ويصبح الناقلون فيه أميون وظيفياً، ولا إعمال فيه لعقل إلا الحفظ والمدارسة، ... ولماذا؟ ... لأن العرف والحال في من نزل القرآن فيهم هو الأمية حتى وإن كتبوا ودوَّنوا. أما التصنيف الثاني، فهو العقل، وهذا مجاله غير مجال الدين، وفيه يمارس العقل حرية لا غبار عليها، طالما أنه لا يمس من الدين شيئاً، ... وهنا كانت الازدواجية المعرفية عن المسلم، القديم والمعاصر. ما بين دين ودنيا، ثم صار الشعار بعد القرون الأخيرة، وطفرة العلوم الحديثة: لا دين في العلم، ولا علم في الدين! ... واتسعت رقعة الحرية اللادينية من الدنيا إلى العلم إلى السياسة إلى كل مناحي الحياة التي طرقها العقل الإنساني تحت ستار العلم. وانحسرت رقعة الدين، حتى كادت ألا تتسع إلا للعبادات والمناسك، وتسارعت وتيرة المواجهة، حتى بات العلم يناقش مجتمع الدين والمتدينيين، وصلة الدين بالأساطير، والفعل التاريخي والإنساني التقديسي لكل ما هو عزيز. وأصبح الدين مادة للدراسة في أيدي المزهوين بالعلم. ...
والسؤال هو: متى يكف حملة لواء الدين عن التقهقر المعرفي، تعللاً بـ (أُمّيّة الشريعة)، حتى وإن جادلوا بالتي هي أحسن – بما يظنون أنه أحسن في اللغة فقط؟! ... رغم أنه ينبغي أن يكون أحسن في كلِّ شيء، لغةً وخبرةً ودرايةً وتجربةً وإحاطةً وتنظيراً وترجيحا!!
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب​

----------------------------------
[1] أبو إسحاق الشاطبي (720-790 هـ)، هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي. أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع. نشأ بغرناطة، وأخذ عن أئمة منهم: ابن الفخار وأبو عبد الله البلنسي وأبو القاسم الشريف السبتي وأبو عبد الله الشريف التلمساني والإمام المقري. كان رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها.
[2] الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، شرح الشيخ عبدالله دراز، الجزء الثاني، دار المعارف، بيروت، ص 69.
[3] السابق، حاشية نفس الصفحة.
[4] شاهد ذلك أنْ قال الشيخ أحمد محمد شاكر: [الأمر باعتماد الرؤية وحدها جاء معللا بعلة منصوصة، وهي أن الأمة "أمية لا تكتب ولا تحسب"، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما، فإذا خرجت الأمة عن أميتها، وصارت تكتب وتحسب، أعني صارت في مجموعها ممن يعرف هذه العلوم، وأمكن الناس عامتهم وخاصتهم أن يصلوا إلى اليقين والقطع في حساب أول الشهر، وأمكن أن يثقوا بهذا الحساب ثقتهم بالرؤية أو أقوى، إذا صار هذا شأنهم في جماعتهم وزالت علة الأمية: وجب أن يرجعوا إلى اليقين الثابت، وأن يأخذوا في إثبات الأهلة بالحساب وحده، وأن لا يرجعوا إلى الرؤية إلا حين يستعصي عليهم العلم به، كما إذا كان ناس في بادية أو قرية، لا تصل إليهم الأخبار الصحيحة الثابتة عن أهل الحساب، وإذا وجب الرجوع إلى الحساب وحده بزوال علة منعه، وجب أيضا الرجوع إلى الحساب الحقيق للأهلة، وإطراح إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فيكون أول الشهر الحقيق الليلة التي يغيب فيها الهلال بعد غروب الشمس، ولو بلحظة واحدة](أحمد محمد شاكر, "أوائل الشهور العربية: هل يجوز شرعاً إثباتها بالحساب الفلكي؟"، رسالة كتبها 13 فبراير 1939هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1987، ص 14-15. وقد أخذ بهذه الفتوى عدد من مؤيدي الحساب الفلكي وما زالوا إلى يومنا هذا، رغم ما يقال عن أنه ربما تراجع عنها.)
[5] أما بقاء علة الأمية في رؤية الهلال، فلا يمكن إنكارها عن عوام المسلمين في شتى أنحاء الأرض الذين ربما يتجردون من جميع أسباب المدنية، فيظل الهلال لهم هادياً ما بقى القمر في السماء. هذا بالإضافة إلى أن مناسك الإسلام لا تتغير بتطور أسباب الحياة وتمدنها، وإن اختلف وسائل آدائها، من تنقل، وتبليغ، وغيرها. يراجع في ذلك دراسة "براءة الأمية"
[6] السابق: ص 79.
[7] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1420-2000، الجزء الأول، ص 42.
[8] (التحرير والتنوير، 1/ 126) – من 124 وحتى 127 أو بعدها.
[9] انتقد حمزة يوسف هانسن (الأمريكي المسلم) هذه العبارة للشيخ أحمد شاكر نقداً لاذعاً وقال: [يوجد بهذه العبارة أخطاء شنيعة من الممكن أن تضل الناس، وأول هذه الأخطاء أن الشيخ - أحمد شاكر - استخدم واحدة من أدق المبادئ الأصولية – يقصد القياس الفقهي- بدون أي ضبط، وتلك التي تخطئ التزام الرؤية بعد الخروج من الأمية حسبما تفيد العبارة]
(Hamza Yufuf, Caesarean Moon Births: Calculations, Moon Sighting, and the Prophetic Way, Zaytuna Institute, USA, 2007, P.49
 
الفصل (أ10) محمد حسين الذهبي

الفصل (أ10) محمد حسين الذهبي

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ9) أبو إسحاق الشاطبي​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
أيد الدكتور الذهبي[1] ما أورده الشاطبي من اعتراضات على التفسير العلمي، ثم عقب وقال[2]:

"هناك أُمور أُخرى يتقوى بها اعتقادنا أن الحق فى جانب الشاطبى ومَن لَفَّ لفه، فمن ذلك ما يأتى:
أولاً: الناحية اللغوية: كثير من الألفاظ القرآنية، تغيرت وتوسعت دلالاتها، بمرور الزمان. وهذه المعاني كلها تقوم بلفظ واحد، بعضها عرفته العرب وقت نزول القرآن، وبعضها لا علم للعرب به، وقت نزول القرآن، نظراً لحدوثه، وطروئه على اللفظ، فهل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدت باصطلاح حادث ؟!

ثانياً: الناحية البلاغية: البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، والتفسير العلمي للقرآن يضر بلاغة القرآن. لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله، إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب! وإن كانوا يعرفون هذه المعاني، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية، من لدن نزول القرآن، الذي حوى علوم الأولين والآخرين ؟!

ثالثاً : الناحية الاعتقادية: أنزل الله القرآن إلى الناس كافة حتى قيام الساعة. ولو ذهبنا مذهب من يحمل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم ، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم، وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء. ولو نحن ذهبنا إلى تقصيد القرآن ما لم يقصد، من نظريات، ثم ظهر بطلان هذه النظريات، فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يُكذِّب اليوم ما صححه بالأمس.
"

أولاً: تكمن خلاصة اعتراض الذهبي في الناحية اللغوية في قوله: "هل يعقل أن نتوسع هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان جدت باصطلاح حادث؟!"

والرد عليه أن مدار الألفاظ على المعاني، ولهذا أمكن الترجمة من لسان إلى آخر، ولو لم تكن المعاني هي الأصل لما أمكن عبورها من لغة إلى أخرى. كما وأن اللفظ الواحد ذو وجوه من المعاني، يجمعها قالب دلالي مشترك. وباعتبار السياق يتعين للَّفظ وجه واحد فريد دون باقي الأوجه. وفي سياق آخر يتعين وجه آخر إن لم يكن الأول، وهكذا. ويصعب استغراق اللفظ لعدد منحصر من الوجوه، لأن القالب الدلالي للّفظ يحتمل عدد غير محدود من المعاني المتحدة القالب. والأمثلة على ذلك عديدة، منها على سبيل المثال لفظ "السماء"، فهي تؤول - إذا انفردت - إلى كل ما هو أعلى بالنسبة لغيره، أي "كلّ ما ارتَفع وعَلا"[3]، أو: سماءك "كلُّ ما عَلاكَ فأَظَلَّكَ"، فيكون من وجوهها - بالنسبة للأرض - كل ما في الكون ويعلو الأرض، ومن ذلك قوله تعالى "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ"(الأنبياء:16)، ويكون من وجوهها السماء الواحدة من بين سبع سموات خلقهن العزيز الرحيم، كما في قوله تعالى "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا"(فصلت:12). ومن وجوهها الغلاف الجوي كما في قوله تعالى "وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى"(طه:53). ومن وجوهها سقف البيت لأنه أعلاه، كما في قوله تعالى "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ"(الحج:15). ومن وجوه لفظ "السماء" ما يؤول إليه قول الله تعالى "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ..." ولم ترسو له في هذه الآية دلالة واضحة حتى الآن. وتكاد هذه القاعدة أن تعم جميع ألفاظ القرآن، أللهم إلا أسماء الأعلام والأجناس. والخلاصة أن اللفظ يحتمل وجوهاً قد تتعدد، ولا ينفرد بإصابة أحدها إلا بسياق مفيد المعنى. وحتى بعد ذلك قد يعمم الوجه المقصود أو يخصص، وقد يطلق أو يقيد، وللأصوليين في ذلك طرقهم في استنباط العلل والأحكام.

وعلى ذلك، يجوز حمل شيء من الاصطلاحات المستحدثة على بعض معاني ألفاظ القرآن في وجوه خاصة لها، بما تسمح به هذه البنية اللغوية للقالب الدلالي للّفظ، ووجوهه المحتملة، والآليات الاستنباطية المشار إليها، واشتراكات محتملة بين معنى السياق القرآني ومعنى الظاهرة الطبيعة (أو الاجتماعية أو الإنسانية أو النفسية). فمن هذه الاصطلاحات في علاقاتها المحتملة مع مفردة "السماء" في القرآن نجد: "الفضاء"، و"الغلاف الجوي" وأي من طبقاته المختلفة، و"المجرات"، والعناقيد النجمية، والنسيج الكوني، و"النجوم"، والثقوب السوداء، و"السُدُم"، و"الأشعة الكونية"، و"الفراغ"، و"الفضاء الفيزيائي"، ... .

وإذا كانت ثقافة المفسِّر ضحلة في المعارف المختلفة، وجديد المكتشفات والظواهر التى تنفلق أسرارها للإنسان دوماً، وإذا كان لم يمتثل لأمر الله تعالى " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "(يونس:101)، فمثله مثل من يفتي الناس في غير قريته - دون أن يخالط أهلها، ويعلم طباعهم وسجاياهم وبيئتهم ومعايشهم وأحوالهم ولسانهم ودلالات كلامهم، وفي المجمل لم يعرف أعرافهم الاجتماعية، فأنى له يُسقط أحكام الله على واقع غير معلوم ولا مفهوم، وأنى له يُنْكر على المتفحص لكل ذلك من المتفقهه الواعية؛ يريد أن يعلم أن كلام الله تعالى من أحوال هؤلاء الناس هو كذا وكذا، وأن معاني كلامهم من كلام الله تعالى هو كذا وكذا؟!

وإذا كنا ننادي ألا ينغلق الباب دون التوسع الدلالي بما تسمح به المعاني في اللغة، إلا أن ذلك لا يعني تحكيم الاصطلاح الحادث في عام المعنى أو مطلقه، ويندرج هذا في التخصيص بلا مخصص، والتقييد بلا مقيد، ويقع هذا ممن يغلب على تفسيره الظن والهوى والقصور العلمي. ومن ذلك كلمة "ذرَّة" في قول الله تعالى "وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ"(يونس:61). فالاصطلاح الحادث اختار هذا اللفظ "ذرَّة" حديثاً ليعني الجزء الذي لا يتجزء من المادة، رغم أن نفس هذا المعنى كان قد اُختير له اصطلاح آخر في العربية قبل بضعة مئات من السنين، هو "الجوهر الفرد"! وقد كان هذا الاصطلاح الأقدم أدل على المعنى، وأبعد من الالتباس، بما تكشف لاحقاً من أن ما حمل اصطلاح "الذرة" من المادة قابل لأن يتجزأ، رغم أنه متفرد في صفاته! أي أن الخبرة التجريبية أثبتت لاحقاً مفارقة الاصطلاح الأحدث، أي: "الذرة" لما اصطُلح له من معنى. فظن وتوهم بعض المشتغلين بالتفسير العلمي أن تفكُّك ما اصطلحوا عليه بإسم "ذرة" إلى ما هو أصغر منه، كان نبوءة القرآن، وأنه مطابق لما قصدته الآية الكريمة " وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ (أي الذرة).. إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "! .... ولكن هذا غير صحيح، لأنه كان من الممكن إطلاق لفظ "ذرة" على ما تم تسميته "جزيء" والذي تبين أنه جمْعٌ من عناصر متشابهة (التي سُمِّيت ذرات) دون أفرادها، فهل كان تفكك الجزئ لتلك العناصر المفردة يؤدي إلى تحقق نبوءة القرآن أيضاً لو سمّي الجزيء ذرة، ولو لم تتفكك ما سموه "ذرة"؟! ... وماذا لو بقى الاصطلاح القديم "الجوهر الفرد" هو الاسم المعتمد بدلاً من الذرة، هل كانت نبوءة القرآن – المظنونة - بأن هناك أصغر من الذرة لتنمحي؟! ... ثم بعد أن يظهر أن هذا الجوهر الفرد يتفكك إلى ما هو أصغر منه (البروتونات والنيوترونات والإلكترونات والنيوترينوهات، .. و مئات أخرى من الجسيمات)، فما الذي يمنع أن يُسمى أي أو كل هذه الجسيمات الأصغر ذرات، وليس تجمع منهم على ما هو شائع الآن؟! ... بل ما الذي يمنع أن اصطلاح "ذرة" يُستبقى ويؤثر لما هو أدق من ذلك واُطلق عليه لاحقاً بالإنجليزية وغيرها (كوارك)، أو فئة الجسيمات المسماة ليبتونات، والمعلوم أنه لا تتفكك؟!!! ... الحقيقة أن إطلاق الاصطلاح لا مشاحة فيه كما قال علماء اللغة (إذا فُهمت المعاني ولم تتداخل وتتغامض)، ولكن الخطأ يقع في تقييد اللفظ القرآني ("ذرة" في هذا المثال) بقيود المواضعة دون المعنى. وهنا يكون ضبط التعامل مع اللفظ القرآني هو المنهج السوي، لا منعه كما يؤدي إليه كلام الشيخ الذهبي، ولا التلاعب به – حسب الظن والهوى وقلة الخبرة والحنكة العلمية- كما يفعل الإعجازيون (المتهافتون سريعاً نحو أي إعجاز مهما كان مشتبها).

أما عن الناحية البلاغية فقد اعترض الشيخ الذهبي وقال: "البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، والتفسير العلمي للقرآن يضر بلاغة القرآن. لأن من خوطبوا بالقرآن في وقت نزوله، إن كانوا يجهلون هذه المعاني، وكان الله يريدها من خطابه إياهم، لزم على ذلك أن يكون القرآن غير بليغ، لأنه لم يراع حال المخاطب! وإن كانوا يعرفون هذه المعاني، فلم لم تظهر نهضة العرب العلمية، من لدن نزول القرآن، الذي حوى علوم الأولين والآخرين ؟!"

أما وأن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، فهذا لا مراء فيه. أما المراء فهو في القول بأن من خوطبوا به هم فقط من عاصروا نزوله. نعم، الخطاب القرآني نزل للناس كافة بلسان عربي مبين، ومن وقت نزوله إلى قيام الساعة. والأدلة على ذلك وفيرة ولا ينكرها إلا من لا يعلم الإسلام من آي القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو شئنا لسردنا منها ما نعلم، ولسودنا بها صفحات وصفحات.

أما القرآن فمنه المحكم والمتشابه، ولا ينكر ذلك عالم بالقرآن. فالمحكم لا يختلف على فهم المراد منه أول المسلمين من آخرهم إذا تعلم اللسان العربي على وجهه الصحيح. أما المتشابه فهو ما يتكشف تباعاً للناس بما تقتضيه زيادة معارفهم، واختلاف ثقافاتهم إلى ما هو أصوب عن السابقين لهم، فيظل القرآن يخاطب كل أمة من الأمم المتتالية جيلاً بعد جيل، بما يعرفون من آيات دلائل القدرة والعلم، بما لا ينضب معينه، ولا تنقضي عجائبه.

فإذا كانت هذه هي أحوال الناس من استحقاق لمخاطبة القرآن لهم على اختلافهم وتوسع معارفهم، وإذا كان هذا هو القرآن على إحكامه وتشابهه وفيض عطائه وتجدد معينه، فلا بد وأن النموذج البلاغي الذي أورده الشيخ الذهبي قد جانب الصواب حين افترض قرآناً ساكن المعاني، ومخاطبين راكدي الثقافة. ويصبح ما ذَمَّه الشيخ رحمه الله تعالى في انتفاء البلاغة عنه هو قمة البلاغة، وما مدحه الشيخ بدعوة البلاغة ليس "بلاغة" في الحقيقة!

وكما أقررنا أن البلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال، ولأن الحال أصبح أمم متعاقبة وثقافات متشعبة ومعارف متجددة، فوجب أن تقتضي بلاغة القرآن ثراء المعاني وتجددها لتفي بمتطلبات كل هذا التنوع. ولا ريب أن يكون ذلك بقَدَرٍ من الله، يخرجه وقتما يشاء، بحكمته البالغة، وهو سبحانه من تعهد ببيان وحيه بذاته العلية، فقال " ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة: 19). ويصبح نضوب معاني القرآن على ما فهمه الأولون بقدر وعاءهم الثقافي، وفهم آياته التي كانت متشابهات على ما قيل فيها من قبل، دون أدلة راجحة ولا حجج بالغة، يصبح عبئاً تراثياً، وقيداً فكرياً، واجتراراً معرفياً. وتكون النتيجة انطلاق الحضارات المغايرة استباقاً ومغالبة وفتنة للناس وأخذاً بألباب الأغرار من أبناء المسلمين، فلا يبقى من الدين إلا كتب الأولين، وإن جدّ جديد، فلا يزيد عن النقل عنها، وطحن الطحين.

أما عن الناحية الاعتقادية فقد اعترض الشيخ الذهبي وقال: "أنزل الله القرآن إلى الناس كافة حتى قيام الساعة. ولو ذهبنا مذهب من يُحَمِّل القرآن كل شئ، وجعلناه مصدراً للعلوم، لكنا بذلك قد أوقعنا الشك في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم. وذلك لأن قواعد العلوم، وما تقوم عليه من نظريات، لا قرار لها ولا بقاء. ولو نحن ذهبنا إلى تقصيد القرآن ما لم يقصد، من نظريات، ثم ظهر بطلان هذه النظريات، فسوف يتزلزل اعتقاد المسلمين في القرآن الكريم. لأنه لا يجوز للقرآن أن يُكذِّب اليوم، ما صححه بالأمس."

نقول أن " الالتقاء بين بعض مقولات العلوم الحديثة و بعض المقولات الجديدة في فهم آيات القرآن " لا يتطابق مع الاتهام الذي أتى به الشيخ الذهبي والذي نصه "تحميل القرآن كل شئ، وجعله مصدراً للعلوم". إن واحدة من أهم أوليات الفكر الإسلامي تأصيلاً هي "تحرير محل النزاع". ولا نرى إلا أن الشيخ قد تراءى له محلاً للنزاع لا وجود له، ثم بنى عليه أحكاماً إقصائية. فهذا الالتقاء المشار إليه، لا يستطيع أن يدعي أصحابه مهما أُتوا من جرأة، ومهما حاولوا من إقصاء لغيرهم، أن يقولوا أنه التأويل الوحيد والفريد والنهائي لآيات القرآن. إنه لا يعدوا أن يكون طرحاً ووجهاً محتمل النظر والاعتبار، وجل خطئهم أن يحشروه في الإعجاز، وكان عليهم أن يبقوه محض تفسير، ويجوز لغيرهم أن يحققوه وأن ينقدوه، ولهم إن استطاعوا أن ينقضوه. فالنقاش منفتح الأبواب، والأفهام متفاوتة المشارب ومتفاضلة منح العزيز الوهاب. وتبقى الغلبة للحجة الأقوى، بما يعضدها من وقائع وأحوال، لا لحبس الأنفاس وحجر الأفكار. وما نرى الإسلام قام يناهض الناس ليرغمهم على الإيمان، إنما قام يناهضهم لكسر الحواجز والآصار التي كبل الناس أنفسهم بها، فيصل كلام الله إلى الناس حُراً طليقة، فيقبله من شاء الله له النجاة، ويُعرض عنه من لا يستحقه. إن أصحاب التفسير والإعجاز العلمي بشر كغيرهم، لهم إصابات، ولهم مثلما لغيرهم من الزلات. وقد تقود حماسة بعضهم إلى الزعم بيقين وهمي لا دليل عليه، أو أن يَظهر دليلٌ لا يعلمه أحدهم على خلاف زعمه، وفقط عندئذ يجب التدخل من أهل العلم والتحقيق في كل مسألة مسألة، بأن يردوا الأمور إلى نصابها، ويظل كتاب الله تعالى عزيزاً متعالياً.

وربما يكمن الإشكال في غياب أهل العلم والتحقيق المشار إليهم الذين يردون الباطل، ويدعمون الحق فيه. فمناخ الالتقاء بين القرآن والعلوم الحديثة جديد، لم تتراكم فيه الخبرات بعد، ولا تشكلت له محبوكات المناهج قط.

وما نرى إلا أن مُتَّبعي التفاسير والمذاهب الموروثة - حذو القذَّة بالقذَّة - قد انتفضوا لما أثارته عليهم تلك الثورات الإعجازية الجديدة من تعكير صفو علومهم، فاتخذوا مبدأ "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". ويُخشى أن تكون معارضتهم لما هو جديد لا عن تحقيق وإصابة، وإنما عن اتقاء وحماية. وليس بمستغرب أن ينقلب شدة الاتقاء، وفرط الحماية إلى نقيض حرية طيور الفكر في الإسلام، والتي ما ناهض الإسلام غيره إلا للدفاع عنها. وأخشى ما نخشاه على الإسلام أن يكون أتباعه قد فقدوا الحُجَّة والبرهان، وآثروا السلامة والاطمئنان. فإن كان، فلله تعالى جنودٌ من الملائكة والأنام، لا يكلُّون فيَنامون، ولا يُصادِرون ولا يَتَّهمون، وهم بعملهم مشغولون.

ولنا في أبي حامد[4] وابن تيمية[5] مثالان، قام الأول فكشف زيف المتفلسفة وتهافتهم، ومخالفتهم للقرآن، وقام الثاني فعرى المنطق الأرسطي العقيم، وكشف خداع وأوهام العقل البهيم. ولو أنهما قطعا ألسنة المتفلسفة والمتعقلة لكان لهم دمٌ ومعهم أعذار، ولمالت معهم قلوب المتذبذبة والفجار، ولَكَمن تحت الرماد ضرامها، وترقب إلى التلظي أزيزها، غير أن للحجة البالغة سلطانها، شديدٌ على أهل الباطل لجامها.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
------------------------
[1] محمد حسين الذهبي (1915 - 1977)، حصل على درجة العالمية، أي الدكتوراه، بدرجة أستاذ في علوم القرآن عام 1946 من كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، عن رسالته التفسير والمفسرون التي أصبحت بعد نشرها أحد المراجع الرئيسة في علم التفسير. ترقى إلى عميد كلية أصول الدين، ثم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية (هيئة كبار العلماء سابقاً)، ثم وزيراً للأوقاف وشئون الأزهر حتى عام 1976. وفي عام 1977 أغتيل على يد جماعة التكفير والهجرة. له مؤلفات عديدة منها: الوحي والقرآن الكريم، الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها، تفسير ابن عربي للقرآن حقيقته وخطره. التفسير والمفسرون ، مقدمة في علم التفسير ، مقدمة في علوم القرآن ، مقدمة في علوم الحديث ، الإسرائليات في التفسير والحديث ، نور اليقين من هدي خاتم المرسلين.
[2] محمد حسين الذهبي، "التفسير والمفسرون"، 4/391.
[3] كما قال الزجاج – لسان العرب مادة (سما).
[4] أبو حامد الغزالي، في كتابه تهافت الفلاسفة.
[5] ابن تيمية الحراني، في كتبه: نقض المنطق، والرد على المنطقيين، ودرء تعارض العقل والنقل.
 
الفصل (أ11) محمود محمد شاكر

الفصل (أ11) محمود محمد شاكر

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ11) محمود محمد شاكر​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول محمود شاكر[1]،[2]: [من البَيِّن أن العرب قد طُولِبوا بأن يعرفوا دليل نبوة رسول الله، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه، بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به، حتى يلزمهم الحجة في توحيد الله، أو تصديق نبوته، ولا بمعجزة كمعجزات إخوانه من الأنبياء ممن آمن على مثله البشر. وقد بيّن الله في غير آية من كتابه أن سماع القرآن يقتضيهم إدراك مباينته لكلامهم، وأنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام رب العالمين، وبهذا جاء الأمر في قوله تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ"(التوبة:6).
فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن
(بدليل يسوقه محمود شاكر قبل ذلك بأسطر وهو أن معجزات الأنبياء السابقين قصدت صحة نبوتهم وصدق كتبهم بالتبعية، دون إعجاز عين الكتب كما هو الأمر مع القرآن). والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة (إعجاز القرآن)، قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديماً وحديثاً، بل أدى هذا الخلط إلى تأخر (علم إعجاز القرآن) و (علم البلاغة) عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا إليها.]

نقول: أراد محمود شاكر من ذلك تبيين أنه ليس من مقاصد كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي (حيث كان كلامه تقديماً للكتاب) أن يتناول (علم إعجاز القرآن) وإنما عُني بإثبات صحة دليل النبوة. والفرق بين المقصدين لطيف إلى الحد الذي لا يستطيع معظم الدارسين تمييزه. ويدفعنا هذا التحليل الرائع من محمود شاكر، للتساؤل من جهتنا عن (التفسير العلمي للقرآن)؛ أهو من نوع (علم إعجاز القرآن) أم أنه من (علم دلائل النبوة)؟

ونُفَضِّل أن نُمهل أنفسنا فسحة من الوقت قبل التعجل بالإجابة، لنفهم أولاً تعريف العلامة محمود شاكر لما هو (إعجاز القرآن).

يقول (رحمه الله تعالى)[3]: "أما مسألة (إعجاز القرآن)، ... (فـ).. هي عندي أعقد مشكلة يمكن أن يعانيها (العقل) الحديث – كما يسمونه – حتى بعد أن يتمكن من إرساء كل دعامة يقوم عليها إيمانه بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصدق الوحي، وصدق التنزيل، وأيضاً فهي المسألة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الشعر الجاهلي، وبالكيد الخفي التي اشتملت عليه هذه القضية (يشير بذلك إلى الطعن في مصداقية الشعر الجاهلي من قِبل المستشرق مرجوليوث[4] سنة 1925، ومن بعده طه حسين[5] سنة 1926، ومن ثم الطعن في مرجعية الشعر للّغة العربية، لغة القرآن والإسلام)، بل إنها لترتبط ارتباطاً لا فكاك له بثقافتنا كلها، وبما ابتلي به العرب في جميع دور العلم، من فرض منهاج خال من كل فضيلة في تدريس اللغة وآدابها. بل إنها لتشتمل ما هو أرحب من ذلك. تشتمل بناء الإنسان العربي أو المسلم، من حيث هو إنسان قادر على تذوق الجمال في الصورة والفكر جميعاً."

يريد محمود شاكر من كلامه هذا أن (إعجاز القرآن) مسألة خاصة بالقرآن ذاته، وأنها مسألة عويصة إذا ما أردنا استيفائها حقها، وخاصة أنها تتعلق مباشرةً بكلام الله تعالى، الذي يعلو على أي كلام لغير الله، مثلما يعلو الله تعالى على خلقه. فالوقوف على مسألة إعجاز القرآن، والإحاطة بها، أمر بعيد المنال، وإن قدّر الله تعالى لنا أن ننال منه شيء يسيرا. وأن هذه الغاية لتزداد بعداً عن المسلمين في وضعٍ يؤسف له، من حيث إهمال لغة القرآن، وفقدانها أرضاً خصبة كان يرعاها أصحابها، فيحصدوا منها أينع ثمار اللغات، حيث طغت الجهالة باللغة على حماها القديم، وذلك أمام ثقافات جديدة، فخسرنا بذلك جولة هامة في محاولات الاقتراب من ماهية "علم إعجاز القرآن". ... وكما هو واضح من هذا المدخل أن محمود شاكر يريد حصر (إعجاز القرآن) في النظم القرآني وجمال إبداعه، وأهليتنا نحن في تذوق هذا الجمال.

ولا ينبغي أن ينكر أصحاب الإعجاز العلمي هذا المنحى الجمالي في نظم القرآن وصياغته التي هو عليها؛ ظانين بذلك أنه منحى قديم قِدم التراث العربي، وأنه قُدِّر فقط لقومٍ كان تذوق اللغة عندهم وبيانها جزءاً من شخصيتهم، وأنه من ثم لم يعُد كذلك لمن تبعهم من أجيال، غلب عليهم تقديم قيمة المحتوى القرآني على الصورة اللغوية للنظم. ومرد دفاعنا عن المنحى الجمالي في الصياغة، أنها لا تنفك في الحقيقة عن قيمة المحتوى، وتوجد لذلك شواهد عديدة في الصياغات القانونية في النظريات العلمية الحديثة، بل إن جمالية الصياغة أصبحت من معايير صدق المحتوى! فالقانون العلمي المفتقر لجماليات النظم العلائقي بين عناصره، أصبح أقل قيمة علمية وحظوة عند العلماء من قانون يماثله في قيمة المحتوى، ولكنه أرقى منه في الصياغة والنظم! وإن حصل ذلك لأصبح دليلاً عن ضرورة تعديل القانون الأقل جمالاً أو اتساقاً للوفاء بالمزيد من المزية النظامية/الجمالية. بل إن المدخل الجمالي نفسه أصبح فرعاً من فروع البحث العلمي الساعي إلى، والباحث عن، صادق القوانين في محتواها المفاهيمي. وأقرب مثال لذلك مفهوم النظامية، أو التماثل symmetry. ودون الدخول في تفاصيل ذلك – وهو موضوع قائم بذاته - نستكمل مع محمود شاكر مذهبه في (إعجاز القرآن)، لنرى انعكاساته على رأيه في التفسير والإعجاز العلمي في القرآن.

