قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني

إنضم
26/05/2003
المشاركات
284
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الإمارات - الشارقة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم مالك يوم الدين , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إله الأولين والآخرين , وقيوم السماوات والأرضين , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , سيد المرسلين , وإمام المتقين , وقائد الغر المحجلين , المبعوث رحمةً للعالمين , صلى الله وسلم وبارك عليه , وعلى آله الطيبين الطاهرين , وأصحابه الغر الميامين الذين حفظ الله بهم الملة , وأظهر الدين , وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين .

أما بعد فإن عقيدة أهل السنة والجماعة تمتاز بالصفاء والوضوح والخلو من الغموض والتعقيد , وهي مستمدة من نصوص الوحي كتابا وسنة , وكان عليها سلف الأمة , وهي عقيدة مطابقة للفطرة , ويقبلها العقل السليم الخالي من أمراض الشبهات , وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقاة من آراء الرجال وأقوال المتكلمين , ففيها الغموض والتعقيد والخبطُ والخلط , وكيف لا يكون الفرق كبيراً والبونُ شاسعاً بين عقيدة نزل بها جبريل من الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وبين عقائد متنوعة مختلفة خرج أصحابها المبتدعون لها من الأرض , وخلقهم من ماء مهين .

فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه من ربه تعالى , وسار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان , والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة , ولم يكن عليها الصحابة الكرام , بل قد ولد بعضها في زمانهم , وبعضها بعد انقراض عصرهم , وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ( وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم , ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم , فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة , ولكنها شر حفظهم الله منه , وابتُلي به من بعدهم .

والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي , وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم , كالفرق بين الله وخلقه , ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم , فإنه يقال فيه : إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , وبين القوانين الوضعية الوضيعـة التي أحدثهـا البشر , كالفـرق بين الله وخلقـه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يعتقد , والحقيقة الواضحة الجلية فيما يُحكم به , فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!

اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام , وأخرجه من الظلمـات إلى النور , إنك سميع مجيب .وقد ألف علماء السنة قديماً مؤلفات توضح عقيدة أهل السنة والجماعة , منها ما هو مختصر ومنها ما هو مطول , وكان بين هذه المختصرات مقدمة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته , ومقدمة رسالته على طريقة السلف مختصرة مفيدة , والجمع بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادر في فعل المؤلفين , وهو حسن , يجعل المشتغل في فقه العبادات والمعاملات على علم بالفقه الأكبر الذي هو العقيدة على طريقة السلف .

وهي مع وجازتها وقلة ألفاظها تبين بوضوح العقيدة السليمة المطابقة للفطرة , المبينة على نصوص الكتاب والسنة , وهي شاهد واضح للمقولة المشهورة ( إن كلام السلف قليل كثير البركة , وكلام المتكلمين كثير قليل البركة ) .

ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع المقدمة ( إن الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيره , ولا شيبه له , ولا نظير له , ولا ولد له , ولا والد له , ولا صاحبة له , ولا شريك له ) .

فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة , وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين , فإنه مبني على التكلف , ومتصف بالغموض , ومن أمثلة ذلك ما جاء في العقائد النسفية قول مؤلفها ( ليس بعرض ولا جسم , ولا جوهر , ولا مصوّر , ولا محدود , ولا معدود , ولا متبعّض , ولا متجزّ , ولا متركّب , ولا متناه ) .

وهذه المنفيات لم يأت بالنص عليها في كتاب ولا سنة , والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي , واعتقاد أن الله مصتف بكل كمال , منزه عن كل نقص , ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام ولا تطابق الفطرة التي هم عليها , وهي من تكلف المتكلمين , وفيها غموض وتلبيس , يتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها , وهو نفي الجسم , فإنه يحتمل أن يراد به ذاتٌ مشابهة للمخلوقات , وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً , لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , وإن أريد به ذات قائمة بنفسها , مباينةٌ للمخلوقات , متصفة بصفات الكمال , فإن هذا المعنى حقٌّ , ولا يجوز نفيه عن الله , وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل .

وسيأتي في كلام المقريزي ( ص 14 , 14 ) قوله عن الصحابة ( فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه , ونزهوا من غير تعطيل , ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا , ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت , ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله , ولا عرف أحدٌ منهم شيئا ) .

وسيأتي أيضا في كلام المظفر السمعاني ص 16 ,قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين ( وكان مما أمر بتبليغه التوحيد , بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه , ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض , ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه , فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم , ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح , ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق , فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم , فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض ) وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شريح صحيح البخاري ( باب قول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك" ونقل فيه 13/504 عن الحسن البصري قال ( لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .

والجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية , ونسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان , لأنه أظهر هذا المذهب الباطل ونشره , وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله ( لو كان حقا ما يقوله الأشاعرة والمتكلمين وغيرهم من المتكلمين حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .

وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها , ويُفصل المعاني التي اشتملت عليها , ورأيت أن أمهد لهذا الشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف , وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي المالكي المتوفي سنة 1285هـ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً , رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح . وقد سميت هذا الشرح ( قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ) وأسأل الله عز وجل أن ينفع كما به كما نفع بأصله , وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم , والسير على ما كان عليه سلفهم , في العقيدة والعمل , وأن يوفقني للسلامة من الزلل , ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل , إنه سميع مجيب , وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ــــــــــــ

ترجمة مختصرة لابن أبي زيد القيرواني

هو عبدالله أبومحمد بن أبي زيد , واسم أبي زيد عبدالرحمن , سكن القيروان , وكان إمام المالكية وقته وقدوتهم , وجامع مذهب مالك , وشارع أقواله , وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية , وكُتبه تشهد له بذلك , فصيح القلم , ذا بيان ومعرفة بما يقوله , بصيرا بالرد على أهل الأهواء , يقول الشعر ويجيده , ويجمع إلى ذلك صلاحاً تاما ورعا وعفة , وحاز رئاسة الدين والدنيا , وإليه كانت الرحلة من الأقطار , ونجب أصحابه وكثر الآخذون عنه .

وعرف قدره الأكابر , وكان يعرف بمالك الصغير , قال فيه القابسي ( هو إمامٌ موثوق به في ديانته وروايته ) واجتمع فيه العلم والورع والفضل والعقل , شهرته تغني عن ذكره , كان سريع الانقياد والرجوع إلى الحق , تفقه بفقهاء بلده وسمع من شيوخها , وعوَّل على أبي بكر بن اللباد وأبي الفضل القيسي , وسمع منه خلق كثير وتفقه به جلة , وكانت وفاته سنة 386هـ , له كتاب النوادر والزيادات على المدونة , مشهور أزيد من مائة جزء , وكتاب مختصر المدونة مشهور أيضاً , وعلى كتابيه هذين المعول في التفقه , وله الرسالة , غيرها من المؤلفات الكثيرة المذكورة في الديباج المذهب لابن فرحون المالكي ص136-138 .

وكل ما مر منقول باختصار من هذا الكتاب , قال فيه الذهبي في أول ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/10 ( الإمام العلامة القدوة الفقيه , عالم أعل المغرب ) , وقال في آخرها ( وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول , لا يدري الكلام ولا يتأول , فنسأل الله التوفيق ) .

أخوكم في الله : أبوخطاب العوضي
 
فوائد بين يدي الشرح

الفائدة الأولى :
منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة : اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح
.


عقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على الدليل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم قال اله عز وجل ( 6 آيات )

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ( ... فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً , فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهدين الراشدين , تمسكوا بها , وعضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود 4607 والترمذي 2676 وغيرهما , وهذا لفظ أبي داود , وقال الترمذي ( حديث حسن صحيح )

وفي صحيح البخاري 7280 عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى , قالوا : يا رسول الله ! ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )

وفي صحيح مسلم 767 عن جابر بن عبدالله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها , وكل بدعة ضلالة )

وروى البخاري في صحيحه 1597 , ومسلم في صحيحه 1270 عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه ( أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله , فقال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع , ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك )

وروى البخاري في صحيحه 2697 , ومسلم في صحيحه 1718 عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي لفظ لمسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهود رد ) .

وما جاء في هذه الرواية أعم من الأولى , لأنها تشتمل على من كان مُحدثا أو تابعاً لمحدث .

وروى الإمام أحمد 16937 , وأبو داود4597 وغيرهما – واللفظ لأحمد – عن معاوية رضي الله عنه قال ( إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة , وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء , كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة )

وانظر تخريجه وشواهده في تعليق الشيع شعيب الأرنؤوط وغيره على هذا الحديث في حاشية المسند .

وروى الإمام البخاري في صحيحه 5063 , ومسلم في صحيحه 1401 عن أنس في حديث طويل . آخره ( فمن رغب عن سنتي فليس مني )

وإنما كانت عقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على الكتاب والسنة , لأن ما يعتقد هو من علم الغيب , ولا يمكن معرفة ذلك إلا بالوحي كتابا وسنة .

وما جاء في الكتاب العزيز وثبت في السنة فإن العقل السليم يوافقه ولا يعارضه , ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاب واسع اسمه ( درء تعارض العقل والنقل )

والمعول عليه في فهم النصوص ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنهم من الفهم الصائب والعلم النافع , وقد فهموا معاني ما خوطبوا به من صفات الله عز وجل , لأن الكتاب والسنة بلغتهم , مع تفويضهم علم كيفياتها إلى الله عز وجل , لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه , كما جاء عن الإمام مالك بن أنس في بيان هذا المنهج الصحيح , حيث قال عندما سئل عن كيفية الاستواء فقال ( الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة )

وقد أوضح ما كان عليه الصحابة في صفات الله عز وجل الشيخ أبو البعاس أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845هـ في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 2/356 فقـال ( ذكر الحال في عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعرية : اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الناس جميعاً وصف لهم ربهم سبحاته وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروح الأمين , وبما أوحى إليه ربه تعالى , فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك , كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم , عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمرٌ ونهي , وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنة والنار , إذ لو سأله إنسانٌ منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام , وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة والملاحم والفتن ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث , معاجمها ومسانيدها وجوامعها , ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية , علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم . على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم – أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , بل كلهم فهموا معنى ذلك , وسكتوا عن الكلام في الصفات . نعم ! ولا فرق أحد منهم بين كونها صفت ذات أو صفة فعل , وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية : من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام سوقاً واحداً , وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة : من الوجه واليد ونحو ذلك , مع نفي مماثلة المخلوقين , فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه , ونزهوا من غري تعطيل , ولم يتعرض من ذلك أحدٌ منهم إلى تأويل شيء من هذا , ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت , ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله , ولا عرف أحدٌ منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة , فمضى عصرُ الصحابة رضي الله عنهم على هذا , إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر , وأن الأمر أنفة , أي : أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئاً مما هم عليه ... )

وهذا الذي أوضحه المقريزي هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الفرق المختلفة , وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية الذي مر ذكره قريباً (... فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً , فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهدين الراشدين , تمسكوا بها , وعضوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) .

