قوله صلى الله عليه وسلم : (خفف على داود القرآن )

إنضم
24/04/2003
المشاركات
1,398
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد ..

فقد كتب أحد المعاصرين كتاباً بعنوان : ( نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث : دراسة تطبيقية على بعض أحاديث الصحيحين ).
وهو كتاب متهافت، أراد كاتبه الطعن في السنة النبوية من خلال تحكيم العقل واتباع الهوى، ملبساً ذلك بكونه يتبع منهجاً مرسوماً في النقد، والحقيقة أنه إنما اتبع قواعد أهل الابتداع الكثيرة في التعامل مع نصوص السنة النبوية .

وكان من ضمن تلك الأحاديث التي تكلم عنها حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ الذي نحن بصدده ، ولكون الحديث قد اشتمل على كلمة ( القرآن ) فقد يظن بعض القراء أن المراد به القرآن العظيم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقع في الإشكال الذي وقع فيه هذا الكاتب ..
ولذا أحببت الوقوف السريع مع ما ورد في هذا الكتاب حول هذا الحديث ، وتجلية الأمر ، ولا يفوتني أن أذكر أن الكاتب لم يتبع الأسلوب العلمي في نقد الأحاديث بل كان بشهادة الكثير ممن قرأ الكتاب متبعاً للهوى والعقل نسأل الله السلامة والعافية ...

نص الحديث:

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خُفِّفَ على داود عليه السلام القرآنُ، فكان يأمر بداوبِّه، فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده"(1 ).

الشبهات التي أوردها المؤلف:

قال الكاتب : " هذا الحديث الذي تفرد بروايته أبو هريرة، ينسب إلى داود قراءة القرآن مع أن القرآن ما أنزل إلا بعد وفاة داود بألف وستمائة عام!!.
ثم أي قراءة للقرآن هذه التي يختم فيها القرآن كله في هذه الفترة القصيرة! مع أن رسول الله نهى عن ختمه في أقل من ثلاثة أيام، لأن القراءة عندها ستكون هَذَراً بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر! لذلك، أوّل بعض شرَّاح الحديث لفظة القرآن فيه فقالوا إن المقصود هنا هو: (الزبور)، الكتاب الذي أنزله الله على داود، وهو تأويل خلاف الظاهر الذي يعرفه السامعون المسلمون وغير المسلمين من لفظة القرآن!"(2 ).

ومدار الشبهات التي ذكرها المؤلف تعود إلى أن المقصود بالقرآن هنا هو الكتاب الذي أنزله الله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وادعى الكاتب أن هذا هو الظاهر الذي يعرفه السامعون المسلمون وغير المسلمين من لفظة القرآن، وبناء على ذلك تتفرع الشبهتان التاليتان:

الشبهة الأولى : كيف يقرأ داود عليه السلام القرآن، ولم ينزل القرآن إلا بعد أزمنة متطاولة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

الشبهة الثانية: كيف يمكن قراءة القرآن في هذه المدة القصيرة، لا سيما مع وقوع النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث.

( الجواب على هذه الشبهات )

الجواب الأول: أنه ليس المقصود في الحديث، القرآن العظيم المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولم يقل بذلك أحدٌ من العلماء:

فلفظ القرآن لا يقصد به المعنى الذي ذكره الكاتب، بل المقصود به هو القراءة، فيكون معنى الحديث، خفف على داود عليه السلام القراءة، أي : الزبور.
وهذا المعنى هو المعروف عند العلماء وشراح الحديث :
قال ابن حجر : " وَالْمُرَاد بِالْقُرْآنِ مَصْدَر الْقِرَاءَة لا الْقُرْآن الْمَعْهُود لِهَذِهِ الْأُمَّة"(3 ).
وقال ابن بطال: "والمراد بالقرآن فى هذا الحديث الزبور"(4 ).
وقال في عون المعبود : " وَالْمُرَاد بِالْقُرْآنِ هَهُنَا : الزَّبُور"(5 ).
وقال ابن الجوزي: " يعني القراءة لكتابه الزبور"(6 ).
وقال ابن كثير : " والمراد بالقرآن ههنا الزبور الذي أنزل عليه، وأوحي إليه"(7 ).
فهؤلاء هم أئمة المسلمين وعلماؤهم، ولم يقل منهم أحد بأن المقصود هو القرآن الكريم، ولم يذكر الكاتب أحداً قال بهذا بل دلس وأجمل .

وقد بين العلماء أن هذا المعنى هو المقصود بأمور:

الأمر الأول : ما جاء في رواية الحديث الأخرى: ( خفف على داود القراءة )(8 ).

وبهذه الراوية يتضح معنى الحديث، وتنتفي إرادة معنى القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن حجر: "فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ ( الْقِرَاءَة )"(9 ).
وقال أيضاً: " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة لِأَبِي ذَرّ ( الْقِرَاءَة )"(10 ).
وقال العيني: "وفي رواية الإسماعيلي زيادة وهي خفف على داود عليه الصلاة والسلام القراءة"(11 ).