يقول محمود شاكر[6]: "(إن) معرفة معنى (إعجاز القرآن)، ما هو وكيف كان، أمرٌ لا غنى عنه لمسلم ولا لدارس، وشأنه أعظم من أن يتكلم فيه امرؤ بغير تثبت من معناه، وتَمَكُّن من تاريخه، وتتبع للآيات الدالة على حقيقته. ... وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. (وذكر قصة بداية الوحي) ... أمره ربه أن يقرأ ما أنزل عليه على الناس .. ولم يكن من برهانه، ولا مما أمر به أن يلزمهم الحجة بالجدال، حتى يؤمنوا أنما هو إلهٌ واحد، وأنه هو نبيُّ الله، بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويُقرّوا له بصدق نبوّته، بدليل واحد، هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه. ولا معنى لمثل هذه المطالبة بالإقرار لمجرد التلاوة، إلا أن هذا المقروء عليهم، كان هو في نفسه آية؛ فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه هو، ولا من كلام بشر مثله. ثم أيضاً لا معنى لها البتة إلاّ أن يكون في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا تمييزاً واضحاً بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر، والكلام الذي ليس من نحو كلامهم."

نقول: لا نجادل في هذا الكلام، غير أننا نرى غموضاً في عبارته التي تقول: "أن هذا المقروء عليهم، كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه". ولإزالة هذا الغموض نسوق هنا مثالاً – يجلِّي المسألة - لموقفٍ من هذه المواقف التي يستمع فيها أعرابي للقرآن، وما تبع ذلك من حوار دار بينه وبين قارئ القرآن عليه، وهو حوار يحمل كثيراً من الدلالات:

ذكر القرطبي في تفسيره: "عن الأصمعي قال: كنت أقرأ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم}، وبجنبي أعرابي، فقال: كلام من هذا؟ - قلت كلام الله. قال: ليس هذا كلام الله! فانتبهت فقرأت: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"(المائدة:38). فقال: أصبت. هذا كلام الله. فقلت: أتقرأ القرآن؟ ... - قال: لا. ... - قلت: من أين علمت؟ - قال: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع."

من البين في هذا المثال أن الأعرابي، الذي أقر بأنه لا يقرأ القرآن، أي: لا يحفظ متنه في صدره. إنما علم من سياق الآيات، ما لا ينبغي أن يأتي من تالي ألفاظه! وأنه قد فطن إلى أن ما سمعه أول الأمر ليس من كلام الله تعالى، لأن الكلام معيب، رغم أن المتلو عليه كان مكوناً من جزئين؛ كل منهما من كلام الله تعالى حقاً، ولكن الجزئين لا يأتلفان دلالة، ولا يمكن أن تتبع ثانيتُهُما الأولى. وقد علل الأعرابي ذلك صراحة، وجاء تعليله بديعاً في تحليل المتن المتلو عليه، فاستنكر ما كان متنه معيباً أن يُنسب إلى الله تعالى، رغم أن جزئيه - كلٌّ على انفراد - من كلام الله، وقد جاء في موضع مباين، وفي سياق يخصه، غير الذي أخطأ الأصمعي في جمعهما دون انتباه.

وهذا المثال غايةً في بيان أن الذين سمعوا كلام الله تعالى من رسوله الأمين، قد أقروا بأنه كلام الله، ليس لجمال نظم متلو بلا إمعان للمعنى والصدق الدلالي، بل لارتقاء الكلام في معناه قبل نظمه؛ إذْ ما قيمة جمال النظم مع انكسار المعنى أو امتناعه. وما كان هذا شأنه من كلام الله تعالى، الذي يعلو ولا يُعلى عليه، فلا يُستشهد منه على النظم دون المعنى. فإن قيل: أن السبب في تمعُّر الأعرابي من قبول الكلام دون مراجعة، أن جزءا الكلام لم يأتلفا نظماً، فاختلّ بذلك، فنفر منه الأعرابي! قلنا: لو كان الأمر كذلك، لما علل الأعرابي بالتعليل المذكور، ولقال ما يشبه أنه استنشز الكلام، وهذا لم يحدث، بل حدث خلافه. كما وأن القارئ هو من هو، إنه الأصمعي، ومعروف قدره في العربية، فكيف به ينطق بما يكسر النظم ويخدش جماله؟! – فالمسألة إذاً - لو كانت كذلك - لم تكن من جهة النظم، إلا إذا التئم المعنى، ثم من بعده انكسر النظم، وأبت الآذانُ سماعه.

وهب أن مثال الأصمعي والأعرابي السابق، قد تكرر في أيامنا هذه، وقرأ القاريء، فأخطأ وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، والشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، والليل سابق النهار، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وكان يجلس بجانب القارئ عالم بالفلك لا يقرأ القرآن، فسأل الفلكيُّ القارئ: كلام من هذا؟ فأجابه مثل جواب الأصمعي، فاعترض الفلكي مثل اعتراض الأعرابي! – وعنده أسبابه في فساد المتن كما كان عند الأعرابي- فكيف نحلل إذاً هذا الحوار الشبيه بالأول، وإلى ماذا نُرجع فطنة هذا العالم الفلكي في انكسار المعنى؟!!! ... وقد لا نعدم من يحاجج الفلكي ممن يظن أنه من أهل الفصاحة المعاصرين، ويقول له هذا دين وليس علماً فلكياً حتى تدلي فيه بدلوك! .. وعندها علينا أن نستغرب الأمر! ...ونتساءل .. كيف انقلب الأمر بين صاحب الحُجَّة والمحجوج، وكيف ضاع منّا معيار الاحتجاج؟!

يصعب جداً التمييز - من حيث جمال نظم - بين الكلام السابق، وبين قول الله تعالى "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ... الآية" من حيث السياق اللغوي، المجرد عن العلم بالفلك. هذا بافتراض أن العالم الفلكي من متذوقي اللغة العربية على تمامها. فإذا اعترض على القارئ بأن هذا لا يمكن أن يكون من كلام الله، ثم سأله القارئ: وكيف عرفت أن هذا الكلام ليس من كلام الله تعالى؟ - فسوف تكون إجابته: لأن نجم الشمس لا يمكن أن يصطدم في سنن حركته الجارية بالقمر، كما وأن الليل والنهار قائمان لا يسبق أحدهما الآخر، وما بدأ أحدهما قبل الآخر، وسيضيف عالم الفلك: وهذا مما أعلمه يقيناً من سنن علم الفلك ولوازمه!!!

وهنا نأتي على المحك!

هنا يرفض عالم الفلك هذا النظم المتلو، رغم خفاء فروق المعاني وجمال السياق بينه وبين كلام الله تعالى، مثلما رفض الأعرابي تلاوة الأصمعي الخاطئة، والعلة المشتركة بينهما، هي أن الكلام المستنكر يتناقض مع الحكمة العلمية، التي هي مطابقة الكلام لواقع الحال المحكي عنه.

وهنا نصل إلى نتيجة هامة، وهي أن العلم الحديث قد مد في سعة أفق الحكمة العلمية، فأصبح الإنسان أبعد تمحيصاً للمعاني، وأقدر على مقاربة الكلام المتلو لوقائع الأحوال، وأصبحت مرجعيات الحكم على صدق الكلام وعدم صدقه أكثر تفصيلاً باتساع علم الإنسان. وهذا الأمر يتفاوت بالطبع بين الناس، تبعاً لنصيبهم من العلم الحديث من حيث النوع والعمق المعرفي. ومن هنا يرى الأكثر علماً من التوافقات المعرفية بين القرآن وبين ما يعلمه أكثر ممن هو أقل منه علماً، فيرى من ثمَّ (توافقات) أكثر من غيره، فإذا كانت يقينية يُسميها (إعجاز علمي)، وإذا كانت أقل من اليقين وتُقاربه سمّاها تفسيراً علميا.

وهنا نتساءل: هل من مذنب؟! ... ومن هو؟ ... هل هو عالم الفلك الفطن لما يسمع، العامل بما علَّمه الله؟! ... أم من لا يمتلك أدوات التمييز بين أي العبارات أصدق؟! فضلاً عن إقامة البرهان على علة صدقها؟! ... وليس هذا اتهاماً لأحَدْ، بل هو عملٌ بقول الله تعالى "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ"(الزمر:18)، ويُقال مثل هذه الدقائق المعرفية على مئات الآيات ذات العلاقة بالمخلوق الحي والجامد.

ونأمل بهذه الأمثلة أن نكون قد أزلنا الغموض الذي أحاط بعبارة محمود شاكر رحمه الله تعالى، في قوله: "أن هذا المقروء عليهم، كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه". حيث أن فهم المعاني بالوقوف على أسباب صدقها، وأسباب فساد ما خالفها، إنما سبيله العلم بالمعاني، قبل الانتشاء ببديع النظم، ... وهذا هو التفسير العلمي وإعجازه لما تيقن منه. ... ولا ضرورة لأن يرتقي الأمر دائماً إلى جدل أو جدال إذا تجاوز "إعجاز القرآن" حاجز النظم، وحط رحاله في جنان المعاني، كما أراد محمود شاكر من قوله "ولم يكن من برهانه، ولا مما أمر به أن يلزمهم الحجة بالجدال، حتى يؤمنوا .. بل طالبهم بأن يؤمنوا بما دعاهم إليه، ويُقروا له بصدق نبوته، بدليل واحد، هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه."

ويتابع محمود شاكر ويقول[7]: "وكان هذا القرآن يُنزَّل منجماَ، وكان الذي نزل عليه يومئذ قليلا .. فكان هذا القليل مما أوحي إليه من الآيات يومئذ، هو على قلته وقلة ما فيه من المعاني التي تتامت وتجمعت في القرآن جملة كما نقرؤه اليوم، منطوٍ على دليل مستبين قاهر، يحكم له بأنه ليس من كلام البشر..
وإذا صح أن قليل القرآن وكثيره سواء من
(حيث) (أن هذا الكلام مفارق لجنس كلام البشر، وذلك من وجه واحد هو وجه البيان والنظم) ثبت أن ما في القرآن جملة، من حقائق الأخبار عن الأمم السالفة، ومن أنباء الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب الدلالات على ما لم يعرفه البشر من أسرار الكون إلا بعد القرون المتطاولة من تنزيل، كل ذلك بمعزل عن الذي طولب به العرب، وهو أن يستبينوا في نظمه وبيانه، انفكاكه عن نظم البشر وبيانه، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين بهذا الدليل."

نقول: لا يُسَلَّم بأن علة الإعجاز بين قليل القرآن وكثيره لا بد أن تكون في نظمه وبيانه دون دلالته ومضمونه. فقليل الكلام الفائق النظم والبيان، لا ضمان معه في إصابة المضمون على نحو لا يستطيعه البشر، مثلما أنه يأتي في نظم وبيان إلهي لا يدانيه ناظم من البشر. بل إن تكشُّف المضمون متجددُ الصدق على نحو أبعد مما كان، في حين أن آليات النظم والبيان اللغوي لا تستدعي التجديد في ظاهرها. ومن ثَمَّ يكون المتجدد في القرآن مع مرور الزمن أشد إدماغاً على البشر مما خلا منه. فكان المضمون والمحتوى أدوم للتحدي، سواء مع قلته أو كليته. أما إن اقترن بُعد صدق المضمون مع بديع النظم، كان التحدي أفحم.

وإذا علمنا عدم امتناع، بل ضرورة، الإعجاز في المضمون، شمل ذلك كل مضمون أتى القرآن على شيء منه، سواء كان من أنباء الغيب أو دقائق التشريع، أو أسرار الكون، أو حتى ما لا يُعرف له تصنيف ولا تعريف من البشر بعد، بل ربما في مستقبل الزمان.

وفي هذا النوع الأخير من المضمون – الذي لم يعرف عنه البشر شيء بعد – هو المحك في بيان معنى الإعجاز الجديد، وهو الذي غاب عن الذكر فيما كتبه محمود شاكر، يقول فيه: "إذا أقروا أنه كلام رب العالمين بهذا الدليل (يقصد النظم والبيان)، كانوا مطالبين بأن يؤمنوا بأن ما جاء فيه من أخبار الأمم، وأنباء الغيب، ودقائق التشريع، وعجائب الدلالات على أسرار الكون، هو كله حق لا ريب فيه، وإن ناقض ما يعرفون، أو باين ما اتفقوا على أنه عندهم أو عند غيرهم حق لا يشكون فيه."

نقول: لا شك أن المؤمن بالقرآن – أياً كان سبب إيمانه به – عليه بعد أن يؤمن، أن يُصدّق بكل ما جاء فيه، وأنه من عند الله تعالى، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه، غير أن تصنيف محتوى القرآن إلى سبب للإيمان، هو النظم والبيان، ومُصدَّق من القرآن، هو المضمون، قسمة لا دليل عليها. فلا يمتنع أن يكون سبب الإيمان بعض من النظم والبيان، وبعض من المضمون، ومثال لهذا الأخير ما قاله الله تعالى عن بني إسرائيل "وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ"(الشعراء:196-197)، ومعناه أن مضمون القرآن الذي يطابق ما في زبر الأوليين بلغاتها التي أنزلت بها، آية لعلماء بني إسرائيل الذين يعرفون صحة هذه المطابقة وصدق المضمون، من سابق علمهم بزُبُر الأوليين، ومن ثم كان التعجب من فعلهم من عدم الإيمان مع توفر سببه لهم دون غيرهم! وفي نفس الوقت كان إخبار القرآن أنه في زبر الأوليين مُصدَّق عند من آمنوا بالقرآن لغيره من أسباب، ولأصبح ذلك بالنسبة إليهم خبراً جديداً – رغم قدمه- إذا علموا بصدقه ممن يعلم ذلك من علماء بني إسرائيل. ويستوي في ذلك أي مضمون جاء في القرآن، وتبين له مُصدِّق آخر من خارجه، أو استبان واحتكم مضموناً بعد أن كان مشتبهاً، مثلما هو حال الآيات الكونية أو آيات الحكمة التشريعية، أو غير ذلك، وهو ما أصبح مندرجاً في مُسمّى الإعجاز العلمي، أو دلائل صدق القرآن وأنه من وحي الله سبحانه دون غيره.

ومعنى ذلك أن كل مضمون في القرآن يحتمل أن يكون آية وسبب للإيمان عند قوم، ومصدق به بعد الإيمان بالقرآن عند قوم آخرين. وإذا عُلم ذلك، عُلم أن نفي دلالة المضمون واستبعاده كآية تدعو للإيمان بالقرآن – أي كونه إعجاز علمي على أن القرآن وحيٌ من عند الله وحده – لم يكن نفيه واستبعاده على صواب من أصحابه. ولا يمنع ذلك أن يكون النظم والبيان أية أيضاً بينة جلية لأهل العربية – خصيصاً – العالـِمين بأسرارها المتذوقين لجمالها. فدلائل الإيمان المختلفات تقبل الإضافة دون مزاحمة، وهذه نعمة من الله تعالى على العباد، كلاًّ يُمِدُّ من عطائه ومنِّه.

أما ما نستغربه حقاً فهو قول محمود شاكر: "أما صحة ما جاء فيه (يقصد من مضمون) فليست هي الدليل الذي يطالبهم بالإقرار بأن نظم القرآن وبيانه مباين لنظم البشر وبيانه، وأنه بهذا من كلام رب العالمين." لأنه يوهم بأن عين النظم والبيان من المقاصد عند قوم، وأنه ينبغي نفي هذا الوهم. ويثير هذا دهشتنا لغياب مثل هذا الادعاء، رغم كونه تحصيل حاصل يُستشهد به على انحطاط أي نظم وبيان بشري بجانب كلام الله، مثلما يُستشهد بقدرة الله تعالى على أن قدرة البشر سراب بجانب قدرة الله تعالى.

ونود هنا أن نؤكد على أن محمود شاكر يتبع بدقة تعريفه وتمييزه بين دلالة القرآن على أنه من عند الله تعالى (دلالة النبوة ومصدرية الوحي للقرآن)، وإعجاز البشر على الإتيان بمثل القرآن (إعجاز القرآن). ففي حين أنه يقصر الإعجاز بهذا المعنى على النظم والبيان، إلا أنه لا يمنع أن يؤدي المضمون إلى تأكيد مصدرية الوحي للقرآن. وهذا هو التمييز الذي يقصده في عبارته التالية:

يقول[8]: "إن ما في القرآن من مكنون الغيب، ومن دقائق التشريع، ومن عجائب آيات الله في خلقه، كل ذلك بمعزل عن هذا التحدي المفضي إلى الإعجاز، وإن كان ما فيه من ذلك يعد دليلاً على أنه من عند الله، ولكنه لا يدل على أن نظمه وبيانه مباين لنظم كلام البشر وبيانهم، وأنه بهذه المباينة كلام رب العالمين، لا كلام بشر مثلهم."

وإنّا لنعجب حقيقة من إصرار محمود شاكر على هذا التمييز، وتجنُّب تأييد أن العرف السائد بين الناس حديثاً على أن (إعجاز القرآن) يؤدي بدوره إلى إثبات (مصدرية الوحي للقرآن)، ومن ثم اتخذه الناس عَلَمَاً عليه، إذا أن قول الله تعالى يؤكد ذلك، عندما قال سبحانه: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَـ .. "(البقرة:23). كما وأن محمود شاكر نفسه يؤكده، لقوله: " ما فيه من (مكنون الغيب، ودقائق التشريع، وعجائب آيات الله في خلقه) يعد دليلاً على أنه من عند الله ". إلا إذا كان يميز بين أن يكون من عند الله وأن يكون كلام الله تعالى، وهو تمييز لا مطلب له! .. ثم ما هي الفائدة التي يمكن أن يجنيها أحد من تحدِّي إعجاز القرآن بالإتيان بسورة من مثله إن لم يكن سعيه لنفي أنه من عند الله. فالإعجاز القرآني إذاً سبب لا يختلف عليه أحد أنه يؤدي إلى إثبات مصدرية الوحي. ولا ضير أن يضع الناس السبب عَلَمْ على المسبب. ويصبح الخلاف من ثم خلاف على التسمية. وتصبح عندئذ محاولات محمود شاكر الدؤوبة لنفي العلاقة بين مضمون آيات القرآن، وإعجاز القرآن الذي يقصده، صد لحق فهمه الناس وأيده محمود شاكر نفسه، وليس له من غرض إلا التعلق بالأسماء، رغم أنهم قالوا منذ القديم: "لا مشاحة في الألفاظ إذا فهمت المعاني".

أما من جهة وجاهة تسمية الآيات العلمية الكونية التي استبان صدق دلالتها والتي اشتهرت بـ "الإعجاز العلمي للقرآن" أنها إعجاز تحدي، فهذا غير صحيح، ولم يقصده أهل الإعجاز العلمي. وكل ما قصدوه أنه دلالة على صدق الوحي، وأنه من عند الله تعالى. فإن أريد التمييز بين "إعجاز (علمي) قرآني دلالي على الوحي"، و"إعجاز (علمي) قرآني يتحدى الإنس والجن عن الإتيان بمثل سورة من القرآن"، فهذا مطلب وجيه. .. ونُقِر بأن أصحاب الإعجاز العلمي، لم يستطيعوا - حتى الآن - تحقيق النوع الثاني، وأن كل ما استطاعوا تحقيقه هو النوع الأول. أي أن الإعجاز العلمي الراهن هو فقط للدلالة على صدق الوحي، وليس التحدي. ... ومن ثم، يجب الإقرار أن التسمية الشائعة غير صحيحة، إلا إذا اعتبرت اصطلاحاً تواضع عليه مستخدموه، ولا يختلفون في معناه، أللهم إلا مع من يتمسك بحرفية المعنى اللغوي، مثل محمود محمد شاكر. والحق يقال أن من يتمسك بالمعنى اللغوي للإعجاز (العلمي وغيره من بياني وتاريخي وتشريعي ... إلخ) له كل الحق في استنكار الإسم المستعار لما هو دليل على صدق الوحي مما هو للتحدي، وترك مجال التحدي شاغراً لا يملؤه إعجاز تحدي حقيقي. إلا قولهم أن الإعجاز القرآني الحقيق والذي غرضه التحدي هو – على لسان محمود شاكر - "نظم القرآن وبيانه". وهذا لا نُقرُّهم عليه، وبيان ذلك على التفصيل هو ما أوردناه في موضع آخر (مقالة بعنوان: كيف يكون القرآن معجزاً للأعجمي؟!)، ونوجز هنا الفائدة منها:

"الإعجاز القرآني العلمي" الذي غرضه التحدي:

قال الله تعالى " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "(البقرة:23)
والآن: لنفترض أن هناك من أراد أن يخوض هذا التحدي! ... فماذا عليه أن يفعل؟

عليه بكل بساطة أن يأتي بمثل سورة – ولو في أقصر سور القرآن - من عند نفسه أو مما شاء من مصدر آخر يُعينه غير القرآن – حتى ولو سانده الإنس والجن جميعا.

وإتيانه بسورة يعني أن يأتي بـ (إفادة معرفية تامة وصريحة المعنى)، فإن أتى بها على شرطها المبين وعلى أي صورة كانت، لغوية أو رياضية، يكون قد اجتاز مرحلة أولى تتعلق بالمعنى، وعندها ننتقل إلى مرحلة ثانية تتعلق بالصياغة اللغوية لنرى درجة النظم والبيان المطلوب تحققهما قبل المقارنة مع سور القرآن.

وفي المرحلة الأولى، نقول: ليس هناك من أمل أن يستطيع مخلوق أو حتى كل عقلاء الخلائق، ولو مجتمعين، أن يأتوا من عند أنفسهم بـ أي (إفادة معرفية تامة وصريحة المعنى)؛ لأن هذا أمر محال! فأي إفادة مَأتيٌ بها، لا تَصدُق إلاّ جزئياً ومحلياً في المكان أو الزمان. أما أن تبقى صادقة دوماً ولا تنكسر أبداً فهذا ما لا يضمنه أحد من العلماء. بل وسوف يتهكمون على من يأمل في نفسه أو غيره من البشر أن يحاول ذلك! وإذا سأل سائل: ولماذا؟ - نجيبه بأنه مهما أَتَى المخلوق من علم، فلن يعلم شيئاً إلا باستقراء ناقص أو تخمين، وكلاهما يخلو من اليقين، وكلاهما يحيد عن الواقع مع اطراد اختباره بمزيد من الفحص والرصد، فأنَّى يزعم زاعم أنه قد أتى بإفادة معرفية صادقة تحقق الشرط الأول؟! (أنظر في ذلك المحاولة التي أتينا بها في مقالة كيف يكون القرآن معجزاً للأعجمي؟! وهي محاولة فاشلة، رغم أنها اقتضت خبرة تزيد عن 2400 سنة في الاستقصاء والتحري عن معانيها!)

فإن لم يجتز المتحدي الشرط الأول، فالحديث عن النظم والبيان يصبح خارج دائرة التحدي لعدم الوصول إليه، وليس لعدم وقوع التحدي بالنظم والبيان القرآني، الذي هو في أعلى درجات البلاغة في التعبير عن الإفادة المعرفية القرآنية.

فإذا كان هذا هو حال البشر جميعاً، على الأقل، فقد أُسْقط في أيديهم، وخاب مسعاهم، وبقى القرآن شامخاً عزيزاً مهاب الجانب، لا تدانيه أي (إفادة معرفية تامة وصريحة المعنى) من عند غير الله العزيز الحكيم.

وإذا كان ذلك كذلك، فما هي الحاجة إلى المرحلة الثانية في أي مقارنة في النظم والبيان. إن هذا النظم الشارد يصبح ممتنع لممتنع، مثلما يشترط أحد شرطاً محالا ويقول، لو ولد لي ولدٌ صحيح بعد أربعة أشهر من حمل أمه له، فسأفعل كيت وكيت. فالشرط ممتنع، وكلامه غير ذي فائدة لأنه محال. فكذلك يصبح التمسك بأن الإعجاز القرآني منحصرٌ فقط في نظمه وبيانه، بلا قيمة عملية! لأنه أمر لن يصل إلى مرحلته أحد، إلا إذا تجاوز ممتنع، أي: أن يأتي بـ (إفادة معرفية تامة وصريحة المعنى) من عند نفسه، وهذا محال أبدا. ويبقى القرآن عصياً على التحدي ما بقى الليل والنهار.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
----------------------------
[1] محمود محمد شاكر (أبو فهر) (1909-1997)، أديب مصري، منافح شرس عن اللغة العربية، محقق للتراث، له معارك أدبية مع طه حسين ولويس عوض. له العديد من المؤلفات منها: المتنبي، القوس العذراء، أباطيل وأسمار، وله العديد من التحقيقات، منها: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني. وقد حصل محمود شاكر على جائزة الملك فيصل العالمية عن كتابه "المتنبي" سنة 1984.

كلمة الشيخ الدكتور محمود محمد شاكر أمام الملك فهد بن عبد العزيز بعد تسلمه جائزة الملك فيصل العالمية
وننوه إلى أن ما قاله الشيخ شاكر من أن كتاب المتنبي - الذي حصل على الجائزة بسببه - ليس من تأليفه، بل كان من تأليف شخص آخر له نفس الاسم، لم يكن إلا مزحة علمية لها غرض قد تحقق، وهنا فقرة مقتطعة من طبعة متأخره من كتابه (1977، ص5) تؤكد ذلك:

[2] " مداخل إعجاز القرآن"، محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، 2002، ص 154-155.
(أو: كتاب "الظاهرة القرآنية"، لمالك بن نبي، تقديم "محمود محمد شاكر"، ص 25-26.)
[3] السابق، ص 156.
[4] راجع هنا كتاب: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي"، تصدير وترجمة: عبدالرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، 1979، ص 12، ص (87-129). وقد رد المستشرق برونليش Braunlich على مرجوليوث Margoliouth في مقال مترجم نفس الكتاب ص (130-142).
[5] "في الشعر الجاهلي"، طه حسين، ص 38، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، بدون تاريخ ، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية، 1926. وقد رد عليه طائفة من العلماء في مقدمتهم مصطفى صادق الرافعي (في مقالات جمعت تحت عنوان "تحت راية القرآن")، ومحمود محمد شاكر.
[6] السابق، ص 156-158.
[7] السابق، ص 158
[8] السابق، ص163.
 
الفصل (أ12) - أمين الخولي

الفصل (أ12) - أمين الخولي

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ12) أمين الخولي​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
تشبه اعتراضات الشيخ أمين الخولي[1] على التفسير والإعجاز العلمي في القرآن لحدٍّ كبير، بما فيها من ترتيب الاحتجاج، اعتراضات الشيخ محمد حسين الذهبي، وكأن أحدهما قد اقتبس اعتراضات الآخر وأعاد صياغتها وإخراجها. لذلك سنتجاوز عن تكرار ردودنا التي أسلفناها هناك. ومن أراد أن تكتمل له صورة الرد فليرجع إليها (الفصل (أ10)). وسنقصر ردنا هنا على بعض الزيادات التي يثيرها إخراج الأستاذ أمين الخولي، أو التي تجاوزنا عنها هناك تخفيفاً للعبء والمؤونة.

فنقول: اعترض أمين الخولي على التفسير العلمي للقرآن من عدة نواحي، فقال في الناحية اللُّغوية[2]: "في حياة الألفاظ وتدرج دلالاتها؛ لو ملكنا منها ما لا بد لنا أن نملكه في تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها، لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين ذلك التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجَعْلها تدل على معاني وإطلاقات لم تعرفها، ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك الألفاظ قد استُعملت في شيٍء منها، فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال."

يُحيل الخولي هنا التوسع في فهم ألفاظ القرآن إلى النمو التاريخي الذي صاحب حياة الألفاظ وتدرج دلالتها، وذلك ينطبق على أي ألفاظ كانت، وفي أي لغة. ويقول ما معناه أنه لو كان هناك أرشيفاً تأريخياً لألفاظ القرآن الكريم، لاستطعنا عندئذ من خلاله تتبُّع اللفظ الواحد عبر تاريخه، فيما جد له من معاني، واتساع دلالي، وتفرع اشتقاقي وانحراف استخدامي، ولكان لنا وقفات واعتراضات على معاني لم تعرفها الألفاظ الأولى كما جاءت في القرآن، ولم توضع تلك الألفاظ لتُستخدم فيها. وإن كان العلماء قد أجازوا استخدام تلك الألفاظ على معاني اصطلاحية بعد نزول القرآن بأجيال، فذلك كان من باب التجوُّز الذي يحول دون تأثُّر المعنى الشرعي للَّفظ بالمعنى الاصطلاحي. ونؤكد هنا سلامة هذا المنطق اللُّغوي للأستاذ الخولي. وندعم رأيه بشدة في أن استخدام ألفاظ القرآن على هذا النحو يعارض الأمانة العلمية من حيث المبدأ، ويمثل تعدياً صريحاً على صرامة معاني الألفاظ القرآنية. ونؤكد أننا قد اعترضنا على زلات كثيرة للمشتغلين بالإعجاز قد سقطوا فيها، وكأنها ألغام دلالية تفجرت دون انتباه منهم، نتجت بالدرجة الأولى بسبب غياب الحس اللغوي لتاريخ الألفاظ، وعدم القدرة على التمييز بين الأصل والفرع الدلالي، وما أدى إلى تخصيص المعاني أو نقلها أو اشتراكها أو حتى إسقاطها من الاستخدام. ونؤُكد أخيراً أن هذا المنزلق اللغوي كان سبباً لكثير من أخطاء الإعجازيين حديثاً. بل إن تاريخ تفسير القرآن ومن زلّ فيه، ليؤكد هذا المنحى ممن ولجه، في وضع الألفاظ في غير معانيها السياقية، وخاصَّة المعتزلة قديماً، وبما يشمل أيضاً آيات التوحيد والاعتقاد، وهي الحصن الحصين الذي ما كان يجب أن يقترب منه مفسِّر إلا بأشد الحذر، مع توخي آمن المسالك، وأبعدها عن الشُّبهات.

ومع كل ذلك، نُؤكد أن هذا الخطأ في استخدام الألفاظ لغير ما وُضعت له من المعاني المٌعجمية، ليس بمانع من حيث المبدأ من جواز العديد من التفسيرات الطبيعية، وما ارتقى منها إلى مصاف الإعجاز العلمي، وإنما هو خطأ منهجي في آليات التوظيف اللغوي لدلالات الألفاظ. فمع خطورته، لا نرى كونه سبباً ينغلق به باب انكشاف المزيد من المعاني، وما يجب فعله في مثل هذه الحالة، فهو وضع الضوابط اللُّغوية لسلامة الاستخدام، ورد ما لا يلتزم به من أعمال الإعجازيين بأدلتها اللغوية، التي يقبلها أهل العلم والمنهج الصحيح في ذلك، وبما تقوم عليه الحُجّة ويفشل في محو الإدانه.

ونعطي لذلك مثالان، الأول لما فيه من خطأ ظاهر، والثاني لما فيه من احتمال الصواب، لغياب التخطئة عنه حتى اللحظة:

فأما المثال الأول الذي هو ظاهر الخطأ .. فهو استخدام لفظ (اليوم) في قوله تعالى "وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"(الحج:47) بمعناه الاصطلاحي الحديث، ... حيث استخدمه عدد من المفسرين الإعجازيين بمعنى (اليوم الفلكي) الدارج في الفهم المعاصر، والذي يكافئ 24 ساعة، .. وهذا خطأ إذا جاء منفرداً، وصحيح إذا كان مجتمعاً ولو على وجه التقريب. بمعنى أن (اليوم الفلكي) المعاصر، وكما جاء في العجم الوسيط، هو فقط ما يكافئ 24 ساعة، أو (يوم + ليلة) بألفاظ اللغة. وعليه يكون (اليوم) في اللغة والقرآن – إذا انفرد – هو طول النهار فقط. ومن ثم، يكون طول "اليوم" متفاوت حسب الموقع عل سطح الأرض، وليس ثابت الطول، ناهيك أن يُستعاض عنه بـ 24 ساعة في أي معادلات تفسيرية للآيات، فيكون عندئذ الخطأ شنيعاً، ويكون من النوع الذي أدانه الخولي، رغم أن الخولي لم يميز نوع عن نوع، بل عمم الخطأ، وكأن الخطأ في تحكيم الاصطلاح الحادث في التفسير العلمي قاطع بفساد عموم التفسير العلمي. وهذا هو الذي نُدينه من كلام الشيخ الخولي رحمه الله. بمعنى أننا نُدين الخطأ بقدره، ولا نقطع به الطريق. أما إن اتخذ المعترضون على التفسير العلمي مثل هذ الأخطاء ذريعة لدرء مفاسد محتملة للتفسير، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين مواضع الخطأ من الإصابة، فهذا إدانة لهم لأنهم يتسببون في إضاعة ما هو صواب. وهذا ما دعانا إلى قبول مبدأ التفسير العلمي، ولكن على التمييز مسألة مسألة، وأن تحاكم كل مسألة باستقلال.

وهنا نشير إلى المثال الثاني، وهو ما يحتمل الصواب بقوة، من تفسيرات علمية جديدة، ونقصد به تفسير "الصَّدْعِ" في قوله تعالى "وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ"(الطارق:12)، بما دلّت عليه الكشوف الجغرافية من وجود صدوع عظيمة في الأرض تُقطِّع القشرة الأرضية إلى عدد من القطع المميزة، وهنا نجد ذلك يأتلف أيضاً مع معنى جديد لقوله تعالى "وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ"(الرعد:4)، فتكون هذه القِطًع هي ما تم تسميتها بإسم الألواح أو الصفائح plates. وهذه الصدوع والقطع الأرضية، (أو الألواح أو الصفائح)، ليست توهمات نظرية تفسيرية، بل هي كشوف تُرصد وتُسجل على مدار الساعة واليوم والشهر والسنة، من محطات رصد أرضية، وقد تم تعيين مواقع الصدوع ودرجات انزلاقات الألواح بالنسبة لبعضها بعضاً. وإذا كانت هذه الكشوف قد جُمعت في ما يُسمى بنظرية "الألواح/الصفائح الأرضية التكتونية" Plate Tectonics، فالأصل فيها ما تم رصده من واقع طبيعي يكشف عن حقيقة طبيعية، وليس كونها نظرية تصح أو تخطئ. فقد تخطئ النظريات في الصياغة أو التعليل، ولكن الوقائع والقراءات التجريبية لا تخطئ، وإن أعيد التنظير حولها. .. ومما لا شك فيه أن المفسر اللُّغوي لا يمكن أن يقف في معاجم اللغة على هذه المعاني (من صدوع أرضية هائلة، وألواح أرضية باتساع عدد من الدول)، ولا على تصورات لأهل اللغة العربية لشيء منها. ولكن الانفراج المعرفي والفيض المعلوماتي، والنظر الجديد في طبائع الخلق يكشف عن ظواهر طبيعية ربما هي التي تتكلم عنها الآيات، إذا تعرفنا عليها من صفاتها دون عيون أسمائها. ومن هنا يتقوى بها التفسير، والذي يُسمّى عندئذ "التفسير العلمي"، أو "التفسير الطبيعي"، ويصعب الطعن فيه على أساس المعاني الـمُعجمية، أو عدم دراية أصحاب اللغة بها.

وفي الناحية الأدبية أو البلاغية قال الأستاذ أمين الخولي[3]: "البلاغة فيما يقال: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا النحو المُوسَّع من التفسير العلمي، كلاماً يُوجَّه إلى من خوطب به من الناس في ذلك العهد، مُراداً به تلك المعاني المذكورة، مع أنها معاني من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعدما جازت آماداً فسيحة وجاهدت جهاداً طويلا، ارتقى به عقلها وعلمها!!! وهب هذه المعاني العلمية المدَّعاة كانت هي المعاني الواردة بالقرآن، فهل فَهِمَهَا أهل العربية منه إذ ذاك وأدركوها؟! وإذا كانوا قد فَهِمُوها، فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المُفَهِّمَة لدقائقها!! وإن كانت لم تُفْهَم منها، ولم يُدركها أصحاب اللغة الخُلّص من عباراتها – كما هو الواقع فعلاً – فكيف تكون معاني القرآن المرادة؟! وكيف تكون تلك الألفاظ مُفَهِّمة لها، وهل هذه هي المطابقة لمقتضى الحال!"

ليكن الأمر صريحاً، ولنقل: نعم، لم تكن آيات التفسير والإعجاز العلمي التي اشرأبت وأطلت بهامتها في ذلك العصر، لم تكن مُوجَّهة بدلالتها إلى من خوطب بالقرآن في عهد المؤمنين الأوائل، بل كانت من المتشابهات، وما زال الكثير منها إلى يومنا هذا متشابهاً، والذين يقفون أمام الزحف التفسيري الجديد مانعين غير مميزين بعضه من بعض، إنما يحاولون منع هبوب الرياح الجديدة التي تتلاقح بها بعض معاني الآيات المتشابهة، فتنتقل بها من رتبة المتشابهات إلى رتبة الـمُحكمات. وما يستطيعون إن كانت هذه هي إرادة الله تعالى. ونعوذ بالله أن نتجاوز حدودنا، غير أن هذا المعنى سائغ بما يُفهم من عموم قول الله تعالى "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19). ومقام هذه الآيات المتشابهة عند الأولين في الإسلام مقام ما قال الله تعالى فيه " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ "(المائدة: 101)، غير أنه في موضوعنا هنا يؤول السؤال المنهي عنه: أي "لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ" إلى محاولات التفسير القديمة والحديثة – للمتشابهات - بلا سند ولا دليل، وهو ما حاوله الكثير من المفسرين القُدامى، وكان جل أقوالهم التفسيرية في مثل هذه الآيات، محض رأي ينازعه محض رأي آخر أو أكثر، وكلٌّ كاسرٌ مكسور. وليس بمستغرب ما كان سيحل بالسائلين عن التفسير الصحيح إن أبداه الله تعالى لهم في زمنهم. هل يقول لهم إن تفسير ما أرادوا معرفته هو أن الأرض تدور حول الشمس؟! ...أم يقول لهم أن أمراً لله تعالى في الدنيا – قد سنَّ الله تعالى عليه أن- يسير بسرعة الضوء؟! ... أم يقول لهم أن الشفع والوتر هما أدنى التعبيرات الرياضية لتمثيل التغيرات الطبيعية ... وأنهما الصفر والواحد، أو الغياب والحضور، أو الزوجي والفردي (وكل ذلك متكافئ معرفياً)؟! ..... أم .. أم .. أم .. وكم كان سيسُوؤهم سماع مثل هذه المعاني؟! .... وهذا هو ما يقابل قول الله تعالى "إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" في الآية الكريمة المشار إليها. وأما ما يقابل قول الله تعالى "وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ" في موضوعنا، فهو بيان الله تعالى لها بما يرافقها من مُكتشفات جديدة - وليس أقوال مُكتشفين - تتضح معها معاني الآيات التي كانت متشابهة، وذلك تصديقاً لقوله سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"(النمل: 93). وإن كان بعضُنا لا يريد أن يرهق نفسه بالمزيد من العلم، أو يجده مستعصياً عليه، ويظن أنه قد استحوذ عليه جميعا، وأنه قد انغلقت بعده الأبواب، ورُفع الميزان، وناله من الله تعالى، منابر النور، والروح الريحان، وفسيح الجنان، فما أفسدهُ من ظنٍّ يظنه ظان، ولو أن هذا واقع، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشبع منه العلماء"!!! .. أمَا وقد شبع من ظن بنفسه ذلك! فإما أن رسول الله لم يقل الحق، .... نعوذ بالله من الخذلان بعد الإيمان ... ، أو أن هذا الظان لم يكن من العلماء الراسخين الذين يقولون "آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"(آل عمران:7)! لأنه عندئذ سيكافي رأيه قول من يقول (آمنا وعلمنا ما به كلٌ من عند ربنا)، خلاف ما في الآية من ملمح أنهم لم يعلموا كل ما آمنوا به بالضرورة. فالإيمان بالكل، لا يستلزم العلم بالكل، وهو الذي يريده هذا الظان بإغلاقه باب المعاني وراء ظهره.

أما قول أمين الخولي: "فما لنهضتهم العلمية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة لدقائقها!!" فيجافي الشواهد الحضارية وتاريخ العلوم! ونتساءل: هل قامت على الأرض نهضة علمية حقيقية غير التي أسسها القرآن، واحتضنتها العربية، وساح علماؤهما في الأرض ما بين الهند والأندلس والبلقان واليونان، وشنقيط والسودان، يوثقون ويثبتون وينفون، ويرصدون ويؤلفون ويصنفون، أم يعيب على أجدادنا أنهم لم يكونوا للفضاء غازين، أم نُحَمّلهم تقصيرَنا ونومنا مع النائمين، أم أن أعدائنا قد طمسوا تاريخنا المنير، فصدقناهم ونسيناه نحن مع الناسين؟! ... وليستمع من يتشكك في كلامنا إلى هذه المحاضرة[4]، فيتبين له منها كيف أن دواعي القيام بأركان الإسلام، من صلاة وصيام وحج ومواقيتها الزمنية والمكانية والاتجاهية قد استدعت قفزات في علم الفلك والجغرافيا بعد أن انزوت الأرض تحت أقدام المسلمين وتقوس ظهرها من فرط بُعد زحفهم وجَهْدهم واجتهادهم، حتى أنهم اخترعوا الهندسة الكروية خصيصاً لذلك على غير مثال سابق، كما أن الزكاة والميراث قد استدعى اختراع علم الجبر، وعلى نحوٍ إبداعي لم يُسبق إليه أيضاً، وإذا كان هذا لمحض الوفاء بأركان الإسلام، فما البال بعطاءات الله فيما أنزل من كتاب وقرآن، لا ينفذ عطاؤه إلى يوم يقوم الناس لرب العباد، لا ينالها إلا السائحون المجتهدون في معاني الخلق والآيات والأسباب، لا الوارثون اجتهاد آبائهم، لا حظَّ لهم فيه إلا التقليد وغلق دونه الأبواب.

أم يظن أصحاب مثل هذا الكلام ، أن "النهضة العلمية في علوم الحياة" تنبعث من القرآن دون أن يمارسون الحياة! .. دون أن يعتركوا تجاربها الإنسانية والمادية ... وينفعلوا بها وتنفعل بهم. وهل ينفع القاضي أن يحفظ من الأحكام متوناً، وقد فقد حواسَّه، لا يسمع صوتاً! ولا يرى ضوءاً! ولا يدري بما تتقلب به الأيام؟! ... وكذلك النهضة العلمية لحملة القرآن، لا تقوم بغير حواس، غير أنها حواسٌ أبعد مراماً، وأرهف مقاماً، .. إنها التجارب العملية والبيانات المعملية والرصدية، وتحليلاتها التي قيلت في شأنها. أفئن تداركتها البشرية بعد زمان، تَحْرُمُ على المسلمين أن يروها بعيون القرآن، وأن يسمعوا لها تحدثهم عن رب القرآن وآيات الله فيما أنزل من فرقان وما أودع في الخلق من ميزان؟! .. إن هذه النظرة الجامعة لعطاءات الله فيما أنزل وخلق، فرض عينٍ على كل إنسان. فإن عطّلها من لم يمارس الحياة، وظن أن أمر القرآن مقصور على المسبحة والترتيل في الخلوات، فليُعِد قراءة القرآن، وليأتمر بالأمر الذي فيه من نظرٍ في الخلق وتركيب برهان، والأشياء يُسمِّيها مثلما كان من أول إنسان! ... يُناظر أباهُ الملائكةَ، وهو عن مناظرة الناس في أمر الخلق عاجز أو غفلان، فيُنكر ويستنكر ويعترض جريان نهر الزمان!

أما عن البلاغة والمطابقة لمقتضى الحال، فقد أسلفنا فيها المقال.

وفي الناحية الدينية أو الاعتقادية قال أمين الخولي[5]: "هي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون؛ وحقائق الوجود العلمية؟! وكيف يساير ذلك حياتهم، ويكون أصلاً ثابتاً لهم، تُختم به الرسالات السماوية، كما هو الشأن في القرآن، مع أن هؤلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها عند مدى ما؟! فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو ما سمعت آنفا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد يسير من الزمن أو كثير، وما ضبطه منها القدماء قد تغير عليها فيما مضى، ثم تغير تغيراً عظيماً فيما تلا!! والحق البين أن كتاب الدين لا يعني هذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مَؤُنَته حتى يتلمسوه عنده، ويعدوه مصدراً فيه."

كأن الشيخ بالحديث عن مهمة كتاب الدين ينتقد أن يتحدث هذا الكتاب الشريف – ضمن حديثه الإلهي - "إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون؛ وحقائق الوجود العلمية، وكيف يساير ذلك حياتهم، ويكون أصلاً ثابتاً لهم، تُختم به الرسالات السماوية." فنقول: أنَّى لنا - علماء كنا أو طلاب علم - إلاّ أن نقف جميعاً أمام كتاب الله موقف المتلقي المستفهم، لا القاضي المستحكم. إن كتاب الدين لا ينتسب إلّا إلى لله الواحد الفرد الصمد، الحكيم العلام القهار، فلا وصاية لأحد على ما يحتويه كتابه ويشيره إليه كلامه، سبحانه! وليس لأحد أن يقول أن "الحق البين أن كتاب الدين لا يعني هذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مؤنته حتى يتلمسوه عنده، ويعدوه مصدراً فيه". فالله تعالى هو خالق الإنسان ومُعلِّمه، وللعلم والأمانة خلقه، لا لمحض السجود كالنجم والشجر والدواب. أما جوامع العلوم وضبطها وتتابع تغير الوعي بها، فليس بحُجَّة إلاَّ على القصور الإنساني، قصور في كل شيء، .. حتى في فهم المراد من كتاب الله تعالى! .. أما الكتاب الرباني فإن تحدث عنها ... فلا بد أن حديثه الحق. وإذا نظر إلى هذا الحق ناظرٌ، وجدّ وشدّ، ونقّب ومحّص، وقلَّب الفكر وتدبّر، وسأل الرب واستغفر، وأرهف السمع لقول الحق في خلقه وكتابه، .. والفؤاد منه نابض، .. والوجه في خلق الرحمن متقلّب، .. فأي عيب يعيبه؟! .. إلا ما كان من حاسدٍ أمرُه مُريب، .. أو ممن فترت همته، .. وقصرت هامته، .. وقلت بضاعته، .. فأراد أن يكف الـمُنقّبون، .. ويهدأ الباحثون، .. ثم يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون!

ويقول الشيخ الخولي أيضاً[6]: "وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين حقائق الدين والحقائق العلمية المختلفة، ناحية من نواحي بيان صدقه، أو إعجازه، أو صلاحيته للبقاء ... إلخ، فربما كان ضرُّه أكثر من نفعه. على أنه إذا كان لابد لأصحاب هذه النوايا ومن لف لفهم من أن يتجهوا إليه، ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفي في هذا ويفي ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يُصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها من نواميس الكون ونظم وجوده؛ وحَسْب كتاب الدين صلاحية للحياة، ومسايرة للعلم، وخلاصاً من النقد .. "

نقول: كيف يمكننا أن نعلم بعدم وجود (نص صريح في كتاب الدين يُصادم حقيقة علمية) ونقرر عدم مناقضة العلم للدين إن لم يكن هناك مناظرات واقعية في المسائل المتعددة والمشتركة بينهما؟! فإن كان مجاليهما غير متداخلان كما يُستشف من الفصل بين نطاقيهما، فكيف يعلم أنهما غير متناقضان؟! .. إنها معضلة عقلية تنم عن الولع بنقض مبدأ الإعجاز العلمي بأي حُجّة كانت، دون النظر في تضارب الحجج ذاتها! فعدم التناقض لا يُعلم دون المواجهة. فإن لم تكن من مواجهة، فلا يعقل عدم التناقض، بل يقال عدم الاختصاص. مثلما أن هناك عدم اختصاص بين مسائل الرياضيات البحتة وعلم النفس لانعدام الاشتراك في مسائل بعينها. والقائل بأن علم النفس لا يتناقض والرياضيات البحتة مُستغرب المنطق مُلتبس الفكر، وكان الصمت له أولى والإنصات أجدى.

ويواصل الشيخ قائلاً[7]: "على أني حين أتسمّح بهذا القدر في سبيل إرضاء رغبات هؤلاء الطيبي النية، لا أنسى أن أُذَكِّرهم بأن التناول الفني لحقائق الكون ومشاهده، هو التناول الذي يقصد به الدين رياضة وجدانات الناس، ويوجهه لعامتهم وخاصتهم؛ وعلمائهم وأنصاف علمائهم، بل لجهلائهم أيضاً – كما هي مهمة الدين والغاية من تلاوة كتابه بينهم جميعاً، وهذا التناول إنما يقوم على المشهود البادي من ناحية روعته في النفس، ووقعه على الحواس، وانفعال الناس به، لا من ناحية دقائق قوانينه، ومنضبط نواميسه في معادلات جبرية أو أرقام حسابية، أو بيان جاف خصائصه وحقائقه .. وبقيام هذا التناول على المشاهد، والمدرك بادئ الرأي، والمؤثر في النفس المثير للانفعال، لا يجب الوفاء به بحماية الحقائق العلمية، والخصائص المجربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي لا يراد من تناولها إلا إثارة الشعور بجلالها وجمالها، ودلالتها على عظمة القوة المدبرة لها المحققة لنظامها، ولو التزم في شيء من هذا تصحيح المقررات العلمية لأخل هذا الالتزام كثيراً بالأهداف الفنية الوجدانية، التي يريد الدين تحقيقها ونفع الحياة بها عن طريق التأمل المتدين، والاعتبار النفسي العاطفي المريح، قبل كل شيء آخر.."

نقول أن التسمُّح في سبيل إرضاء الرغبات على حساب الحق، ليس من الحق، وذلك إن كان عدم التسمُّح دفاعاً عن حق. ووسم المخالفين بأنهم أصحاب النوايا الطيبة يضمر الاستخفاف بهم، وتحملهم على مضض، وهذا لا يكون إلا من ظن أنهم خلاف ما يجب أن يكون عليه متدبر كتاب الله!

أما التمييز بين الوجدانات الإنسانية وحبور القرآن بها لعموم الخطاب القرآني لأصناف الناس، وجفاف الخصائص العلمية من معادلات جبرية وأرقام حسابية، والتنفير من احتمال أن يحتوي القرآن على شيء منها لإخلاله بالشعور بالجلال والجمال، فلا يعكس إلا تجربة شخصية، وذوقاً خاصاً. ... ونتساءل!.. مَنْ ذلك الذي يزعم أن المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء والكون تخلو من الجمال، في وقت يشترط فيه بعض علماء الفيزياء جمالية القوانين وبساطتها وذوقيتها كمؤشر على صلاحيتها!!! ولكن من يعلم ومن يدري[8]،[9]؟! .. ثم من ذا الذي يتذوق الشعر والأدب وهو لا يفقه مفردات اللغة التي بها كُتِبَا؟، ومثله الذي لم يفقه المفردات الطبيعية والرياضيات التي تركَّب منها الكون، أو صيغت في بنيته، وعلى منوالها أبدعه الخالق جل وعلا، كما قال سبحانه " الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ، وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ"(الرحمن: 5-6). فأنَّى لمثل هؤلاء أن يتذوقوا الشعر والرياضيات[10]، وجمال الفن فيهما، وحبكة الصياغات، وروعة البرهان[11]، وفرحة القلب، وإثلاج الصدر، وسكون النبضات.

يقول أمين الخولي: "ومن هنا قد يبدو في تعبير القرآن ما يظهر متعارضاً مع شيء من المقررات العلمية، وإن أمكن التوفيق بينهما؛ ولا أحسب أن عليه بأساً بشئ من هذا ولا فيه ضير ... فخير لأصحاب هذه الرغبات الذين يبينون الصدق، أو الإعجاز، أو الصلاحية لكتاب الدين بهذا النحو من التفسير العلمي، خير لهم أن يقدروا مثل هذا الاعتبار، فلا يتكلفون ما يتكلفون من ربط الكتاب بالعلم، على أنهم إن كانوا لا بد فاعلين فحسبهم – كما تقدم – ألا يكون في القرآن نص صريح يُصادم حقيقة علمية، دون أن يمكن التوفيق بينه وبينها ... وبيان هذا الأصل مما لا يسمح المقام فيه بأكثر مما قيل."

ها نحن نرى الشيخ أمين الخولي يقارن بين صياغات القرآن والمقررات العلمية في منتصف القرن الميلادي العشرين. فأي مجاوزة للحق تجعله يحكم على عدم الجمال او الانسجام بين هذا وذاك؟! إن المقررات العلمية تختلف بين عقدين من الزمان، ويتمايز فيها اللاحقون عن السابقين في عصر واحد وبينهم سنوات معدودات. ثم كيف يمكن نفي التصادم بين كتاب الله تعالى والعلم الحديث، ومن ثم، نفي محاولات التوفيق إن لم يتحد الموضوع، وينفرد الموصوف؟! – إن تقرير عدم التصادم بين القرآن والحقائق العلمية يستلزم بالضرورة قابلية التقايس Commensurability في القيمة العلمية في ذات الموضوعات، وإلا لما أمكن الحكم على عدم التصادم. بمعنى أن هناك من الأنشطة الفكرية ما لا يمكن المفاضلة بينهما مثل الشعر والرياضيات مثلاً، لأن القيمة العلمية والفنية لكليهما مختلفة عن الآخر، ولكل منهما مقياس غير متحقق في الآخر. وإذا كان القرآن وجدانيات وبلاغة وحس أدبي فقط كما ألمح الشيخ، لما أمكن مقايسته مع العلم – تبعاً لمن يصفه هو نفسه بالجفاف المعرفي - من حيث المبدأ! ... ولما أمكن عندها الزعم بعدم وجود تصادم أو حتى اختبار وجوده. مثلما أنه لا يمكن المفاضلة بين الأطوال والكتل لأن لكل منهما وحدته التي لا تشارك الأخرى في شيء؟! – فكيف يزعم الشيخ ما زعم؟! – وإن كان هناك تصادم، فأنَّى له أن يحكم عليه بالنفي وقد فارق بينهما في النوع؟!

ويقول في موضع آخر عن تبريره للنزعة العلمية في التفسير[12]: "ترجع هذه الفورة في التفسير العلمي إلى رد الفعل الذي أحدثه الاتصال بأوربا، وامتزاج الثقافة العربية الإسلامية التي كانت نائمة بالثقافة الأوربية الناضجة، وما بهر العلماء من علوم ومخترعات حديثة، فحاولوا أن يرجعوا إلى تراثهم الإسلامي العربي يستنبطون منه أصول هذه العلوم، وخشوا إن هم لم يفعلوا أن يبدو القرآن ضئيلاً في أعين متبعيه وأنصاره، وأن تتزعزع العقيدة فيه من قلوب الناس أمام ما يروه من معالم المدنية الحديثة، فحاولوا أن يبينوا أن القرآن احتوى هذه العلوم، وأشار إلى هذه المخترعات قبل أن يعرفها أهلها أنفسهم بثلاثة عشر قرنا واستفادوا من هذه الناحية من الكلمات والجمل التي يمكن أن تتحمل تأويلات واسعة، ومما في طبيعتها من إمكان اتساع الخيال."

نقول: لا قيمة لهذا التحليل النفسي إذا لم يكن في القرآن ما يتحمل جديداً في التفسير. وإذا تحمل القرآن تأويلات واسعة كما قال الشيخ الخولي، فغير مقطوع بأن رد الفعل النفسي هو الدافع على هذا النوع من التفسير؛ إذ عندما تنطق الآيات المكتوبة بمعان تراءت أطيافها فيما يُرى من المكتشفات والتأويلات الكونية والعلمية الجديدة، فلا يملك الناظر والعالم في هذه الشؤون إلا أن يتعرف على مواطن الالتقاء وأن يعبر عنها باصطلاحاته التي درج عليها. ويصبح التحليل النفسي الذي نراه في كلام الشيخ غطاءاً استنكارياً يستهدف منه قائله اتهام أصحابه، أو وصمهم بأنهم موهومون من هول صدمة حضارية، وأنهم بحاجة ماسة إلى شفاء منها ليعودوا أناساً طبيعيين، فيروا في القرآن كتاباً للعبادة والطقوس ليس إلا. وإنا نتعجب من أمثال هذه الاتهامات، وقد رددها غير الشيخ الخولي آخرون، ونسألهم: ما حملكم على اتهام الناس وأنتم لم تحيطوا علماً بالقرآن وبما يمكن أن يكون عليه ما عَلِمَه أولئك الـمُتَّهَمون؟! وإن كانت اتهاماتكم لهم محتملة وإحاطتكم بالقرآن جزئية، أفلا تُدان أحكامُكم، وتصبح كمن قال الله تعالى فيهم "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ"(يونس:39). لذا نخشى إن هم أصرّوا على اتهامهم الناس، وصادروا على كتاب الله تعالى الذي أنزله سبحانه لزمان علمهم ولما بعده من أزمان– في المصادرة على العلم بكامل معانيه- أن يمسهم من جراء اتهاماتهم من تقريع الآيات في عموم معناها ما يمسهم.

وفي سياق آخر يقول الشيخ أمين الخولي[13]: "أن العرب الذين خوطبوا بجميع ما في القرآن منذ نزوله لم يفهموا تلك المعاني المدعاة في التفسير العلمي، وإلا لزم أن تظهر هذه المكتشفات على أيديهم منذ فهموها من القرآن، وإذا كانت البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، لم يجز أن تكون هذه المعاني مرادة من الآيات حين أنزلت، وإذا لم تكن مرادة آنذاك، فما الدليل على أنها مرادة في هذا الزمان. (هذا على فرض احتمال القرآن لها)"

نزيد على ما رددنا به من قبل على مثل هذه الشبهة، والذي بيَّنا فيه أن البلاغة هي الوفاء بمقتضى الحال على تغيره (سالف وراهن ومستقبل)، وليس اكتفاءاً بالسالف، وإلا لكان قصوراً بلاغياً عن مواصلة دور القرآن المتجاوز للزمن، ولكان القرآن لبعض الناس دون بعضهم الآخر. فيكون درء القصور البلاغي من جهة، مَدْعاة إليه من جهة أخرى، ومن حيث لا ينتبه المتكلم لعدم إحاطته بالمسألة. ونقول أن صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما كانوا ليفهموا المراد من اصطلاحات النحويين من قبيل (الفاعل والمفعول والمبني والمعرب والممنوع من الصرف والمرفوع والمجرور والمنصوب والمجزوم، .. إلخ)، ولو سمعوه لتعجبوا وقال لسان حالهم: أهذه الأسماء ومعانيها في كتاب الله، الذي أُنزل على رسول الله وهو بين أظهرنا؟! .. ولو سمعوا اصطلاحات البلاغيين من استعارة وكناية .. إلخ، لقالوا مثل ذلك، ولو سمعوا اصطلاحات الفقهاء، واصطلاحات الأصوليين ... إلخ لما اختلفت مفاجأتهم. ولو اقتفينا كل جديد في التحليلات العلمية الجديدة لآيات القرآن نبترها، لاستنكار السابقين عليها رسمها وسمتها، لهدمنا تراثنا الفكري بجملته، ولم يبق إلا المصحف ومتون السنن. وهذا بالفعل هو ما يؤول إليه كلام الشيخ أمين الخولي ومن يسير على منواله. ومثلما هو بَيِّن الخطأ في هذه العلوم، فكذلك خطؤه في التفسير العلمي!

ولا نبعد عن الحقيقة إذا ذكرنا أن الأجيال السالفة كثيراً ما تحذر من اللاحقة لتبدُّل الزمان وما يأتي به. فيقول لنا التاريخ[14] أن اختراع ماكينة للحياكة سنة 1830 في فرنسا قد أثار ثائرة الخياطين اليدويين قبلها، حتى أن مخترع هذه الماكينة كاد أن يُقتل على أيديهم خوفاً من فقدانهم وظائفهم، وقاموا بحرق مصنعه الذي أنشأه لتصنيع الملابس العسكرية بآلته الجديدة!

