أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون وا
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون وا
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (9)
قال الرازي - رحمه الله - : واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة،
فأولها: أنه بدأ فيها بذكر العمل وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما، وأما العلم فقوله: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.
الفائدة الثانية: أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوتعبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العمل إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان،
وقوله: ساجدا وقائما إشارة إلى أصناف الأعمال.
وقوله: يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه : إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله: يحذر الآخرة ، ثم بعده مقام الرحمة ، وهو قوله: ويرجوا رحمة ربه ثم يحصل أنواع المكاشفات ، وهو المراد بقوله: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
الفائدة الثالثة: أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى. مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (26/ 428).
{يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} :
قال ابن كثير -رحمه الله - :
أي: في حال عبادته خائف راج ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا قال: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} ، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده.
قال الطاهر ابن عاشور -رحمه الله - :
والرجاء والخوف من مقامات السالكين، أي أوصافهم الثابتة التي لا تتحول.
والرجاء: انتظار ما فيه نعيم وملاءمة للنفس. والخوف: انتظار ما هو مكروه للنفس.
والمراد هنا: الملاءمة الأخروية لقوله: يحذر الآخرة، أي يحذر عقاب الآخرة فتعين أن الرجاء أيضا المأمول في الآخرة. وللخوف مزيته من زجر النفس عما لا يرضي الله، وللرجاء مزيته من حثها على ما يرضي الله وكلاهما أنيس السالكين.
وإنما ينشأ الرجاء على وجود أسبابه لأن المرء لا يرجو إلا ما يظنه حاصلا ولا يظن المرء أمرا إلا إذا لاحت له دلائله ولوازمه، لأن الظن ليس بمغالطة والمرء لا يغالط نفسه، فالرجاء يتبع السعي لتحصيل المرجو قال الله تعالى: ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [الإسراء: 19] فإن ترقب المرء المنفعة من غير أسبابها فذلك الترقب يسمى غرورا.
وإنما يكون الرجاء أو الخوف ظنا مع تردد في المظنون، أما المقطوع به فهو اليقين واليأس وكلاهما مذموم قال تعالى: فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف:
99] ، وقال: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف: 87] .
وقد بسط ذلك حجة الإسلام أبو حامد في كتاب الرجاء والخوف من كتاب «الإحياء» . ولله در أبي الحسن التهامي إذ يقول: وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار
وسئل الحسن البصري عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال: هذا تمن وإنما الرجاء، قوله: يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه. التحرير والتنوير (23/ 347)
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ}
قال الزمخشري -رحمه الله- :
وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أى: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 117)
قال الرازي- رحمه الله- :
قال صاحب «الكشاف» أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة.
ثم قال تعالى: إنما يتذكر أولوا الألباب يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه. مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (26/ 429)
قال البقاعي -رحمه الله- :
لما كان المقام للإخلاص، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه، لأنه خاص بالله تعالى، قال: {ساجداً} أي وراكعاً ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال: {وقائماً} أي وقاعداً، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه، والآية من الاحتباك: ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن لسجود يدل على العبادة، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين .....
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول: ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد: {يحذر الآخرة} أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه. ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال: {ويرجوا رحمة ربه} أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه.
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير، كان جواب ما تقدم من الاستفهام: لا يستويان، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل. فأمره بالجواب بقوله: {قل} أي لا يستويان، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (16/ 466)
قال السعدي -رحمه الله- :
هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره، وبين العالم والجاهل، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها، وعلم علما يقينا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع لله بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء، رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم {وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار.