عزالدين كزابر
New member
الإخوة الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله
وضعت كتاباً بعنوان: [براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه]
ويسعدني تلقي آرائكم وانتقاداتكم القيمة قبل نشره،
وهنا تجدون الفهرس والتمهيد، وسأتابع بإذن الله تعالى عرض فصوله.
مقدمـــــــــــة
المدرسة الإسلامية المعتدلة
ويأتي هذا الكتاب في الرد على الذي ترددوا في مسألة التفسير والإعجاز العلمي، أو جافوه، أو أنكروه، أو جحدوه تعنتاً من عند أنفسهم ولم يحيطوا به علما، كلٌّ بحَسَبِه. ولم نر من هاجم أو انتقد إعجاز القرآن الكريم، ممن هو جدير بعرض آرائه، لخطورتها، إلا ما جاء انتقاصاً أو نيلاً من مبدأ الإعجاز العلمي بالاصطلاح المعاصر، أو دعوى احتوائه على جميع العلوم الدينية والدنيوية باصطلاح السابقين؛ كالغزالي[1] والسيوطي[2]. وكأنّ الجفاء والنقد والجحود إنما لتخليص القرآن من هذه الدعوى – أي دعوى الإعجاز العلمي- غير المبررة حسب ظن الناقدين بأنواعهم: المجافين له كأغلب المشتغلين بالعلوم الحديثة، أو المنكرين له وأهمهم الشاطبي قديماً والشيخ المراغي والشيخ شلتوت وأمين الخولي وغيرهم حديثاً، أو الجاحدين وهم كُثُر وأغلبهم من ذوي الثقافة العلمانية.
فإن راقبنا المجافين للإعجاز العلمي، تجدهم يمثلون الغالبية الساحقة من أهل الثقافة العلمية التي تقوم مدارسنا ومعاهدنا التعليمية بنسخها من كتب الغربيين دون مراجعة أو تمحيص. بل إن مبدأ المجافاة، أو اللامبالاه، أو الإعراض، مبدأ أصيل عندهم، ويصل إلى درجة عدم الاكتراث بالمحتوى العلمي المنقول، سواء كان من الحق أو من الباطل! فتجد في كتبهم التعليمية أمثال نظرية التطور الدارويني المنكر صراحة لخلق الله تعالى لآدم على النحو الذي أقره القرآن نصاً لا تأويلا. فإن كان هذا منحاهم في ما يصطدم بصريح القرآن، فكيف بهم فيما يتطلب شيء من التأويل، والذي يمثل أغلب مسائل الإعجاز العلمي؟! – لا بد أنهم يضربون به عرض الحائط، وكأن الأمر لا يعنيهم!
أما الناقدين فلا يملكون استغراق النفي لأنه غير منحصر. فإن نفوا ما يعلمون، فما لا يعلمون قد لا ينتفي. وما كان غير عملي عند قومٍ فهو عملي عند غيرهم، أو في زمنٍ لاحق بعدهم. أما أشد المآخذ التي يحتكم إليها منكروا الإعجاز العلمي فهي تفنيد احتواء القرآن على شيء من علوم الدنيا بادعاء أن القرآن جاء للدين والهدى فيه، لا الدنيا والعمل فيها، وكأن العلم – بالمعنى الحديث- لا يحتاج إلى الهدى، وكأن الهدى لا علم معه! والحقيقة أن منكري الإعجاز العلمي ما كانوا ليصدقوا به وهُم مشحونون بانطباعات مسبقة لديهم، غير واقفين على أنها قد تكون من عند أنفسهم.
أما الجاحدين للإعجاز العلمي، المتعالين على سماع همسه ودندنة أصحابه، فتجدهم دائماً هم الجاحدون لكل ما هو ديني، وليس فقط للإعجاز العلمي، بل لصلاحية القرآن في كل شأنه. فهؤلاء تؤزهم شياطينهم، ولا يهدأ بالهم إلا بصمت الحق ولغو الباطل، ولا علينا فيما يلغو باطلهم، ولكن عليهم يعلو ويطمس على آذانهم فلا يسمعوا للحق وأهله، وما أصدق قول الله تعالى فيهم "وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"(فصلت: 44)، وقوله تعالى "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"(الأنعام:26).