كما أن شواهد افتراق الأجيال، وصعوبة ملاحقة السابقين لتطورات الأفكار، وانعزالهم عن الأجيال الجديدة لتتكرر أمامنا كثيراً، [فهذا ماكس بلانك، الذي نشأت النظرية الكمومية على يديه، اضطراراً ورغم أنفه، لم يستطع أن يلاحق النظرية الجديدة، وانزوى عنها محاولاً كل جهده أن يسترجع الميكانيكا الكلاسيكية – أي الأوضاع الذي كانت عليها الأمور - والتي انقضى جل عمره في رحابها، ولكن دون جدوى، (وظل متشككاً في أمر هذا التصور الجديد الـمُسمّى بالفيزياء الكمومية حتى وفاته)[15]. ثم ازدهرت الميكانيكا الكمومية على أيدي شباب، كان أكبرهم سناً إرون شرودنجر، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره يوم توصل إلى معادلته الشهيرة "معادلة شرودنجر"][16].

بل إن الإسلام نفسه لم يقم إلا على مؤازرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جلهم من الشباب، وكان أكبرهم سناً أبو بكر الصديق، وعمره في الثامنة والثلاثين من عمره أيضا. وكان كِبَر السن عائقاً ثقافياً يحول دون أن ينخلع الإنسان عن ثقافته القديمة ليؤمن بغيرها، سواء كان الحق فيها أو لا. ومن ينجح في ذلك بعد تبينه للحق فهو أقل القليل.

ونستشهد أيضاً على ذلك من قول الله تعالى "فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ"(يونس:83)، حيث كان كبار السن من قوم موسى قد ألفوا ما ألفوا، وما كان الإيمان بما يستغربونه يسيراً على أنفسهم. وحتى هؤلاء الذين آمنوا مع موسى، ورأوا الآيات تترا، ماذا فعلوا حينما أمرهم الله بدخول القرية التي هابوا سكانها من الجبارين، قضى الله تعالى عليهم بأن يستبدلهم بجيل جديد من أبنائهم، لأنهم ما كانوا ليصلُحُوا للمهمة الجديدة، فقال تعالى "فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ"(المائدة:26). وهو الزمن الكافي لذهاب جيل الشيوخ وحلول جيل الذرية.
هكذا إذاً ينعم كبار السن بما تعودوه، ويُعرضوا عما يفارقه، ويتحمل الجيل الجديد وحده التغيير ويقبل الحجج الجديدة، متجاوزاً بها الموانع الثقافية، التي تمضي مع أهلها.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب

--------------------------
[1] الشيخ أمين ابراهيم عبد الباقي الخولي (1895-1966)، أديب مصري من حُماة اللغة العربية، نُفي مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشل سنة 1919، شارك الشيخ مصطفى عبد الرازق ليمثلا بعثة الأزهر في مؤتمر الأديان الدولي في بروكسل سنة 1925. عمل مدرساً بمدرسة القضاء الأعلى، وكان رئيس قسم اللغة العربية ووكيل كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول سنة 1946، ثم أبعد عن الجامعة بسبب إشرافه على رسالة محمد أحمد خلف الله، ونُقل ليعمل كمستشار بدار الكتب، ثم مدير إدارة الثقافة حتى تقاعده عام 1955، ثم عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1966. له العديد من المؤلفات منها: "دراسات إسلامية"، "التفسير : معالم حياته"، "فن القول". ومن تلاميذه: صلاح عبد الصبور، وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) التي أصبحت زوجته.عرف الشيخ أمين الخولي بزيه الأزهري المميز، ووقاره المهيب، وبريق عينيه وملامحه المتفردة.
أنظر أيضاً: "الشيخ أمين الخولي .. ذكريات لقاء"، لمحمد عمارة: مجلة الهلال 11/1998.
http://www.arrakem.com/ar/Index.asp?Page=219

[2] "دراسات إسلامية"، أمين الخولي، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة، 1996، ص32؛ و"التفسير، نشأته، تدرجه، تطوره"، أمين الخولي، ص 60.
[3] المرجع السابق، نفس الصفحة.

[4] Islam and the Transformation of Greek Science، الإسلام وتطويع العلوم الفلكية والجغرافية اليونانية، للمحاضر جورج صليبا، سلسلة محاضرات عن العلم والدين، جامعة كولومبيا، 2008.
http://www.youtube.com/watch?v=yf7sxcYzLEY

[5] "دراسات إسلامية"، أمين الخولي ، ص32.
[6] المرجع السابق، ص 33.
[7] السابق، ص 33.

[8] نذكر واحدة من عجائبيات الرياضيات، تلك النسبة التي تسمى "النسبة الذهبية" golden ratio، ورغم بساطتها، إلا أنها تجمع بين معادلات شديدة التعقيد من جهة وشديدة الجمال من جهة ثانية، حتى أن هذه النسبة أصبحت معياراً لمدى جمال اللوحات الفنية، ونِسَب قسمات الوجه بعضها لبعض، ونسب أجزاء البنايات لنفسها ومحيطها، ونسب المقاطع الموسيقية بعضها إلى بعض، ونسب مناطق القراءة على صفحات الكتب من فقرات ووسائط، وغير ذلك مما لا يُحصَى من نماذج تطبيقية. وقد أذيع عن وجود هذ النسبية بين دفتي المصحف في آيات القرآن، فهل نقبلها لأنها تعكس جماليات وجدانية في العين البشرية والحس الموسيقي، أم نرفضها لأنها رياضية التركيب، وهندسية النسبة، أم لأن الشيخ أمين الخولي – غفر الله له – لم يكن من أهل الرياضيات، فما كان ليستسيغها إذا عرضت عليه؟! وقد كتبنا في تحقيق هذه النسبة مقالتين: الأولى لتفنيد التهافت نحو ادعاء وقوعها في مكان الكعبة من الأرض، والثانية لاختبار هذا الادعاء، وشروطه لو كان واقعا.

[9] وُضعت معادلات ماكسويل في صورة معادلة واحدة توجز كل ظواهرها، وقد وصفها ريتشارد فاينمان، وحق له أن يصفها، بأنها صيغة بسيطة وجميلة (Feynman, Leyton, Sands - Lectures on physics. Vol. 2, p.25-10) ، وتساءل باحثون غير مرة وقالوا: هل يعتبر الجمال معياراً من معايير الحقيقة؟
(Rich, Natalie (2010) "Is Beauty A Valid Criterion for Truth?," Res Cogitans:. Vol. 1: Iss. 1, Article 21- Available at: "Is Beauty A Valid Criterion for Truth?" by Natalie Rich)
- أما أشهر من اهتم بعلاقة الجمال بالرياضيات، وجعل جمال معادلات القوانين شرطاً لموافقتها للطبيعة الفيزيائية، فكان بول ديراك Paul Dirac، وذلك في محاضرته التي ألقاها في أربعينيات القرن العشرين عن العلاقة بين الرياضيات والفيزياء، فأشار فيها إلى ما سماه: "مبدأ الجمال الرياضي" The Principle of Mathematical Beauty، فاشتهر المبدأ به، واشتهر هو بالمبدأ. (Lecture: Paul Dirac and The Religion of Mathematical Beauty, Minutes 35-38)
Graham Farmelo on Paul Dirac and Mathematical Beauty - YouTube

[10] وإني لأعلم أستاذاً في الفيزياء (هو:ستيفن شتروجاتزSteven Strogatz) فيما حكاه عن نفسه في احد محاضراته، حيث كان يتابع، وهو صبي، أستاذه في برهنته لمسألة رياضية هندسية أمام فصله الدراسي الممتلئ طلاباً، وبمجرد أن أنهى المدرس برهانه، حتى قام الصبي يتهلل ويصرخ طرباً مما أصابه من نشوى جمال البرهان! – وذلك على دهشة من باقي الطلاب الذين لم يوهبوا الحس الجمالي الرياضي.

[11] كثيراً ما تُذكر قصة أحد الأطفال في فصل من فصول الرياضيات سنة 1787 تقريبا، وقد دخل المدرس وأراد أن يلهي الطلاب بمسألة رياضية تبقيهم منشغلين طوال الحصة لانشغاله عنهم في شأن من شئونه. فطلب منهم حل مسألة جمع الأرقام المتسلسلة من (1) وحتى (100)، وظن أنه سيتخلص من إزعاجهم نهائياً في ذلك اليوم. فما كان من ذلك الطفل إلا أن أحضر له نتيجة المسألة صحيحة بعد ثواني معدودات، فراع المدرس ما فعله الطفل، ولما تفحص الإجابة اشتد روعه لعبقرية الطفل. وما فعله الطفل أن سلسل الأرقام ذهنياً في اتجاهين متعاكسين، وجمع الأرقام التي فوق بعضها والتي يجب أن تكون جميعاً (101)، ولأن عدد الأرقام 100، فيكون المجموع هو ضرب 101 في 100، ثم القسمة على (2) لأنهما سلسلتين. وكان هذا البرهان من أجمل البراهين الرياضية في تاريخ الرياضيات، وكان هذا الطفل هو (كارل فريدريك جاوس) أحد عمالقة الرياضيات فيما بعد.

[12] "التفسير، معالم حياته، ومنهجه اليوم"، أمين الخولي، ص 20، نقلاً عن ("فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر"، نعيم الحمصي، موسسة الرسالة، ص218). وعلق نعيم الحمصي على هذه المقالة قائلاً: "اتضح لي رأيٌ آخر أصح عندي وآثر، وهو أن هؤلاء العلماء قد تكشف لهم من معاني القرآن ما لم يعرفه أسلافهم، وذلك بعد أن اطلعوا على علوم ونظريات حديثة لم تكن معروفة قبل".

[13] التفسير، معالم حياته، منهجه اليوم" لأمين الخولي ص25-26- نقلاً عن (منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية - سعود بن عبد العزيز العريفي – ص12)
[14] Barthélemy Thimonnier - Wikipedia, the free encyclopedia
[15] ماكس بورن Max Born، محاضرة جائزة نوبل، 1954.
[16] Franco Selleri (auth.), Alwyn van der Merwe (eds.) Quantum Paradoxes and Physical Reality 1990, p.4-23.
 
الفصل (أ13) - عباس محمود العقاد

الفصل (أ13) - عباس محمود العقاد

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ13) - عباس محمود العقاد​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول الأستاذ عباس العقاد رحمه الله تعالى [1]،[2]: "تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون. فلا يُطلب من كتب العقيدة أن تُطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يُطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تُعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة، لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته وأحواله وزمانه."

نقول: نعم تتجدد العلوم الإنسانية، (ويقصد العقاد هنا بالإنسانية أي التي هي صنيعة الإنسان – من غير العلوم الدينية- بما يشمل كل انواع العلوم التي يصيغها الإنسان ويبتكر موضوعاتها، ولا يقصد تلك العلوم التي موضوعها الإنسان فقط – أي الإنسانيات والاجتماعيات - في مقابل العلوم الطبيعية، التي موضوعها العالم الطبيعي). نقول: نعم إنها تتجدد بكل أنواعها لما ذكر من أسباب، ولكنها لا تتجدد وحدها، بل تتجدد أيضاً العلوم الدينية التي تمثل فهم الإنسان لكتاب الله تعالى وما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من آثار. فالآية في كتاب الله تعالى ليست فريدة المعنى في ذهن العالم الناظر فيها، وإن اتفق أهل العلم على جملة المحكم من آيات الله تعالى ومعانيها، ومن ثم فعلم التفسير علم متحرك وبنفس دوافع حركة العلوم الأخرى من طبيعيات وغيرها؛ من غامض يتضح، ومرجوح يتأخر، وراجح يتقدم، وتخمين يترقى أو يسقط، وحدس موهوم يُستبعد. ورغم أن كثيراً من المعاهد العلمية في العلوم الإسلامية تنتهج النمط التراثي المأثور، وبدرجة من تقديس الماضي بما لا يمكن تمييزه كثيراً عن تقديس الإلهي منه، إلا أنه لا يخلو من جديد من الأنواع التي ذكرنا.

وجدير بنا أن نؤكد أن الإنسان هو المدون لعلومه، سواء منها ما كان إلهي المرجعية المباشرة كلاماً؛ وهذه هي العلوم الدينية، أو ما كانت مرجعيته خلق لله سبحانه؛ وهذه هي العلوم الطبيعية. وبحكم إنسانية العلوم، أي أنها صنيعة الإنسان، فلا بد أن تشمل الخطأ كما تشمل الصواب. ومن هذا المنظور، تعتبر كتب التفسير – بل والعقيدة أيضاً - التي ألَّفها بشر، صنيعة بشرية لما فهمه أصحابها من الكلام الإلهي والكلام النبوي، وبمنطق شبيه بكتب العلوم الطبيعية إنسانية الصياغة، ولا يوجد نوع آخر، وتمثل الأخيرة خلاصة أفهام الذين كتبوها ومَن وراءَهم، لِما صنعه الخالق جل وعلا. فالأولون يتفهمون كلامه، والآخرون يتفهمون صنعته. وإذا كان الأمر كذلك، فأي فضيلة تعصم الأولون وتميزهم، وتُقصي الآخرون وتُرجئهم. وأي مصداقية تلك التي تدعو للفصل المتعسف إذا اتفقت موضوعات الكلام الإلهي مع الصنعة الإلهية؟! فيكون الفعل الأول منها ديناً لا يُمس، والآخر علماً بشرياً لا عصمة له ولا ديّة.

أما قول العقاد: "لا يُطلب من كتب العقيدة أن تُطابق مسائل العلم .." فلا نسلم له! ويقصد العقاد من كتب العقيدة القرآن والسنة؛ يريد بذلك قصرها على العقيدة لا غير، فيكافئ بين الدين والعقيدة، ومن ثم يصادر ويقطع الطريق على التأويل، وينفي ضِمناً ظنيات الدلالة. وسبب عدم تسليمنا لكلامه أن القرآن كتاب الله تعالى وفيه ما يجب أن يعتقده المسلم في ذات الله تعالى وصفاته، وما أُحكم منه من آيات؛ ثبوتاً ودلالة. ولكن، فيه أيضا آياته المتشابهات، والتي هي كلام الله تعالى محكم الثبوت ظني الدلالة. وهذا النوع الأخير يجوز فيه التدبر والنظر والتفسير والتأويل بما يتيسر للإنسان من آليات الفهم، وإنزال الآيات مواقعها التي يُظهرها الله للناس، من حيث الخلق وحدوثه وسننه والاعتبار بقدرة الله تعالى فيه إجمالاً وتفصيلاً، وعلى النحو الذي يقدره الله تعالى ويُفهَم من كلامه سبحانه، وليس بمصادرتنا عليه بما ينبغي أن يكون فيه وما لا ينبغي. وفي هذا المعنى الأخير، لا يُقال أن الباحث فيها يطلب من كتاب العقيدة فهم الآيات الكونية، فيكون تناقضاً بين العقيديات والكونيات بما يُرهب السامع والقارئ. ولا يكون هذا التعبير عندئذٍ إلا صَدّاً تعسفياً يُلبس المسألة، وهو تعبير لا يُرهب ويحجب إلا ضعاف الحجة والفهم عن ما يريد صاحب العبارة إقصاءه من تفسيرات علمية محتملة لآيات القرآن. لذلك نعتبرها مغالطة عقلية، ومن ثم حُجة مردودة. وإذا قبلنا جدلاً عدم طلب فهم تلك الآيات إذا كان موضوعها مسائل العلم – الطبيعي أو الوجودي أو الواقعي – فأي معنى يتبقى لأمر الله تعالى لنا بتدبر آياته؟!

يتابع العقاد فيقول: "قد أخطأ أناس في العصور الأخيرة لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها، إعتماداً على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات. وجاء أناس بعدهم فأخطؤوا مثل خطئهم حين فسروا السموات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، ثم ظهر أنها عشر لا سبع، وأن الأرضين السبع إذا صح تفسيرهم لا تزال في حاجة إلى التفسير.
ولا يقل عن هؤلاء في الخطأ أولئك الذين زعموا أن مذهب التطور والارتقاء ثابت في بعض آيات القرآن كقوله تعالى "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ"(البقرة: 251)، أو قوله تعالى "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ"(الرعد: 17). لأن الآيتين تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، ولكن مذهب التطور والارتقاء لا يزال بعد ذلك عرضة لكثير من الشكوك والتصحيحات، بل عرضة لسنة التطور والارتقاء التي تنتقل به من تفسير لتفسير ..
خليق بأمثال هؤلاء المتعسفين أن يُحسبوا من الصديق الجاهل، لأنهم يُسيئون من حيث يُقدِّرون الإعجاز .. ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم، وهم لا يشعرون ..
"

نستغرب في هذه الفقرة، مما جاء به العقاد، من مثال من أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات. إذ أن هذا المثال عيْنُهُ حُجَّة على دعوى العقاد برد النظر العلمي – بالمعنى الحديث – عن كتاب الله تعالى. وهل بغير النظر العلمي التحليلي الرصين يمكن تصحيح مثل هذا الخطأ؟! فهذا المثال أدعى أن يكون حجة على ذات دعوى العقاد، فكيف به يورده في سياق الاستشهاد لدعوته!!! .. أللهم إلا إذا كان يريد أن يجرِّد – أو ربما يُطهِّر – كتب التفسير بالمأثور من الخوض في أي متعلق كوني أو طبيعي على نحوٍ تفصيلي. ورغم أن هذا الاحتمال ضعيف، لأن سياق كلام العقاد ودوافع حجته مغايرة لهذا المنحى. إلا أنه لو أراد ذلك، لواجهته صعوبة كبرى واعتراضات جمة، نظرية وعملية، لِما تُمثله الآيات الكونية والطبيعية من زخم كبير ينتشر ويتشعب بكثرة في كتاب الله تعالى! وكتب المفسرين على مر العصور، وهذا مدعاة إلى تعطيل فهم هذه الآيات، في وقت دعانا الله سبحانه إلى التدبر والتفكر في كل آيات القرآن. لذلك نعتبر هذا المثال من العقاد يؤيد اعتراضنا عليه، وفي وقت لا يؤيد حجته على الإطلاق! .. وأخيراً، يقود هذا المثال الإنكاري لدوران الأرض ممن قال به، إلى ضرورة تنمية الوعي العلمي للناظرين في كتاب الله تعالى. ولو انتبه القارئ، لأدرك على الفور أن ذلك يعني التثقيف العلمي لمفسر كتاب الله تعالى. ولكن! هل تختلف هذه النتيجة – أي التثقيف العلمي للمشتغلين بالتفسير- عن التفسير العلمي للقرآن الكريم في شيء؟! ... لا ... لا تختلف، .. بل هي هي!!! .. أي أن التباس المعاني عند العقاد هنا قد كشف – عن لا قصد منه- ضرورة التفسير العلمي، وأنه لا غِنى عنه لمحو أخطاء التفسيرات التي نبعت من تصورات ثقافية قديمة من لدن المفسرين، ولم يكن لها من أصل حقيقي في عيون النصوص الدينية.

ثم تأتي الأمثلة التي أوردها العقاد، مثل تفسير السموات السبع بالسيارات السبع (يقصد الكواكب)، وانكشاف خطأ أصحابها، وتأييد مذهب التطور والارتقاء وتنازع البقاء بشيء من معاني آيات الوحي، في وقت ما زالت النظرية ذاتها تترنح على بساط البحث العلمي. وتدفع هذه الأمثلة العقاد إلى تقييم أصحابها بالتعسف، وجهالة الصديق، والإساءة، والغفلة عم يتكلمون، ثم يُحمّلهم تبعات ذلك من أوزار.

ورغم دعمنا لهجوم العقاد على هذه الأمثلة، إلا أن هجومنا يرتكز على ضرورة ضبط هذا النشاط الفكري العلمي للمفسرين، اتقاءاً من تكرار هذه الأمثلة، أو العبرة بها في تهذيب المنهج التنظيري في التفسير. وهذا يختلف عن هجوم العقاد، والذي يرتكز على ضرورة إنهاء هذا النشاط الفكري، والمنحى التفسيري، وإغلاق ملفه نهائياً. ونرى أن هذه الدعوى غير قابلة للتنفيذ لسبب رئيسي، وهو أن غمرة الفكر العلمي المعاصر لا تترك العقل المسلم في فراغ حين يقرأ القرآن ويصادف موضوعات يفهمها من تخصصه الدراسي. فلا يسعه ذلك إلا المقابلة بين الأقوال والأفهام. وأي إغلاق لهذا الملف يصادم الحرية الفطرية للفكر ، ويحجر على العقل تحليقه في رحاب الفهم، وهي نعمة وهبها الله تعالى له. وتتأيد هذه النتيجة بالانتاج الغزير للفكر الإعجازي عامة والعلمي خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة. ولو علم العقاد حجم العبث الذي امتلأت به المكتبة الإعجازية العلمية لتأذى منها أشد الأذى، ولعلم أنه لا علاج لهذا الإشكال إلا بضبط هذا النشاط لا بإعدامه، وتوجيهه لا تسخيفه.

ويتابع العقاد ويقول: "كلا .. لا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء، لأنه كتاب عقيدة يُخاطب الضمير، وخير ما يُطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكماً من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع .. وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يُكفل قط في كتاب من كتب الأديان .. فهو يجعل التفكير السليم، والنظر الصحيح إلى آيات خلقه وسيلة من وسائل الإيمان بالله. ... فالقرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يبطل التخمين .."

هنا يؤكد العقاد على حث كتاب الله تعالى - وسماه "كتاب العقيدة" لتحصينه، بظنِّه من التفسير العلمي خاصة – على التفكير، وحرية حركته، وطلاقة استزادته من العلم، وبكل قدراته، ولكنه يشترط شرطاً يهدم كل هذا التأجيج العلمي، فيُضَمِّن كلامه ألا يكون ذلك في مقابلة مع آيات القرآن في تفصيل المسائل! أو كما قال: " لا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء"، وهي ادعاءات تفصيلية على ما هو معلوم! .... ونتساءل: أي حرج يقع فيه المخاطبون بهذا الكلام إن هم أطلقوا للفكر والبحث العلمي عنانه - وهو ما نفهمه من معنى التدبُّر - إذا كان في كتاب الله تعالى؟! ... بل أي حُجة يحتَجُّ بها العقاد في اشتراطه أن يكون ذلك فقط في غير كتاب الله؟! ... وأي هُدى يستهدون به الطبيعة المجردة – المجردة عن كلام الخالق سبحانه- من خلال أحاديثها الجافة، في وقت تلين فيه كلمات الله وترتسم معانيها للسامعين، وتحتضنهم بمعارج للفهم عليها يتصاعدون!

نقول أن للأفكار أرواحاً حرة طليقة، تقودها فتحلق، ثم تهديها بهدى الله تعالى، فلا تحط رحالها إلا حيث تبزغ أنوار الفهم، فتأسرها الحجج باليقين، وتكتنفها البراهين بغمرة الرياحين، وتقف عليها الأدلة حراساً مواقف المرشدين، وتُفَتَّح لها الأبواب إن أرادت، وتحتفي بها إلى حين! ... فمَن بعد ذلك الذي يخرج من جنان الفهم، والحكمة فيها أفانين ... ومَن إذاً ذلك الذي يدعو أصحاب البصائر أن تقصر حركتها وطوفانها على سماء دون سماوات الفهم العالين، ... وما حرّم الله من تنزلات أعطاف علمه من شيء، فقال تعالى "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"(العنكبوت:69)؟! بل من ذا الذي يضع أقفالاً على فهم آيات الله الـمُرتَّلات، ... أو على قلوب عباده المنتبهات الواعيات؟! ... والله تعالى يقول: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24)

ويبدو لنا من كلام العقاد في هذه الفقرة أن مدارها "العقيدة"، من حيث أن القرآن الكريم هو الناطق المتفرِّد بها، ومن ثم، التوجس من المساس بها، وخاصة إذا تعرَّض الكتاب العزيز للنقائض والأظانين، بتبدل القواعد العلمية، بجديد ينقض القديم، أو يبطل التخمين. غير أن نظرةً هكذا حالها، لا هي مُحيطة، ولا مُستَبْطنة لأسرار الكتاب العزيز. وإذا رأى العقاد أن "القرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة"، فكأنه يرى التفسير العلمي – المتقلب - يهدد العقيدة في الله تعالى أو في كلامه الحكيم! وهذا أبعد ما يكون عن فهم الآيات بتوظيف المعارف - ولا نقول العلوم - الجديدة، التي كانت أسراراً انكشفت، وكنوزاً اكتُشفت، وأنواراً انبثقت! فما الحرج من استفهام العلماء لمعاني آياتٍ، ظلت مشتبهات؟! وما الحرج من تأليف مبانٍ في الفكر جاءت أسماءاً، لما كان من عند الله تعالى من المخلوقات، وجاءت نسماتها من كلمات لله سبحانه حروفاً منطوقات؟! – وإن كان من لوم ومعاتبة، فلمن قطع رحم العلم بين ما خلق الله، وما أنزل من آيات حكيمات! وما ذلك إلا تفسير الآيات المنزلات بما هو آيات لله؛ بالحياة نابضات. وإن كان هناك من مؤاخذة، فإنما هي لمن يمنع آدم عمَّ خُلق له، وقد خلقه الله تعالى ليُسمي الأشياء، التي هي مما طبع الله عليه السنن وخلَق، وألهم وأنزل، مفهوماً كان أو منطوقا. وإن كانت هذه مزية آدم التي لها خلق، فمن كرهها، أو نكص عنها، أو استثقلها، أو ابتغى السلامة في سواها، فعليه ما حُمِّل، وعلينا ما حُمِّلنا.

يتابع العقاد كلامه ويقول: "فضيلة الإسلام الكبرى أن يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على وُلوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعليم. وليست فضيلته الكبرى أن يُقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر، لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم .."

نقول: ما أبعدها من تهمة عن الغافلين عنها، وهم منها بُرَءاء. وما أغربها من حجة تلك التي تتهم تَدَبُّر كلام الله تعالى، بمعية ما خرج من أكمام كشوف باهرات، لولا الله ما خرجت، وبصائر في خلقه تعالى، ومبثوث سننه البديعات؟!

قد يشير العقاد إلى قومٍ افترشوا الأَسِرَّة، يذكرون أيام النصر الخوالي، وأمجاد الأجداد، وغبار الغزوات، وآيات الانتصارات وأشعار البطولات؛ يتغنى منهم الحاد، وأعداؤهم يرمقونهم، ويخطفون أبناءهم ويغيرون على حرماتهم، وهم في سكرهم شاردون! فأين هؤلاء من آخرين، يتلون آيات ربهم في محاريبه، وبين طيات كتبهم وممرات معاملهم، يتدبرونها، وينزلونها منازلها، ويعدون منها عدة بث الروح في قلوبهم، والنور في بصائرهم، والقوة في آلات رميهم. فإن قيل: أين هذا من ذاك؟ نقول إن مثاله في قول الله تعالى "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً"(محمد:4)، ومثاله في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة - ألا أن القوة الرمي قالها ثلاثا"[3]، وقول الله تعالى "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59)، وأمْر الله تعالى لمن آمن بنبيه وكتابه إلى يوم الدين: "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ"(الأنفال:66). فكل مفكر وباحث ومنافح عن كلمة الله تعالى مقياسه الأدنى ضعف مثيله من الذين كفروا. هذا بخلاف فهم خلق الله وسننه فهماً قيّما، حقاً لا تشويش فيه، ديناً وعلماً راقيا، كما في قوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا"، وقوله سبحانه: "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ"، وقوله جل شأنه: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"، وأمثال ذلك: "وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ"، و"تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ"، "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا"، "وَالصَّافَّاتِ"، "وَالْمُرْسَلَاتِ". فهذه الآيات وأمثالها، لا يفقهها ويتيه به علماً، ويغالب بها نظريات الذين كفروا، في وصف صنع الله واكتناه أسراره، إلا العالمون!.. وما أرفع معانيها وأعلاها عما ظنه به العُبَّاد من المفسرين، وما ارتوى منها المرتوون، وما أبعد الشُقَّة بين من يفهمها ويتعجب من غور معناها، ومن يتلوها وهو لا يفقه لها معنى، ولا بما يتعبد الله به من آيات خلقه! – ولئن أخطأ عالماً في مراد الله منها، فلا بد وأن يصيبه - إن اجتهد ونقَّب وعقَّب - الخير الكثير، أم يظن من آمن السلامة في العبادة، أن الاجتهاد قريبٌ كشرب الماء، وأن التدبر يسيرٌ كرعي الغنمات في البيداء؟!

وغنيٌ عن البيان أن الشواهد التي سقناها من آيات الله وحديث رسوله ليست من صميم العقيدة كما اصطلح علماء أصول الدين، وإن أتت في كتاب عقيدة المسلمين، كما قال العقاد. وغني عن البيان أيضاً أنه ليس كل فهمٍ علميٍ لآية من آيات الله تعالى إعجازٌ علمي، قد بانت علاماته، مثلما أن الجنين في بطن أمه ليس إنساناً قبل ميلاده. وماذا نفعل مع المتعجلين!.. مثبتين كانوا أو منكرين!.. وصدق الحكيم الخبير إذ قال "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ"(الأنبياء)، .. يُصرحِّ بالإعجاز؛ قبل أوانه، ويتعجل نصراً؛ لا بأسٌ فيه، ولا حلٌّ لِآجَالِه، ويُشْرِع في إنكار إعجاز وحي الله؛ في خبرٍ وعلمِ، قبل احتوائه!!!
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
----------------------
[1] عباس محمود العقاد (1889-1964) أديب ومفكر وشاعر وكاتب، لم ينل من التعليم غير الشهادة الابتدائية، لكنه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات. استقال من العمل الوظيفي سريعاً ليتفرغ للتعليم الذاتي والتأليف. له تسعة دواوين، وما يزيد على مئة كتاب، بخلاف آلاف المقالات. وكان له معارك فكرية مع زكي مبارك ومصطفى صادق الرافعي والدكتورة عائشة عبد الرحمن ومصطفى جواد من العراق.
[2] كتاب الفلسفة القرآنية، موسوعة عباس محمود العقاد الإسلامية، ، ص 25-28.
[3] صحيح مسلم.
 