الأمر الثاني: أن لفظ القرآن في اللغة يطلق ويراد به ما يشمل القرآن الكريم وغيره:

فلفظ القرآن يطلق ويراد به جنس القراءة، كما يطلق ويراد به القرآن الكريم، ويطلق كذلك على الصلاة .
قال ابن الأثير: " قد تكرر في الحديث ذكر ( القراءة، والاقتراء، والقارئ، والقرآن) والأصل في هذه اللفظة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته، وسمي القرآن قرآناً لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران، وقد يطلق على الصلاة لأن فيها قراءة، تسمية للشيء ببعضه، وعلى القراءة نفسها يقال: قرأ يقرأ قراءة وقرآناً "(12 ).
قال ابن حجر : " وَالأصْل فِي هَذِهِ اللَّفْظَة الْجَمْع، وَكُلّ شَيْء جَمَعْته فَقَدْ قَرَأْته ... وَقِرَاءَة كُلّ نَبِيّ تُطْلَق عَلَى كِتَابه الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ"(13 ).

الأمر الثالث : أن كتب الله السابقة يطلق عليها لفظ القرآن كما يطلق على القرآن لفظ التوراة والإنجيل والزبور:

قال العيني : " وقرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحى إليه "(14 ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور؛ يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة. فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وبلفظ التوراة عن القرآن وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضاً، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : (خفف على داود القرآن) فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن فالمراد به قرآنه وهو الزبور. وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: ( نبياً أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى )، وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه و سلم في الكتب المتقدمة: ( أناجيلهم في صدورهم )"(15 ).
وقال: " ولفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور قد يراد به الكتب المعينة ويراد به الجنس فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور وغيره كما في الحديث الصحيح عن النبي خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن والمراد به قرآنه وهو الزبور ليس المراد به القرآن الذي لم ينزل إلا على محمد وكذلك ما جاء في صفة أمة محمد (أناجيلهم في صدورهم) فسمى الكتب التي يقرؤونها وهي القرآن أناجيل، وكذلك في التوراة (إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أنزل عليه توراة مثل توراة موسى) فسمى الكتاب الثاني توراة"(16 ).
وقال: " وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآناً وقد تسمى الكتب القديمة قرآنا كما قال النبي صلي الله عليه وسلم خفف على داود القرآن"(17 ).
وقال ابن القيم : " والمراد بالقرآن ههنا الزبور، كما أريد بالزبور القرآن في قوله تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [الأنبياء: 105]"(18 ).
وقال ابن كثير : " ثم ليعلم أن كثيراً من السلف يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب المتلوة عندهم، أو أعم من ذلك، كما أن لفظ القرآن يطلق على كتابنا خصوصاً، ويراد به غيره كما في الصحيح : (خفف على داود القرآن فكان يأمر بداوبه فتسرج فيقرأ القرآن مقدار ما يفرغ ) وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والله أعلم"(19 ).

الجواب الثاني: أن سرعة قراءته عليه السلام لا تستلزم عدم الفهم والتدبر، ولا تستنكر:

وما توهمه الكاتب بقوله : " لأن القراءة عندها ستكون هَذَراً بلا تفكر، ولن تكون تلاوة بتدبر! "؛ غير مقبول هنا.
فإن داود عليه السلام كغيره من أنبياء الله تعالى قد خصه الله تعالى بخصائص ومعجزات، ولا يمكن إنكارها إلا بإنكار القرآن العظيم، والواجب عند قبول ما هو أعظم من سرعة القراءة مما ورد في القرآن؛ قبول ما جاء به هذا الحديث، إذ العقل السليم لا يرد ذلك، بل إذا صدق بما هو أعظم؛ سهل عليه تصديق ما دون ذلك. وقد استخدم الله تعالى ذلك مع العقول السليمة فقال : ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ) [ يس: 78 ـ 79 ].

ونحن نقول هنا قد أخبر القرآن عن داود عليه السلام بما هو أعظم من هذه السرعة في القراءة مع الفهم:

قال تعالى : (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) [ الأنبياء: 79 ].
وقال تعالى: ( ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ) [ سبأ: 10 ].
فإذا كان العقل يصدق بتسبيح الجبال والطير مع داود عليه السلام، وأن الحديد قد لان بيده فيصنع منه ما شاء؛ فكيف ينكر بعد ذلك أن يكون قد وهبه الله من القدرة ما يستطيع به قراءة التوراة في مدة يسيرة مع الفهم والتدبر، وليس في ذلك عجبٌ، إذ الأنبياء لهم شأن خاص، وقد أخبر تعالى زيادة على ذلك أن داود عليه السلام صاحب قوة فقال : ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) [ ص: 17 ].
قال ابن جرير: " ويعني بقوله: ( ذا الأيد ) : ذا القوّة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته"(20 ).
وقال السعدي: " ومن أعظم العابدين، نبيُّ اللّه داود عليه الصلاة والسلام، ( ذا الأيد ) أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه وقلبه"(21 ).
وقال ابن كثير : " فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع صلوات الله وسلامه عليه وقد قال الله تعالى : ( وآتينا داود زبوراً ) [ النساء : 163، الإسراء : 55 ]" (22 ).
فهنا قد اجتمع العقل مع القرآن العظيم في قبول معنى هذا الحديث الشريف، فما بال الكاتب يرده وقد قال هو في مقدمة كتابه هذا: " المهم أن يكون النقد نقداً بناءً، نقداً مستنداً على القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من أية جهة كانت"(23 ).
وقد ذكر هو أيضاً حديثاً مرفوعاً : " فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني "(24 ).