وإذا سمعت الناقدين، تجد منهم من يتساءل ويقول: ما من لفظ في القرآن إلا وتشرحه معاجم اللغة منذ الخليل وسيبويه وابن سيده وابن منظور، وفي استطاعة من شاء أن يعلمها أن يعلمها، وقد استنفذ المفسرون كل آياته بالشرح والتفسير. فماذا فيما يقول أصحاب الإعجاز ليكون إعجازا غير اللغة والبيان، والبلاغة والنظم وحسن التلاوة والعبرة، وشرح الصدر والبصيرة والاطمئنان. إن كل ما يمكن أن يقال قد قيل، وما ترك الأولون للآخرين من شيء لِيُعرف لاحقاً في الدين. ولو كان، لكان السابقون أولى الناس به. أنحن أفضل حالاً منهم حتى نعلم في القرآن ما لم يعلموا؟! وهكذا تدور دوائر الإنكار، بانغلاق علم القرآن على ما قاله الأولون، وقد استنفذ القائلين ذلك أعمارهم في تعَلُّم حفظ متون الأولين وترديد أسجاع الغابرين. والحرج عند هؤلاء يكمن في أن الاعتراف بالإعجاز المتجدد اعترافٌ منهم بقصورهم وحدودهم! وهم من أهل الدين ويعتبرون أنفسهم من العلماء الراسخين! أيعترفون بالإعجاز العلمي ليقروا بعجزهم؟! ألم يقضوا عقوداً يتلون القرآن ويشرحون التفسير ناقلاً عن ناقل! ولماذا يضعون أنفسهم في هذا المقام، وهم عنه أغنياء ومن دونه هم في عزةٍ وإباء.
وقد يكون الجافي المنكر للإعجاز ممن لا يسمع القرآن إلا في عوارض الأحوال، كحضور مأتم، أو سماع خطيب المسجد من وراء الجدران. ثم كان من أهل الدرجات الجامعية المميزة، وقد احتفى به المجتمع فوضعه على رأس الوظائف، ومنحه جليل الألقاب، يوم عاد من بلاد لا تعرف القرآن. وبعلمٍ لا يعلمه أهل القرآن! فكيف له أن يعترف أن ما جاء به مزهواً فخوراً باهيا، يمكن أن يُستخرج من بين دفتي مصحف قديم، لم يره إلا ويكسوه تراب بيت جده في قرية نائية، لا وجود لها من آثار على خارطة الأرض باقية!
أنَّى يكون الأمر على هذا المنوال، ويكون للإعجاز العلمي شأن وحال؟! وهذه النماذج الفكرية؛ متوجسة كانت، أو مترددة أو جانحة، ومن نهج نهجهما قد ملأتها قناعات الكفاية، ولا يرون من الدلائل ما تستبين به صحة دعوى الإعجاز. إذ لا إعجاز إلا بما هو مُعجز، فيقول لسان حالهم: أين نرى علامات الإعجاز التي يدَّعيها المدعون؟! وأين كانت فيما مضى من سنين؟! وأين كان آباؤنا عنها غافلين؟! ولماذا نحن في آخر الأمم إذا كانت علوم الأولين والآخرين تحت أيدينا بين دفتي المصحف في كنزٍ أمين، وفي كتاب مكنون! هذا إن كان صحيحاً ما يدعيه الإعجازيون!!! .. أسئلة وأسئلة بلا إجابات شافية، ولا علامات على صدق أصحابها حاسمة بينة.
وفي خِضم هذه المعاناة النفسية المترددة، المتشككة الناقدة، الأبية المتغطرسة، المتمرسة في أقوال وتنظيرات يونانية بالية، أو نظريات غربية، يؤثر أصحابها الإعراض، وقرب الإنكار والفكاك ولو من أقرب طريق. رغم أن ما يقوله أصحاب الإعجاز لا يخرج عن كونه تنظيرات شبيهة بما علمه هؤلاء الجافين الناقدين المهاجمين المتشككين، وأصبحوا أعلاماً في العلم به، فكيف يقبلون أقوالاً في العلم الغربي لا عن قاطع البرهان، ويرفضون أقوالاً أهل الإيمان بغير حسم وتبيان! لذا نراهم في خضم هذا المَوَران، لا يبدي أحدٌ منهم الهجوم إلا بما هو مجمل من اتهامات، أو متردد بين احتمالات، أو مشتبه بين معاني وخيالات. بل منهم – المتغربين بالذات - من يدافع عن حرية الرأي إذا كان طعناً في الدين، وينتقد حرية الرأي إذا مارسه أصحاب الإعجاز فيما فهموه من مقتضى إعجاز رب العالمين. أوَليس هذا برأي، يدَافع عن حرية صاحبه، من كان صادقاً في دفاعه عن حرية الآخرين، أم أن ادعاءات الحرية في الفكر والاختيار حلال دون أعتاب بيوت المؤمنين، حرامٌ عليهم إن أتوها آمنين؟!
ولسنا من المنادين بتضييق حرية الرأي وما يلزمها من حَجْرْ ، بل نرى أن في إذاعته كل الخير، شريطة أن يكون الحق رديفه لا يفارقه، في البيان، والإذاعة، والنشر، والعرفان. فإن منعْنا الرأي الفاسد – هكذا تحجُّراً – دون تبيان فساده، كان اعترافاً بقوته، وانهزاماً أمام حجته. وإن كان الستر والخفاء أسلم للأمة من نشر فساد الآراء، لكان خفاء إبليس وقبيله من قبيل السلامة والأمان. ومعلومٌ أن خفاؤه أشد شراً وأعظم وطأة. فكذلك خفاء الآراء الفاسدة، تسري رغم أنف المانعين، وخاصة إذا كان في غياب حقٍّ مبين، يكشف زيفها ويفضح مكرها، وفي غياب بيانٍ يُعرِي باطلها وحقدها، وعندها تجد من المترددين كل نصر ومظاهرة، ومن أصحاب الأهواء كل ترحاب ومصاهرة. ومن المفسدين والظالمين كل شرٍّ ومجاهرة. ولو يعلم أصحاب القرار والأمر، أن حرية الفكر والرأي قوة عاصفة مالم يكبح جماحها، ويروض أزيزها، ويُبَصَّر طريقها، ويُعان سالكها. وليس ترويضها إعدامها، بل حُسن توجيهها ليكون في الخير مسيرها. مثلما أن الريح قوة، إلا أن الله تعالى يسوق بها الماء فيحيي بها الأرض، وبها أهلك أقواماً فسدوا في الأرض.
تفاوت علماء الإسلام في رؤية الإعجاز العلمي في القرآن:
ويتفاوت علماء الشريعة والتفسير واللغة فيما بينهم تفاوتاً شديداً في موقفهم من قضية الإعجاز العلمي. ورغم أن الشيخ يوسف القرضاوي، راية ساطعة في الاعتدال والوسطية، إلا أنه عبّر بما يشير إلى مسألة تجهيل السلف في المسائل التي يُستحدث فيها أراء جديدة في الإعجاز العلمي، فقال مُحذِّراً من المبالغة والغلو في ذلك[3]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم، يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن، وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!."، وللشيخ كل الحق في الرد على أمثال بعض المتهافتين في مسائل الإعجاز العلمي، إلا أن تعميم النقد يضيع معه الحق. كما قال مفاضلاً بين المؤيدين والمعارضين، جانحاً بالمدح جهة المعارضين حين قال: "في عصرنا من العلماء من أيد هذا الاتجاه. ولكن العلماء المحققين وقفوا ضد هذا بقوة كالشيخ أمين الخولي، والشيخ محمود شلتوت، والأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن وهو يفسر قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ"، يقول: لا ينبغي أن نُحَكِّم العلم - الذي يتغير ما بين الحين والحين – بالقرآن."
إلا أننا نجد من علماء اللغة من يقول[4]: "إن إعجاز القرآن أمر متعدد النواحي متشعب الإتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخص واحد، ولا حتى جماعة في زمن ما، مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم، وتعدد اختصاصاتهم، إنما هم يستطيعون بيان شيء من أسرار القرآن في نواح متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن مفتوحاً للنظر لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِما يجدّ من جديد. وسيجد فيه أجيال المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال. وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز. فإني سمعت وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته، ما لا يصح استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية. وقرأت وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظه مختارة في منتهى الدقة العلمية. ... وقرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن البتة. ... وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير الملك في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة. ... وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي ... بل إن هناك أموراً لم تُعرف إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب، ذلك أن الإنسان إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم، ولم تُر الشمس إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهار الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدود الغلاف الجوي، فإن تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. ... وعلى هذا فالإعجاز القرآني متعدد النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير فلا غرو أن أقول إذاً أن الإعجاز أكبر مما ينهض له واحد أو جماعة في زمن ما."
والحق الذي ينبغي أن يُصرَّح به أن "الإعجاز العلمي في القرآن" مسألة مركبة وليست بسيطة. بمعنى أن الأمر بتأييد الإعجاز العلمي إجمالاً، أو الاعتراض عليه إجمالاً لا يستقيم. وإنما الذي يستقيم هو القول المحقق في كل مسألة على حدى. والسبب أن تعميم الأقوال مُشكل، ويوقع في حرج بالغ، وأشد ما نجد من حرج في أقوال المعترضين (بأنواعهم المتباينة) على الإعجاز العلمي، قولهم[5]:
[القرآن الكريم ليس كتاب علم أصلاً!]
ورغم أننا نعلم أن صاحب هذه العبارة، أي الشيخ يوسف القرضاوي، لم يقصد منها إلا أن القرآن ليس كتاب في العلوم الحديثة في الطبيعة والأحياء وأمثالهما من موضوعات، وأنه كتاب في العلم الديني الإلهي الذي لا ينكره إلا كافر به، إلا أنها عبارة شديدة الإشكال، والمؤاخذة عليها أشد من تأييدها، كما سنبين ذلك لاحقاً بالتفصيل. ومن ثم يجب إظهار كم تمثل هذه العبارة من قول يجب إنكاره، والنهي عن التصريح بمثله، خاصة وأنها أصبحت تردد في أقوال كل المعارضين لعلمية القرآن، أو تكاد، وأصبحت مُسَلّمة من مُسَلّمات الثقافة المعاصرة، والعلمانية منها خاصة، رغم أنها مُنْكَرَة، لإجمالها الباطل مع الحق، فتقر بالباطل من حيث لا يريده بعض القائلين بها.
القرآن والعلم : كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
---------------------
[1] في كتابه "جواهر القرآن"- المقدمة.
[2] في كتابيه "الإتقان"(ج1/367) ، و "الإكليل في استنباط التنزيل" حسب ما ذكر محمد حسين الذهبي في "علم التفسير" ص 73.
[3] مقال بعنوان [القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي]، نشر على موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 14/2/2007، ونشر لاحقاً على موقع الشيخ القرضاوي:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
[4] د. فاضل صالح السامرائي، أستاذ النحو في جامعة الشارقة، في مقدمة كتابه الإلكتروني "لمسات بيانية في نصوص من التنزيل".
[5] جاء في المقال المشار إليه سابقاً:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
السلام عليكم ورحمة الله
وضعت كتاباً بعنوان: [براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه]
ويسعدني تلقي آرائكم وانتقاداتكم القيمة قبل نشره،
وهنا تجدون الفهرس والتمهيد، وسأتابع بإذن الله تعالى عرض فصوله.
الفهــــرس والتمهيد
تمــــــهيدمقدمـــــــــــة
المدرسة الإسلامية المعتدلة
أبو حيان الأندلسي
محمد عبدالله دراز
محمد متولي الشعراوي
محمود شلتوت
يوسف القرضاوي
محمد رشيد رضا
سيد قطب
عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)
أبو إسحاق الشاطبي
محمد حسين الذهبي
محمود محمد شاكر
أمين الخولي
عباس محمود العقاد
زكي نجيب محمود
شوقي ضيف
أحمد محمود صبحي
محمد عزة دروزة
طه جابر العلواني
عبدالمجيد عبدالسلام المحتسب
المدرسة السلفية القديمة والمعتدلةمحمد عبدالله دراز
محمد متولي الشعراوي
محمود شلتوت
يوسف القرضاوي
محمد رشيد رضا
سيد قطب
عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)
أبو إسحاق الشاطبي
محمد حسين الذهبي
محمود محمد شاكر
أمين الخولي
عباس محمود العقاد
زكي نجيب محمود
شوقي ضيف
أحمد محمود صبحي
محمد عزة دروزة
طه جابر العلواني
عبدالمجيد عبدالسلام المحتسب
ابن عثيمين والمدرسة السلفية القديمة
صالح الفوزان
مساعد بن سليمان الطيار
سعود بن عبدالعزيز العريفي
عبدالله الأهدل
المدرسة الفلسفية الصوفية صالح الفوزان
مساعد بن سليمان الطيار
سعود بن عبدالعزيز العريفي
عبدالله الأهدل
محمد إقبال
ظفر إسحاق أنصاري
سيد حسين نصر
عبد الكريم سروش
المدرسة الفلسفية الإسلامية العلموية الحديثةظفر إسحاق أنصاري
سيد حسين نصر
عبد الكريم سروش
عبدالوهاب المسيري
عادل ضاهر
أبو يعرب المرزوقي
رضوان السيد
محمد أبو القاسم حاج حمد
أحميدة النيفر
محمد البغدادي
المدرسة العلمانية الفجّة والقديمةعادل ضاهر
أبو يعرب المرزوقي
رضوان السيد
محمد أبو القاسم حاج حمد
أحميدة النيفر
محمد البغدادي
مراد وهبه
نصر حامد أبو زيد
عزيز محمد أبوخلف
محمد كامل حسين
طه حسين
الشيخ محمد عبده
محمد أحمد خلف الله
محمد أركون
محمد عابد الجابري
المدرسة الثقافية الإسلامية المعتدلة نصر حامد أبو زيد
عزيز محمد أبوخلف
محمد كامل حسين
طه حسين
الشيخ محمد عبده
محمد أحمد خلف الله
محمد أركون
محمد عابد الجابري
حسام تمام
عبد الحق برونو كيدردوني
الحسن مصباح
علي أسعد
معتز الخطيب
عبدالرحمن حللي
المدرسة العلموية الغربية عبد الحق برونو كيدردوني
الحسن مصباح
علي أسعد
معتز الخطيب
عبدالرحمن حللي
رشدي راشد
برويز هوودبهوي
نضال قسوم
المدرسة الثقافية الرعناءبرويز هوودبهوي
نضال قسوم
خالد منتصر
كامل النجار
جواد البشيتي
عايد سعيد السراج
المراجع كامل النجار
جواد البشيتي
عايد سعيد السراج
------------------------------------------------------
تمــــــهيد
هذا كتابٌ عن التفسير العلمي للقرآن، وإعجازه العلمي، وما أدراك ما إعجاز القرآن! إنه الآية الحاضرة الباقية، لا نقف على غور أوصافها إلا بقدر علم الواصف وما فيه من صدقٍ وحق. فإن كان من الراسخين المدققين كان له القرآن نبعٌ لا ينفذ، ولا تنقضي منه العجائب. فإن حاد الواصف عن جادة الصواب فالإعجاز منه براء، والعلامات على خطئه دالة في عاجل الآيام أو آجلها. وكما يُخطئ المثبت المتهافت بلا دليل، يزل الناقد النافي غير البصير، ويأثم المنكر الجاحد الذي تصده الصدود. والله تعالى حافظٌ كتابه، ومِن حِفظه تبرئته من كل قولٍ يسعى للمساس به وليس من قيمته. ولا يعلم قيمته إلا منزله في عليائه، تقدست أسماؤه، ورفرفت على الكون كلماته، وصلح عليها أمر الدنيا والآخرة.ويأتي هذا الكتاب في الرد على الذي ترددوا في مسألة التفسير والإعجاز العلمي، أو جافوه، أو أنكروه، أو جحدوه تعنتاً من عند أنفسهم ولم يحيطوا به علما، كلٌّ بحَسَبِه. ولم نر من هاجم أو انتقد إعجاز القرآن الكريم، ممن هو جدير بعرض آرائه، لخطورتها، إلا ما جاء انتقاصاً أو نيلاً من مبدأ الإعجاز العلمي بالاصطلاح المعاصر، أو دعوى احتوائه على جميع العلوم الدينية والدنيوية باصطلاح السابقين؛ كالغزالي[1] والسيوطي[2]. وكأنّ الجفاء والنقد والجحود إنما لتخليص القرآن من هذه الدعوى – أي دعوى الإعجاز العلمي- غير المبررة حسب ظن الناقدين بأنواعهم: المجافين له كأغلب المشتغلين بالعلوم الحديثة، أو المنكرين له وأهمهم الشاطبي قديماً والشيخ المراغي والشيخ شلتوت وأمين الخولي وغيرهم حديثاً، أو الجاحدين وهم كُثُر وأغلبهم من ذوي الثقافة العلمانية.
فإن راقبنا المجافين للإعجاز العلمي، تجدهم يمثلون الغالبية الساحقة من أهل الثقافة العلمية التي تقوم مدارسنا ومعاهدنا التعليمية بنسخها من كتب الغربيين دون مراجعة أو تمحيص. بل إن مبدأ المجافاة، أو اللامبالاه، أو الإعراض، مبدأ أصيل عندهم، ويصل إلى درجة عدم الاكتراث بالمحتوى العلمي المنقول، سواء كان من الحق أو من الباطل! فتجد في كتبهم التعليمية أمثال نظرية التطور الدارويني المنكر صراحة لخلق الله تعالى لآدم على النحو الذي أقره القرآن نصاً لا تأويلا. فإن كان هذا منحاهم في ما يصطدم بصريح القرآن، فكيف بهم فيما يتطلب شيء من التأويل، والذي يمثل أغلب مسائل الإعجاز العلمي؟! – لا بد أنهم يضربون به عرض الحائط، وكأن الأمر لا يعنيهم!
أما الناقدين فلا يملكون استغراق النفي لأنه غير منحصر. فإن نفوا ما يعلمون، فما لا يعلمون قد لا ينتفي. وما كان غير عملي عند قومٍ فهو عملي عند غيرهم، أو في زمنٍ لاحق بعدهم. أما أشد المآخذ التي يحتكم إليها منكروا الإعجاز العلمي فهي تفنيد احتواء القرآن على شيء من علوم الدنيا بادعاء أن القرآن جاء للدين والهدى فيه، لا الدنيا والعمل فيها، وكأن العلم – بالمعنى الحديث- لا يحتاج إلى الهدى، وكأن الهدى لا علم معه! والحقيقة أن منكري الإعجاز العلمي ما كانوا ليصدقوا به وهُم مشحونون بانطباعات مسبقة لديهم، غير واقفين على أنها قد تكون من عند أنفسهم.
أما الجاحدين للإعجاز العلمي، المتعالين على سماع همسه ودندنة أصحابه، فتجدهم دائماً هم الجاحدون لكل ما هو ديني، وليس فقط للإعجاز العلمي، بل لصلاحية القرآن في كل شأنه. فهؤلاء تؤزهم شياطينهم، ولا يهدأ بالهم إلا بصمت الحق ولغو الباطل، ولا علينا فيما يلغو باطلهم، ولكن عليهم يعلو ويطمس على آذانهم فلا يسمعوا للحق وأهله، وما أصدق قول الله تعالى فيهم "وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى"(فصلت: 44)، وقوله تعالى "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ"(الأنعام:26).