وليس المعقول أن يقال في هذا شيء من مذاهب هذه الفرق المختلفة في العقيدة التي حدثت في أواخر عهد الصحابة وبعده , كالقدرية والمرجئة والأشاعرة وغيرها , ليس المعقول أن يقال في شيء من ذلك : إنه الحق والصواب , بل الحق الذي لا شك فيه هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولو كان شيء من هذه المذاهب حقا لسبقوا إليه رضي الله عنهم وأرضاهم , فلا يعقل أن يحجب حق . عن الصحابة ويدخر لأناس يجيئون بعدهم , قال إبراهيم النخعي كما في جامع بين العلم وفضله لابن عبدالبر 1/97 ( لم يُدخر لكم شيءٌ خُبئ من القوم لفضل عندكم )

وقد نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه باب قوله الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) كلام نفيساً لأبي المظفر السمعاني , فقال 13/507( واستدل أبي المظفرالسمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض , قالوا فالجسم ما اجتمع من الافتراق والجوهر ما حمل العرض , والعرض ما لا يقوم بنفسه , وجعلوا الروح من الأعراض , وردوا الأخبار في خلق الروح من قبل الجسد والعقل قبل الخلق , واعتمدوا على حدسهم وما يؤدي إليه نظرهم , ثم يعرضون عليه النصوص فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه , ثم ساق هذه الآيات ونظائرها من الأمر بالتبليغ , قال : وكان مما أمر بتبليغه التوحيد , بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئاً من أمور الدين وأصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه , ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به الجوهر والعرض , ولا يوجد عنه ولا عن أحد أصحابه من ذلك حرفٌ واحدٌ فما فوقه , فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم , ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح , ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق , فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم , فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض , وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاماً يوازنه أو يقاربه , فكلٍّ بكل مقابل , وبعضٌ ببعضٍ مُعارض , وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنا إذا جرينا على ما قالوه وألزمنا الناس بما ذكروه لزممن ذلك تكفير العوام جميعاً , لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد , ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم فضلاً على أن يصير منهم صاحب نظر , وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين والعضُّ عليها بالنواجذ , والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوبٍ سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك , فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قُطعوا إرباً إرباً , فهنيئا لهم هذا اليقين , وطوبى لهم هذه السلامة , فإذا كُفر هؤلاء وهو السواد الأعظم وجمهور الأمة , فما هذا إلا طي بِساط الإسلام وهدمُ منار الدين والله المستعان )

ما جاء في كلام أبي المظفر من ذكر خلق العقل فيه نظر , قال ابن القيم في كتابه المنار المنيف ص50 ( ونحن ننبه على أمور كلية يُعرف بها كون الحديث موضوعاً ) إلى أن قال ص66 ( ومنها أحاديث العقل , كلها كذب ... وقال أبو الفتح الأزدي : لا يصح في العقل حديث , قاله أبو جعفر العقيلي وأبو حاتم ابن حبان , والله أعلم )

وقد نقل الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري نقولاً عن جماعة من السلف إثبات الصفات من غري تشبيه أو تحريف أو تعطيل , وختم ذلك بكلام نفيس له , ومما قاله 13/407-408 ( وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال ( كان سفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون , ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف ) . قال أبو داود ( وهو قولنا ) . قال البيهقي ( وعلى هذا مضى أكابرنا )

وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال ( اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير , فمن فسر شيئا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفارق الجماعة , لأنه وَصفَ الربِّ بصفة لا شيء ) .

ومن طريق الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث ابن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة ؟ فقالوا ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) .

وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يقول ( لله أسماء وصفات , لايسع أحداً ردُّها , ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر , وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل , لأن علمَ ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر , فنثبت هذه الصفات , وننفي عنه التشبيه , كما نفى عن نفسه فقال " لَيسَ كَمِثلِِهِ شيءٌ " ) .

وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري , عن سفيان بن عيينة قال ( كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوتُ عنه ) .

ومن طريق أبي بكر الضُّبَعي قال ( مذهب أهل السنة في قوله " الرحمنُ عَلَى العَرشِ استَوَى " قال بلا كيف , والآثار عن السلف كثيرة , وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل ) .

وقال الترمذي في الجامع عَقب حديث أبي هريرة في النُزول ( وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه , كذا قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ) .

وقال في باب فضل الصدقة ( قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم , ولا يُقال كيف , كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمَروها بلا كيف , وهذا قولُ أهل العلم من أهل السنة والجماعة , وأما الجهمية فأنكروها , وقالوا هذه تشبيه . وقال إسحاق بن راهويه : إنما يكون التشبيه لو قيل يدٌ كيدٍ , وسمعٌ كسمعٍ ) .

وقال في تفسير سورة المائدة ( قال الأئمة : نؤمن بهذه الأحاديث من غير تفسير , منهم : الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك ) .

وقال ابن عبدالبر ( أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة , ولم يُكيفوا شيئاً منها , وأما الجهمية والمعتزلة والخوراج فقالوا : من أقر بها فهو مشبه , فسماهم من أقر بها مُعطلة ) .

وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية ( اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر , فرأى بعضهم تأويلها , والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن , وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظاواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى , والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة , للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة , فلو كان تأويل هذه الظواهر حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة , وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التاويل كان ذلك هو الوجه المتبع ) انتهي

وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار , كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم , كذا من أخذ عنهم من الأئمة , فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة , وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة .

وما جاء في كلام الجويني من أن السلف يُفوضون معاني الصفات إلى عز وجل غير صحيح , فإنهم يفوضون في الكيف , ولا يفوضون في المعني , كما جاء عن مالك رحمه الله , فقد سئُل عن كيفية الاستواء فقال ( الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة )

وإلى اللقاء مع الفائدة الثانية بإذنه تعالى
 
رسالة جميلة و تعليقات دانية

رسالة جميلة و تعليقات دانية

السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

جزاك الله خيراً و أحسن إليك

فلكم أتحفتنا بفوائدكم

وهذا مذهب أهل السنة : التفصيل في الإثبات لصفات الله سبحانه و تعالى ، و النفي المجمل كذلك .
وقد يكون ورد شيئ غير هذا في تلك الرسالة فلننظر مرة أخرى ، و إن كان هذا بيِّن ، لكن الذكرى بأصول المذهب السلفي في هذا الباب مهمٌ للغاية

شكر الله لكم مرةً أخرى .
ثم إنني أتسائل
ما أخبار ملتقى أهل القرآن !!
زادنا الله وإياك شرفا به
 
وإياك أخي العزيز عبدالله وإن شاء الله نكون عند حسن الظن

وبالسنبة لملتقى أهل القرآن فهو كأي منتدى لا يقوم إلا نشاط أعضائه وهو بغير والحمد لله , وسيكون فيه شيء من التطوير إن شاء الله

أخوك في الله : أبوخطاب العوضي
 
الفائدة الثانية :
وسَطية أهل السنة والجماعة في العقيدة بين فرق الضلال


أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسطٌ بين الأمم , فإن اليهود والنصارى متضادون فاليهود جفوا في الأنبياء حتى قتلوا من قتلوا منهم , والنصارى غلوا في عيسى عليه السلام , فجعلوه إلهاً مع الله , وهذا من أمثلة تضادهم في الاعتقاد , ومن أمثلة تقابلهم في الأحكام أن اليهود لا يؤاكلون الحائض ولا يُجالسونها والنصارى بضدهم فإنهم يجامعونها .

وكما أن هذه الأمة وسط بين الأمم , فإن أهل السنة والجماعة وسطٌ بين فرق هذه الأمة , فهم :
أولاً : وسطٌ في صفات الله بين المعطلة والمشبهة , فإن المشبهة أثبتوا ولكنهم شبهوا ومثلوا , وقالوا : لله يدٌ كأيدينا , ووجه كوجوهنا , وهكذا , تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
وأما المعطلة فإنهم صوروا أن الإثبات يستلزم التشبيه , ففروا من الإثبات إلى التعطيل , تنزيهاً لله عن مشابهة المخلوقين بزعمهم , لكن آل أمرهم إلى أن وقعوا في تشبيه أسوأ , وهو التشبيه بالمعدومات فإنه لا يُتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات .
وأما أهل السنة والجماعة , فإنهم توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء فأثبتوا بلا تشبيه , ونزهوا بلا تعطيل , كما قال عز وجل ( ليسَ كملِهِ شيءٌ وهو السميع البصير ) , فأثبتوا لله السمع والبصر كما أثبت الله ذلك لنفسه , فلم يُعطلوا ومع إثباتهم نزهوا ولم يُشبهوا , فالمشبهة عندهم الإثبات والتشبيه , والمعطلة عندهم التعطيل والتنزيه , وأهل السنة عندهم الإثبات والتنزيه فجمعوا الحسنيين : الإثبات والتشبيه , وسلِموا من الإساءتين : التشبيه والتعطيل , والمعطلة يصفون أهل السنة زوراً أنهم مُشبهة , لأنهم لم يتصوروا إثباتاً إلا مع التشبيه , وأهل السنة يصفون المعطلة بأنهم نافون للمعبود , قال ابن عبدالبر في التمهيد 7/145 ( وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوراج , فكلهم يُنكرونها , ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة , ويزعمون أن من أقر بها مشبه , وهم عند من أثبتها نافون للمعبود ) .

ونقله عنه الذهبي في العلو ص1326 وعلق عليه قائلاً (صدق والله ! فإن من تأول سائر الصفات وحمل ما ورد منها مجاز الكلام , أداه ذلك السلب إلى تعطيل الربِّ , وأن يشابه المعدوم , كما نُقل عن حماد بن زيد أنه قال : مثل الجهمية كقوم قالوا : في دارنا نخلة , قيل : لها سعف ؟ قالوا : لا , قيل : فلها كَرَب ؟ قالوا : لا , قيل : لها رُطب وقِنو ؟ قالوا : لا , قيل : فلها ساق ؟ قالوا : لا , قيل : فما في داركم نخلة ! ) .

والمعنى أنه من نفى الله الصفات , فإن حقيقة أمره نفيُ المعبود , إذ لا يُتصور وجود ذات مجردة من جميع الصفات .

ولهاذ قال ابن القيم في المقدمة التي بين يدي قصيدته النونية (فالمشبه بعيد صنماً , والمعطل يعبدُ عدماً , والموحِّد يعبدُ إلهاً واحداً صمداً , " ليسَ كملِهِ شيءٌ وهو السميع البصير " ) .