وقد وقع بعض هذه السرعة لمن هم دون الأنبياء :
قال ابن حجر: " وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْبَرَكَة قَدْ تَقَع فِي الزَّمَن الْيَسِير حَتَّى يَقَع فِيهِ الْعَمَل الْكَثِير . قَالَ النَّوَوِيّ : أَكْثَر مَا بَلَغَنَا مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَانَ يَقْرَأ أَرْبَع خَتَمَات بِاللَّيْلِ وَأَرْبَعًا بِالنَّهَارِ، وَقَدْ بَالَغَ بَعْض الصُّوفِيَّة فِي ذَلِكَ فَادَّعَى شَيْئًا مُفْرِطًا، وَالْعِلْم عِنْد اللَّه"(25 ).
وقال العيني:" وفيه الدلالة على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن يشاء من عباده كما يطوي المكان وهذا لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني ... ولقد رأيت رجلاً حافظاً قرأ ثلاث ختمات في الوتر في كل ركعة ختمة في ليلة القدر"(26 ).

والله أعلم ...
ـــــــــــــ
حواشي :
(1 ) صحيح البخاري: كتاب الأنبياء: باب قول الله: ( وآتينا داود زبوراً ) : ( 6 / 522 ) رقم ( 3417 )، وفي التفسير: باب ( وآتينا داود زبوراً ): ( 8 / 248 ـ 249 ) رقم ( 4713 ).
(2 ) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: ( 187 ).
(3 ) فتح الباري: ( 13 / 189 ).
(4 ) شرح البخاري: ( 19 / 360 ).
(5 ) عون المعبود: ( 10 / 186 ).
(6 ) كشف المشكل: ( 1 / 1010 ).
(7 ) البداية والنهاية: ( 2 / 11 ).
(8 ) فتح الباري: ( 6 / 524 ). وروى هذا الحديث بهذا اللفظ: ابن حبان في صحيحه: ( 14 / 117 ) رقم (6225 ). قال شعيب الأرنؤوط: " صحيح ".
(9 ) فتح الباري: ( 6 / 524 ).
(10 ) السابق: ( 13 / 189 ).
(11 ) عمدة القاري: ( 17 / 293 ).
(12 ) النهاية: ( 4 / 30 ).
(13 ) فتح الباري: ( 6 / 524 ).
(14 ) عمدة القاري: ( 23 / 368 ).
(15 ) هداية الحيارى: ( 1 / 79 ).
(16 ) الجواب الصحيح: ( 5 / 157 ).
(17 ) مجموع الفتاوى: ( 7 / 516 ).
(18 ) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود: ( 12 / 279 ). وانظر: عون المعبود: ( 10 / 186 ).
(19 ) البداية والنهاية: ( 6 / 63 ).
(20 ) جامع البيان: ( 21 / 166 ).
(21 ) تفسير السعدي: ( 1 / 711 ).
(22 ) البداية والنهاية: ( 2 / 11 ).
(23 ) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: ( 9 ).
(24 ) نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث: ( 11 ).
(25 ) فتح الباري: ( 6 / 524 ).
(26 ) عمدة القاري: ( 23 / 368 ).
 
نسال الله أن يحشرنا مع الأنبياء والصدقين وحسن أولئك رفيقاً ...

ونشكر أخانا في الله ( فهد الوهبي ) في ميزان أعمالك ...
 
جزاك الله خيرا يا شيخ فهد على هذا التوضيح والبيان

أسأل الله أن يبارك لك في علمك وأن يهبك مزيدا من الفهم في الكتاب والسنة
 
الإخوة الفضلاء أبا هريرة والدكتور عبد الرحمن ومحمد كالو ومحب القراءات وأبا عبد الرحمن جزاكم الله خيراً ..
وتقبل الله دعواتكم ..
 
كلام مفيد ونظر سديد
جزاك الله تعالى خيرا وتقبل منك وزادك من هذا العلم النافع
 
الشيخ زهير هاشم ريالات ..
والشيخ مصطفى فوضيل ..
جزاكم الله خيراً وتقبل دعواتكم .. ووفقنا وإياكم لفهم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ..
 
[glow=00FFCC][align=center]جزاك الله خيراً على هذا البحث الماتع الجميل ووفقك لما يحبه ويرضاه.

ولمثل هؤلاء الكتاب يقال:

وكم من عائب قولاً صحيحا ****وآفته من الفهم السقيم
[/align][/glow]
 
عودة
أعلى