الفصل (أ14) زكي نجيب محمود

الفصل (أ14) زكي نجيب محمود

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ14) زكي نجيب محمود
بسم الله الرحمن الرحيم

قيل في شأن الدكتور "زكي نجيب محمود" رحمه الله تعالى مع التفسير والإعجاز العلمي في القرآن[1]،[2]،[3]: "يبين د. زكي نجيب محمود خطورة هذه الدعوى الذاهبة إلى محاولة استخراج الحقائق العلمية من القرآن، ويرى فيها انحرافا شديدًا عن النظرة العلمية، وهذه الدعوى إذا سمعها الجمهور وطلاب العلم وكبار العلماء كان لها أكبر الأثر في فساد العلم، وانحراف الفكر السليم عن المنهج العقلي."

نقول: حكم زكي نجيب محمود على دعوى استخراج الحقائق العلمية من القرآن بالفساد! وأوعز هذا الفساد إلى انحراف هذه الدعوى الشديد عن النظرة العلمية، وعن المنهج العلمي! ... ما معنى هذا الكلام؟

معناه أن مرجعية الحكم لدى زكي نجيب محمود هي الشائع من نظرة علمية ومنهج علمي غربي! لأنهما يمثلان - دون منازع أو بديل - جناحي العلم الحديث. ولكن العلم الحديث قام وصِيغ وبُنِي على استبعاد الدين، أي دين، واعتباره دوجما من دوجمائيات المجتمعات. وأفضل أحوال الديانات في هذه النظرة العلمية التي يجلُّها د. زكي نجيب محمود ويجعلها المرجع في المسألة، أنها تُعزَل عن العلم، وتُحبس في القلوب، ودور العبادة، والدراسات الدينية وما يرتبط بها، وذلك لعدم جدواها في العلم الحديث، واتقاء أذاها الداعي إلى التفرق والتصارع لكثرة الديانات وعدم التقائها إلا على كلمة غامضة تُدعى "روحانيات"!.

قد يصح هذا الكلام على ديانات لا مرجعية إلهية لها كالبوذية وأمثالها، وقد يصح على ديانات إلهية فقدت مصادرها الموثوقة كاليهودية وما صدر عنها وألحق بها، وذلك إما بالعبث الإنساني أو بالترجمات المتتابعة والمجهولة الصدق. ولكن، كيف يصح هذا الكلام على الإسلام الذي حُفظ مصدره الأصلي – القرآن - أشد مما حفظت معايير الأطوال والأوزان والأزمان في أشد معامل البحث العلمي رصانة وأمانة؟!

إن تعميم التشكيك في القيمة العلمية – أي المفيدة للعلم الصادق – للقرآن، والمستبطن في اعتراض زكي نجيب محمود أعلى، ظلم شديد لمصداقية القرآن، وصريح إفاداته عن مخلوقات الله تعالى وسننه المبثوثة في الخلق، وحكمٌ جائر يجمع بينه وبين ما أدانه القرآن نفسه من آثار الديانات المنحرفة والضالة، وكل ما يَتَّبعُه الناس عن عماية.

فإن قيل: أن النظرة العلمية الحديثة، والمنهج العلمي المشهود له، يختلف من حيث النوع مع نظرة القرآن ومنهجه، وليس من حيث المصداقية؛ من حيث أن القرآن دين يعالج القلبيات والاعتقادات والسلوكيات الإنسانية الدينية، أما النظرة والمنهج العلميين فيعالجان الموجودات من طبيعيات ومخلوقات وسننها، وشتان ما بين الصنفين من افتراق، ومن ثم من منهجين يعالجانهما.

قلنا: أن الحكم على القرآن بخلوه من إعلام الإنسان بشيء عن الطبيعيات والمخلوقات وسننها، حكم لا سند له، إلا أوهام وظنون من لم يـُحط بالقرآن علما، ومن يصادر على ما ينبغي أن يحتويه القرآن وما لا ينبغي. وتَقُول النظرة العلمي والمنهج العلمي الغربي الذي يتبناه زكي نجيب محمود، ومن سار على دربه في ذلك، أن الأحكام تقريرات لا قيمة لها ما لم تستند إلى الواقع الذي تتحدث عنه. وهنا الواقع محل النزاع هو القرآن، فهل حصرت هذه النظرة وهذا المنهج آيات القرآن وأثبتت خلوها من الحديث عن الطبيعيات والمخلوقات وسننها؟! – إما أن يجيب أصحاب هذا المنهج بنعم، فيلزمهم البرهان، وإلا فعليهم ألا يعترضوا على التفسير والإعجاز العلمي، بما لم يقطعوا معه بنفيه، ولم يحصوه بتمامه، وإلا كان كلامهم خوضٌ فيما لا علم لهم به، أو بعبارة الوضعية المنطقية التي تبناها زكي نجيب محمود طوال حياته الفكرية:("لغو" nonsense).

واستكملت صاحبة المقالة، فقالت: "ويتلخص نقده (أي: زكي نجيب محمود) في نقطتين:
الأولى: أن القرآن الكريم هو كتاب مُنَزَّلٌ لتوضيح عقيدة وشريعة، وقد يكون منه بعض الإشارات إلى حقائق علمية، إلا أن ورودها لم يكن بقصد أن تكون نظرية علمية، وإنما وردت لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها.
"

هنا يأتينا زكي نجيب محمود – على لسان المتكلم باسمه أو عنه- بمثال مما طلبنا، أو بمخرج من مأزق يتجنب الوقوع فيه ، فيقول أن الطبيعيات، أو ما سماه بعض الإشارات إلى حقائق علمية، إن جاءت في النص القرآني، فإنما لتخدم القصد المتفق مع سياق ورودها. ولكن، ما مدى صدق هذا الحكم منه؟! هل استقرأ آيات القرآن فوجدها كذلك؟! أم أن حكمه ليس إلا قناعة مسبقة يُسقطها من يتبنى هذا المنظور على القرآن؟! – فإذا سألناه مثلاً عن المراد من مستقر الشمس في قول الله تعالى "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ"(يس:38)، ما هو؟ - فمن المتوقع أن يقول: لتخدم حكمة تقدير الخالق لمخلوقاته باعتبار الشمس أكبر وأهم ما يراه الإنسان ويتطفل عليها الأحياء في وجودهم. فإن ألححنا في السؤال عن ما هو ذلك المستقر! فلربما قال أنه مجاز عن ثبات سنة الجريان، ورتابة الأحداث الكونية. فإن أرضته هذه الإجابة، فلن ترضي علماء الفلك والكونيات المعاصرين الذين محَّصوا الأجرام وجريانها، ويعلمون أسرار حركتها، وعلل روابطها، ومآل مواقعها. فإن استثقل زكي نجيب محمود هذه المسائل وتفاصيلها، واشتباك معانيها، واستنباط أحكامها، فليُرفق بنفسه عن الخوض في صعاب الأمور، لأن أصحاب هذه المسائل وأهلها لا يتأذون مما تأذى، ولا يستعصي عليهم ما عليه استعصى. ولو كان القرآن هو المشترك المفهوم لكل المسلمين، مثلما يريد زكي نجيب محمود من مثل هذ الآيات، لكانت علوم القرآن والنحو والفقه وأصوله وقواعده والجرح والتعديل، والمعاجم، والفروق، والفِرق، .. إلخ من التكلف المفسد للفطرة السليمة التي يكتفي فيها قارئ القرآن بسطحيات الفهم ليعلم دين ربه! ولسقط بناء السنين، واجتهادات العلماء المرموقين، وأئمة الفهم في الدين!!!

وإذا كان "مستقر الشمس" مثالاً واحدا فقط، أثبتنا به خطأ الحكم الذي أصدره زكي نجيب محمود على القرآن، فكيف به إذا علم أن هناك المئات من مثل هذا المثال، ما زالت محل نظر، وتتطلب الاجتهاد والفهم والتمحيص؟! – ونتساءل: كيف يحق لإنسان يؤمن بالقرآن ويعلم أنه منزل من الله سبحانه، وقد أرسله رسالة إلى الناس، أن يُعطِّل فهم شيء من آياته لأنه استكفى بشخصه، واستثقل بطبعه حمل المزيد. ثم إن الرسالة رسالة الله، وهو سبحانه صاحب القصد منها، ولسنا إلاّ بعض المتلقين لها، وما زلنا نستفهم مقاصدها، ونستعلم أوامرها، ونستهضم فوائدها. كما وأن الرسالة ما زالت في طريقها إلى أناس لم يخلقهم الله بعد، يأتون بعدنا، أو من غير جلدتنا، فما أدرانا ما حمل القرآن لهم من رسائل وفوائد؟!

إن مشكلة هذه الأحكام المبتسرة عن القرآن، مشكلة من صميم المنهج العلمي الغربي، وقد اعترف بها المنهجيون منهم، وأقروا بتأزم العلم الغربي بسببها، ونقصد بذلك "الاستقراء الناقص"! وخلاصته أن يستقرئ العالم بعض النماذج من ظاهرة ما، لعدم قدرته على حصر جميع عيناتها والإحاطة بكل خصائصها، ثم يصدر حكماً يشمل هذا البعض، لعدم علمه بالكل، ثم يعمم الحكم على الكل! فيظل الإشكال قائم! ونقصد مصداقية الحكم الاستقرائي الناقص على نماذج الظاهرة غير المعلومة للباحث؟! – وهذا عين ما فعله زكي نجيب محمود عندما عمم حكماً على أديان لا حق في مجملها، ولا تمام في الحق إلا في أحدها. ثم أسقط حكمه المجمل على القرآن، رغم تميزه بمطابقته للحق، وإلا لما كان المؤمنون ليؤمنوا به على أنه كلام الله سبحانه. ومما زاد الحكم تهافتاً أن العلم بمقاصد القرآن نفسه كان استقراءاً ناقصاً، لأنه لم يحط بجوامع المقاصد، فكان الحكمُ نقصاً في نقصٍ.

وتستكمل صاحبة المقالة، فتقول: "النقطة الثانية (من نقد زكي نجيب محمود): أن العلم بحكم طبيعته يصحح نفسه بنفسه، والحقائق فيه متغيرة، والوقائع تنكشف باستمرار، ونظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية، فإذا ارتبط العلم بالعقيدة فمن ذا الذي يرضى لعقيدته الدينية أن توضع في هذا المنظور المتغير مع تعاقب العصور؟! فالعلم متغير، وكل عصر جديد يصحح أخطاء العلم في العصر السابق، إما باكتشاف جديد، أو دقة الأجهزة التي تضبط الاكتشافات، فالعلم متغير والعقيدة الدينية ثابتة، والدين ثابت منذ ظهوره، ومع مرور الوقت يظل أيضا ثابتا، والعلم متغير ومتطور عبر الزمان."

نلاحظ هنا ارتباكا في الاصطلاحات، وتشويشا في المعاني، فنعمد أولا إلى تفكيكها ثم تجليتها، ثم إعادة ترتيبها:

العلم (الحديث): ليس إلا تأويل العلماء للظواهر الواقعية، ومن ثم فتصحيحه يعني تصحيح العلماء لتأويلاتهم بإعادة تنقيحها وتركيبها، لتصبح أشد رجحاناً وأقرب إلى وصف الظواهر في حقيقتها الواقعية.

القرآن (بين دفتي المصحف): هو النص الإلهي الخالص، وأي تفسير أو تأويل له – فيما وراء المحكمات من آياته، والتي لا تتطلب تأويلاً لصراحة معانيها - فهو قول بشري قابل للمراجعة بما هو أشد رجحاناً، وأقرب إلى شرح نصوص الآيات في عيون معانيها الحقيقية.

الحقائق الكونية: هي التي يكتشفها العلم الحديث بالنظر التحليلي للموجودات رصداً وتجريباً، وهي ما لا سبيل إلى تغيرها إذا تعينت وتأبَّت على النقد، مثل كروية الأرض ودورانها حول محورها، ودورانها والشمس والكواكب التابعة حول مركز كتلة المجموعة، وأن سرعة الضوء كذا، وأن .. وأن، ... إلخ

الحقائق القرآنية: هي الدلالات الحقيقية التي تشير إليها آيات القرآن. وآياته نوعان: المحكم والمتشابه. أما المحكم فمعانيه لها حكم (النص)، وهو ما وضع له العلماء القاعدة الأصولية التي تقول: "لا اجتهاد مع النص"، ويقصدون بالنص هنا ما كان جلي المعنى، بما لا سبيل معه لغير هذا المعنى الواحد والواضح منه، ومن ثم، فلا تبديل ولا اعتراض. وفقط في هذا النوع المحكم من الآيات تقع العقيدة الدينية، ولا يقع شيء منها في المتشابه من الآيات، لأنها عقيدة ولا تتبدل.

أما الدلالات الحقيقية للنوع الثاني الذي هو المتشابهات، فهذه هي التي يختلف فيها النظر بين عصر وآخر، وثقافة وأخرى، وبقدر ما تستبين معانيها، وتتعضد بالكشوف والاستنباطات الجديدة، بقدر ما يقل تشابهها، وتقترب من رتبة الـمُحكمات مع مرور الزمن، إذا تهذب لها معنى واحد فريد، وبما تقوم عليه الأدلة الدامغة، وتتآلف البراهين على واحدية المعنى لها، وكونه مراد من الآيات.
وبناءاً على هذا التحليل، تكون عبارة زكي نجيب محمود التي قال فيها "العلم يصحح نفسه بنفسه" صحيحة،

والعبارة: "الحقائق فيه متغيرة" غير صحيحة، إلا إذا كان يقصد الحقائق المظنونة!، ولكن، كيف تكون حقائق مظنونة؟! ... لا سبيل إلى ذلك، إلا أن يقصد أطروحات، ... ومعلوم أن الأطروحات رتبة أدنى من الحقائق، لأنها قد تتبدل وتسقط أو ترتقي إلى الحقائق بمزيد من أدلة!

أما العبارة: "الوقائع تنكشف باستمرار" فصحيحة،

والعبارة: "نظل نلاحقها بتغيير القوانين العلمية" غير صحيحة على العموم، لأن هذا يعني محض استبدال قانون بقانون مختلف، وصوابه أن يقال: أن صياغة القانون الأحدث أقرب إلى الحقيقة من الأسبق، مثل النسبية العامة مقابل جاذبية نيوتن، مثلاً لا تحقيقاً، أو يحدث أن تكون صياغة القانون الأحدث مكافئة للقانون الأسبق، ولكل منهما مجال تطبيق يتيسر فيه الحصول على النتائج من أحد الوجوه دون الأخرى، مثل ميكانيكا الكم في صياغة شرودنجر أو صياغة هايزنبرج. أو يقال أن القانونين متنافيين في ظاهرهما، ويستوجب الأمر تجربة فاصلة للحكم بينهما، أو ربما أكثر من تجربة، مثل القول بأن جسيمات المادة أمواج خالصة، أو جسيمات خالصة، .... وفي هذا الأمر تفصيلات واختلافات تنظيرية، ربما لا تفترق كثيراً عن اختلافات المذاهب الفقهية في تعليل الأحكام، والاستنباط والقياس. فإن كان محض وجود التنظيرات المتفاوتة تُسقط النظريات الطبيعية من حسبان الحقيقة (إذا افترضنا جدلاً صحة التسمية، ونريد منها الأطروحات الراجحة)، فالقائل بذلك يسقط من حيث لا يدري تنظيرات الفقهاء، ومن ثم، الحقيقة الفقهية أيضاً. ... وهو أمر لا يستسيغه الفقهاء، مثلما أن إسقاط الحقائق الطبييعة الراجحة أمر لا يستسيغه علماء الطبيعيات. ... ويصبح الأمر في النهاية متكافئ في وجوب الأخذ بالراجح من الأقول المدعومة؛ فقهية كانت أو طبيعية.

أما العبارة: "الدين ثابت والعلم متغير ومتطور" فغير صحيحة على عمومها، لأن المقارنة بين الدين والعلم لا تستوي، فالدين، وهو هنا الإسلام، قرآن محكم ومتشابه، وتأويل بشري للمتشابه منه. كما وأن العلم الحديث حقائق ونظريات.
فالمحكم من القرآن تفسيراً، هو فقط ما يمكن مواجهته بالحقائق الكونية، أي التي ثبتت معانيها،
أما التأويل البشري للمتشابه من القرآن فهو فقط ما يمكن مواجهته بالنظريات العلمية.
ويمكن مواجهة المحكم من القرآن تفسيراً بالنظريات العلمية لتقييم قيمة تلك النظريات تصحيحاً أو رداً.
ويمكن مواجهة المتشابه من القرآن تأويلاً، مع الحقائق الكونية، فتتقيم تأويلات المتشابه بالحقائق الكونية، فترتقي قوة أو تترجح بتأويل آخر أقوى.
ويمكن مواجهة المتشابه من القرآن تأويلاً بالنظريات العلمية، فيستقوي هذا بهذا، ويضيق نطاق التشابه في كلا الطرفين، وربما يؤدي ذلك إلى الإحكام؛ أي انتقال المتشابه إلى المحكم.

وهذه هي قواعد المواجهة/الاشتباك بين الإسلام والعلم الحديث.

يضيف المقال ويقول: "أن دعوة استخراج الحقائق العلمية من القرآن ستؤدي إلى أمر من أمرين: إما أن يثبت العلم الطبيعي، وهذا محال، وإما أن يتغير الدين بتطور العلم، وهذا محال أيضا؛ ولذا أوجب علينا احترام الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها، حتى إذا وجدناها كأنها تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله اللغة العربية في الوقت نفسه."

نقول: القول بحتمية ثبات العلم الطبيعي، أو تغير الدين الإسلامي دون احتمال ثالث، إذا ما قبلنا استخراج الحقائق العلمية من القرآن، قول لم يرى من ألوان الطبيعة إلا الأسود والأبيض. أي أنه تبسيط مخل لحيوية العلاقة بين القرآن وواقع الخلق الذي يدرسه الإنسان بالنظر والتحليل. لذا، سنحلل لونيها الأسود والبيض، أقصد: ثبات العلم الطبيعي، أو تغير الدين الإسلامي ليتبين أنهما يحتويان فيض من التفاصيل اللونية.

القول بـ "ثبات العلم الطبيعي" وأنه محال! يجافي طبيعة التصور الواقعي لتطور العلوم. فالحقيقة أنه لا العلم الطبيعي يمكن ثباته كثبات منظر طبيعي في لوحة جدارية، ولا أنه متبدل على نحو يتغير فيه المنظر على نفس اللوحة الجدارية بين جيل وآخر بما يجعلهما منظران مفارقان متباينان. ... والحاصل أن المنظر الجداري للواقع الطبيعي يزداد في وضوح الرؤية في بعض ألوانه، وتتكشف فيه تفاصيل جديدة لم تكن معلومة من قبل، وتتداخل أو تتميز بقع لونية منه بما يستوجب مزيد من التقصّي والتحري، ومع كل هذا تظل اللوحة هي هي، وموضوعها هو هو. ... ففيها ثوابت، وفيها متغيرات، ومتنقحات، ومتزايدات. فالأمر ليس نعم ولا، بل تفاعل يتكشف الحق فيه بمزيد من الرؤية، وينخذل الباطل فيه بوضوح البؤرة، وتنضاف مناطق عمل جديدة بما يتطلب إعادة كَرَّة البحث والتنقيح.

كما وأن القول بـ "تغير الدين الإسلامي" وأنه محال، لون مبهم، وكلام مجمل، أراد صاحبه الحق فيه، ونحن معه، ولكنه وقع في إقرار باطلٍ فيه، ولسنا معه. فالقول بأن استخراج معلومات علمية كونية وطبيعية عن الخلق من القرآن تؤدي إلى تغير الدين الإسلامي، قول ملتبس، ومشوش، ويجب إعادة ترتيبه! فالدين الإسلامي ذو أساس راسخ، يتعين من محكم الآيات، وتقريرات النبي – صلى الله عليه وسلم - الصريحة من أقوال وأفعال. ولا ريب أن هذا الأساس لا تغيير فيه، ولا يعمد إلى ذلك إلا الـمُبطلين الذين ينكشف أمرهم إذا ولجوا هذا الأساس الراسخ، بنوايا سيئة، وتفسيرات مفضوحة، ... وهذا الأساس من الدين لا يشمل آيات القرآن التي تتناول الخلق وسننه وبديع صنعته. وهذا المنحى الأخير، أي الخلق وسننه، هو ما نجد له من آيات القرآن ما يفيض عن تصورنا المحدود، وما يغنينا عن السياحة الباهتة في الخيال المجرد بحثاً عن أسرار الخلق فيها، وآيات المبدع لها سبحانه، ودلائلها على حكيم خلقها فيها. والظن بأن تصحيح هذه الآيات لمفاهيمنا، إذا تلاحقت بالكشوف العلمية الجديدة، يؤدي إلى "تغير الدين الإسلامي" قول جافي، حاد، قاطع في وصف أمواج ناعمة رائقة موّارة مسكوبة. وشتان ما بين الوصف واعتلاله، والموصوف وروعته وجماله!!!

ونتج عن هذا الوصف الجافي ثنائي اللون، خلوصه إلى نتيجة واحدة متأزمة توهمت التعارض بين الأسود والأبيض وقال: "حتى إذا وجدنا (الحقائق العلمية التي لا سبيل إلى نكرانها) كأنها تتعارض مع نصوص العقيدة في ظاهرها، وجب النظر في تأويل تلك النصوص تأويلا يقبله العقل، وتقبله اللغة العربية .." ... وهي صورة لا تختلف عما قاله الفخر الرازي وغيره من المتكلمين قبل مئات الأعوام، وتأزمت معه إشكالية النقل والعقل، وردّها أهل التراث والنقل في وجوه المتأولة. أما في زمننا هذا فإن المعاني الطبيعية قد تفتقت، وأرض الفكر العلمي قد حُرثت، وجديد المعلومات قد بُذرت، وثمار آيات الخلق والقرآن قد تكشَّفت وأينعت، فلم يعد الأمر مقصوراً على وجوب جر آيات القرآن لتلاطف تعارضاً موهوماً، وتُساير مُتزعِّماً مغروراً، وبما يصبح معه العلم الغربي قائداً والقرآن وتفسيره مقوداً. ... بل إن الصورة بجملتها – وكما عرضها زكي نجيب محمود – غير مُعبِّرة عن واقع العلاقة الراهنة بين العلم والقرآن، بل هي مطموسة، مشوشة، بل ومضللة لحدٍّ بعيد. فالأدلة الباعثة على تأويلات جديدة في آيات الخلق في القرآن لم تعد أقوال فلان من الحكماء الموهومين، ولا دعاة العقل الخالص من المتفلسفين، ولا ظنون الظانين، ... بل أصبحت منطوقات المخلوقات، وتعبيرات الظاهرات، وتغريدات السنن المتناغمات. فأصبح خلق الخالق صداحاً بآيات القرآن، وأصبحت آيات الباري تصويرات نراها كالأعيان، فتكاملت معزوفة الخلق والوحي في مشهد نابض، لا يُنكره إلا من حُرم حواس العلم الرهيف، ومعاني السمع اللطيف.

وعن علاقة القرآن والعلم، يقول المقال: " أن للمسلم كتابين: كتاب القرآن الكريم، وكتاب الكون العظيم، فمن القرآن يستمد المسلم المبادئ والقواعد التي يقيم حياته السلوكية على أساسها، ومن الكون يستمد المسلم وغيره قوانين العلم، وكلاهما مقروء للناس بمقادير ودرجات، ولكل كتاب عالم مختص به. ويجب على العالم في كل مجال أن يقصر بحثه على مجال علمه، فلا يتجاوزه فيما لا يفهمه"

نقول: في هذا التصور، تنجلي ازدواجية الحياة الفكرية التي استلبت مفكري المسلمين وعلماءَهم، فجعلت لهم – إن استبقوا إيمانهم- قلباً مع الإسلام، وقبلته بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وعقلاً مع الغرب، وقبلته هارفارد وأخواتها. إن هذا الفصام ليمزق أهل هاتين القبلتين، كما قال تعالى "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ"(الأحزاب:4)، ومن ورائهم حشود من المتعلمة والشباب التائه!! .... لماذا؟! لأن القرآن الكريم لا يقتصر على السلوك كما قال زكي نجيب محمود، بل إنه ليكسب قارءه تصوراً حتمياً للوجود واقعاً ومآلا، له هيئاته وسننه، .... وهذا التصور يعاند ما يمليه العلم الغربي المحكوم بين جنبيه بما يستغني عن، بل ويستخف بـه ، من إرادة عليا، وأن سنن الكون مسنونة مقدوره، فاعلة مع كونها مفعولة.

كما وأن العلم الغربي، قد استحوذ على السلوك من بين ما استحوذ عليه في حمى جامعاته ومؤسساته، فجعل السلوك والشعور والأخلاق ومبادئ الحياة مادة للدراسة، واستعلى بكلمته العلمية بزعمه، ليُسَوّدها على ما عداها من أديان تُوجِّهها، وقد أفَلَت شموسها كما يزعم. وأصبح ترك الميدان للعلم الغربي والفرار بالدين فراراً من الزحف، وليس كما يظن زكي نجيب محمود، حماية للدين والعلم جميعا!!

لذلك، فإن الصورة بين جانبي المعرفة عند عالم الطبيعة المؤمن، أو المفسّر الطبيعي، ليست بالبساطة المعرفية التي يظنها زكي نجيب محمود حين يقول: "إن كان يمكن لعالم الطبيعة - بعد أن ينتهي من معرفة الكون- الإيمان أكثر برب الكون؛ فيكون إيمانه حينئذ نورا على نور، ويكون قد جمع بين العلم والإيمان. والعلم يمكن أن يكون إسلامياً عن طريق الوقفة العامة التي يقفها المسلمون من الكون؛ فيرتب العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحوٍ ما، تُحقق للمسلم نوعاً من التوحيد بين عناصره الداخلية والعلوم الجزئية الكثيرة، ويكون هذا هو التوحيد الحقيقي." ويصبح ترتيب العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما، كما يقول، شكل من أشكال التكامل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أبجدية مشتركة حتى يتحقق ذلك التوحيد الكلي الذي يتكلم عنه. ويصبح السؤال هو: كيف يمكن إنشاء أبجدية مشتركة للمعرفة التوحيدية دون توحيد المقايسة commensurability بين مقولات القرآن ومقولات الظاهرات الطبيعية في إطار صياغة العلوم الحديثة لها؟! .... وغني عن البيان أن تحقيق هذا التوحيد وتلك الأبجدية لا يمكن إنجازه إلا بشكل من أشكال التفسير العلمي والرؤية الموحدة لتفسير الظواهر. ... والنتيجة أن زكي نجيب محمود يعود ليدخل صرح التفسير بعد أن ظن أنه أوصده؟! .. مفارقة كبيرة لم يكن ليتوقعها صاحبها!

وفيما اشتهر بأسلمة العلوم، يرفضه زكي نجيب محمود ويستدل على رفضه بعدد بالأسباب:
"1 - أن في هذه الدعوى مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية.
2 - أن في هذه الدعوة ميلاً عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية.
3 - أن في هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع.
4 - أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يكرسون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم.
5 - أن المنهج الواجب استخدامه في العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية.
6 - أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمي الآن.
7 - أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي نتيجة علمية؛ لأنها التزمت بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف النظر عن عقيدته.
"

نقول: من الجيد أن يثير زكي نجيب محمود هذه الاعتراضات، ليس لوجاهتها، بل لأنها ما زالت إشكالات عالقة في أذهان الكثيرين، من مسلمين وغيرهم. غير أنها موهومة، وسرعان ما ينقشع ضبابها بشيء من الجلاء الفكري لمفاصلها.

1- ففي قوله: " أن دعوى أسلمة العلوم مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا في بحوثهم، وهو أن تأتي نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية "
نستغرب بشدة هذا الطرح الاعتراضي، ولا نرى له من وجاهة إلا إذا ظن قائل العبارة أن العقيدة الإسلامية تفتقر إلى الاستدلال البرهاني الدامغ على صدقها، أو بعبارة حديثة: أنها لا سند علمي لها! ... هنا فقط يكون له الحق في استنكار أسلمة العلوم، على اعتبار أن العلم لا يمكن أن يقوم على أي مبدأ اعتقادي قلبي (إسلامي أو مسيحي أو يهودي أو هندوسي ... إلخ)، فنجد عندئذ (مَسْيحة العلوم، أو هودنة العلوم ...إلخ ) ولكن هل هذا الفرض المركزي بالاعتقاد القلبي في عبارته صحيح؟! ... الإجابة:.. لا.. ليس صحيحا. ... ، وإذا سأل سائل: لماذا، ومعلوم أن الإسلام دين كما أن المسيحية دين؟ ... والإجابة هي: أن الإسلام دين خالص لا دَخَلَ فيه، وقد قامت عليه البراهين الدامغة على صدقه، وبما لا يشوب مصادره (القرآن وما يتأيد به من السنة الصحيحة) أي شائبة.

فإذا كان الإسلام له أدلته المستقلة على صدقه، وأعظمها القرآن ذاته، فيصبح اعتماد القرآن مصدراً للعلم وأرضية لأسلمة العلوم عملاً مبرراً، بل ضرورياً. ولا تتحرَّج عندئذ أسلمة العلوم من اعتماد القرآن مصدراً لا شك في صدق أقواله ذات العلاقة بالعلوم الجاري أسلمتها (تصحيحها). ويصبح الحديث عن صدق آيات القرآن ووجاهة اعتمادها مصدراً مباشراً– في أقل درجات التشبيه- شبيه باعتماد قانون من القوانين الهندسية في علم الفيزياء. حيث يجد من يشاء الاطمئنان إلى صدقها براهينها في علم الهندسة، وكذلك القرآن، فمن شاء أن يطمئن إلى مصداقيته، فليرجع إلى أدلة الوحي والنبوة. فإن فرغ، فعليه أن يعتمد القرآن مصدراً قاطعاً في ما يصرح به نصاً، أو ترجيحا. فإن لم يفعل، وكان لهذا التناول تأثيرٌ على صياغته العلمية لما يتناوله، فحتماً هو متشكك في نفسه، كالمتشكك في أن 1+2=3، أو يمنعه مانع ولا يستطيع مقاومته لضعفه.

فإن قال زكي نجيب محمود: ولكن كل ديانة مما ذكرت تقول نفس الشيء، فماذا نفعل؟ ... نجيبه ونقول: أن للبرهان سلطان، ولا يمكن أن ينتصر برهانان متعاندان. فالمصدر الديني الأصدق واجب الاعتماد، وبإسم العلم. وهل ينتهج العلماء غير نصرة النظرية الأقوى برهاناً، فما الحرج إن طبقوا نفس المنهج في مقارعة المصادر الدينية المتنازعة؟!