وقال أيضاً (قلبً المعطل متعلقٌ بالعدم , فهو أحقر الحقير , وقلبُ المشبه عابدٌ للصنم الذي قد نُحت بالتصوير والتقدير , والموحد قلبُه متعبدٌ لمن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .

ثانيا : وهم وسطٌ في أفعال العباد بين الجبرية الغلاة الذين ينفون عن العبد الاختيار , ويجعلون أفعاله كحركات الأشجار , وبين القدير النفاة الذين يجعلون العبد خالقاً لفعله , وينفون تقدير الله عليه , فأهل السنة يثبتون للعبد مشيئتةً واختياراً , بهما يستحق الثواب والعقاب , لكن لا يجعلونه مستقلاًّ في ذلك , بل يجعلون مشيئته وإرادته تابعةً لمشيئة الله وإرادته , كما قال الله عز وجل ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) , وهو سبحانه وتعالى خالقُ العباد وأفعال العباد , كما قال عز وجل ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) .

ثالثاً : وهو وسطٌ في باب الوعد والوعيد بين المرجئة الذي غلبوا جانب الوعد وأهملوا جانب الوعيد , فقالوا : إنه لا يضر مع الإيمان ذنب , كما لا ينفع مع الكفر طاعة , والخوارج والمعتزلة الذين غلبوا جانب الوعيد وأهملوا جانب الوعد , فجعلوا مرتكب الكبيرة خارجاً من الإيمان في الدنيا , خالداً مخلداً في النار في الآخرة , فأهل السنة والجماعة أعمَلوا نصوص الوعد ونصوص الوعيد معاً , وجعلوا مرتكب الكبيرة ليس خارجاً من الإيمان في الدنيا , وفي الآخرة أمره إلى الله , إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه , وإذا عذبه فإنه لا يخلده في النار كما يخلدُ فيها الكافر , بل يخرج منها ويدخل الجنة .

رابعاً : وهم وسطٌ في باب أسماء الإيمان والدين بين المرجئة الذين فرطوا , فجعلوا العاصي مؤمناً كامل الإيمان , وبين الخوارج والمعتزلة الذين أفرطوا فأخرجوه من الإيمان , ثم حكمت الخوارج بكفره , وقالت المعتزلة (إنه في منزلة بين المنزلتين ) فأهل السنة وصفوا العاصي بأنه مؤمنٌ ناقص الإيمان , فلم يجعلوه مؤمناً كامل الإيمان , كما قالت المرجئة , ولم يجعلوه خارجاً من الإيمان كما قالت الخوارج والمرجئة , بل قالوا (هو مؤمن بإيمانه , فاسقٌ بكبيرته ) فلم يعطوه الإيمان المطلق , ولم يسلبوا عنه مطلق الإيمان , ويجتمع في العبد إيمانٌ ومعصيةٌ وحب وبغض , فيُحب على ما عنده من الإيمان , ويُبغض على ما عنده من الفسوق والعصيان , وهو نظير الشيب الذي يكون محبوباً إذا نظر إلى ما بعده وهو الموت , وغير محبوب إذا نظر إلى ما قبله وهو الشباب , كما قال الشاعر :
الشيبُ كـرهٌ وأن نفـارقه *** فاعْجب لشيءٍ على البغضاء محبوب

خامساً : وهو وسطٌ بين الخوارج الذين كفروا عليا ومعاوية رضي الله عنهما ومن معهما وقاتلوهم واستحلوا أموالهم , وبين الروافض الذين غلوا في علي وفاطمة وأولادهما رضي الله عنهم , وجفوا في حق أكثر الصحابة , فأبغضوهم وسبوهم , فأهل السنة يحبون الصحابة جميعاً ويوالونهم ويُنزلونهم منازلهم ولا يقولون بعصمتهم , وقد قال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم , ولا نتبرأ من أحدٍ منهم , ونبغض من يبغضهم , وبغير الخير يذكرهم , ولا نذكرهم إلا بخير , وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ , وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيان )

ففي قوله رحمه الله (ونحب أصحاب رسول الله ) سلامة أهل السنة من الجفاء , وفي قوله (ولا نفرط في حب أحد منهم ) سلامتهم من الغلو , أي : ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلسنا جُفاة , ومع حبنا لهم فلسنا غلاة .

وقد أجمل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الأمور التي أهل السنة والجماعة فيها وسط بين فرق الضلال , في كتابه العقيدة الواسطية فقال ص107-113 ( فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة , وهو وسطٌ في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم , وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم , وفي باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحرورية والمعتزلة , وبين المرجئة والجهمية , وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج )

وإلى اللقاء إن شاء الله مع الفائدة الثالثة
 
كلامٌ جميل

كلامٌ جميل

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أهلاً أبا خطاب

بالمناسبة فقد صدر كتاب جديد عن وسطية أهل السنة في باب القدر

للدكتور الفاضل ، و الباحث المحرر / عواد المعتق ، صدر ضمن رسائل متعددة عن عقيدة أهل السنة و الجماعة

و الدكتور - عواد - معروفٌ بالتحرير و التدقيق ، و قول مايعتقده بصورةٍ واضحةٍ ملتزماً مذهب أهل السنة في هذا الباب .

تحياتي مرةً اخرة لك أبا خطاب
و أمنياتي للجميع بالتوفيق .
أخوك عبد الله
 
أخي العزيز عبدالله الخضيري أرجوا بأن تراجع بريدك الخاص

أخي العزيز عبدالله الخضيري أرجوا بأن تراجع بريدك الخاص

الفائدة الثالثة :
عقيدة أهل السنة والجماعة مطابقة للفطرة


روى البخاري في صحيحه 1385 , ومسلم في صحيحه 2658 – واللفظ للبخاري – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يُولد على الفطرة , فأبواه يُهوادته أو ينصرانه أو يمجسانه ... ) الحديث .

وفي صحيح مسلم 2865 من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه ( ... وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم , وإنهم أتتهم الشاطين فاجتالتهم عن دينهم , وحرمت عليهم ما أحللت لهم , وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ) الحديث .

وهذان الحديثان يدلان على أن دين الإسلام هو دين الفطرة , وعقيدة أهل السنة والجماعة مطابقةٌ للفطرة , ولهذا جاء في حديث معاوية بن الحكم السمي رضي الله عنه في صحيح مسلم 537 في قصة جاريته , وفيه أنه قال ( أفلا أعتقها ؟ قال ائتني بها , فأتيته بها , فقال لها : أين الله ؟ قالت : في السماء , قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله , قال : اعتقها فإنها مؤمنة ) .

فهذه الجارية بفطرتها أجابت بأن الله في السماء , وقد قال الله عز وجل ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ) , والمراد بالسماء العلو , أو تكون ( في ) بمعنى ( على ) كما في قوله تعالى ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل ) أي : على جذوع النخل .

وأما الذين لتبلوا بعلم الكلام , فإنهم يقولون ( إن علو الله عز وجل علو قدر وقهر ) , وأهل السنة والجماعة يقولون ( إن علو الله عز وجل علو قدر وقهر وذات ) وقد جاء عن بعض المتكلمين وغيرهم عباراتٌ تدل على أن السلامة والنجاة إنما هي في عقيدة العجائز المطابقة للفطرة , وقد نقل شارح الطحاوية عن أبي المعالي الجويني كلاماً ذم فيه علم الكلام , وقال فيه عند موته ( وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي , أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور )

وفي ترجمة الرازي – وهو من كبار المتكلمين – في لسان الميزان 4/427 ( وكان مع تبحره في الأصول يقول : من التزم دين العجائز فهو الفائز ) .

وقال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين في نصيحته لمشايخه من الأشاعرة 1/185 – مجموعة الرسائل المنيرية ( فمن تكون الراعية أعلم بالله منه لكونه لا يعرف وجهة معبوده , فإنه لا يزال مظلم القلب , لا يستنير بأنوار المعرفة والإيمان ) .

وروى ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح على شرط مسلم 5/374 عن جعفـر بن بُرقان قـال ( جاء رجلٌ إلى عمر بن عبدالعزيز فسأله عن شيء من الأهواء , فقال : الزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي , واْلهُ عما سوى ذلك ) وعزاه إليه النووي في تهذيب الأسماء واللغات 2/22 .

وإلى اللقاء مع الفائدة الرابعة إن شاء الله تعالى
 
الفائدة الرابعة
الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات , والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر


أهل السنة والجماعة يُثبتون كل ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله , من غير تكييف أو تمثيل , ومن غير تعطيل أو تأويل , ويقولون لِمن أثبت الذات ونفى الصفات وهم الجهمية والمعتزلة ( إن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات , فكما أننا نُثبت لله ذاتاً لا تُشبه ذوات المخلوفات , فيجب أن نثبت كل ما ثبت في الكتاب والسنة من الصفات دون أن يكون فيها مشابهةٌ للمخلوقات ) , ويقولون لمن أثبت بعض الصفات وأول بعضها وهو الأشاعرة ( القولُ في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر , فإن ما أثبت من الصفات على وجهٍ يليق بالله عز وجل , يلزمك الباقي على هذا الوجه اللائق بالله ) , وانظر توضيح هذين الأصلين في كتاب التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ص31-46

وإلى اللقاء مع الفائدة الخامسة إن شاء الله
 
الفائدة الخامسة
السَّلفُ ليسوا مُؤوِّلةً ولا مُفوِّضة


من المعلوم أن سلف هذه الأمة من الصحابة وتابعيهم بإحسان يثبتون لله ما أثبته لنفسه , وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات , على وجه يليق بكماله وجلاله , فلا يُشبهون ولا يُعطلون ولا يُكيفون , بخلاف طريقة الخلف , التي هي التأويل لصفات الله عز وجل وصرفها إلى معان باطلة , وبخلاف طريقة المفوضة , التي زعم المؤولة أنها طريقة السلف , والتي يقولون فيها عن صفات الله عز وجل ( الله أعلم بمراده بها ) , وقد أوضح عقيدة السلف في الصفات الإمام مالك رحمه الله في كلامه المشهور لما سُئل عن كيفية الاستواء , فقال ( الاستواءُ معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة )

فهم لا يفوضون في المعنى , وإنما يفوضون في الكيفية , ومن زعم أن طريقة السلف من الصحابة ومن تبعهم تفويض في معاني الصفات , فقد وقد في محاذير ثلاثة هي : جهله بمذهب السلف , وتجهيله لهم , والكذب عليهم .
أما جهلة بمذهب السلف , فلكونه لا يعلم ما هو عليه , وهو الذي بينه الإمام مالك في كلامـه المتقدم .

وأما تجهيله لهم , فذلك بنسبتهم إلى الجهل , وأنهم لا يفهمون معاني ما خوطبوا به , إذ طريقتهم على زعمه في الصفات أنهم يقولون ( الله أعلم بمراده بها )

وأما الكذب عليهم , فإنما هو بنسبة هذا المذهب الباطل إليهم , وهو برآءُ منه .