وإذا سمعت الناقدين، تجد منهم من يتساءل ويقول: ما من لفظ في القرآن إلا وتشرحه معاجم اللغة منذ الخليل وسيبويه وابن سيده وابن منظور، وفي استطاعة من شاء أن يعلمها أن يعلمها، وقد استنفذ المفسرون كل آياته بالشرح والتفسير. فماذا فيما يقول أصحاب الإعجاز ليكون إعجازا غير اللغة والبيان، والبلاغة والنظم وحسن التلاوة والعبرة، وشرح الصدر والبصيرة والاطمئنان. إن كل ما يمكن أن يقال قد قيل، وما ترك الأولون للآخرين من شيء لِيُعرف لاحقاً في الدين. ولو كان، لكان السابقون أولى الناس به. أنحن أفضل حالاً منهم حتى نعلم في القرآن ما لم يعلموا؟! وهكذا تدور دوائر الإنكار، بانغلاق علم القرآن على ما قاله الأولون، وقد استنفذ القائلين ذلك أعمارهم في تعَلُّم حفظ متون الأولين وترديد أسجاع الغابرين. والحرج عند هؤلاء يكمن في أن الاعتراف بالإعجاز المتجدد اعترافٌ منهم بقصورهم وحدودهم! وهم من أهل الدين ويعتبرون أنفسهم من العلماء الراسخين! أيعترفون بالإعجاز العلمي ليقروا بعجزهم؟! ألم يقضوا عقوداً يتلون القرآن ويشرحون التفسير ناقلاً عن ناقل! ولماذا يضعون أنفسهم في هذا المقام، وهم عنه أغنياء ومن دونه هم في عزةٍ وإباء.
وقد يكون الجافي المنكر للإعجاز ممن لا يسمع القرآن إلا في عوارض الأحوال، كحضور مأتم، أو سماع خطيب المسجد من وراء الجدران. ثم كان من أهل الدرجات الجامعية المميزة، وقد احتفى به المجتمع فوضعه على رأس الوظائف، ومنحه جليل الألقاب، يوم عاد من بلاد لا تعرف القرآن. وبعلمٍ لا يعلمه أهل القرآن! فكيف له أن يعترف أن ما جاء به مزهواً فخوراً باهيا، يمكن أن يُستخرج من بين دفتي مصحف قديم، لم يره إلا ويكسوه تراب بيت جده في قرية نائية، لا وجود لها من آثار على خارطة الأرض باقية!
أنَّى يكون الأمر على هذا المنوال، ويكون للإعجاز العلمي شأن وحال؟! وهذه النماذج الفكرية؛ متوجسة كانت، أو مترددة أو جانحة، ومن نهج نهجهما قد ملأتها قناعات الكفاية، ولا يرون من الدلائل ما تستبين به صحة دعوى الإعجاز. إذ لا إعجاز إلا بما هو مُعجز، فيقول لسان حالهم: أين نرى علامات الإعجاز التي يدَّعيها المدعون؟! وأين كانت فيما مضى من سنين؟! وأين كان آباؤنا عنها غافلين؟! ولماذا نحن في آخر الأمم إذا كانت علوم الأولين والآخرين تحت أيدينا بين دفتي المصحف في كنزٍ أمين، وفي كتاب مكنون! هذا إن كان صحيحاً ما يدعيه الإعجازيون!!! .. أسئلة وأسئلة بلا إجابات شافية، ولا علامات على صدق أصحابها حاسمة بينة.
وفي خِضم هذه المعاناة النفسية المترددة، المتشككة الناقدة، الأبية المتغطرسة، المتمرسة في أقوال وتنظيرات يونانية بالية، أو نظريات غربية، يؤثر أصحابها الإعراض، وقرب الإنكار والفكاك ولو من أقرب طريق. رغم أن ما يقوله أصحاب الإعجاز لا يخرج عن كونه تنظيرات شبيهة بما علمه هؤلاء الجافين الناقدين المهاجمين المتشككين، وأصبحوا أعلاماً في العلم به، فكيف يقبلون أقوالاً في العلم الغربي لا عن قاطع البرهان، ويرفضون أقوالاً أهل الإيمان بغير حسم وتبيان! لذا نراهم في خضم هذا المَوَران، لا يبدي أحدٌ منهم الهجوم إلا بما هو مجمل من اتهامات، أو متردد بين احتمالات، أو مشتبه بين معاني وخيالات. بل منهم – المتغربين بالذات - من يدافع عن حرية الرأي إذا كان طعناً في الدين، وينتقد حرية الرأي إذا مارسه أصحاب الإعجاز فيما فهموه من مقتضى إعجاز رب العالمين. أوَليس هذا برأي، يدَافع عن حرية صاحبه، من كان صادقاً في دفاعه عن حرية الآخرين، أم أن ادعاءات الحرية في الفكر والاختيار حلال دون أعتاب بيوت المؤمنين، حرامٌ عليهم إن أتوها آمنين؟!