2- ثم يأتي زكي نجيب محمود بمبرر ثان لاعتراضه على أسلمة العلوم ويقول: "أن في هذه الدعوة ميلا عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية". .. ونجيبه أننا لا ننكر ذلك، .. كما أنه لا ينكر أيضاً أن الميل العاطفي نفسه موجود في نوازع كل باحث لما يميل معه قلبه، وليس له عليه برهان! .. ولو لم يكن الأمر كذلك، لما كان لمسألة الموضوعية objectivity في العلم تلك الأهمية التي حرص أهله على تجليتها كلما أمكن. ومعلوم أن هذا الميل العاطفي يُحجب بالنقد والتمحيص، وآليات المنهجيات العلمية من التحكيم العلمي، والمراجعة الـمُعمَّاة للأبحاث قبل قبولها للنشر. ... ونضيف أن هذا السبب بعينه هو الذي دفعنا إلى مراجعة كثير من مزاعم الإعجاز العلمي ونشرناها على مدونتنا، وذلك بعد أن تبين لنا خطؤها، وقامت عندنا الأدلة على ذلك، ... ولا يخفى أن الميل العاطفي كان فاعلاً في دفع أصحاب تلك الدعاوى إلى نشر دعاويهم قبل الاحتراز عن الأخطاء العلمية فيها. ولكن المنهج النقدي يقينا شر هذا الميل، مثلما يفعل مع أي علم آخر مما يُحتفى به من علوم حديثة، ولا فرق.

3- ويندرج مع الاعتراض السابق لزكي نجيب محمود اعتراضه الثالث الذي قال فيه [أن في هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفي العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع]، ويعالج هذا الأمر في مسائل أسلمة العلوم مثلما يعالج في غيره من علوم، إذ أن العيوب الإنسانية يسهل فضحها، لأن سلطان العلم ذو سطوة، والحجج الرصينة مفحمة مهما علا صوت الهوى والتعصب. وهذا ما فعلناه في نقدنا على دعاوى الإعجاز التي وسمناها بالمتهافتة، وما استطاع أصحابها، ولا مناصريهم الرد إلا عادوا منحاذين أو جاهلين، فرجعوا صفر اليدين منخذلين. فالحق أولى بالاتباع، ولا ينتصر دين الله تعالى بالباطل أبدا.

.. ثم ماذا أراد زكي نجيب محمود بقوله أنه "في العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هي في الواقع"! - هل يقصد أن مقولات القرآن في شأن الظواهر الكونية ربما لا تطابق الواقع، ولهذا يجب استبعادها؟! ... نقول: إن رجحت أفهامنا لمراد آيات القرآن - دون تقصير أو قصور في الفهم- أصبح اعتمادها واجباً، وكأننا نرى معاني الآيات رأي العين، وإلا كان إيماننا بالقرآن زائفاً، حتى ولو أقسمنا على صدقه. إذ لا إيمان بلا تحقيقه عملاً واقعا عند الاختبار. فمن آمن بالقرآن ثم نجده يُرابي في أمواله، فهو لا محالة كاذب في إيمانه، وإن أقسم وأقسم. ونعيد لنؤكد أن الإيمان هنا إيمان عن حُجة وبرهان، مثلما أن وقوع العقاب على أصحابه يوم الحساب، عقاب عن حُجة وبرهان.

4- وفي اعتراض رابع يقول زكي نجيب محمود: "أن في هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يُكرِّسُون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال هذه العلوم." .. نجيبه أن العلماء علماء ما بقوا طلاب علم. ثم ما الحرج في قراءة كتب الأسلاف؟! ... ألا يقرأ الغربيون كتب اليونان حتى يومنا هذا، ... ألا يوازنون بين مقولات القدماء والمحدثين – ومنهم زكي نجيب محمود نفسه- في تخصصاتهم؟! .. هل يرجع هذا الاعتراض إلى الإشفاق على العلماء، أم سوء الظن بهم أن يقرؤوا فقط كتب الأسلاف. ... ثم من قال أن أسلمة العلوم تدفع فقط إلى قراءة كتب الأسلاف. ... إنْ ظن صاحب الاعتراض ذلك، فلا بد أن الأمر قد تشوش عنده في منهجيات أسلمة العلوم، والتي في موجزها تدعوا إلى تهذيب العلوم الحديثة مما يتعارض بجلاء مع كتاب الله تعالى. فكيف يقال أن هذا يعيق الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب في مجال العلوم، وما من معنى لأسلمة العلوم إلا تمحيص هذا الأحدث من العلم؟! .. كما وأن قراءة كتب الأسلاف هام لتنقيتها من أوهام الثقافات القديمة، التي تداخلت مع الحق الذي أتى به وحي الله، فكان التمييز بين الحق والباطل ضرورة، لتنقية الماضي الطاهر من عوالق التاريخ.

وأخيراً تثيرنا عبارة زكي نجيب محمود، بالاعتراض على التتلمُذ على كتب الأسلاف – وفي كثير منها الخير – ودعوته المنفتحة للتتلمذ على كتب الغرب المعاصر، وفي الكثير منها الباطل! .. ولا شك أنه لا حرج في مبدأ الاطلاع على كل مصدر علمي، ولكن الحرج كل الحرج في الإعراض عن الحق لكونه قد وصلنا عن طريق الأسلاف، وعدم التوقي من الباطل لأنه من الغرب المحتفى به. فأي ظلم علمي تدعونا إليه هذه العبارة، وأي تعصب للغرب تمثله، في وقت يزعم صاحبها اتقاء التعصب للأسلاف وللاعتقاد الديني باسم العلم؟! .. بل ويدعونا - دون تصريح - للتعصب للأغراب وللاعتقاد اللاديني، المبثوث في العلم الحديث، وباسم العلم أيضاً! .. مفارقة أيَّما مفارقة!!!

5- وفي الاعتراض الخامس يقول زكي نجيب محمود: "أن المنهج الواجب استخدامه في العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية". .. نجيبه: ومن قال أن أسلمة العلوم لا تستخدم التجريب، واختبار الواقع، وسؤاله، والإنصات إليه. ومعلوم أن التجربة تخبر بما يتعلق بها وبلغتها دون عقائد الناس القلبية، فهذا بديهي، .. إلا أنه ما من عصمة وراءها حيث يأتي الملحد فيُلبس مقولات التجريب بلباس الإلحاد وهذا باطل، ويأتي الهندوسي ويُلبس هذا التجريب بتصورات عقيدته الدورانية في الاستنساخ وهذا باطل، ويأتي كل ذي مذهب ليرى التجريب في إطار صورة العالم المرتسمة في صفحة قلبه العقائدية. .... وما نراه من كلام زكي نجيب محمود أنه على المسلم وحده أن يجرد التجربة من أصدق العقائد على الأرض! وبماذا؟ بحجة براءة التجريب من العقائد، حتى لو كانت العقيدة الصحيحة؟! ... وهذا أغرب ما يمكن أن نسمعه من مؤمن. ... ولا ننكر أن العلم الحديث قد استطاع بتر صريح هذه العقائد المشوهة من الظهور في الدوريات العلية الرصينة، إلا أن أشباحها تجيء وتروح بين السطور، وتفعل فعلها الأثيم على أوتار القلوب، ولا يفطن إليها إلا ذوي الألباب. ... ولا ننكر أيضاً أن كثيراً من تصورات المتدينين من المسلمين قد شابها فساد التصورات الثقافية للأسلاف، وبما أملته عليه عصورهم وما فيها من خلط ووهم بالكون والخلق... وهذه التصورات الفاسدة تتطلب التهذيب أيضاً، ولا يمكن ذلك إلا بإنشاء علماً رصيناً بين الحق المنطوق بالتجربة، والحق المنزّل بالوحي. .. وليس هناك من حق أجلى إذا اجتمع له هذان المصدران لأي باحث، مهما علا قدره وامتاز اتقانه، وهذا هو "أسلمة العلوم" كما ينبغي لها أن تكون.

6- يقول زكي نجيب محمود: "أن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذي قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمي الآن" !!! ... نقول: ومن قال أن أسلمة العلوم هي إعادة ترديد ما قيل؟! .... إن أسلمة العلوم وما تتطلبه من تفسير علمي هو أن يتسلح الباحث المسلم بذخيرة الوحي الذي جمع بين دفتيه احتياجات المسلم المفاهيمية حتى قيام الساعة، ويكتسب من الخبرات الماضية ما يستطيع حمله والتأهل به، فيقتحم بذلك عراك الحياة، وقد أصبح في أعلى درجات الإعداد المعرفي والخبرة المعلوماتية عن تجارب السابقين، لخوض معارك تجريبية وتحليلية وتصورية جديدة. فيعالج مسائل اليوم أفضل مما كان لو كان خالي الوفاض من هذا الإعداد وهذه الخبرة.

7- ويختم زكي نجيب محمود اعتراضاته ويقول: "أن النتيجة التي نصل إليها في هذه العلوم هي نتيجة علمية؛ لأنها الْتَزَمَتْ بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان في كل مكان بصرف النظر عن عقيدته". .. فنجيبه ونقول: أن إعادة القول بأن نتائج العلوم المستقلة عن الإسلام علمية لأنها تتبع المنهج العلمي، ليس إلا مصادرة على المطلوب. حيث أن مدار الحديث بطوله وعرضه على أن هذه العلمية التي يحتفي بها المتكلم إنما هي علمية مبتورة، وأنها أفضل إذا تدعمت بكلام الخالق سبحانه في عيون مسائل البحث، مثلما أن معادلتين أفضل من معادلة واحدة في حل المسألة الرياضية، فكذلك إضافة مصدر الوحي إلى مصدر الوقائع - المتحري عن البحث فيها - يجعل الوصول إلى علاج مسائل البحث أكثر إضاءة وأبعد عن الغموض والتشويش. ولا يقول معترض أن معادلة واحدة أفضل إلا إذا كان على غير ثقة في معادلة الوحي، وهذه هي عقدة المعترضين على أسلمة العلوم، وفي مقدمتها التفسير العلمي. ... وأنهم مبيتوا النية على الاعتراض، مع علمهم أن هذا الإجراء منهم يخالف مبادئ المنهج العلمي الذي يدَّعونه، ونقصد مبدأ الموضوعية الذي كان أحد اعتراضاتهم، ، فإذ بهم يقعون فيه، إضافة إلى اجتزاء المصادر وتحكيم الهوى فيما يأخذ الباحث منها وما يدع.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
-----------------
[1] زكي نجيب محمود (1905-1993)، فيلسوف، وكاتب، وأكاديمي. حصل على الدكتوراة في الفلسفة من لندن. وظل يدرس بكلية الآداب بجامعة القاهرة حتى تقاعد، مع انقطاعات قليلة عمل خلالها في واشنطن والكويت. عمل مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية في واشنطن، وعضوا في المجلس القومي للثقافة بالقاهرة. من تلاميذه أنيس منصور، وإمام عبد الفتاح. له العديد من المؤلفات، منها: المنطق الوضعي، وموقف من الميتافيزيقا، وقيم من التراث.
[2] مصدر المعلومات لهذا الفصل مقالة للأستاذة الدكتورة منى أبو زيد، بعنوان " زكي نجيب محمود وثلاث قضايا ساخنة "، ورغم حرصنا على تتبع مصادرنا إلى كتابات أصحابها، إلا أن خبرة د. منى أبو زيد وشمول مقالتها أغنتنا عن ذلك، لذلك سنعتمد نقلها عنه آراءه، آخذين في الاعتبار شيء من التصرف من جهتها، لذلك لن نتمسك بحرفية النقل، بل بوضوح الفكرة وعلل اعتراضات زكي نجيب محمود.
زكي نجيب محمود وثلاث قضايا ساخنة - ثقافة وفكر - مدارك - أون إسلام.نت
[3] الحاشية السابقة.
 
الفصل (أ15) شوقي ضيف

الفصل (أ15) شوقي ضيف

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ15) شوقي ضيف​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
يقول الأستاذ الدكتور شوقي ضيف- رحمه الله تعالى-[2]،[1]: "تلت الشيخ الإمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية. كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إذ القرآن فوق كل علم. ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون، وما ذُكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يُراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقاً أعلى يدبره وينظم قوانينه. ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية. ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تُستنبط من النظريات العلمية شيء آخر، لا يتصل برسالته ولا بدعوته. إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يُحصى من قيم روحية واجتماعية وإنسانية. وحَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة."

نقول: لم يُدرك كثيرٌ من علمائنا – رغم تألقهم في تخصصاتهم كالنجوم في الظلمات المدلهمة – أن النزال قائم ولا يزال يستعر، وله اصطكاك يبرق ويرعد هنا وهناك بين الحق والباطل. ومهما دوّى هذا النزال في صورة من صور العنف أو خفَّ صداه، فإن قطب الرحى منه ومرجعه ليس إلاّ إلى الحُجّة والغلبة. وبقدر ما يطغى أهل الإضلال والزيغ على أرض جديدة من بقاع الفكر الصادق، وحمى الله تعالى في حججه، بقدر ما يفقد أهل الإيمان بالله تعالى من هيمنة الروح القرآنية على ما سبقه من كتب إلهية، ناهيك عن علوم بشرية لا ينفك عنها العوج والشطط، تسعى إلى هيمنة على عقل الإنسان وقلبه، دع عنك انقياده ومصيره.

يقول أحد المتحررين الليبراليين[3]: ["هذا من فعل الله" ليس تفسيرا لظاهرة ما، إنما هو اعتراف بأنه ليس لدينا تفسير لهذه الظاهرة، وأحيانا يؤدي هذا الموقف-وهذا هو الأخطر- إلى عدم بذل الجهد العلمي المطلوب لمحاولة إيجاد تفسير معقول]. ونُلاحظ كم في هذه العبارة من سُمٌّ قاتل، وفحواها! .. أن على من يُصدِّقُها أن يختار بين أحد الاختيارين دون الآخر؛ فإما أن يقول: "هذا من فعل الله" كما يقول المؤمنون بالله، أو أن يسعى إلى تفسير الظاهرة تفسيراً علمياً على النهج الغربي الحديث. ومعنى أن يقول المؤمن هذه العبارة "هذا من فعل الله" أنه يفتقر إلى التفسير العلمي للظاهرة. ومن ثم، فأي موقف يتراءى لمؤمن فيه أنه يؤدي إلى أن يقول هذه العبارة، عليه أن يتوقف ويفكر، ألها تفسير علمي؟ - فإن وجد التفسير فقد بلغ المراد! وإلا فليقلها ليعلن أنه ليس لديه تفسير. أنظر أيها القارئ الكريم مدى خبث هذه الفكر الذي ينتصر بالعلم الحديث لنفي الإقرار بما هو حق لله تعالى دونما شريك في الوجود، والذي هو بتمامه من خلقه سبحانه، أسباباً وثمارا. ورغم أن الرد على هذا الزيف الفكري يسير، وفضح تلبيسه غير عسير، إلا أن الأغرار من الناس – مسلمين وغير مسلمين – صيدٌ هائم يلتقطه الضُلاَّل بهذا المكر الداهم.

ولمثل هذا – وغيره – من مكر الماكرين، وجب أن ينكشف للناس علاقة الدين – في الإسلام والقرآن – بما بنى عليه العلم الحديث قواعده، ألا وهو ما خلقه الله تعالى وأودع فيه من أسرار وإبداعات. وليس هذا رد فعل لمحض التشويش دون الأصول والبراهين، بل دفاعاً عن حق لله فيما خلق، وفيما أنزل، وفيما يجب أن يُنسب إليه سبحانه، حتى لو توسطت ذلك أسباب جعلها الله تعالى من دلائل حكمته في الخلق، وظن الـمُـبطلون – أو تغافلوا عن – أنها مما ينفي أو يستغني عن ضرورة وجود الـمُبدع لها سبحانه.

وليس غريباً على أهل الإلحاد العلمي، أن يسعَوا إلى دعم إلحادهم بالمكر في رداء العلم، والله تعالى يقول لنبيه: "وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا"(الإسراء:73-75)، وهذه الآية محققة فيما نقلناه أعلى، في تخيير الناس بين نسب الحق لله وبين التفسير العلمي الغربي بعيداً عن الله، افتراءاً وكذباً!! .. وكأن المسألتين – الإيمان والعلم- متناقضتان ولا تجتمعان؟!

وأينما يذهب المؤمن في العلوم الحديثة يجد مثل هذه الألغام، والفتن، ويظل يبتعد عن حمى الإيمان شيئاً فشيئا، حتى يصل به الأمر إلى أن يصبح من زمرة أقوام أخذتهم الفتنة وابتلعتهم، ثم صنعت منهم ألسنة لها، يلمزون ويخدشون الحق بجهلهم أو ظنهم، وما يخدشون إلا وجوههم وما يشعرون.

ولا يظن ظان أن الإعجاز العلمي في القرآن ملجأ مصطنع، يأوي إليه المؤمن من هذا الهجوم الإلحادي، هروباً من النزال العلمي، وانكشافاً لوهن فكري، وتذرعاً بجوار الله، وفراراً من الزحف! .. بل الحال غير ذلك، وهو، أن الله تعالى غالبٌ على أمره، عالم بالغيب ومكر الماكرين. وما نراه، أنه سبحانه جعل في كتابه من الأدلة والبراهين على ائتلاف كلامه الحكيم مع إبداعه في خلقه، ينطق كل منهما ليدلل على الآخر في غير تباين ولا تنافر ولا افتراق، لأنهما جميعاً منه سبحانه. فبالحق خلق ما خلق، وبالحق أنزل ما أنزل، فكان ما أنزل مصداق ما خلق، وكان ما خلق تصديق ما أنزل.

فالأسباب إذاً حاضرة لشمول كتاب الله تعالى لأسرار الله في خلقه سبحانه، ولا نقول لنظريات البشر حولها. وليس هذا افتراءاً دون سند، ولا ادعاءً ما عليه من دليل، فآيات القرآن في ذلك متواترة. بل إن التصريح بعلل شمول التنزيل على مثل هذه الآيات جلية بينة، ولا أدل على الحق من علة صريحة عند أصحاب البراهين، وخاصة إذا صدرت من أصدق القائلين، وأحكم الحاكمين. فلم تتركنا الآيات نبحث معللين، مخطئين أو مصيبين، تائهين ضائعين، ولم يعفنا في نفس الوقت من تدبر الأسباب والبحث والتنقيب. فقال تعالى في علّة تبيين الحق للكافرين "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(فصلت:41)، وفي علة تثبيت المؤمنين، واستيقان الذين أوتوا الكتاب، ونزع فتنة الارتياب "لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ"(المدثر:31). والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

وإذا نظرنا في كتاب الله تعالى فسنجده مشحوناً بالآيات الكونية، وأسرارٍ مازلنا نجهل معانيها، فلا يعلم أحدٌ من المفسرين ترجيحاً، ولا اطمئنان معرفياً، ما تؤول إليه "الذَّاريات" و "الوِقْر"، ولا "الصَّافَّات" و"الزَّجْر"، ولا "المُرسَلات" و"العًرف"، ولا الحروف المقطعة، ولا "مستقر الشمس" ولا الفرق بين جريانها وسبحها، ولا ما في الأرض من مثل السموات السبع، ولا الأمر العارج بين السماء والأرض، ولا الأيام ذوات الألف سنة والخمسين من مثلها ... إلخ. ... فأنَّى لنا أن نعرفها إن لم نتفحص ما خلق الله، وما قاله الراصدون لها في صورة قوانين حاكمة، أو نظريات مطروحة، أو أفكار هائمة. ... أم أننا ننتظر الوحي ينزل – وما هو بنازل كما أخبرنا ربنا جل وعلا- ليخبرنا بعد أن أخبرنا، ويطعمنا بعد أن أطعمنا، ويسقينا بعد أن سقانا؟! – أم يظن عاقلنا أن الأرض تخرج ثمارها مطبوخة، أو ذهبها مسكوكا، أو أن يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه! وما هو ببالغه!

ثم ما هو الذي أمرنا الله تعالى أن نتدبره في كتابه العزيز حين قال سبحانه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"(النساء:82)، وحين قال جل في علاه " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"(محمد:24)؟! – أم أن التدبر غرضه الإقرار، فإذا حضر الإقرار انتفى التدبر بظن الظانين؟! – وهل يختلف هذا عن قول القائل أن الصلاة غرضها التسليم، فإذا تم التسليم رفعت الصلاة؟! ... ومن يرفع التدبُّر، فكأنما يرفع الصلاة. ... أنظر كم يزيغ الداعي إلى ذلك؟!

وقد نفهم أن ينفي نافٍ عن كتاب الله تعالى ما لا يليق به ولا يرتقي لقيمته، تبعاً لقياس الأَوْلى! .. ولكن أن ينفي النافي عن كتاب الله تعالى صدق حديث الله عن خلقه، وأسرار ملكوته، ويقصرها على التلاوة، والترتيل، ... وكثيرٌ منها مازال مُشتبها في معانيه؛ ينتظر من يفك منه الشفرة، ويذيع العِبرة، وينشر حروف الحق، ولا يكون من الكاتمين، الذين توعدهم الله بقوله سبحانه "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ"(البقرة:159)، فهذا ما لا نفهمه!!!

ولا يعني ذلك أن يخوض الخائضون، ويلغُ اللاغون، وفي كتاب الله يتخبطون، فيرفعوا مآذن للعلم بزعمهم، ما أنزل الله بها من سلطان. فالحق برهان، والعابث فيه خسران. ومن أراد دخول الدار، فللدار أبواب، وجهة ومخبر، وأهل ومحرم. فأدب القرآن لا يقل عن أدب الديار، فلا يقتحمنها أحمق إلا بإذن، وإذن القرآن الفهم والعلم، ولا ينطق إلا ببينة، وإلا فهو منها في مهلكة. وإن ظن أن الناس عن حقيقة قوله غافلة، فسهام القرآن بالمرصاد له ناظرة، ترمق العابثين بفضائح مُقبلة، لا يدري أين يذهب إن كان من أصحاب القلوب المبصرة.

أما المانعون الناس عن كتاب الله متفقهين، بأدوات العلم والفهم متزودين، فما يرون في من يمنع الناس عن بيت الله حجاجاً أو معتمرين؟! – إن كانوا يرون كتاب الله من ثقب نافذة، فقد فتح الله على الناس ألف نافذة. ومن قصر على الناس السبل إلا سبيلاً يعلمه، فمن أدراه، بعد الذي ما دراه، أنه عن سبيل الله صادٌّ أو نافرُ؟!

وأما قول شوقي ضيف – رحمه الله: "حَسْب المفسر أن يُعنى ببيان ما فيه من هذه القيم - الروحية والاجتماعية والإنسانية -ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة"، فيه كثير من الحجر على عطاءات القرآن! .. ولأن القرآن كلام الله تعالى، فعطاءاته وأسراره ونهايات معانيه لا يعلمها إلا مُنزله؛ العليم الحكيم، سبحانه. ومهما بلغ إنسان من علمٍ، فليس له من أمر القرآن شيئاً في سبر أغواره وآفاق ارتقاءاته.

ثم نقول: برغم هذا الحَجْر الذي أعلنه الأستاذ الدكتور شوقي ضيف عن التفسير العلمي في القرآن الكريم في قوله: [تلت الشيخ الإمام تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية، كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة] ... إلا أننا سنراه يبحر بنفسه في التفسير العلمي، ويعترك مضماره، بقدر ما أحاط به من علم بالطبيعيات، وذلك في سياقات تفسيره لعدد من الآيات:

ففي قوله تعالى: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) "(الرحمن)، واقتراناً مع قوله تعالى "وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) "(الفرقان)

يقول[4]: [هذا البرزخ والحجر، إما حقيقيان، بمعنى أن بين البحرين برزخاً من اليابسة، وكأن الآية عن مطلق البحر العذب والبحر المالح، ووجودهما على ظهر المعمورة، وإما مجازيان بمعنى قدرة الله. ويجري مع ذلك فهمان متقابلان؛ فهمٌ يمثله (التقاء) الأنهار بالبحار والمحيطات، وأن كلاً من الماءين العذب والمالح، لا يتجاوز حده، وهو معنى (لا يبغيان). فكل منهما لا يبغي على صاحبه، ولا يطغى عليه بالممازجة والاختلاط، وفهمٌ ثان أعم، وهو قدرة الله على أن خلق البحار ملحة والأنهار عذبة، والتقاؤهما ليس التقاء حقيقياً وإنما هو التقاؤهما في مرأى العين، بمعنى أن الإنسان يراهما، وإذا رأى أحدهما تذكر صاحبه.] ..

نقول: لا بد أن ينتبه القارئ إلى غرابة التفسير الثاني عن معنى (يَلْتَقِيَانِ)، وأنه معنى مرجوح، بل مطروح، وليس بعيد أن يكون شوقي ضيف قد نقله عن غيره ممن لا يعلم شيئاً عن مصبات الأنهار في البحار. ومن هنا نرى أيضاً أهمية التفسير العلمي في استبعاد التفسيرات التي لا تتفق مع الواقع المحكي عنه في الآيات.

وفي قوله تعالى " فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) "(الرحمن)

يقول[5]: [معنى وردة: حمراء، ..... وقيل وردة إسم مَرَّة من الورود، مثل سَجْدة من السُّجُود، أي أن السماء انشقت وردة أو دفعة أو حركة واحدة، والدهان دهن الزيت، أي أن السماء تصير مثل الدهن ذوباناً وسيلاناً .. والانشقاق التصدع والانهيار والذوبان. وذكر القرآن مراراً هذه الصور إبان البعث، وأنها حين تقع ويختل نظام الكون، يكون ذلك إيذاناً بالنشور والنشأة الثانية، وهو تارة يتحدث عن انشقاقها، وتارة يتحدث عن انفطارها دلالة على اختلال بنائها، والله يصورها ذائبة سائلة كما في هذه الآية، ومثل قوله في سورة المعارج عن يوم القيامة "يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ"، والمهل دُرْدِيّ الزيت المغلي وحثالته، وهو يقابل الدهان بمعنى دهن الزيت في الآية. وقيل المهل: ما ذاب من المعادن حتى سال وتموج من شدة الغليان، ...]

نقول: هل هذا التفسير شيء آخر غير التفسير العلمي، والخوض في الماحث العلمية التي تراءى لقائلها – في بداية كلامه- أنها تجنح عن الجادة؟! .. أم أن التفسير العلمي يكون مذموماً إذا ما ازداد استيضاحاً بما استُحدث من اكتشافات وإضاءات معرفية. أما إن كان من تخريجات اللغة، بلا إسقاط للأسماء على الدلالات، من الذوات كانت أو الصفات، فهو المقبول، والممدوح، والمشهود له باليمن والبركات؟!!! ... إن كان الأمر كذلك، وكان إغلاق التفسير على اللغة، دون ما تشير إليه اللغة، فهو حجر لا نعلم له شاهد ولا برهان، إلا انغلاقاً على مكنون معاجم، كتبت لأذانٍ قبل أذان، ... رغم أن داعي الله لا يكف الأذان.

وفي قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ "(الرحمن:3)

يقول[6]: [للمفسرين كلامٌ كثير في تصور خلق الله السموات والأرضين السبع، وهل خُلقت السموات أولاً أم الأرضون أولا، أو هل خلق الدخان أولاً لقوله تعالى في سورة فصِّلت: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ "، وماذا يُقصد بالدخان، وهل هو السديم عند الجغرافيين والفلكيين المحدثين، وفي رأيي أن كلام القدماء والمحدثين في هذه الجوانب الفلكية مما يخرج عن الغاية المقصودة بها الذكر الحكيم.] ..

نقول: نرى هنا تصادماً من شوقي ضيف مع التفاسير المأثورة التي وازنت بين أسبقية الخلق بين الأرض والسموات، وخاصة أن هناك إشكالاً في هذا الأمر، ذكره جل المفسرين بين الآيات: (فصلت:9-12)، و آية (النازعات:30). .. وربما لم يكن لدى شوقي ضيف إضافة مفيدة هنا، فآثر الاكتفاء بما في الآيات من عظة. وكان عليه التمييز بين كفاية التفسير في نفسه بما لا مزيد عليه، أو اكتفائه هو منه. فالخلط بين المسألتين لا يجوز. وربما أنه أضمره في قوله (في رأيي) تحرجاً من إلزام غيره به.

ثم يستكمل ويقول: [فهذه السموات المليئة بالمجموعات الكثيرة من الكواكب، كلما اكتشف منها الإنسان مجموعة، وكلما توغل في دراسة مجمعتنا الشمسية، عرف عظمة الكون وعظمة خالقه، وما إحصاء القرآن للسموات السبع بأنها سبع إلا رمزاً لكثرة سدمها ونجومها ومجراتها ومن الخطأ محاولة التعرف على السبع؛ لأن هذا من عالم الغيب الذي لا يدري الإنسان حقيقة أمره، لأنه يخرج عن قدرته ومدى عقله وعلمه. .... وحسبنا أن ننظر ونتأمل ونتفكر في ملكوت السموات والأرض، أما أن نأمل التعرف من القرآن على كيفية خلق الله الوجود وما أشار إليه من سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، فذلك يخرج عن غاية القرآن نفسه بما ذكره من هذه الجوانب.] ..

نقول: إن استنكار حقيقة العدد سبعة للسموات، وما مثلهن من الأرض، لا مستند له. كما أنه تحكم تفسيري، وقطع بما لم ينقطع له المعنى بالضرورة. أما القول بأنه رمز، للدلالة على الكثرة، فهو قول من الأقوال التي ذكرها المفسرون، وإن لم يكن بأقواها، بل هو أضعفها. وأياً كانت درجة الحَجْر الذي يستخدمه شوقي ضيف، فإنه يمارس التفسير العلمي، أي التفسير الذي يُأول الآيات الكونية في القرآن بما تشير إليه من وقائع، حتى وإن كانت من منظور قديم. .. ومما لا شك فيه أن التفاوت بين المفسرين في معرفتهم بالظواهر الكونية تعكس جرأتهم أو توجلهم أو إمساكهم عن ممارسة هذا التفسير. ... وعليه يكون حكم المفسر مقرون بخلفيته الثقافية، وليس بحكم موضوعي على التفسير العلمي، سواء من حيث ما ينبغي له ومن حيث ما لا ينبغي، إلا أللهم قياس الأوْلَى.