وإلى اللقاء مع الفائدة السادسة إن شاء الله تعالى
 
الفائدة السادسة
كلِّ من المشبهة والمعطلة جمعوا بين التمثيل والتعطيل


المعطلة هم الذين نفوا صفات الله عز وجل , ولم يُثبتوها على ما يليق بالله , وشُبهتُهم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه , لأنهم لم يتصوروا الصفات إلا وفقاً لما هو مشاهد في المخلوقين , فجرهم ذلك التصور الخاطئ إلى التعطيل , فكان ما وقعوا فيه أسوأ مما فروا منه , إذ كانت النتيجة أن يكون الله تعالى وتنَزَّه شبيهاً بالمعدومات , إذ لا يُتصور وجود ذات خالية من الصفات .

ويتضح ذلك في صفة كلام الله عز وجل , فإنهم لم يتصوَّروا من إثبات أن الله يتكلم بحرف وصوت إلا التشبيه بالمخلوقين , لأنه يلزمُ من ذلك أن يكون كلامه بلسان وحنجرة وشفتين , لأنهم لا يعقلون ذلك إلا في المخلوقين , وذلك التصور الخاطئ مردودٌ من وجوه :

الأول : أنه لا تلازم بين الإثبات والتشبيه , فإن الإثبات يكون مع التشبيه , وهو باطلٌ لا شك فيه , ويكون مع التنزيه , كما قال الله عز وجل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) فأثبت السمعَ والبصر , ونفى مشابهة غيره له , وهذا هو اللائق بكمال الله وجلاله , وهو الحق الذي لا ريب فيه .

الثاني :
أن ما زعموه من أن الإثبات يقتضي التشبيه , ومن أجله عطلوا الصفات , أداهم ذلك إلى التشبيه بالمعدومات , وهو أسوأ , وقد مر في كلام بعض أهل العلم ما يبين ذلك , لا سيما ما عزاه الذهبي إلى حماد بن زيد في التمثيل بالنخلة التي نفى أصحابها كل صفات النخـل عنها , وقيـل لهم ( إذا فما في داركم نخلة ! ) وذلك في الفائدة الثانية .

الثالث : أنه قد وجد في المخلوقات حصول الكلام على خلاف ما هو مشاهدٌ في المخلوقين , فإن ذراع الشاة التي وُضع فيه السم للرسول صلى الله عليه وسلم كلمته وأخبرته بأنها مسمومة كما في سنن أبي داود 4510 , 4512 .
وروى مسلم في صحيحه 2277 عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلمُ علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ) .

وهذا من كلام بعض المخلوقات في الدنيا , وأما في الآخرة , فقد قال الله عز وجل ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) , وقال ( وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

أفيقال : إن كلام الذراع والحجر والأيدي والأرجل لا يكون إلا بلسان وشفتين .

وإذا كانت هذه المخلوقات وُجد منها الكلام على وجه يخالف ما هو مشاهدٌ في المخلوقين , فإنه يجب إثبات الكلام لله عز وجل على وجه يليق بكماله وجلاله , دون أن يكون مشابهاً لأحد في خلقه .

وبهذا يتبين أن المعطلة جمعوا إلى التعطيل التشبيه , وأما المشبهة فإنهم أثبتوا الصفات لله عز وجل , لكن جعلوه فيها مشابهاً للمخلوقات , وقد أضافوا إلى كونهم مشبهةً التعطيل , وذلك أنهم لم يُثبتوا الصفات على وجه يليق بالله عز وجل , ويذلك كانوا معطلة .

وإلى اللقاء مع الفائدة السابعة إن شاء الله تعالى

وأعتذر على التأخر في طرح الفوائد المتبقية لفترة قليلة إن شاء الله , بسبب ضغط الدراسة والله المستعان
 
شكر الله لك

شكر الله لك

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أهلاً أبا خطاب

شكر الله لك

هل الفوائد - كامل المجموعة - موجودة على ملفات وورد

آمل بعثا أو إرسالها لي

مع تقديري لك

أمنياتي للجميع بالتوفيق .

أخوك عبد الله
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أعرف أخي الفاضل أني تأخرت في إكمال الموضوع ولكن ظروف العمل والدراسة منعتني من ذلك وإن شاء الله اجهز الموضوع لك وأرسله في أقرب وقت

وجزاك الله خيرا على المتابعة

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
الفائدة السابعة
متكلَّمون يَذمُّون علمَ الكلام ويُظهرون الحَيرة والنَّدم


عقيدة أهل السنة والجماعة مبنية على الدليل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه صحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم , فهي صافية نقية , واضحةٌ جلية , ليس فيها غموض ولا تعقيد , بخلاف غيرهم الذين عولوا على العقول , وتأولوا النقول , وبنوا معتقداتهم على علم الكلام المذموم , الذي بين أهله الذين ابتلوا به ما فيه من أضرار , وندموا على ما حصل منهم من شغل الأوقات فيه من غير أن يظفروا بطائل , ولا أن يصلوا إلى حقٍّ , وفي نهاية أمرهم صاروا إلى الحيرة والندم , فمنهم من وُفق لتركه واتباع طريقة السلف , وجاء عنهم عيبُ الكلام وذمه .

فأبو حامد الغزالي رحمه الله من المتمكنين في علم الكلام , ومع ذلك فقد جاء عنه ذمه , بل المبالغة في ذمه , ولا يُنبئك مثلُ خبير , جاء ذلك عنه في كتابه إحياء علوم الدين , حيث بين ضرره وخطره , فقال ص91-90 ( أما مضرَّته , فإثارةُ الشبهات وتحريك العقائد , وإزالتها عن الجزم والتصميم , فذلك مما يحصل في الابتداء , ورجوعها بالدليل مشكوك فيه , ويختلف فيه الأشخاص , فهذا ضرره في الاعتقاد الحق , وله ضررٌ آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة , وتثبيته في صدورهم , بحيث تنبعث دواعيهم , ويشتدُّ حرصُهم على الإصرار عليه , ولكن الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل )

إلى أن قال ( وأما منفعته , فقد يُظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه , وهيهّات , فليس في الكلام وفاء بهذا الطلب الشريف , ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف , وهذا إذا سمعته من محدِّث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداءُ ما جهلوا , فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين , وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام , وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود , ولعمري لا ينفكُّ الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور, ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام ) .

وقد نقل شارح الطحاوية عنه هذا الكلام وغيره في ذم الكلام ص236 , وقال ص238 ( وكلامُ مثلِه في ذلك حجة بالغة ) .

ثم بين شارح الطحاوية أن السلف كرهوا علم الكلام وذموه : ( لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق , ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة , وما فيه من علوم صحيحة , فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها , وأطالوا الكلامَ في إثباتها مع قلة نفعها , فهي لحمُ جَمل غث على رأس جبل وعر , لا سهل فيُرتقى , ولا سمين فيُنتقل , وأحسنُ ما عندهم فهو في القرآن أصحُّ تقريراً وأحسن تفسيراً , فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد ) .

إلى أن قال ( ومن المحال أن لا يحصل الشفاءُ والهدى والعلمُ واليقين من كتاب الله وكلام رسوله , ويحصلُ من كلام هؤلاء المتحيِّرين , بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل , ويتدبر معناه ويعقله , ويعرف برهانه ودليله , إما العقلي , وإما الخبري السمعي , ويعرف دلالته على هذا وهذا , ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة فيُقال لأصحابها : هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا , فإن أرادوا بها ما يُوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قُبل , وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُد ) .

وقال أيضاً ص243 ( قال ابن رُشد الحفيد – وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم – في كتابه تهافت التهافت " ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتدُّ به ؟ " , وكذلك الآمدي – أفضل أهل زمانه – واقفٌ في المسائل الكبار الحائر , وكذلك الغزالي رحمه الله انتهى آخرُ أمره إلى الوقوف والحيرة في المسائل الكلامية , ثم أعرض عن تلك الطرق , وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم , فمات والبخاري على صدره , وكذلك أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي , قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات :

نِهــاية إقـدام العقول عقالُ *** وغايةُ سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصلُ دنيانا أذَى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه : قيل وقالوا
فكم قـد رأينا من رجال ودولةٍ *** فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد عَلت شُرُفاتِها *** رجالٌ فزالوا والجبالُ جبالُ

لقد تأملت تلك الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية , فما رأيتها تشفي عليلاً , ولا تروي غليلاً , ورأيتُ أقربَ الطرق طريق القرآن , اقرأ في الإثبات ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) , ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ) , واقرأ في النفي ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) , ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) .ثم قال ( من جرَّب مثل تجربتي , عرف مثل معرفتي
)

وكذلك قال الشيخ أبو عبدالله محمد بن عبدالكريم الشهرستاني , إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم , حيث قال :

لعمري لقد طُفت المعاهد كلها *** وشيرتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعـا كفَّ حائر *** على ذقـن أو قارعاً سنَّ نادم


وكذلك قال أبوالمعالي الجويني رحمه الله ( يا أصحابنا ! لا تشتغلوا بالكلام , فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ مما اشتغلت به ) وقال عند موته ( لقد خضتُ البحر الخِضم , وخليتُ أهل الإسلام وعلومهم , ودخلتُ في الذي نَهوني عنه , والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته , فالويل لابن الجويني , وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي , أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور ) .

وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي – وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي – لبعض الفضلاء , وقد دخل يوماً فقال ( ما تعتقد ؟ قال : ما يعتقده المسلمون , فقال : وأنتَ مُنشرح الصدر لذلك مستيقن به ؟ أو كما قال , فقال : نعم , فقال : اشكر الله على هذه النعمة , لكنِّي – والله ! – ما أدري ما أعتقد , - والله ! – ما أدري ما أعتقد !- والله! – ما ادري ما أعتقد ! ) وبكي حتى أخضل لحيته .

وبن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق :

فيكَ يا أغلـوطة الفكَر *** حارَ أمري وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقول فما *** ربـحت إلا أذى السفر
فلحى الله الاُلَى زعموا *** أنَّك المعـروف بالنـظر
كذبـوا إن الذي ذكروا *** خـارجٌ عن قـوة البشر


وقال الخونجي عند موته ( ما عرفتُ مما حصلته شيئاً أن الممكن يفتقر إلى المرجِّح ) ثم قال ( الافقتارُ وصفٌ سلبيٌّ , أموت وما عرفتُ شيئاً ) .

وقال آخر ( أضطجع على فراشي , وأضع الملحفة على وجهي , وأقابل بين حُجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر , ولم يترجَّح عندي منها شيء )

إلى أن قال شارح الطحاوية ( وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز , فيُقر بما أٌروا به , ويُعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك , التي كان يقطع بها ثم تبين له فسادها , أو لم يتبين له صحتها , فيكونون في نهاياتهم – إذا سلموا من العذاب – بِمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب ) .