ولسنا من المنادين بتضييق حرية الرأي وما يلزمها من حَجْرْ ، بل نرى أن في إذاعته كل الخير، شريطة أن يكون الحق رديفه لا يفارقه، في البيان، والإذاعة، والنشر، والعرفان. فإن منعْنا الرأي الفاسد – هكذا تحجُّراً – دون تبيان فساده، كان اعترافاً بقوته، وانهزاماً أمام حجته. وإن كان الستر والخفاء أسلم للأمة من نشر فساد الآراء، لكان خفاء إبليس وقبيله من قبيل السلامة والأمان. ومعلومٌ أن خفاؤه أشد شراً وأعظم وطأة. فكذلك خفاء الآراء الفاسدة، تسري رغم أنف المانعين، وخاصة إذا كان في غياب حقٍّ مبين، يكشف زيفها ويفضح مكرها، وفي غياب بيانٍ يُعرِي باطلها وحقدها، وعندها تجد من المترددين كل نصر ومظاهرة، ومن أصحاب الأهواء كل ترحاب ومصاهرة. ومن المفسدين والظالمين كل شرٍّ ومجاهرة. ولو يعلم أصحاب القرار والأمر، أن حرية الفكر والرأي قوة عاصفة مالم يكبح جماحها، ويروض أزيزها، ويُبَصَّر طريقها، ويُعان سالكها. وليس ترويضها إعدامها، بل حُسن توجيهها ليكون في الخير مسيرها. مثلما أن الريح قوة، إلا أن الله تعالى يسوق بها الماء فيحيي بها الأرض، وبها أهلك أقواماً فسدوا في الأرض.
تفاوت علماء الإسلام في رؤية الإعجاز العلمي في القرآن:
ويتفاوت علماء الشريعة والتفسير واللغة فيما بينهم تفاوتاً شديداً في موقفهم من قضية الإعجاز العلمي. ورغم أن الشيخ يوسف القرضاوي، راية ساطعة في الاعتدال والوسطية، إلا أنه عبّر بما يشير إلى مسألة تجهيل السلف في المسائل التي يُستحدث فيها أراء جديدة في الإعجاز العلمي، فقال مُحذِّراً من المبالغة والغلو في ذلك[3]: "إذا بالغنا في استخدام العلوم، يصبح القرآن لا يعرفه إلا علماء الطبيعة وعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات، وأمثالنا لن يفهموا القرآن، وأحيانا ننتهي إلى أن الأمة لم تفهم القرآن، عبر أربعة عشر قرناً، حين يقول بعضهم: إن هذا هو المعنى المقصود بالقرآن!."، وللشيخ كل الحق في الرد على أمثال بعض المتهافتين في مسائل الإعجاز العلمي، إلا أن تعميم النقد يضيع معه الحق. كما قال مفاضلاً بين المؤيدين والمعارضين، جانحاً بالمدح جهة المعارضين حين قال: "في عصرنا من العلماء من أيد هذا الاتجاه. ولكن العلماء المحققين وقفوا ضد هذا بقوة كالشيخ أمين الخولي، والشيخ محمود شلتوت، والأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن وهو يفسر قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ"، يقول: لا ينبغي أن نُحَكِّم العلم - الذي يتغير ما بين الحين والحين – بالقرآن."