وفي قوله تعالى "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ"(التكوير:1)

يقول[7]: [ .. إذا جعلنا الكلمة (كُوِّرَتْ) في الآية بمعنى الإلقاء والإزالة، التقت في معناها بقوله تعالى "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ"(الأنبياء:104)، والآية لا تريد الطي بآلة أو علاج، وإنما تريد الدلالة على الذهاب والفناء، ومثلها التكوير هنا بمعنى الإزالة والسقوط وضم الشيء بعضه إلى بعض، فهذه المعاني الثلاثة متقاربة، وتنتهي إلى إفناء الشمس والذهاب بها. ... وقيل معنى (كورت) ألقيت من فلكها على الأرض كأنها تُطعن ثم يُلقى بها، وقيل: بل يُلقى بها في النار زيادة في عذاب الكفار، واعتُرض على هذا القول بأن النور لا يلحق بالنار، وإنما الحري أن يُلحق بالجنة وأهلها. وأول بعض المفسرين أن يوفق بين الرأيين، فقال إن الشمس تحمل النور والنار، فما كان فيها من النورية يلحق بنور العرش، وما كان فيها من النارية يلحق بالنار. ... والله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية، .. ]

نقول: هذه التفسير مليء بالإشكالات، فالقول بأن [الآية لا تريد الطي بآلة أو علاج] يعني أن تكوير الشمس – إذا جاز تشبيهه بالطي - سيحدث بلا سبب طبيعي، أي أنه سيجري على غير سُنَّة كونية، وأنه مما يلحق بغيب لا سُنَّة معه، فنقول: أنّي ذلك، وأحداث الكون جميعاً مرتبطة على نحوٍ سببي، كما أننا نرى الآن بالتلسكوبات نفس هذا الحدث الذي تتكور فيه نجوم أخرى، قد آن أوان تكورها، ويعلم علماء الفيزياء الفلكية علل هذا التكور، ومآله. ... ثم ما الذي يدفع المفسر إلى تفسير يخلو من الأسباب؟! هل يريد بذلك أن القدرة الإلهية لا تتجلّى إلا مع غياب الأسباب؟ .. إن الخلق وتسيير شئون الكون بأسباب وتقدير لَأَحْكَم من الخلق السحري أو العمالي (الذي تُسخر في آدائه الملائكة)، فلماذا يلتزم المفسر باللاسببية كي يثبت لله تعالى عظيم القدرة وتجلي الإرادة؟! ... أوليس الإنسان مع ارتقاء علمه أصبح يستبدل العمال بالأسباب (التكنولوجية) التي تفعل فعل العمال على نحو أدق وأصوب وأرقى، ولا يعني ذلك الاستغناء عن العمال أو الملائكة، ولكن يعني أن الاستغناء عن صناعة منظومة سببية لإنجاز خلق/عمل ما ـلَمِمَّا هو أولى بالحكمة وبديع صنع الصانع، ويُصَدِّق كلامنا هذا قول الله تعالى "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ"(الأنعام:59)، وهو ما يعني أن كشف الغيب له مفاتح، أي أسباب، أي منظومة سببية، أي مسالك، وأنها من شأن الله تعالى وحده. ... ويؤول إلى هذا الإشكال كثير من التفسيرات التي تبرر أحداث الكون بتدخل مباشر من الملائكة، مثل ذلك تفسير قوله تعالى " وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) "(الانفطار)، والذي أتى به شوقي ضيف – والمنسوب لابن عباس- و فيه[8] [(أن الكواكب) قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور، وتلك السلاسل بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات في النفخة الأولى مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض تناثرت تلك الكواكب وتساقطت سلاسلها لأنه مات مَنْ كان يمسكها من الملائكة]! ... نقول: إن هذا التفسير مرفوض ومردود ... والسبب واضح؛ وهو أن تماسك أجرام السماء يجري على سنة كونية، نعلم كثيراً من أسرارها على نحو تفصيلي الآن، وليس كما جاء في هذا الفهم المرتبط بثقافة غير محيطة بأسباب السموات حتى تقطع بأمر كهذا. .. ولا ينجينا من مثل هذا الجنوح الثقافي القديم في فهم كلام الله تعالى إلا "التفسير العلمي" الذي أدانه شوقي ضيف.

ثم كيف نكرر كلام من يقول بأن تكوير الشمس يمكن أن يكون معناه [ألقيت من فلكها على الأرض]، فنسبة الشمس إلى الأرض كنسبة الفيل إلى فأر، أو ما يزيد عن ذلك، فهذا سقوط متوهم، لا يمكن أن يحدث! .... ثم ما هذا التفريق بين نور الشمس ونارها، وبأي فهم يمكن قبول هذا الخلط المفاهيمي، ... ثم بعد ذلك يتم فصل هذا النور عن تلك النار، وإلحاق الأول بالعرش والأخر بنار جهنم!! هذه أقوال ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يكشف فسادها إلا العلم بفيزياء الكون وسننه التي برهنت عليها الأدلة، وأصبح فهم آلياتها يشبه فهمنا لسباحة السمك في الماء والطيور في جو السماء، من حيث التعليل والصنعة. .... إن القلب ليحزن والعقل ليُجرح من مثل هذه التفاسير التي يتم تداولها، وهي عن الحق زائغة، وعن النقل جانحة، وعن الحجة فارغة. ...

وأما القول بأن [الله جل شأنه في هذه الآيات وما يشبهها إنما يتحدث عن آياته الكونية]، فلا نراه إلا اعترافاً صريحا من القائل بأن الآيات كونية، وما من آلة نعلمها لفهم الآيات الكونية مع اللغة إلا علوم الآيات الكونية، وهذا هو "التفسير العلمي" لمن تأهل له بحقه، وأقام فهمه على براهين دامغة وحجج راسخة.

وأخيراً نقول: إن هذه النماذج لتفسير الآيات الكونية لأصدق دليل على أمرين: الأول أنه ما من سبيل إلى أحسن فهم للمشتبه من آيات القرآن الكونية إلا التفسير العلمي، والثاني، أنه ما من سبيل إلى نفض غبار التفاسير القديمة الموهومة إلا بالفهم العلمي، وهذا الفهم هو "التفسير العلمي" أيضاً.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
---------------------
[1] أحمد شوقي عبد السلام ضيف (1910 - 2005)، وقد اشتهر بإسم "شوقي ضيف": أديب وعالم لغوي والرئيس السابق لمجمع اللغة العربية المصري حتى وفاته عن 95 عاماً. وكان عضواً في عدد من المجامع اللغوية العربية، مثل سوريا، والأردن، والعراق. نال العديد من الجوائز، منها: جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979، وجائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1983. له خمسون مؤلفا، أهمها: سلسلة "تاريخ الأدب العربي"، و "تجديد النحو"، و "تيسيرات لغوية"، وكتاب الرد على النحاة لابن مضاء، نَشْراً وتحقيقا.
[2] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، طبعة ثالثة، نسخة إلكترونية، ص 11-12.
[3] اسمه وضاح نصر، نقلاً عن سيد القمني، "الأسطورة والتراث"، ط3، 1999، ص11.
[4] شوقي ضيف، "سورة الرحمن وسور قصار"، دار المعارف، 1995، ص 48.
[5] السابق، ص61-62.
[6] السابق، ص 112.
[7] السابق، ص 153-154.
[8] السابق، ص 155.
 
الفصل (أ16) أحمد محمود صبحي

الفصل (أ16) أحمد محمود صبحي

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ16) أحمد محمود صبحي​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي[1]،[2]: "إن القرآن ليس كتاباً في العلم، وإن كنا لا نقبل أن يتحكم الدين في مجالات العلم، فإنه يجب أن نرفض أيضاً تدخل العلم فيما هو مجال الدين."

المتكلم هنا – رحمه الله تعالى – من أهل اللغة العربية، لغة القرآن، والفلسفة الإسلامية. وما يقصده من أن القرآن ليس بكتابٍ في العلم، أن علومه ليست من قبيل علوم الطبيعيات وما يشاكلها. وهي المسألة التي تناولناها في الفصول السابقة من وجهات عديدة، وبما تكشَّف معه زيفها الكثير وإصابتها القليلة.

غير أن الجديد هنا عرض ما يمكن أن يكون مساومة ضمنية أو صريحة من المتكلم، وذلك في قوله: لا نقبل أن يتحكم الدين في مجالات العلم، (و) نرفض أيضاً تدخل العلم فيما هو مجال الدين. وكأن الأمر تَرِكة تُقسَّم بين حزبي الفكر البشري في الوجود، يكون فيها كلام الله من شأن (الحزب الديني - تجوُّزاً في التعبير) ، ويكون فعل الله تعالى (أي: خلقه سبحانه) من شأن (الحزب العلمي)! ... ولا نجد تعليقاً أقرب إلى تقييم هذه القسمة الجائرة إلاّ قول الله تعالى "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى"(النجم:22)، ثم لا نجد إغلاقاً لذلك إلا قول الله تعالى: "بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا"(الرعد: 31)

نعلم أن "الحزب الديني" المشار إليه، مكتوف الأيدي تجاه أي شيء من قبيل التدخل في العلم، فلا هو من برامجه، ولا من قدراته. وهي ورقة يطرحها - بإسمه المتكلم أعلى - في هذه المساومة لا تعبر عن أي تنازل حقيقي، لأنه لا يملك عدم التنازل، ولا تزيد عن الإفصاح عن واقع الأمر، وأنه لا قدرة له على المواجهة!

غير أنه يطلب في المقابل ألا يتدخل الحزب العلمي في الدين، على منوال (لكم دينكم ولي ديني). ورغم أن هذه القسمة جائزة في الاعتقادات المتضادة المتنافرة؛ كالإيمان بالله تعالى والكفر به ، إلَّا أن القرآن والعلم لا يتضادان ولا يتنافران! فما هي المرجعية التي اعتمد عليه المتكلم ويمكن أن تُزكِّي هذا الفصل التعسفي؟! .. بحثنا عن ذلك فلم نجد إلا مرجعية نفسية!!!

ويمكن أن نجد رداً مضاداً على هذه الدعوى - للدكتور أحمد محمود صبحي- بفصل السلطات العلمية، وذلك على لسان د. مصفى محمود - رحمه الله تعالى - حين قال بتصرُّف[3] (رداً على ما تعرَّض له من مؤاخذت عن تفسيراته العصرية): [إذا كان لنا ألا نتكلم في الآيات الشرعية، فعلى أهل العلوم الشرعية ألا يتكلموا في الآيات الكونية.]! .. وهو رد .. لا نفهم منه المعنى الحرفي، وإنما نعتبره (رد فعل) يُعبِّر عن الامتعاض من الإقصاء الذي شعر به مصطفى محمود من قِبل المتخصصين بالعلوم الشرعية، وخاصة "بنت الشاطئ"، (أنظر الفصل أ8).

وإذا تنازل الحزب الديني، وسلَّم بعدم التدخل في العلم، فهل يمكن أن يرجع عن هذا التنازل تحت أي دعوى؟! – لا لن يُمكن!! ... إنها خطوة اعترافية بحق العلم (في منهجه الغربي الإلحادي البنية، العلماني التوجه) دون غيره، في البت في مسائل الخلق وسننها، والمجتمعات وعمرانها أو فسادها! .. إنه عرض لا يختلف كثيراً عن عرض سلام الشجعان بين العرب واليهود، بل قل، سلام الحِملان! – سلام من لا حيلة له إلا الراية البيضاء.

إنه أقرب إلى التنازل عن بعض الحق، أملاً ألا يضيع كل الحق. وفي هذا يقول الله تعالى "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ"(القلم:9)، ولكن الله تعالى قد حكم وألزم المؤمنين بالحق كاملاً، لا يتنازلون عن شيء منه، حين قال سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام: "وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ"(المائدة:49).

والحق أن هناك علاقة أكيدة بين الإسلام وموضوعات العلم الحديث، أقر بها علماء شرعيون، مشهود بنزاهتهم العلمية، وصدحهم بالحق الذي يؤمنون به، فهذا الشيخ بن باز رحمه الله تعالى يقول[4] : [علوم الفلك فيها ما له تعلق بالشرع، وقد وجد في الأدلة الشرعية ما يدل عليه. فهذا القسم لا يجوز لعلماء الإسلام ولا غيرهم أن يقلدوا فيه علماء الفلك، بل يجب عليهم أن يتمسكوا فيه بما دل عليه الشرع وأن ينكروا ما خالف ذلك.]، ... وهذا الشيخ محمد الحامد رحمه الله تعالى، يقول[5] : [بما أن بعضاً من النظريات الحديثة يلامس ما عرض له الكتاب الكريم بالإثبات أو بالنفي، وجب أن يقف المسلمون منه موقفاً يلائم العقيدة والإيمان، ويوائم هدى القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فيثبتوا ما أثبته، وينفوا ما نفاه، وما لم يتعرض له بإقرار ولا إنكار، تركوه للتحقيق العلمي، فهو وحده الذي يتحمل تهمة إقراره أو إنكاره ...].

وإذا كان موقف – د. أحمد محمود صبحي – يمثل بعض رجالات "الحزب الديني"، الذين فقدوا الحُجَّة، أو تعثّروا السبيل، أو زاغت رؤاهم في لُجَّة الإرباكات العلمية الحديثة في علاقتها بالإسلام، بكل ما في موقفهم هذا من قَسَمات وعَبَرَات وآهَات. فما هو موقف "الحزب العلمي" المتحامل على الدين وأهله؟!

سنلتقط من هذا الحزب بعض رموزه العربية، ونذكر رده الافتراضي بإيجاز على هذا العرض السخي من الحزب الديني: ونقصد برموزه: طه حسين، محمد أركون، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، سيد القمني، ومراد وهبه، ومن وراء حجاب يمكن أن نضيف أسماءاً أخرى تأتي في الطابور الثاني، ومنهم عبدالوهاب المسيري، حتى مع إعلانه بالتبرؤ من الإعلانية الفجًّة، وتأييده فقط للعلمانية المقيدة. ورغم أنه لا يوجد لمثل هذه الرموز من الأعمال العلمية التي تؤهلهم للتحدث بإسم العلم، أللهم إلا تحدثهم الدائم عنه، إلا أنهم تصدروا المشهد للدفاع عن القيم الإلحادية والعلمانية. ولا نقول للدفاع عن قيم أصيلة فيه، يُفتخر بها وتُحمد له، بل للدفاع الهجومي على حمى كان من المفترض أنها من حق الحزب الديني الذي رأينا عرضه الهزلي أعلى، على لسان الدكتور أحمد محمود صبحي.

أما موجز عريضة دعوى هذا الحزب ("العلمي"- بزعمه)، فهي:
1- زيادة رقعة العمل العلمي؛ ببسط قيم التشكيك والنيل من حمى الحزب الديني.
2- إنكار وجود أي حدود تميز بين ما هو ديني وما هو علمي، فكل حِمَى الحزب الديني أصبحت مشاع، من النهر إلى البحر.
3- نَسَبْ مفاهيم وآليات الحزب الديني إلى قيم ما قبل العلم، ومن ثم النيل منها، وتوهين ما لديها من حجج (لا علمية)! باعترافات بعض أهلها للأسف.
4- تعرية مقدسات الحزب الديني باختلاق تهافتها، وتاريخيتها، وزيف أصولها، وعلى نحو علمي (بزعم الحزب العلمي) أقدس من أن يمسه أيديولوجي (يقصدون الدينيين).
5- التعويل على ثقافة حقوق الإبداع، وحرية الرأي، وعلمنة الإلحاد، كحَصَانَات تقي مصارع التكفير، ومهانات الزندقة، وعقوبات النفي المعنوي.
6- الالتجاء إلى دعم مؤسسات (ضرار)[6] بالجوائز والأوسمة، والكراسي العلمية، وشهادات التقدير، والتزييف الإعلامي، والألقاب، وبطولات الاستشهاد في سبيل "العلم الإله".

ونسأل الدكتور أحمد محمود صبحي: هل يُجْدي مع من كان هذا برنامجه الحزبي، أي أمل للمساومة، بل قل للمداهنة، وتقديم التنازلات على حساب ديننا، وكتاب ربنا، وحقه العلي في الوحدانية دون شريك من علوم مُخْتَلَقَة، وكيد متصل، وكفر متجذر، وبهرجة دعائية بإسم العلمية؟!

فإن قال: ما هذا الحزب وبرنامجه عنيت، إنما عنيت العلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وما كان موضوع دراسته المادة، وكانت أفكاره التجريد الرياضي، ومنطقه العقلانية العلمية الصارمة، التي أحكامها قواطع، ولا تعرف المشاعر، ولا الأحقاد، ولا القيم المتسلطة على النفوس.
قلنا: وهل بغير اسم العلم - الذي وصفته - يتكلم هذا الحزب ومن ورائه؟! –

لا تنخدعن أخانا العزيز بهذا الزيف من الإعلام العلمي، فالعلم الغربي الحديث اعتقادات، بين حق قليل، وظن كثير، ونفوس ذات أهواء، وقيم تُبَخَّس وتُؤخَّر، وتُشكَّك وتُحقَّر، واقرأ إن شئت مراجعاتهم على أنفسهم[7]. ثم إذا كان ما قصدته أعماق المحيط، فتلك شطآنه، وفيوضه الافتراسية على ديننا وحمانا، قد تأذَّت منه أقدامنا وثيابنا، وولج فيه سفهاؤنا، وغرق فيه من لا قِبل له بأوليات السباحة، من علمانيين وزنادقة معاصرين، وجُهلاء مُغَيَّبين. فما الحال إذا طغت علينا أمواجهم العكرة، وبلغت منا الروح والنَّفَس؟!!! ... فيجب أن تتقدم خطوط دفاعنا لدرئها، لا عن اختلاق، وتَعَدٍّ، وافتراء؛ بل عن امتثال لقول الله تعالى "وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ"(الأنفال:59)، وقوله تعالى "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"(الحج: 78)، وقوله تعالى "قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ"(الملك:26).

فالعلم كله لله، والخلق كله لله. وفي كتابه تعالى هُدانا، في كل منحى من مناحي حياتنا، بما في ذلك أفكارنا الطبيعية والوجودية، ... لا عن أوهام لُغوية، بل عن إعمال معاني كلام الله فيما تَفَتَّقت عنه من موجودات.
المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
---------------------
[1] أحمد محمود صبحي، أستاذ الفلسفة الإسلامية، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية. له العديد من المؤلفات، منها: "ابو حنيفه النعمان و آراؤه الكلاميه"، "التصوف - ايجابياته و سلبياته"، "الفلسفه الاخلاقيه في الفكر الاسلامي"، "في فلسفة التاريخ"، "نظرية الأمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية"-تحليل فلسفي للعقيدة، "في علم الكلام - دراسة فلسفية لأراء الفرق الاسلامية"، وغيرها. (ملاحظة: د. أحمد محمود صبحي ليس أحمد صبحي منصور المُنكر لحجية السنة المطهرة، والمطرود من جامعة الأزهر ويقيم بأمريكا)

[2] "بعض جوانب التجديد في الفكر الإسلامي"، أحمد محمود صبحي، مستلة من مجلة كلية الآداب والتربية ببنغازي، ص 69. نقلاً عن "العقل والدين – سلسلة نقد العقل التجديدي في الإسلام"، هاني المرعشلي، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 2001،ص 84.

[3] في لقائه ببرناج (مواجهات) على فضائية إقرأ – المخصص لموضوع الشفاعة:
‫مناظره مع الدكتور مصطفى محمود‬‎ - YouTube
وخاصة الفترة من ( 1:10 ) إلى ( 1:18 )

[4] عبد العزيز بن باز، "الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس و القمر و سكون الأرض"، مكتبة الرياض، 1982، طبعة ثانية، ص 44.

[5] محمد الحامد، "ردود على أباطيل، وتمحيصات لحقائق دينية"، دار الإمام مسلم ودار الدعوة بحماة، سورية، ص 334-335.

[6] منحت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر جائزتها ـ في العام 2005 ـ لـ "نصر حامد أبو زيد"، وقالت في حيثيات منح الجائزة : "إنها منحت الجائزة لـ" أبو زيد" عن مجمل أعماله التي وصفتها لجنة التحكيم بأنها قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي. .. وأضاف البيان: أن أبو زيد ينقد القراءة التقليدية للقرآن ويدعو إلى تفسير علمي مدعم بالحجج، ينطلق من النص ليصنفه في سياقه التاريخي فيفرّق بين المعاني العقائدية والمعاني التي فرضها السياق التاريخي. والباحث يؤكد أن القراءة المعاصرة للقرآن يجب أن تستعين بمناهج علوم اللغة والتاريخ، خاصة وان النص القرآني يحتمل قراءات وتفسيرات مختلفة. وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي قراءات وتفسيرات متنوعة قبل أن يحتكر المسلمون المتشددون تفسيراتهم الأحادية المنفردة لمعاني الكلمات الإلهية، والتي حصروها في إطار المسموحات والمحرمات لا غير.":
http://ibn-rushd.org/arabic/PM.A-05.Abu-Zaid.htm

[7] بنية الثورات العلمية، توماس كون، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، العدد 168، ديسمبر 1992. وما نتج بعد هذا الكتاب من مراجعات في اجتماعيات العلم، وطبيعته القيمية، وعدم براءته في ادعاء الموضوعية، والنزاهة، والتجرد من الأهواء، وخلوه من النزعات الأيديولوجية.
 
الفصل (أ17) محمد عزة دَرْوَزة

الفصل (أ17) محمد عزة دَرْوَزة

كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
الفصل (أ17) محمد عزة دَرْوَزة​
عودة إلى فهرس الكتاب​

بسم الله الرحمن الرحيم​
في مَعرِض تفسير الأستاذ محمود عزة دَرْوَزة[1] لقول الله تعالى "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ"(القيامة:4)، قال رحمه الله[2]: "قرأنا مقالاً أراد صاحبه أن يجعل صلة بين اختصاص البنان بالذكر، وبين ما ظهر حديثاً من علم بصمات الأصابع، وما ظهر له من خطورة في إثبات شخصيات الناس، وتمشياً مع الفكرة التي سادت بعض الناس من استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية للتدليل على صدق القرآن وإعجازه، ومعجزات الله المشار إليها فيه، وفي هذا في اعتقادنا تحميل لكلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل، وإخراج له من نطاق قدسيته، وغايته، وتعريض له للجدل والنقاش."

نقول: رددنا في موضع آخر على ما ذكره الأستاذ دروزة هنا من إشكالات "استخراج النظريات العلمية والفنية والكونية من الكلمات والآيات القرآنية .. والظن بـتحميل كلمات القرآن وآياته غير ما تتحمل"، وبيَّنَّا أن أخطاء المفسرين واردة، بل إنها كثيرة. وهذا لا يمنع سلامة مبدأ التفسير، مثلما أن أخطاء الأطباء لا تمنع سلامة مبدأ التداوي. إذ أن الآيات القرآنية إذا تعلقت بما خلق الله من شيء، فحتماً أن كل ما تقوله عنه حق، ومن ثم، لا يجب أن يُمنع المتدبرون لآيات الله تعالى من استقصاء معانيها. وإن كان من مؤآخذة، فعلى المتهافتين في التفسير بما عُلم من أخطائهم المنهجية أو العلمية التفصيلية، أما إن كانت المسألة تنحصر في عدم قدرة المانعين من تمييز الصواب من الخطأ في مسائل التفسير العلمي، فهنا يقع الإشكال الحقيقي. ... وهو ما سنُعرِّج عليه بعد قليل.

وننتقل إلى ما أثاره الشيخ دروزة من الاختلاف والجدل الناشئ، بما يستوجب شحن الرد على جواز الاختلاف والنقاش في معاني الآيات المتشابهات، التي جد لها من المعاني ما لم يكن معروفاً من قبل، وذلك في ثنايا الحث على التفكر والتدبر في كتاب الله من منظورات المحدثين من الناس، وللرد على الباطل من تفسيراتهم، وهو أمر يقع فيه الناس في كل شأن من شئونهم. ولولا الاختلاف والاختصام، لما عرف المخطئ خطأه، ولما انتبه الناس لمزالق أفكار المتكلمين، قدماء ومحدثين. كما وأن الاختلاف علامة على حيوية موضوعاته، وإلا عُدت في عداد موات الأفكار. ويُعد بقاء مدونات الخلافات العلمية وعاءاً لتأريخ موضوعاته وقصة لسيرورته. وما نشأ العلم الحديث ونما وامتد وطاف وظهر، إلا مع دوام اختلاف أصحابه فيه، فيصوَّب بعضُهم بعضا، وينبش في خبايا المسائل وثنايا الأدلة، ومواطن الضعف فيها. فيتقوى القوي، وينخذل الضعيف.

فالنقاش والاختلاف، ولا نقول الجدل العقيم، مزية لمن عرف ثمارها، ولا ينبغي أن يُخشى منها على تدبر القرآن وتدارك معانيه الأقرب إلى مراد الله تعالى، وفي هذا يقول الله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"(هود:118-119). والاستثناء –"إِلَّا مَنْ رَحِمَ"- لا ينقُض الخلاف، ولكن ينقض عدم اتخاذ الخلاف منهجية علمية، ومن منهجيته أن يتفتق عن حلول محسومة بعد اشتباهها. فالـمُختَلِف مع غيره في سبيل الحق، ويكف إذا وصل إليه، هو الـمُستَثْنَى، على نقيض المختَلِف لمحض الاختلاف، المشاكس في الحق، الجاحد له، بعدما يتبين! .. فهذا مجادل لا يبغي الحق، وهذا لا استثناء له، ولا يدخل فيما أشارت إليه الآية من رحمة.

ويقول الأستاذ دروزة[3]: "لقد نزل القرآن بلسان العرب على قومٍ يفهمونه، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بشرحه وتبيانه، والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة، ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته، أن يدعي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن".

العبارة الأولى "نزل القرآن بلسان العرب على قوم يفهمونه" غير صحيحة على إطلاقها، فالآيات المتشابهة غير مفهومة الدلالة على جهة اليقين، ويعلم المؤمنون أنها حق، ويتعبدون بها كما أمرهم الله تعالى، ولكنهم لم يقفوا على معاني كافة آيات القرآن وإن تظاهرت ألفاظ آياته بما يألفون. أما نظم الألفاظ التي يألفون في مفيد من القول فغير موقوف عليه، فكان – وما زال كثير منه- من المعاني التي في طريقها إلى الانكشاف بقَدَرٍ من الله سبحانه، وعندها، تصبح هذه الآيات من المحكمات.

وقد أمر الله تعالى نبيه بتبيين معاني آياته للناس، في قوله تعالى "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"(النحل:44)، ولكن هل هذا يعني تبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لكل آيات القرآن؟ - لا، فالمأثور من تفسيره صلى الله عليه وسلم قليل! مما دلل على أن النبي قد بيَّن لأصحابه فقط ما كان يحتاج منه الناس أن يعلموه من اعتقاد وعمل في ذلك الوقت. وتبقّى الكثير من الآيات محل نظر من أهل التفسير واللغة. ولإصابة القول في هذه المسألة يلزم الانتباه إلى الآيات التي هي من المتشابه، كما قال تعالى " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"(آل عمران:7)، وأن المتشابهات غير مشمولة بما بينه النبي، وأن البيان التام لآيات الله تعالى إنما سيبينه الله تعالى – في مستقبل الآيام - كما قال سبحانه: "ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ"(القيامة:19) بما يدلل عليه حرف التراخي (ثم) وأن هذا أمر عائد إلى الله سبحانه (إِنَّ عَلَيْنَا) بما يسبب له من الأسباب، ويُخرج المعاني للناس فيعرفونها كما قال سبحانه "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"(النمل:93).

أما القول بأن التفسير العلمي بما ظهر وانكشف معه أسرار في خلق الله تعالى – وقد تآلفت مع معاني آيات القرآن - يجعل من يخوض فيه مدعياً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن، فقول لا سند له، ولا شواهد عليه. وإن تجرأ أحدٌ على نفي العلم بمعاني أيِّ من آيات الله عن النبي، فلا يعدو كلامه أن يكون حماقةً وغرورا، ولا يلزم وزره أحداً سواه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مقاماً، وأشرف علماً مما ظن هذا المتحامق! وما بالنا بمن علَّمه الله تعالى من لدنه كما قال سبحانه: "وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا"(النساء:113)؟! وما بالنا بمن أراه الله تعالى من آياته الكبرى، فقال سبحانه " لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى"(النجم:18)، ومعلوم أن الرؤية أشد أنواع العلوم يقيناً وحقيقة، كما قال تعالى "ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ"(التكاثر:7). كما وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل: "والله لو تعلمون ما أعلم لـ ..."(البخاري)، ويدل هذا التعبير على عدم انحسار علمه صلى الله عليه وسلم فيما نطق به أمام الناس. فمن ذا الذي يتجاسر بعد ذلك ويدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم كيت وكيت مما تعالم به بعض الناس على بعض؛ يضاهئون علوم أنفسهم وأمثالهم بعلوم الأنبياء، صلوات الله عليهم جميعاً، كما كان يفعل حمقى المتفلسفة من أهل القرون السالفة، في قولهم أن الحكمة هي الفلسفة، وليست إلا الفلسفة؟!

وفي موضع آخر من تفسيره، يقول الأستاذ دروزة[4]: "المضامين القرآنية في هذه المواضيع (يقصد ما ذَكَرَه قبلها من ذِكْر لآيات الخلق من جريان الشمس و,,, وجعل الأرض بساطا، وتصويرها مركزا للكون والإنسان، و..) متسقة مع ما في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه، وتجلي عظمة الله وقدرته فيها. وهذه النقطة متصلة بالمبدأ العام الذي ما فتئنا نقرره من أن القرآن خاطب الناس بما يتسق مع ما في أذهانهم إجمالا من صور ومعارف لما يكون من قوة أثر الخطاب فيهم بمثل هذا الأسلوب. ..... "

تعترينا هنا دهشة بالغة! ... فما ذكره "الأستاذ دروزة" مما (في أذهان سامعي القرآن عن مظاهر الكون ومشاهده ونواميسه) يتفاوت من زمن إلى زمن، بفعل التبدلات الحضارية، وإن صدق تصورهم في زمن، فلا بد أنه يجافي الصدق في غيره، فأي هذه التصورات هو الصحيح؟! ... وكيف تتسق معاني الآيات مع ما في أذهان بعض السامعين من تصورات تخالف الحق؟! ... إلا أن يكون قاصداً صدر الإسلام الأول، وما تلاه، مما عرف بالقرون الأولى، أو بعصر السلف. .. ومعلوم بالفعل أنهم كانوا يظنون أن الأرض في مركز الكون، باعتباره مثالاً على كثير سواه، وكما ذكر هو عنهم في صريح كلامه أعلى، ولكننا نعلم الآن أن هذا التصور غير صحيح. فكيف يجاري القرآن أسماع الناس– كما يزعم الأستاذ دروزة – وهم على خطأ؟!