وكان أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين في حيرة واضطراب في صفات الله عز وجل , ثم صار إلى مذهب السلف , وألف رسالة نُصح لبعض مشايخه من الأشاعرة , وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/174-187 .


وأعتذر لجميع الأخوة على هذا الانقطاع الطويل وذلك بسبب الدراسة , وإن شاء الله سأحاول أن أكون معكم يومياً .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
الفائدة الثامنة
هل صحيح أنَّ أكثرَ المسلمين في هذا العصر أشاعرة ؟


الأشاعرة هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري , وهو علي بن إسماعيل المتوفى سنة 330هـ رحمه الله , وقد مر في العقيدة بثلاثة أطوار : كان على مذهب المعتزلة , ثم في طور بين الاعتزال والسنة , يثبت بعض الصفات ويؤول أكثرها , ثم انتهى أمره إلى اعتقاد ما كان عليه سلف الأمة , إذ أبان عن ذلك في كتابه الإبانة , الذي هو من آخر كتبه أو آخرها , فبين أنه في الاعتقاد على ما كان عليه إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره من أهل السنة , وهو إثبات كلّ ما أثبته الله لنفسه , وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات , على ما يليق بالله , من غري تكييف أو تمثيل , ومن غير تحريف أو تأويل , كما قال الله عز وجل ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .

والأشاعرة باقون على مذهبه الذي كان عليه قبل الانتقال إلى مذهب أهل السنة والجماعة , وقد اشتهر عند بعض الناس مقولةٌ أن الأشاعرة في هذا العصر يُمثلون 95% من المسلمين , وهذه المقولة غير صحيحة من وجوه :

الأول : أن إثبات مثل هذه النسبة إنما يكون بإحصاء دقيق يؤدي إلى ذلك وهو غير حاصل , وهي مجرد دعوى .

الثاني : أنه لو سُلم أنهم بهذه النسبة , فإن الكثرة لا تدل على السلامة وصحة العقيدة , بل السلامة وصحةُ المعتقد إنما تحصل باتباع ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة ومن سار على نهجهم , وليست باتباع معتقد توفي صاحبُه في القرن الرابع , وقد رجع عنه , وليس من المعقول أن يُحجب حق عن الصحابة والتابعين وأتابعهم , ثم يكون في اتباع اعتقاد حصلت ولادته بع أزمانهم .

الثالث : أن مذهب الأشاعرة إنما يعتقده الذين تعلموه في مؤسسات علمية , أو تعلموه من مشايخ كانوا على مذهب الأشاعرة , وأما العوام – وهم الأكثرية – فلا يعرفون شيئاً على مذهب الأشعرية , وإنما هم على الفطرة التي دل عليها اعتقاد الجارية في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه , وقد تقدم .

والعقيدة المطابقة للفطرة هي عقيدة أهل السنة والجماعة , وقد مـر إيضاح ذلك قريباً في الفائدة الثالثة .

وإلى اللقاء مع الفائدة التاسعة إن شاء الله تعالى
 
وإياك أخي الكريم

وإياك أخي الكريم

الفائدة التاسعة
عقيدة الأئمَّة الأربعة ومَن تفقَّه بمذاهبهم


من أئمة أهل السنة الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله , وعقيدتهم هي عقيدة السلف من الصحابة ومن سار على نهجهم .

وأما المشتغلون بالفقه بعدهم , فمنهم من يستفيد من علمهم في الفروع , ويُعول علي ما دلَّ عليه الدليل , أخذاً بوصايا الأئمة ا،فسهم , فإن كل واحد منهم جاء عنه الأمر باتباع الدليل , وتركِ قوله إذا كان الدليلُ على خلافه , وهؤلاء موافقون لهم في العقيدة .

ومنهم مَن يُقلدهم في مسائل الفروع , دون سعي إلى معرفة الراجح بالدليل , وهؤلاء منهم مَن يُوافقهم في العقيدة , وكثيرون منهم يتبعون مذهب الأشاعرة .

ومن أمثلة من تفقه في المذهب الحنفي وهو على عقيدة السلف الإمام أبوجعفر الطحاوي صاحب عقيدة أهل السنة والجماعة , وشارح هذه العقيدة علي بن أبي العز الحنفي , ومنهم في المذهب الشافعي عبدالرحمن ابن إسماعيل الصابوني , مؤلف عقيدة السلف و أصحاب الحديث , والذهبي صاحب كتاب العلو , وابن كثير صاحب التفسير , ومنهم في المذهب المالكي ابن أبي زيد القيرواني , وأبو عمر الطلمنكي , وأبو عمر بن عبدالبر , ومنهم في المذهب الحنبلي الإمام ابن تيمية , والإمام ابن القيم والإمام محمد بن عبدالوهاب .

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة كما في مختصره لابن الموصلي اثنين وأربعين وجهاً في إبطال قول من فسَّر الاستواء على العرش بالاستيلاء عليه , وذكر أن كثيراً من المالكية على منهج السلف في العقيدة فقال في 2/132-136 ( الوجه الثاني عشر : أن الإجماع منعقدٌ على أن الله سبحانه استوى على عرشه حقيقة لا مجازاً , قال الإمام أبو عمر الطلمنكي – أحد أئمة المالكية وهو شيخ أبي عمر بن عبدالبر – في كتابه الكبير الذي سماه " الوصول إلى معرفة الأصول " فذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم وأقوال مالك وأئمة أصحابه , ما إذا وقف عليه الواقفُ علمَ حقيقة مذهب السلف , وقال في هذا الكتاب : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز .

القول الثالث عشر : قال الإمام أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد في شرح حديث النزول " وفيه دليلٌ على أن الله تعالى في السماء على العرش فوق سبع سموات , كما قالت الجماعة وقرر ذلك " , إلى أن قال " وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسنة , والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز , إلا أنهم لا يُكيفون شيئاً من ذلك , ولا يُحدُّون فيه صفة مخصوصة , وأما أهل البدع الجمهية والمعتزلة والخوارج , فكلهم يُنكروها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة , ويزعمون أن من أقر بها مشبهٌ , وهم عند من أقر بها نافون للمعبود .

وقال أبو عبدالله القرطبي في تفسيره المشهور في قوله ( الرحمن على العرش استوى ) : هذه المسألة للفقهاء فيها كلام , ثم ذكر أقوال المتكلمين , ثم قال : وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك , بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق به في كتابه , وأخبرت به رسلُه , ولم يًنكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة , وإنما جهلوا كيفية الاستواء , كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول .

الوجه الرابع عشر : أن الجهمية لما قالوا إن الاستواء مجازٌ صرح أهل السنة بأنه مستوٍ بذاته على عرشه , وأكثرُ من صرح بذلك أئمة المالكية , فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه , وأشهرها الرسالة , وفي كتاب جامع النوادر , وفي كتاب الآداب , فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه , وصرح بذلك القاضي عبدالوهاب , وقال : إنه استوى بالذات على العرش , وصرح به القاضي أبوبكر الباقلاني وكان مالكيا , حكاه عنه القاضي عبدالوهاب نصا , وصرح به أبو عبدالله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى , فقال : ذكر أبو محمد الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير وأبي محمد بن أبي زيد وجماعة من شيوخ الفقه والحديث , وهو ظاهر كتاب القاضي عن القاضي أبي بكر نصا , وهو أنه سبحانه مستوٍ على عرشه بذاته , وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه .

قال : وهذا قول القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له , وهو قول أبي عمر بن عبدالبر , والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين , وقول الخطابي في شعار الدين .

وقال أبوبكر محمد بن موهب المالكي في شرح شرالة ابن أبي زيد : قوله إنه فوق عرشه المجيد بذاته , معنى ( فوق ) و ( على ) عند جميع العرب واحد , وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك , ثم ذكر النصوص من الكتاب والسنة واحنج بحديث الجارية وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها ( أين الله ؟ ) وقولها ( في السماء ) وحكمه بإيمانها , وذكر حديث الإسراء , ثم قال : وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين , فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم : أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها , قال الشيخ أبو محمد : إنه بذاته فوق عرشه المجيد , فتبين أن علوه على عرشه وفوقه إنما بذاته , إلا أنه بائنٌ مع جميع خلقه بلا كيف , وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته , لا تحويه الأماكن , لأنه أعظم منها , إلى أن قال : وقوله : على العرش استوى , إنما معناه عند أهل السنة على غير معنى الاستيلاء والقهر والغلبة والملك , الذي ظنت المعتزلة ومن قال بقولهم أنه معنى الاستواء , وبعضهم إنه على المجاز لا على الحقيقة , قال : ويُبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره , ما قد علمه أهل المعقول أنه لم يزل مستولياً على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها , وكان العرشُ وغيره في ذلك سواء , فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاءٌ وملكٌ وقهرٌ وغلبةٌ , قال : وذلك أيضاً يبين أنه على الحقيقة بقوله ( ومن أصدق من الله قيلا ) فلما رأى المصنفون إفراد ذكره بالاستواء غير الاستيلاء , فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز , لأنه الصادقُ في قيله , ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله , إذ ليس كمثله شيء , هذا لفظه في شرحه .

الوجه الخامس عشر : أن الأشعري حكى إجماع أهل السنة على بُطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء , ونحن نذكر لفظه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري , وحكاه قبله أبو بكر بن فوْرك وهو موجود في كتبه , قال في كتاب الإبانة وهي آخر كتبه قال :

( باب ذكر الاستواء ) إن قال قائلٌ : ما تقولون في الاستواء , قيل : نقول له : إن الله تعالى مستوٍ على عرشه , كمال قال تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) , وساق الأدلةَ على ذلك , ثم قال : وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن معني قوله ( الرحمن العرش استوى ) أنه استولى ملكَ وقهر , وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهلُ الحق , وذهبوا في الاستواء إلى القدرة , ولو كان هذا كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى , لأن الله تعالى قادرٌ على كل شيء والأرض والسموات وكل شيء في العالم , فلو كان الله مستوياً على العرش . بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستوياً على الأرض والحشوش والأنتان والأقدار , لأنه قادرٌ على الأشياء كلها , ولم نجد أحداً من المسلمين يقول إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية , فلا يجوزُ أن يكون معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلها , ووجبَ أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء , وهكذا قال في كتابه الموجز وغيره من كتبه
) .