إلا أننا نجد من علماء اللغة من يقول[4]: "إن إعجاز القرآن أمر متعدد النواحي متشعب الإتجاهات ومن المتعذر أن ينهض لبيان الإعجاز القرآني شخص واحد، ولا حتى جماعة في زمن ما، مهما كانت سَعَةُ علمهم واطلاعهم، وتعدد اختصاصاتهم، إنما هم يستطيعون بيان شيء من أسرار القرآن في نواح متعددة حتى زمانهم هم، ويبقى القرآن مفتوحاً للنظر لمن يأتي بعدنا في المستقبل ولِما يجدّ من جديد. وسيجد فيه أجيال المستقبل من ملامح الإعجاز وإشاراته ما لم يخطر لنا على بال. وأضرب مثلاً لتعدد نواحي الإعجاز. فإني سمعت وقرأت لأشخاص مختصين بالتشريع والقانون يبيّنون إعجاز القرآن التشريعي، ويبينون اختيارات الألفاظ التشريعية في القرآن ودقتها في الدلالة على دقة التشريع ورفعته، ما لا يصح استبدال غيرها بها، وإن اختيار هذه الألفاظ في بابها أدق وأعلى مما نبيّن نحن من اختيارات لغوية وفنية وجمالية. وقرأت وسمعت لأشخاص متخصصين بعلم التشريح والطب في بيان شيء من أسرار التعبير القرآني من الناحية الطبية التشريحية ودقتها يفوق ما نذكره في علم البلاغة. فألفاظه مختارة في منتهى الدقة العلمية. ... وقرأت فيما توصل إليه علم التاريخ وما دلت عليه الحفريات الحديثة من أخبار ذي القرنين أدق الكلام وأدق الأخبار ما لم يكن يعرفه جميع مفسري القرآن فيما مضى من الزمان. وأن الذي اكتشفه المؤرخون والآثاريون وما توصلوا إليه في هذا القرن منطبق على ما جاء في القرآن الكريم كلمةً كلمة ولم يكن ذلك معلوماً قبل هذا القرن البتة. ... وقرأت في اختيار التعبير القرآني لبعض الكلمات التاريخية كـ (العزيز) في قصة يوسف، وكاختيار تعبير الملك في القصة نفسها، واختيار كلمة (فرعون) في قصة موسى، فعرفت أن هذه ترجمات دقيقة لما كان يُستعمل في تلك الأزمان السحيقة. ... وعرفت من الإشارات الإعجازية في مختلف العلوم كما في أسرار البحار والضغط الجوي ... بل إن هناك أموراً لم تُعرف إلا بعد صعود الإنسان في الفضاء واختراقه الغلاف الجوي للأرض، وقد أشار إليه القرآن إشارات في غاية العجب، ذلك أن الإنسان إذا اخترق الغلاف الجوي للأرض، وجد نفسه في ظلام دامس وليل مستديم، ولم تُر الشمس إلا كبقية النجوم التي نراها في الليل. فالنهار الذي نعرفه نحن، لا يتعدى حدود الغلاف الجوي، فإن تجاوزناه كنا في ظلام لا يعقبه نهار. ... وعلى هذا فالإعجاز القرآني متعدد النواحي، متشعب الاتجاهات، ولا يزال الناس يكتشفون من مظاهر إعجازه الشيء الكثير فلا غرو أن أقول إذاً أن الإعجاز أكبر مما ينهض له واحد أو جماعة في زمن ما."
والحق الذي ينبغي أن يُصرَّح به أن "الإعجاز العلمي في القرآن" مسألة مركبة وليست بسيطة. بمعنى أن الأمر بتأييد الإعجاز العلمي إجمالاً، أو الاعتراض عليه إجمالاً لا يستقيم. وإنما الذي يستقيم هو القول المحقق في كل مسألة على حدى. والسبب أن تعميم الأقوال مُشكل، ويوقع في حرج بالغ، وأشد ما نجد من حرج في أقوال المعترضين (بأنواعهم المتباينة) على الإعجاز العلمي، قولهم[5]:
[القرآن الكريم ليس كتاب علم أصلاً!]
ورغم أننا نعلم أن صاحب هذه العبارة، أي الشيخ يوسف القرضاوي، لم يقصد منها إلا أن القرآن ليس كتاب في العلوم الحديثة في الطبيعة والأحياء وأمثالهما من موضوعات، وأنه كتاب في العلم الديني الإلهي الذي لا ينكره إلا كافر به، إلا أنها عبارة شديدة الإشكال، والمؤاخذة عليها أشد من تأييدها، كما سنبين ذلك لاحقاً بالتفصيل. ومن ثم يجب إظهار كم تمثل هذه العبارة من قول يجب إنكاره، والنهي عن التصريح بمثله، خاصة وأنها أصبحت تردد في أقوال كل المعارضين لعلمية القرآن، أو تكاد، وأصبحت مُسَلّمة من مُسَلّمات الثقافة المعاصرة، والعلمانية منها خاصة، رغم أنها مُنْكَرَة، لإجمالها الباطل مع الحق، فتقر بالباطل من حيث لا يريده بعض القائلين بها.
المؤلف
ملاحظة: سيتم تحديث الفهرس تباعاً إن شاء الله على هذا الرابط:القرآن والعلم : كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه
---------------------
[1] في كتابه "جواهر القرآن"- المقدمة.
[2] في كتابيه "الإتقان"(ج1/367) ، و "الإكليل في استنباط التنزيل" حسب ما ذكر محمد حسين الذهبي في "علم التفسير" ص 73.
[3] مقال بعنوان [القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي]، نشر على موقع "إسلام أون لاين" بتاريخ 14/2/2007، ونشر لاحقاً على موقع الشيخ القرضاوي:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*
[4] د. فاضل صالح السامرائي، أستاذ النحو في جامعة الشارقة، في مقدمة كتابه الإلكتروني "لمسات بيانية في نصوص من التنزيل".
[5] جاء في المقال المشار إليه سابقاً:
القرضاوي .. حوار عن مشكلات الإعجاز العلمي*