نعم، قد نفهم أن القرآن لا يفجأ سامعيه بما يخالف تصورهم مخالفةً تجرح أفهامهم، فَتُنَفِّرَهُم من مقاصد الرسالة الأهم، لأسباب ثانوية في درجة الأهمية، ولكننا نعلم أن ذلك قد يتم بشيء من التلميح، واشتباه المعاني، فيفهمها السامعون على نحوٍ لا يصدم تصورهم إذا تأولوه حسب فهمهم، دون قطع بالمعنى، طالما أنه لا يمس أم الكتاب (نقصد المحكم منه)، ولكنه لا يجب أن يخالف الحقيقة بحال إذا فُهم على مراد الله تعالى منه. وهذا يؤكد أن الحق في معاني الآيات لابد وأن يستقل عن خاطئ التصورات. ويصبح الاقتراب من الحق في هذه التصورات، اقتراباً من الإحكام لمعاني الآيات الكونية. ويكون تدبر الآيات الكونية على هذا النحو أمراً ممدوحاً، لا حسب ما يفهم القارئ من كلام الأستاذ دروزة من أنه أمر مُشكل ومثير للجدل، ومُعانِد لمقصود القرآن.

ويستكمل: " ملاحظة ذلك جوهرية جدا لأنها تجعل الناظر في القرآن يقف من الفصول الواردة في هذا الباب فيه عند الحدّ الذي استهدفته والذي أشرنا إليه، وتحول بينه وبين التكلف والتجوز والتخمين والتزيد ومحاولة استخراج النظريات العلمية والفنية في حقائق الكون ونواميسه وأطواره منها والتمحل والتوفيق والتطبيق مما يخرج بالقرآن عن نطاق قدسيته .. "

نقول: نعم، إذا كانت هذه التحذيرات والتوجيهات لأهل فضول الكلام، والتهافت، واللغو والتخمين والرأي المذموم، المفتقرون إلى أدلة وبراهين وعلومٍ طلعها هضيم، ولكن إذا كان الأمر من باب البحث التفسيري، الذي يجري على تُوءدة، ورَويّة، وفهم، وبمنهجيات التحليل والتنقيب، واختبار المعاني، والترجيح بما هو أصدق في الخلق والنقل، فلا ينبغي الحَجْر والصد والإقصاء والنيل من المجتهدين طالما كان اجتهادهم وتدبرهم يجري بحقه.

ويستكمل ويقول: "لملاحظة ذلك (أي ما سبق من اتساق القرآن مع تصورات الناس العامة) فائدة عظيمة لذاتها، حيث تجعل المسلم غير مقيد بنظريات كونية معينة يوهم أنها مستندة إلى القرآن ومستخرجة منه- مع ما في هذا دائما من تَمَحُّل- وتبقيه حراً طليقاً في ساحات العلوم والفنون ونظرياتها وتطوراتها وتطبيقاتها فلا يختلط عليه الأمر ولا يصطدم في السير، ويكون كل ما يجب عليه أن يظل من ذلك أن يظل في حدود الأسس والأهداف والمبادئ والمثل العليا وفي نطاق أركان الإيمان العامة التي قررها القرآن، وحيث يظل قصد القرآن ومداه ومفهومه سليما في جميع الأدوار، يخاطب بآياته وفصوله مختلف الفئات في مختلف الأزمنة فيثير فيهم الإجلال والهيبة والإذعان سواء كانوا علماء أو بسطاء. وهو قصد القرآن الجوهري من دون ريب. "

نقول: كيف يظل القرآن – الكتاب مرسل من خالق الكون سبحانه، وفي مئات من آياته- عائم المعنى، مُبهم المقاصد الكونية في تصويره للكون في عين المؤمن به؟! .. حتى ولو كان عوام المسلمين لا يقفون على دقائق المعاني لو أرادوها .. أيمتنع عن هذه الآيات أن يكون فيها من الدقائق اللطيفة، وعيون المعاني التفصيلية الصادقة فقط من أجل خاطر العوام؟! ... أيمتنع أن يكون لقارئ القرآن تصور ما للكون كي لا يتقيد؟! .. وماذا تحمل آيات القرآن إذاً من تصورات؟! .. ألا يوجد للحق في ما خلق الله تعالى صورة في عين المؤمن النبيه المتفكر؟! ... أم أن تصور الخلق لا يكون إلا بلفظ "نظريات"، ثم يسقط التصور لما يحوط هذه الكلمة من خشية الخطأ في محمولها؟! ... ولماذا يرهق أهل العلم أنفسهم اقتناصاً لمعاني القرآن فيما وراء فهم العوام إذاً؟! ... فإذا قيل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن ما ذكرته من اجتهاد العلماء إنما من علوم العربية وأصول الفقه واستخراج أحكام المكلفين، وهذه تُتمِّم فهم القرآن وتضبط لغته وتعم أوامره ونواهيه فيقف عليها العلماء ويبينوها للعوام، .. قلنا: إن القرآن قد عمّ عطاؤه لكل الناس، ومنهم من يستجد له حاجيات وتصورات معرفية لم تكن لسالفيهم، فإن هم أرادوا الوقوف على صدق هذه التصورات، والوفاء بهذه الحاجيات، وجدوا قديم التفاسير تعج بغابر من التوهمات، والتي يعلمون يقيناً أنها قد بَليَت، وذهبت أيامها بما فيها من أخطاء وأوهام. فماذا هم فاعلون؟! .... إن البديل الذي لا مفر منه أن يصبح قديم المفاهيم، والتي قامت الأدلة والبراهين على فسادها، جزءاً ضرورياً من لوازم الآيات، تحمل قدسيتها، ويُحمد من يرددها، ويُذمّ من يعارضها، ... حتى ولو قامت عنده ألف حجة على زيفها؟! ... وهنا يكون الحرج .. كل الحرج. وهنا تكون الفتنة .. كل الفتنة. وهنا يصد العلماء الداعون لذلك عن سبيل الله، ... في وقت هم أولى الناس بتمهيد السبيل، والأخذ بأيدي الناس إلى ربهم بالعلم والفهم والحُجّة!!! ... وكيف بهم يصدون عن الفهم والحُجّة ... لعوام أصبحوا أفقه من معلميهم .. في هذه المسائل خاصّة؟! ... معضلة والله .. وأي معضلة!

وحول السؤال الافتراضي: هل هناك ضرورة للتفسير العلمي؟
يجيب الأستاذ دروزة[5]: "نحن نرى في مثل هذه المحاولات إخراجا للقرآن الكريم عن هدفه الوعظي والتذكيري وتعريضا له للتعديل والجرح اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية على غير طائل ولا ضرورة."

فنقول: الهدف الوعظي والتذكيري حسب التصور الإنساني يتناسب وعلمه وأفق معرفته، أما الوعظ والتذكير وغيرهما مما لا نعلم، لما ينبغي أن يكون عليه كلام العليم الحكيم، فالله تعالى أعلم به، وإسقاط تصورنا على ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون عليه كلام الله تعالى مصادرة، وتحكم من المتعلم فيما ينبغي أن يكون عليه تعليم المعلم له. ولو فعلها طالب مع أستاذه في هذه الدنيا، لزجره ووضعه موضع الاتهام بالغرور والتسلط. وأنى له يدري وهو لن يزل يتعلم مع المتعلمين! ...

أما الظن بتعريض القرآن الكريم للجرح والتعديل اللذين يرافقان عادة الأبحاث العلمية إذا تدبرنا معانيه بمثلها، فلن يختلف عن الظن بتعرُّض ظواهر الكون للجرح والتعديل في صواب خلقتها، وما سُن لها من سنن، وحقائقها الطبيعية إذا أجريت عليها الأبحاث العلمية. وقد قال مثل ذلك بعض الباحثين في الطبيعيات، فسقط كلامهم من أعين العلماء، وأصبحوا مثالاً يُضرب في التطاول والحماقة، كي لا يقع في مثله عالم بعد. ونقصد من هؤلاء الفيزيائي إيسودور راباي I. Rabi والحائز على جائزة نوبل سنة 1944، حين اعترض على اكتشاف جسيم يُدعى (الميون muon)، وقال: (من أمر بخلق هذا؟ Who Ordered That?)، وفقط لأنه لم يجد له محلاً في منظومته الفكرية، وأفقه المعرفي! ... والأخر، وكان أشد تطاولاً ووقاحة (ولفجانج باولي W. Pauli) وذلك حين اعترض أيضاً على اكتشافٍ يقول أن التفاعلات النووية الضعيفة لا يتحقق فيها التماثل بين اليمين والشمال، فقال أخزاه الله: (لاأستطيع أن أصدق أن الخالق أعسر) I cannot believe God is a weak left-hander. ...

وإذا كنا مأمورين بتدبر القرآن، فهل لا يكون ذلك إلا أن نكتشف معانيه فجأة، من عدم العلم إلى العلم اليقيني، أم بمدارسة معانيه ، فتتكشف شيئاً فشيئا على التدرج والتصاعد، فيُخطئ البعض، ويصوبهم آخرون، وهكذا مع تتالي الأيام والسنون؟! .. وكيف تُستبعد دراسة القرآن بالأبحاث العلمية إذا كان من طبعها الخطأ والتصويب؟! .. وهل هناك أبحاث علمية بلا أخطاء وتصويب؟! .. وكيف يقال أن هذا من دون طائل ولا ضرورة.! .. وكيف يكون التدبر إذا لم يكن بحثاً علميا؟! .. أم أن البحث العلمي لا طائل له ولا ضرورة؟! وهل يجوز من المفسر المتدبر الخطأ في كل شأن إلا أعتاب الطبيعيات، من معاني في الأرض والسموات؟! ... إلا إذا كان المانعون لذلك ليس في مقدورهم المشاركة في التصويب والتخطئة! .. فيكون المنع عندئذ آمن وأسلم؟!

يقول الأستاذ دروزة[6]: "بعض الباحثين والناظرين في القرآن بل ومفسريه من المتأخرين والمعاصرين قد ولعوا بمثل ذلك الولع مع تعديلٍ اقتضته تطورات العلوم والمفاهيم، حيث نراهم يحاولون استنباط النواميس العلمية والفنية واستخراج نظريات الدورات الشمسية والقمرية والأرضية وكروية الأرض ونظام الأفلاك والمطر وأطوار النشوء ونمو الأحياء وانفتاق الأرض والسماء والذرة والكهرباء إلخ إلخ من بعض الآيات القرآنية، أو يحاولون تطبيق النظريات العليمة والفنية المتصلة بنواميس الكون والتكوين والشمس والقمر والسماء والأرض والحياة والكهرباء والبرق والرعد إلخ إلخ على بعض الآيات القرآنية ليدللوا على احتواء القرآن أسس هذه النظريات أو نواتها."

نقول: ألم يفعل القدماء من المفسرين عين هذا الفعل؟! .. ألم يُسقطوا تصوراتهم الذي اكتسبوها من ظاهر الحواس على معاني القرآن؟! ... ألم يستشعروا أن الأرض لا تهتز تحت أقدامهم فظنوا أنها لا تهتز أبداً في غير زلزال، وأنها قارّة لا تنزاح وتقع في مركز أبدي للكون توهَّموه. فربطوا هذا التصور بقول الله تعالى "أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا"(النمل:61)؟! ونسوا أن الجنين في بطن أمّه أيضاً في قرار أشد تمكناً "ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ"(المؤمنون:13) ... ألم يروا الرياح تذروا التراب، فربطوا ذلك بقول الله تعالى "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا"(الذاريات:1)، ألم يسقطوا تصوراتهم الدنيوية على معاني ما سمعوه من كلام الله تعالى، فقالوا أن الحاملات وقراً هي السحب الثقيلة، وقالوا المقسمات أمراً هي الملائكة، و أن العاديات هي الخيل واستبعدوا الإبل بغلبة الرأي، وغير ذلك قائمة طويلة من التفسيرات، بلا ضرورة مُلزمة معها بأنها هي ما أراده الله تعالى من آياته... فما الذي فضل تصورات الأقدمين في تفسيرهم آيات الله بها عن تصورات المحدثين؟! .. أللهم إلا ألفتنا بها والحرج من اجتراحها!!! وما أضفاها التاريخ عليها من قداسة لا سند لها من أصل الدين! .. إن الخطأ ليس في ربط التصورات بالمعاني على سبيل الاحتمال، بل في القطع بها – أي الزعم باليقين في ذلك- في وقت يغيب معه ضرورة اليقين في هذا المعنى دون سواه. فالقاطع بأن الذاريات هي الرياح الشديدة تذروا ما في طريقها، وبلا دليل ولا برهان مثله مثل القاطع بأن الرتق في قوله تعالى " أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا "(الأنبياء:30) هو مُفرَدَة الانفجار العظيم big bang singularity في علم الكونيات الحديث cosmology. فلماذا نذم تفسير الأخير ونمدح تفسير الأول؟! ... إنه منهج بلا منهج ... وصدق القائل[7]: " ثلاث علوم ليس لها أصول (أسانيد): المغازي والملاحم والتفسير "، إذا قصد من ذلك أن غالبها يخلو من يقين النقل إلى الحق، ومثله: خلوه من القطع ببرهان.

ومعنى ذلك أن الإشكال قائم في التفسيرات في عمومها: قديماً حديثا. والمخرج من هذا الإشكال إنما يكون في ترجيح القوي الصحيح وإثباته، وتوهين الضعيف المتهافت ونبذه. وهذا يعني معالجة كل مسألة برأسها قديمٌ كان تفسيرها أو جديد، لا نبذ الجديد لعدم ألفته، وإبقاء القديم للحرج من جرحه!

ثم يستشهد الأستاذ دروزة بأبي حامد الغزالي في اتقائه من شر الصديق الجاهل – يريد بذلك المفسر العلمي الإعجازي - الذي يريد أن ينصر الحق بظنه من حيث هو هازمه، فيقول:
"وما أحسن ما قاله الإمام الغزالي في «تهافت الفلاسفة» من كلام قوي حكيم يتصل بهذا الموضوع حيث قال في صدد تقسيم مذاهب الفلاسفة : [والقِسْم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه كقولهم إن خسوف القمر عبارة عن إمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث إنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وكقولهم إن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظنّ أن المناظرة في إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم على براهين هندسية وحسابية لا تبقى معها ريبة في من يطلع عليها ويتحقق أدلتها حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء قبل وقوعهما، وإذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه، وكما قيل: عدوّ عاقل خير من صديق جاهل".

ولنا هنا عدة ملاحظات:

الأولى: انفكاك علة المسألة الفلكية – أي: آلية حدوث كسوف الشمس- في علاقتها بالشرع، من حيث عدم تعلقها بنقل – قرآن أو سنة – يثبت أو ينتفي بإثبات أو نفي الآلية. وهو ما يبرر حكم أبي حامد الغزالي في نفي هذه الطريقة عن الشرع في قوله: (وضرر الشرع بمن ينصره بغير طريقه أكثر ممن يطعن عليه بطريقه) .. ولكن التفسير العلمي أو الإعجازي مرتبط بآية أو حديث يزعم صاحبه أنه تأويل له، أي غير منفك العلة، إلا إذا ثبت تخطئة القائل بها. ومن ثم فالاستشهاد بكلام أبي حامد في مسألة التفسير العلمي على عمومه في غير محله.

الثانية: أن الاستشهاد بكلام أبي حامد فيما قاله، وقد قاله فيما يظهر بجلاء أنه نقد للدجل والكذب فيمن يزعم تأويلاً لكلام الله، وهو منفك العلة عنه، كما ذكرنا، وبما لا يستطيع الدجال هنا التدليل على كلامه بأي صورة؛ .. كما هو الحال في مثال كسوف الشمس، ... فيكون هذا الاستشهاد بما ينقل حكم الدجل والكذب إلى المفسر العلمي، الذي ينتقد فعله الأستاذ دروزة. وهذا اتهام خطير جاء مُسْتَبْطَناً في ثنايا الاستشهاد، ونعتبره إفراط في القدح والتجريح، ولكل من سعى أو يسعى في تفسير القرآن بثقافة العصر الراهن، وما تجلى فيه من معارف؛ فيها كثير من الحق، وإن خالطه باطل، قابل للتنحية.

الثالثة: إذا اعتبرنا أن الاستشهاد بكلام الغزالي جاء على عمومه، دون عين مسألة كسوف الشمس، وكانت العلة موهومة في ذهن الإعجازي، ويريد أن ينتصر بها للشرع، هنا يجوز الاستشهاد بمقولة الغزالي، من حيث أن الانتصار بالإعجاز الموهوم إضعاف للشريعة، وهو خلاف ما سعى إليه الإعجازي، فيكون مقامه مقام الصديق الجاهل الذي يؤذيك من حيث يظن أنه ينفعك. وهذا ما أثبتناه على عدد من الأمثلة وبوّبناه تحت عنوان (أطروحات متهافتة في التفسير العلمي).

الرابعة: إذا لم تكن أطروحات التفسير – قديمُه وحديثُه – غير مقطوع بانفكاك علته، وغير مقطوع بتهافته، فهو مما يُقبل في إطار النظر والاجتهاد، حتى يستبين إما انفكاكه أو كذبه أو صدقه. ولكن! .. ما هي أدوات النظر والاجتهاد في مثل هذه المسائل التي تطير بجناحين؛ جناح النقل عن الله سبحانه ورسوله، وجناح التجربة والظاهرة الطبيعية. والحاصل أن غياب هذا التخصص في علم التفسير في المعاهد الأكاديمية الشرعية؛ أي: تخصص التفسير الطبيعي للآيات الكونية، لمما يساهم في بقاء هذا التفسير في الظل. فيبقى مَرْتَعَاً لكل هاوٍ في فهم آيات القرآن على غير هدى، فيكثر اللاغون، والمتهافتون، والعابثون، وينطبق عليهم ما قاله أبو حامد: " عدوّ عاقل خير من صديق جاهل "، ولا يجدون من يُصوِّبهم أو يُخَطِّئهم أو يوجّههم. ولكن، هل يَبْرأ أهل التفسير ورؤساء المدارس الشرعية فيه من المسئولية؟! ... نقول: لا .. لا يَبرؤون، بل يتحملون تبعات تركهم هذا التخصص شاغراً، فيملؤه من يملؤه بما يحلو له، ثم يجيئون يردون كلامه، ويتمثلون بكلام أبي حامد! ... والسؤال لهم: لماذا لم تُنشئوا هذا التخصص، فيتأهل له من يحمل أدوات النظر في هذا النوع من الآيات، فيصح نظره واجتهاده في كلام الله وخلْقِه؟! ... وإذا ما فعلوا، فلن يكون حُكمُهم على مثل هذه المسائل أنها من "إسرائيليات العصر" التي لا يُعلم لها صدقاً من كذبا، كما قال بعض أهل العلم الشرعي[8]، رغم أن مسائل التفسير والإعجاز العلمي مما يُوقف على صدقه من كذبه لمن سلك إليه سبيله، كما فعلنا في الأمثلة المشار إليها أعلى... أو أن يقولوا عنها "بدعة تفسير القرآن بالعلم"[9]، فتتحول الـمَنْقبة إلى بدعة، وبدلاً من أن يُمدح المتدبر كلام الله تعالى بالاجتهاد، فإذ به يُذم بالابتداع!

المؤلف​
عودة إلى فهرس الكتاب
--------------
[1] محمد عزة عبد الهادي دروزة (1887-1984)، ولد في نابلس وتوفي في دمشق. تقلد مناصب عديدة منها عضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1956، وعضو المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وكان مفكراً وأديباً ومؤرخاً ومترجماً ومفسراً للقرآن ومناضل قومي عربي. ترك أكثر من خمسين كتابًا في علوم شتى تتعلق بالعروبة والإسلام والتاريخ.
[2] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، دار إحياء الكتب العربية – القاهرة، 1383 هـ، ص 2/ 190.
[3] أحال فهد الرومي هذه العبارة إلى الأستاذ دروزة (في كتابه: " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر"، ص584)، وقد بحثنا عن هذه الفقرة في نص كلام "محمد عزة دروزة" فلم نجدها، لذا فقد يكون تعليقاً من د. الرومي، وقد التبس الأمر في الطباعة واشتمل في علامات التنصيص على أنه من كلام الأستاذ دروزة! ولا يهم كثيراً القائل، لأن الغرض هو الرد على حجج المانعين للإعجاز العلمي، لا على أشخاصهم.
[4] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، دار إحياء الكتب العربية – القاهرة، 1383 هـ، ص 1/ 183.
[5] السابق، ص 3/ 31
[6] السابق، ص 1/ 230- 232.
[7] نسبه ابن كثير إلى الإمام أحمد بن حنبل في تلخيص كتاب الاستغاثة، ص 76.
[8] الادلة النقلية و الحسية على جريان الشمس و القمر و سكون الأرض، عبد العزيز بن باز، مكنبة الرياض الحديثة، 1982، ص44. وانظر أيضاً: " التفسير العلمي للقرآن:مدخل نقدي لإسرائيليات العصر"، http://vb.tafsir.net/tafsir33493/
[9] بدعة تفسير القرآن بالعلم، بقلم د. محمد رضا محرم، مجلة المسلم المعاصر، العدد 22، يونيو 1980.
 
اطَّلعت على رابط المدعو عنان قسيس - الذي اقتحم به الموضوع بلا مناسبة - ولم يحضرني إلا قول الله تعالى
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)"(الحجرات)
 
ما شاء الله عليك أخى عز الدين ، أعزك الله وأيدك بالحجة البالغة وأجرى الحق على قلمك ولسانك
هل تعرف يا أخى سبب إعجابى ببحثك هذا ؟!
إن السبب لا يقتصر على شمولية هذا البحث وتناوله لشرائح مختلفة ومتنوعة من كبار المثقفين والمفكرين والعلماء والذين يمثلون كافة التوجهات وشتى المشارب
كما أنه لا يقتصر على طريقة عرضك لآراء هؤلاء بدقة وإحاطة
وإنما سر إعجابى الحقيقى به يكمن فى مناقشتك الموضوعية الحكيمة لآرائهم وردودك القوية عليهم
تلك الردود التى تتسم بالدقة والمنطقية والحصافة والحجة القوية الباهرة
أعجبنى كثيراً تفنيدك لدعاويهم المغلوطة وتقويمك لما انحرف من أفكارهم
وليت من يتابع هذا الموضوع يتأمل جيداً فى ردودك القوية على أخطاء المنكرين للتفسير والإعجاز العلمى للقرآن الكريم
سر على بركة الله ، ونحن لك متابعون إن شاء الله
 
الأخ العزيز / العليمي المصري
كم هي عزيزة مداخلتك
وأشكرك على دعاءك لي، وأسأل الله تعالى لك بمثله وأحسن منه، إنه جوادٌ كريم.
كما أسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنك بي دائما، فإن التوفيق من الله تعالى وحده.

وآمل ألا يُسَاء فهمي بانتقادي آراء من أنتقد من أفاضل العلماء واكْرَمَهُم علينا جميعاً،
فالله تعالى وحده يعلم مقدار حبي لهم واعتزازي بهم ... إلا أن حبي للحق ونصاعته وجلائه أشد،
ولا ينبغي أن يكون حب العلماء بإغلاق أعمالهم على ما فيها، بل بتقويمها والبناء عليها، صروحاً شامخة تعانق السماء.
عسى أن نكون من البنائين لهذه الصروح، صادقين صابرين، حتى يسطع الحق على وجه الأرض جميعا،
وأن يقبلنا الله تعالى من المصلحين في القول والعمل .. آمين.
 
وآمل ألا يُسَاء فهمي بانتقادي آراء من أنتقد من أفاضل العلماء واكْرَمَهُم علينا جميعاً،
فالله تعالى وحده يعلم مقدار حبي لهم واعتزازي بهم ... إلا أن حبي للحق ونصاعته وجلائه أشد
وهذا هو كل المطلوب أخى العزيز ، أن تصدع بالحق وحده ، ولا نطلب منك أكثر من هذا
فكما قيل بحق : " الحق لا يُعرَف بالرجال ولكن يُعرَف الرجال بالحق "
 
وفي هذا الفصل رددنا على ما أثاره أبو عبد المعز من استشكالات كبرى حول التفسير والإعجاز العلمي؛ أي أقواله التي احتج فيها بأن:
1- العلوم العصرية من الكلام البشري، والقول بموافقة القرآن لها فجورٌ وكفر.
2- خطاب التفسير العلمي خطاب تمجيدي.
3- العلم المعاصر من باب "الإنشاء"، أي أنه مختلق!
4- لا فرح بما يُسمّى التفسير العلمي، لأنه نسبي إحتمالي، لا يقين فيه!
5- الآية القرآنية و"الحقيقة" العلمية. هل الجمع ممكن؟
6- خلط أهل التفسير العلمي بين التقانة والعلم، رغم أن التقانة تحاسب بمعيار"النفع والضرر".. أما العلم فيحاسب بمعيار "الحق والباطل"!
7- "التفسير العلمي" خطاب تأويلي، أما "الإعجاز العلمي" فخطاب حجاجي! .. وعليه، فلا يُقبل من الإعجازيين إلا القطع.
8- العلوم العصرية من جنس الإسرائيليات.
 
أخي الأستاذ عزالدين كزابر
مؤلفك هذا جهد مميز - لا شك - ويضيف إلى ما تقدمه من أبحاث ، وليس تكرارا لكلام من سبقك .
وأحسب أن من اطلع عليه ممن تناوله مؤلفك بالنقد أولى بالرد على ماورد فيه ، لكني أود أن أثير معك نقدا لمصطلح ( الإعجاز العلمي ...) ، فأنا أرى خطأ هذه التسمية وأن القول به قول باطل ، إذ أن الإعجاز تعجيز للبشر قائم إلى يوم الدين ، حين أن مانزعمه إعجازا علميا في أطوار تكون الجنين في بطن أمه في القرآن ، لا نريد به تعجيز البشر عن تكوين الجنين في بطن أمه ، وإنما نقصد به معرفة أطوار هذا التكوين قبل نزول القرآن ، أما وقد توصل علماء الأجنة لمعرفة هذه الأطوار بوجه دقيق ينفي عنهم العجز المعرفي ، دل ذلك على انتفاء فكرة الإعجاز ابتداء ، والصحيح أن ذكر أطوار تكون الجنين في القرآن دليل على أن هذا القرآن وحي منزل وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل .
لذا فإني أرى تصحيح المصطلح ليكون : الدلائل العلمية على أن القرآن وحي منزل وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل .
كما أن حضرتك وحضرات من سبقك ممن بحثوا هذا الأمر بشر يرد عليهم الخطأ ، فإن تبين خطأ بشري ما فإنه ينسب للإعجاز في القرآن ، وهذا لا يليق .
لكن مصطلح الدلائل العلمية إن تبين خطأ في دليل ما ، فإنه ينسب للمستدل لا للمستدل عليه !
 
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أخي العزيز
أشكرك على مداخلتك، ولا أختلف معك في ملاحظتك حول مصطلح الإعجاز العلمي.
وحسب ما تسعفني ذاكرتي، أني سأتناول هذه المسألة بالتفصيل في مناقشة آراء الشيخ مساعد الطيار - إن شاء الله.

وما أود لفت الانتباه إليه أن دقة المصطلح هنا أمر ثانوي أو هامشي بالنسبة لمسألة أكثر أهمية، وكانت وما زالت هي شاغلي الشاغل في هذا الموضوع، ألا وهي صحة "العلاقة المعرفية بين مسائل العلوم الحديثة والقرآن" ونفي الشكوك عنها. ومثلما أن صحة نسب طفل لأبيه أسبق منطقياً من صحة إسم الطفل، فكذلك يُعد تدقيق علاقة القربي المعرفية بين القرآن والمسائل العلمية الحديثة أهم الآن من تدقيق المصطلح. إذ لو أن تلك العلاقة منتفية حسبما ذهب المُشكّكون، لسقط المصطلح، حتى ولو كان جيد السبك! .. لذا وجب الرد عليهم أولاً وتفنيد حُجَجِهم.
 
تسعدني جدا موافقتك على ماذكرت من لزوم ووجوب تصحيح المسمى ليكون : الدلائل العلمية على أن القرآن منزل من عند الله تعالى وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من عنده .
وهو تأسيس هام جدا للبحث - في نظري - أستاذنا الفاضل ، فقد قال الأصوليون من قبل ماملخصه : أن الحكم على شيء فرع عن تصوره .
وصحة التصور أنه ماسيق من مسائل هي من باب الدلائل العلمية لا الإعجاز العلمي .
وأفهم انتظاركم مناقشة إيراداتكم التي جهدتم فيها لنفي التشكيك في العلاقة المعرفية بين العلوم الحديثة وحقائق القرآن ، وهو جهد مقدر أسأل الله أن يجزيك عليه خيرا .
وكما قلت في مشاركتي السابقة فإن من تناولهم بحثك بالنقد أولى بالرد على إيراداتك ومناقشتها إلا أن لا يكون ذلك منهم ويشيعون لغيرهم هذا الحق .
 

هذا ... وقد عرضت مادة هذا الفصل على الأستاذ الدكتور أبو يعرب المرزوقي قبل نشرها، فتفضَّل وأجابني إلى ذلك، وقال أكرمه الله وسدد خطاه:
"اطلعت على وجهة نظرك وهي محترمة ومعلله. والأفضل أن تكون موضوع حوار عام مع غيري لأني لا أنوي الدفاع عن رأيي بأكثر مما كتبت في الموضوع. ثم إن الرأيين يمكن أن يتكاملا ما دام القصد تنزيه القرآن عما يمكن أن يحط من مقامه لدى المؤمنين به.
ودمت في رعاية الله والسلام،،
أبويعرب."
 
عودة
أعلى