وإلى اللقاء مع بقية الشرح إن شاء الله تعالى
 
اضافة بسيطة الى ما جاء ذكره أعلاه في ذلك العرض القيم والدقيق :

لم يتركز ابن أبي زيد القيرواني على هذه المسائل في مقدمته للرسالة فقط .
بل جاء في آخر الجزء الثالث لكتابه ( الذب عن مذهب مالك بن أنس في غير شيء من أصوله وبعض مسائله من فروعه وكشف ما لبس به بعض أهل الخلاف وما جهله من مخارج الأسلاف ) , مخطوط Chester Beatty وهو النسخة الفريدة للكتاب قد نسخها تلميذ المؤلف في سنة احدى وسبعين وثلاثمائة في حلقة ابن أبي زيد بالقيروان .
جاء في آخر الكتاب رد ابن أبي زيد على من قال بالقيروان بخلق القرآن .
وقبل وفاة الشيخ درس محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد المعافري هذا الكتاب على ابن أبي زيد وأخذ عنه أيضا رسالته المسماة بالاستظهار في الرد على البكرية ( أو الفكرية ) من طريق الاجازة .
أما كتاب الأمر والاقتداء بأهل المدينة , فهو أيضا كتاب يدخل في هذا الباب , فانه انتشر بين المشارقة برواية الأندلسيين في أواخر القرن الرابع على يد عبد الله بن الوليد الأندلسي الذي استوطن الاسكندرية وكان فيها من (سادات المغاربة ) وتوفي عام 488 بالقدس . ( ترتيب المدارك , ج 7 , ص 238 . )

هذا , ويذكر ابن أبي زيد كتبه الاقتداء في مقدمة كتاب النوادر والزيادات ( ج 1 , ص 4 ) , فما لا شك فيه أن هذه الكتاب تناول هذا الموضوع المذكور في هذه الرابط , اذ جاء ذكر الكتاب أيضا كما يلي :
الاقتداء بأهل السنة بأهل المدينة , وأيضا :
كتاب الأمر والاقتداء والنهي عن الشذوذ عن العلماء وايجاب وائتمام بأهل المدينة ( أنظر فهرسة ابن خير الاشبيلي , ص 246 ) .
ويتبين من هذه التفاصيل أن ابن أبي زيد باعتباره فقيها أكثر منه (متكلما) تناول هذه القضايا الحاسمة في رسائل مستقلة وخارج رسالته أيضا .
وقد اعتصم أهل السنة بالقيروان بالنهي عن القول بخلق القرآن وانفاء الرؤية وعن وصف صفات الله كما وصفتها المعتزلة في ذلك العصر .

تقديرا

موراني
 
الفائدة العاشرة
التأليف في العقيدة على منهج السلف :


المؤلفاتُ في العقيدة على منهج السلف كثيرةٌ جدا , منها مؤلفات مستقلة , ومنها مؤلفات تشتملُ على العقائد وغيرها . أما الكتب المشتملة على العقائد وغيرها فمثل صحيح البخاري فإنه يشتمل على سبعة وتسعين كتاباً , أولها كتاب الإيمان , وآخرها كتاب التوحيد , وبينهما كتبٌ أخرى , مثل كتاب القدر وكتاب الأنبياء وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة , ومثل صحيح مسلم ففيه كتاب الإيمان , وهو أول الكتب , وكتاب القدر وغير ذلك , وكذا كتاب السنن الأربعة وغيرها , تشتمل على كتب العقيدة بعضها باسم الإيمان , وبعضها باسم السنة مثل كتاب السنة في سنن أبي داود .

وأما المؤلفات المستقلة في العقيدة فتنقسم إلى قسمين :
مؤلفات على طريقة المتقدمين , ومؤلفات على طريقة المتأخرين .

أما المؤلفات التي على طريقة المتقدمين , فهي تعني غالباً بإيراد الأحاديث والآثار مسندة , وفيها أسماء يدخل تحتها عدة مسميات , كالإيمان , والسنة , والرد على الجهمية , فمن المؤلفات باسم الإيمان : الإيمان لأبي بكر بن أبي شيبة , ولأبي القاسم بن سلام , ولابن أبي عمر العدني , ولابن منده , وغيرها .

ومن المؤلفات باسم السنة : السنة لمحمد بن نصر المرروزي , ولابن أبي عاصم , ولعبدالله بن الإمام أحمد , وللاّلكائي , وللخلال , ولابن شاهين , وأصول السنة لابن أبي زمنين , وشرح السنة للمزني وللبربهاري , والمختار في أًصول السنة لابن البنا .

ومن المؤلفات بسام الرد على الجهمية : الردّ على الجهمية للإمام أحمد , ولعثمان بن سعيد الدارمي , ولابن منده .

وهناك مؤلفات أخرى , كالتوحيد لابن خزيمة , والتوحيد لابن منده , والشريعة للآجري , والحُجة في بيان المحجّة لإسماعيل الأصبهاني , وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني , وخلق أفعال العباد للبخاري , والعرش لابن أبي شيبة , والقدر للفرياني , والعظمة لأبي الشيخ , والرؤية والنزول والصفات كلها للدارقطني , وتعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي , والبعث والنشور لأبي داود , وصفة الجنة والإمامة والرد على الرافضة كلاهما لأبي نعيم , وذم الكلام وأهله للهروي , والإبانة الكبرى لابن بطة .

وللمتقدمين والمتأخرين مؤلفات تشتمل على مسائل العقيدة باختصار من دون أسانيد , ككتاب السنة لأحمد , وعقيدة أهل السنة والجماعة للطحاوي , ومقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني , وصريح السنة لابن جرير الطبري , واعتقاد أهل السنة لأبي بكر الإسماعيلي , والإبانة الصغرى لابن بطة , والإبانة لأبي الحسن الأشعري , وعقيدة الحافظ عبدالغني , ولمعة والعلو كلاهما لابن قدامة , والعقيدة الواسطية والتدمرية والحموية كلها لابن تيمية .

وأما المؤلفات على طريقة المتأخرين , فهي تُعنى بإيراد الآيات والأحاديث والآثار والرد على المخالفين في كل موضوع على حده .

وعند ذكر الأحاديث والآثار يعزونها إلى كتب المؤلفين المتقدمين المسندة , فيُقال : رواه البخاري ومسلم وأبو داود , دون أن يذكروا شيئاً من الأسانيد , مثل الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار ليحيى العمراني , وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي , ومنهاج السنة ودرء تعارض العقل والنقل والإيمان كلها لابن تيمية , والعلو للذهبي , واجتماع الجيوش الإسلامية وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح والصواعق المرسلة علىالجهمية والمعطلة كلها لابن القيم , ومختصر الواعق المرسلة لمحمد بن الموصلي , وكتاب التوحيد للشيخ محمد عبدالوهاب , وشرحه تيسير العزيز الحميد لحفيده سليمان بن عبدالله , وشرحه الفتح المجيد لحفيده الشيخ عبدالرحمن بن حسن .

وما ذكرته من الكتب تمثيل وليس استقصاء .

وأما غَمز بعض المبتدعة بعضَ السنة لاشتمالها على أحاديث ضعيفة أو موضوعة فمردودٌ , وذلك أن عادة المحدثين إذا أسندوا الأحاديث فقد أحالوا المشتغلين بالعلم إلى أسانيدها للنظر فيها , وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 4/15 أن عادة المحدثين أنهم يروون جميع ما في الباب لأجل المعرفة بذلك , وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه , وذكر أيضاً أن المحدث يروي ما سمعه كما سمعه والدَّرك على غيرهلا عليه , وأهل العلم ينظرون في ذلك , وفي رجاله وإسناده وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان 3/75 ( أكثرُ المحدثين في الأعصار الماضية من سنة مائتين جرّا إذا ساقوا الحديثَ بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدتنه , والله أعلم ) .

يتبع إن شاء الله تعالى
 
نصُّ مقدِّمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني
من طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة


باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات

من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ أنَّ الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيرُه , ولا شبيهَ له , ولا نَظيرَ له , ولا وَلَدَ له , ولا وَالِدَ له , ولا صاحبة له , ولا شريكَ له .

ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ , ولا لآخِريّتِه انقضَاءٌ , لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون , ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ , يَعتَبِرُ المتفَكَّرونَ , بآياته , ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ( 1 ) ذاتِه , ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض , ولايِؤُوده حفظُهما وهو العليُّ العَظيمُ .

العالِمُ( 2 ) الخبيرُ , المُدَبِّرُ القَديرُ , السَّمِيعُ البصيرُ , العَلِيُّ الكَبيرُ , وَانَّه فوقُ عَرشه المجيد بذاته , وهو في كلِّ مَكان بعِلمه .

خَلَقَ الإنسانَ , ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه , وهو أَقَرَبُ إليهِ من حَبْلِ الوَريدِ , وما تَسْقُطُ إلاَّ يَعلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَات الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلا يابِس إلاَّ في كتاب مُبين .

على العرشِ استْوَى , وعَلى المُلْكِ احْتَوى , وله الأسماء الحُسنى والصِّفاتُ العُلى , لَم يَزَل بِجَميعِ صفاتهِ وأسمائِه , تَعالى أن تكون صفاتُه مَخلوقَةً , وأسماؤُه مُحْدَثَةً .

كلَّ موسى بكلامِه الَّذي هو صفةُ ذاتِه , ولا خلْقٌ مِن خَلقه , وَتَجَلَّى للجَبَل فصار دَكاًّ مِن جلالِه , وأنَّ القرآنَ كلامُ الله , وليس بمخلُوقٍ فَيبِيدُ , ولا صفة لمخلوقٍ فَيَنْفَدُ .

والإيمانُ بالقدَرِ خَيْرِه وشَرِّه , حُلْوِهِ وَمُرِّهِ , وكلُّ ذلك قَد قّدَّرَهُ اللهُ رَبُّنا , ومقاديرُ الأمورِ بيدِه , ومَصدَرُها عن قضائِه .

عَلِمَ كلَّ شيْءٍ قَبل كَونِه , فجَرَى على قَدَرِه , لا يَكون مِن عِباده قَولٌ ولا عَملٌ إلاَّ وقدْ قَضَاهُ وسبق عِلْمُه به , ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) .

يُضلُّ مَن يشاء , فيَخْذُلُه بعدْلِه , ويُهدي مَن يَشاء , فَيُوَفِّقُه بفضلِه , فكَلٌّ مُيَسَّرٌ إلى ما سَبَقَ مِن علمه وقَدَؤِه , مِن شقِيٍّ أو سعيدٍ .

تعالَى أن يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يُريد , أو يكون لأَحَد عنه غنِىً خالقاً لكلِّ شيءٍ , ألاَ هو( 3 ) رَبُّ العباد ورَبُّ أعمالِهم , والمُقَدِّرُ لِحَركاتِهم وآجالِهم .

الباعثُ الرُّسُل إليهِم لإقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم .

ثُمَّ خَتَمَ الرِّسالة والنَّذَارَةَ والنُّبُوَةَ بمحمَّد نَبيَّه صلى الله عليه وسلم( 4 ) فجَعَلَه آخرَ المرْسَلين , بَشِيراً ونَذِيراً , وداعياً إلى الله يإذنِه وسِراجاً منيراً , وأنزَلَ عَليه كتابِه الحَكِيمَ , وشَرَحَ به دينَه القَويمَ , وهّدّى به الصِّرَاطَ المستَقيمَ .

وأنَّ الساَّعة َ آتَية ٌلا رَيْبَ فيها , وأنَّ الله يَبعَثُ مَن يَموتُ , كما بدأهم يعودون .

وأنَّ الله سبحانه وتعالَى ضاعَفَ لعباده المؤمنين الحسَنات , وصَفَحَ لهم بالتَّوبَة عن كبائرِ السيَّئات , وغَفَرَ لهم الصَّغائِرَ باجْتناب الكبائِر , وجَعَلَ مَن لَم يَتُبْ مِنَ الكبائر صَائراً إلى مَشيئتِه ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) .

ومَن عاقَبَه اللهُ بنارِه أخرجه مِنها بإيمانِه , فأدخَلَه به جَنَّتَه ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) ويُخرِجُ منها بشفاعة النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَن شَفَعَ لَه مِن أهلِ الكبائِر مِن أمَّتِه .

وأنَّ الله سبحانه قد خَلَقَ الجَنَّةَ فأَعَدَّها دارَ خُلُود لأوليائِه , وأكرَمهم فيها بالنَّظر إلّى وَجْهْه الكريم , وهي الَّتِي أَهْبَطَ منها آدَمَ نبِيَّه وخلِيفَتَه إلى أَرضِه , بما( 5 ) سَبَقَ فِي سابِق عِلمِه .

وخَلَقَ النَّارَ فأعَدَّها دَارَ خُلُود لِمَن كَفَرَ به وألْحد في آياتِه وكتُبه ورُسُلِه , وجَعَلَهم مَحجُوبِين عن رُؤيَتِه .

وأنَّ الله تبارك وتعالى يَجيءُ يَومَ القيامَةِ وَالمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ , لِعَرْضِ الأُمَمِ وَحِسَابِهَا وثَوابِها , وتُوضَعُ الموازِين لَوَزْنِ أَعْمَالِ العِبَادِ , فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأولئك هم المُفلِحون , ويُؤْتَوْنَ صَحائِفهم بأعمَالِهم , فمَن أُوتِي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً , ومَن أُوتِي كتابَه ورَاء ظَهْرِه فأولئِك يَصْلَوْنَ سَعيراً .

وأنَّّ الصَّرَاطَ حَقًّ , يَجُوزُه العبادُ بِقَدْرِ أعمالِهم , فناجُون مُتفاوِتُون في سُرعَة النَّجاةِ عليه مِن نار جَهَنَّم , وقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فيها أعمالُهم .

والإيمانُ بِحَوْضِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم , تَرِدُهُ أمَّتُهُ لاَ يَظْمَأُ مَ شَرب مِنه , ويُذَادُ عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ .

وأنَّ الإيمانَ قَولٌ باللّسانِ , وإخلاَصٌ بالقلب , وعَمَلٌ بالجوارِح , يَزيد بزيادَة الأعمالِ , ويَنقُصُ بنَقْصِها( 6 ) , فيكون فيها النَّقصُ وبها الزِّيادَة , ولا يَكْمُلُ قَولُ الإيمانِ إلاَّ بالعمل , ولا قَولٌ وعَمَلٌ إلاَّ بنِيَّة( 7 ) , ولا قولٌ وعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلاَّ بمُوافَقَة السُّنَّ .

وأنَّه لا يكفرُ أَحدٌ بذَنب مِنْ أهْل القِبلَة .

وأنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ عند ربِّهم يُرْزَقونَ , وأرْواحُ أهْل السَّعادَةِ باقِيةٌ ناعِمةٌ إلى يوم يُبْعَثون , وأرواحُ أهلِ الشَّقاوَةِ( 8 ) مُعَذَّبَةٌ إلى يَوم الدِّين .

وأنَّ المؤمنِين يُفْتَنُونَ في قُبُورِهم ويُسْأَلُون ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ) .

وأنَّ على العباد حَفَظَةً يَكتُبون أعمالَهم , ولا يَسقُطُ شيْءٌ مِن ذلك عَن عِلمِ ربِّهِم , وأنَّ مَلَكَ الموتِ يَقْبِضُ الأرواحَ بإذن ربِّه .

وأنَّ خيْرَ القرون القرنُ الَّذين رَأَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم , وآمَنوا به , ثمَّ الَّذين يَلُونَهم ثمَّ الَّذين يَلونَهم .

وَأفْضَلُ الصحابة( 9 ) الخُلَفاءُ الرَّاشدون المَهْديُّون , أبو بكر ثمَّ عُمر ثمَّ عُثمان ثمَّ عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين .

وأن لاَ يُذكَرَ أَحَدٌ مِن صحابَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ بأحْسَن ذِكْرٍ , والإِمساك عمَّا شَجَرَ بَينهم , وأنَّهم أحَقُّ النَّاس أن يُلْتَمَسَ لَهم أَحَسَن المخارج , ويُظَنَّ بهم أحْسن المذاهب .

والطَّاعة لأئمَّة المسلمين مِن وُلاَة أمورِهم( 10 ) وعُلمائهم , اتِّباعُ السَّلَفِ الصَّالِح واقتفاءُ آثارِهم , والاستغفارُ لهم , وتَركُ المراءِ والجِدَالِ في الدِّين , وتَركُ ما أَحْدَثَهُ المُحْدِثُونَ .

وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد ]نبيِّه[( 11 ) وعلى آله وأزواجهِ وذريته , وسلَّّم تَسليماً كثيراً .

ـــــــــــــــــــــ

1 ) في نسخة ( مائية )
2 ) في نسخة ( العليم )
3 ) في نسخة ( إلا هو )
4 ) في نسخة ( محمد صلى الله عليه وسلم )
5 ) في نسخة ( لِما )
6 ) في نسخة ( بنقص الأعمال )
7 ) في نسخة ( وأنه لا قول ولا عمل إلا بنية )
8 ) في نسخة ( الشقاء )
9 ) في نسخة ( أصحابه )
10 ) في نسخة ( أمرهم )
11 ) ما بين المعقوفين زيادة في نسخة
 
نظم مقدِّمة الرِّسالة

للشيخ أحمد بن مشرَّف الأحسائي المالكي المتوفى سنة 1285 هـ
نقلاً من ديوانه ص17


الحمـدُ لله حمـداً ليـس مُنحصرا *** علـى أياديـه مـا يخفى وما ظهرَا
ثم الصـلاةُ وتسليمُ المهمـينِ مـا *** هـبَّ الصبَّـا فأدرَّ العـارضَ المَطرَا
على الذي شـاد بنيانَ الهُدى فسَما *** وسـاد كلَّ الَورَى فخـراً ومـا افتخرَا
نبيِّنـا أحمـد الهـادي وعَتْرتـه *** وصحبِـه كلِّ مَن آوى ومـن نصـرَا
بعدُ فالعلـمُ لم يظفـر بـه أحـدٌ *** إلاَّ سَمَـا وبأسبـاب العُلـى ظفـرَا
لا سيـما أصـل علم الدِّين إنّ َ به *** سعـادةَ العبـد والمنْجَى إذا حُشـرَا

باب ما تعتقدُه القلوب وتنطق به الألسن من واجب أمور الديانات

وأولُ الفـرض إيـمانُ الفـؤاد كذا *** نُطـقُ اللِّسـانِ بما في الذِّكر قد سُطرَا
أنَّ الإلـهَ إلـهٌ واحـدٌ صَمـد *** فـلا إلـه سـوى مَـن للأنام بـرَا
ربُّ السموات والأرضين ليس لنـا *** ربٌّ سـواه تعـالى مَـن لنـا فطـرَا
وأنـهُ موجـدُ الأشيـاء أجمعهـا *** بـلا شريـك ولا عـَونْ ولا وُزرَا
وهـو المـُنزه عـن ولـد وصاحبة *** ووالـد وعـن الأشبـاه والنُّظـرَا
لا يبلغـن كُنْه وصفـة الله واصفـُه *** ولا يحيـط بـه علـماً مَن افتكـرَا
وأنــَّه أوَّل بـاق فليـس لـه *** بـدءٌ ولا منتهـى سبحـان من قدرَا
حـيٌّ عليـم ٌ قديـرٌ والكـلام له *** فرد ٌ سميـعٌ بصـيرٌ ما أراد جـرَى
وأنَّ كرسـيـَّه قــد وسـعـَا *** كلَّ السمـوات والأرضـين إذ كـبرَا
ولم يـزل فوق ذاك العـرش خالقُنا *** بذاتـه فاسـأل الوحـيين والفـطرَا
إنَّ العـلوَّ بـه الأخبارُ قد وردتْ *** عـن الرَّسـول فتابِع مَـن رَوى وقرَا
فالله حق على المُلك احتوى وعلى الـ *** ـعرش استوى وعن التكييف كُن حَذِرَا
والله بالعلـمِ في كـلِّ الأماكـن لا *** يخفـاه شـيءٌ سميـعٌ شـاهدٌ ويرَى
وأنَّ أوصافَـه ليسـت بمُحدَثـة *** كـذاك أسمـاؤه الحُسـنى لِمَـن ذكرَا
وأن تنـْزيلَـه القـرآنَ أجمعَـه *** كلامُـه غيرُ خلـق أعـجـز البشـرَا
وحْـيٌ تكـلّـَم مولانا القديمُ بـه *** ولم يـزل مـن صفـات الله مُعْتـبرَا
يُتلَـى ويُحمل حفظاً في الصدور كما *** بالحـظِّ يُثبِتُه فـي الصُّحـف مَن زَبَرَا
وأن موسـى كليمُ الله كلَّمـه *** إلهـهُ فـوق ذاك الطـور إذ حضـرَا
فالله أسمعـه مـِن غـير واسطـة *** مـن وصفـه كلمـات تحتـوي عِبـرَا
حتى إذا هـام سُكـراً في محبَّتـه *** قال الكليـم : إلَهـي أسـأل النَّظـرَا
إليـك . قال له الرحمـن موعظة *** أنَّـي تـرانِي ونـوري يُدهـشُ البصرَا
فانظر إلى الطور إن يثبت مكانته *** إذا رأى بعضَ أنـواري فسوف ترَى
حـتى إذا تَجلى ذو الجـلال له *** تصدَّع الطورُ من خَوف وما اصطبرَا

فصل في الإيمان بالقدر خيره وشرِّه

وبالقضـاء و بالأقـدار أجمعهـا *** إيمانُنـا واجـبٌ شرعـاً كمـا ذكـرَا
فكـلُّ شـيء قضـاه الله من أزَل *** طرًّا وفي لوحـه المحفـوظ قد سطرَا
وكلُّ ما كان من همٍّ و من فَرح *** ومـن ضلال و من شكران مَن شكرَا
فـإنَّـه مـن قضـاء الله قـدَّره *** فـلا تكـن أنـت مِمَّن ينكـر القدرَا
والله خالقُ أفعـال العبـاد و مـا *** يجـري عليهـم فعـن أمر الإلَه جرَا
ففـي يديـه مقاديـر الأمـور و عن *** قضائه كلُّ شيء في الورى صدرَا
فمَن هَدى فبمحض الفضل وفَّقه *** و من أضلَّ بعدل منه قد كفـرَا
فليـس في مُلكه شيءٌ يكون سوى *** مـا شاءه الله نفعـاً كـان أو ضررَا

فضلٌ في عذاب القبر وفتنته

و ل م تَمُــت قطُّ من نفس وما قُتلت *** مـن قبـل إكمالها الرِّزق الذي قُدرَا
وكـلُّ روح رسـولُ الموت يقبضُها *** بــإذن مـولاه إذ تستكمـل العُمُرَا
وكـلُّ من مـات مسئـولٌ ومفتتنٌ *** مـن حـين يـوضعُ مقـبرواً ليُختـبرَا
و أنَّ أرواحَ أصحـاب السعـادة في *** جنَّـات عدن كـطير يعـلق الشَّجَرَا
لكنَّمـا الشُّهـَدا أحيا و أنفسهـم *** في جـوف طير حسان تُعجب النَّظَرَا
وأنَّها في جنان الخلـد سـارحةٌ *** مـن كـلِّ ما تشتهي تجني بها الثَّمرَا
وأنَّ أرواح من يشـقى مـعذَّبةٌ *** حتَّـى تـكون مـع الجُثمـان في سَقَرَا

[SIZE=3فضل في البعث بعد الموت [/SIZE]

وأنَّ نفــخةَ إسـرافيـلَ ثانيـة *** في الصُّـور حـقٌّ فيـحيى كلُّ مَن قُبرَا
كما بدا خلقهم ربِّي يُعيـدُهـم *** سبحان من أنشأ الأرواحُ و الصُّوَرَا
حـتى إذا ما دعا للجمع صارخُه *** و كلُّ ميْت من الأموات قد نُشرَا
قـال الإلَه : قِفـوهم للسؤال لكي *** يقتـصَّ مظلُـومُهم مِـمَّن له قَهَرَا
فيوقَفـون ألـوفـاً مـن سنـينهـمُ *** والشمـسُ دانيـةٌ والرَّشْحُ قـد كثُرَا
وجـاء ربُّك و الأمـلاكُ قـاطبـة *** لهـم صفـوفٌ أحاطـت بالورى زُمرَا
وجيء يومئــذ بالنـار تسحبُـها *** خزانهـا فأهـالـت كـلَّ مَن نظرَا
لها زفيرٌ شديدٌ من تغيظها *** على العُصاة وترمي نحوهم شرَرَا
ويرسل الله صُحف الخلق حاويةً *** أعمالَهم كلَّ شيء جلَّ أو صغُرَا
فمَن تلقَّته باليمنى صحيفتُه *** فهْو السَّعيد الذي بالفوز قد ظفرَا
ومن يكن باليد اليسرى تناوُلها *** دعا ثُبوراً وللنيران قد حُشرَا
ووزنُ أعمالهم حقٌّ فإن ثقلت *** بالخير فاز وإن خفَّت فقد خسرَا
وأنَّ بالمثل تُجزى السيَّئات كما *** يكون في الحسنات الضِّعف قد وفرَا
وكلُّ ذنب سوى الإشراكِ يغفرُه *** ربِّي لِمَن شا وليس الشركُ مُغتفرَا
وجنَّة الخُلد لا تفنى وساكنُها *** مخَّلدٌ ليس يخشى الموتَ والكبرَا
أعدهَّا اللهُ داراً للخلود لِمَن *** يخشى الإلَهَ وللنَّعماء شمسَ الظهر والقمرَا
كذلك النارُ لا تفنى وساكنُها *** أعدهَّا الله مولانا لمَن كفرَا
ولا يخلد مَن يوَحِّدُه *** ولو بسفك دم المعصوم قد فَجَرَا
وكم يُنجي إلَهي بالشفاعة مِنْ *** خير البريِّة من عاص بِها سجرًا

فصل في الإيمان بالحوض

وأنَّ للمصطفى حوضاً مسافتُه *** ما بين صَنْعَا وبُصرَى هكذا ذكرَا
أحلَى من العصل الصافي مذاقتُه *** وأنَّ كِيزَانَه مثلُ النجوم تُرَى
ولم يَرِدْه سوى أتباع سُنَّته *** سيماهم : أن يُرى التَّحجيل والغُرَرَا
وكم يُنحَّى ويُنفَى كلُّ مبتدع *** عن وِرْدِه ورجالٌ أحدثوا الغيرَا
وأن جسراً على النِّيران يَعبُرُه *** بسرعة مَن لمنهاجِ الهُدى عبَرَا
وأنَّ إيْمَانَنا شرعاً حقيقتُه *** قصدٌ وقولٌ وفعلٌ للذي أمرَا
وأنَّ معصيةَ الرحْمن تُنقصُه *** كما يزيد بطاعات الذي شَكَرَا
وأنَّ طاعةَ أولي الأمر واجبةٌ *** من الهُداة نجوم العلم والأُمرَا
إلاَّ إذا أمروا يوماً بمعصية *** من المعاصي فيُلغى أمرهم هَدَرَا
وأنَّ أفضلَ قرن للَّذين رأوا *** نبيَّنا وبهم دينُ الهُدى نُصرَا
أعِني الصحابةَ رُهبانٌ بليلهمُ *** وفي النهار لدى الهّيْجَا لُيوث شَرَى
وخيرُهم مَن ولِي منهم خلافته *** والسَّبق في الفضل للصِّدِّيق معْ عُمَرَا
والتابعون بإحسان لهم وكذا *** أتباع أتباعهم مِمَّن قفى الأثَرَا
وواجبٌ ذِكرُ كلّ من صحابته *** بالخير والكفُّ عمَّا بينهم شَجَرَا
فلا تخُض في حروب بينهم وقعت *** عن اجتهاد وكنْ إن خُضتَ معتذِرَا
والاقتداءُ بهم في الدِّين مفتَرَضٌ ** فاقَتد بهم واتَّبع الآثار والسُّوَرَا
وتركُ ما أحدثه المُحدِثون فكم *** ضلالة تبعت والدِّين قد هُجِرَا
إنْ الهُدى ما هدى الهادي إليه وما *** به الكتاب كتاب الله قد أمَرَا
فلا مراء وما في الدِّين من جدلِ *** وهل يُجادل إلاَّ كلُّ مَن كفرَِا
فهاك في مذهب الأسلاف قافيةً *** نظماً بديعاً وجيزَ اللَّفظ مختصرًا
يحوي مهمّات باب في العقيدة من *** رسالة ابن أبي زيد الذي اشتهرَا
والحمد لله مولانا ونسأله *** غفران ما قلَّ من ذنب وما كثرَا
ثمَّ الصلاةُ على مَن عمَّ بعثته *** فأنذر الثَّقلين الجنّ والبَشَرَا
ودينُه نَسَخ الأديانَ أجمَعَها *** وليس يُنْسَخُ ما دام الصَّفَا وحرَا
محمد خير كلِّ العالَمين *** ختم النبيِّين والرُّسل الكرام جَرَا
وليس من بعده يوحَى إلى أحد *** ومن أجاز فحَلَّ قتلُه هَدَرَا
والآلُ والصَّحبُ ما ناحت على فنَن *** وَرْقَا ومَا غرَّدت قُمْريّة سَحَرَا
 
1- قوله ( باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات

من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ أنَّ الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيرُه , ولا شبيهَ له , ولا نَظيرَ له , ولا وَلَدَ له , ولا وَالِدَ له , ولا صاحبة له , ولا شريكَ له )


عقد ابنُ أبي زيد القيرواني رحمه الله , هذا البابَ في مقدمة رسالته بالفقه , لأنه لَم يجعل التأليف في العقيدة مستقلاًّ , بل أتي به تحت هذا الباب في مقدمة رسالته , فصارت رسالتُه في الفقه , جمعت بين الفقهين : الفقه الأكبر , وهو ما يتعلق بالعقيدة التي لا مجال فيها للاجتهاد , وفقه الفروع , الذي فيه مجال للاجتهاد .

وما ذكره من التنصيص على قول اللِّسان واعتقاد القلب بين يدي هذه العقيدة , لأن ما يعتقدُ مطلوبٌ فيه أن يكون في القلب , وأن يكون على اللِّّسان , ولا يقال : إنه لم يذكر الأعمال , فيُشابه مرجئة الفقهاء , لأنه قد ذكر في المقدمة أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والعمل .

وكلامُ ابن أبي زيد رحمه الله , هذا مشتملٌ على إثبات ألوهية الله وحده , وعلى النفي لأمور سبعة : نفيُ الإلهية عن غيره , ونفي التشبيه , ونفي النظير , ونفي الولد , ونفي الصاحبة , ونفيُ الشريك .

فقوله ( أن الله واحدٌ لا إله غيره ) مأخوذ من قوله تعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )وهو مشتملٌ على بيان أن الله وحدَه هو الإلهُ الحق الذي يجب أن تُفرد له العبادة وأن لا يكون لغيره نصيبٌ منها , ولهذا الأمر العظيم أرسل اللهُ الرسل وأنرل الكتب , كما قال الله عز وجل ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) , وقال ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) , وقال ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) , فالله خلق الخلق , وأرسل الرسل , وأنزل الكتب لأمرهم بعبادته وحده , وترك عبادة غيره , وهذا النوع من التوحيد – وهو توحيد الألوهية , وهو إفراد الله بالعبادة – هو أحدُ أنواع التوحيد الثلاثة , التي هي توحيد الألوهية وتوحي
 
1- قوله ( باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات

من ذلك الإيمانُ بالقلب والنُّطقُ أنَّ الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيرُه , ولا شبيهَ له , ولا نَظيرَ له , ولا وَلَدَ له , ولا وَالِدَ له , ولا صاحبة له , ولا شريكَ له )


عقد ابنُ أبي زيد القيرواني رحمه الله , هذا البابَ في مقدمة رسالته بالفقه , لأنه لَم يجعل التأليف في العقيدة مستقلاًّ , بل أتي به تحت هذا الباب في مقدمة رسالته , فصارت رسالتُه في الفقه , جمعت بين الفقهين : الفقه الأكبر , وهو ما يتعلق بالعقيدة التي لا مجال فيها للاجتهاد , وفقه الفروع , الذي فيه مجال للاجتهاد .

وما ذكره من التنصيص على قول اللِّسان واعتقاد القلب بين يدي هذه العقيدة , لأن ما يعتقدُ مطلوبٌ فيه أن يكون في القلب , وأن يكون على اللِّّسان , ولا يقال : إنه لم يذكر الأعمال , فيُشابه مرجئة الفقهاء , لأنه قد ذكر في المقدمة أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والعمل .

وكلامُ ابن أبي زيد رحمه الله , هذا مشتملٌ على إثبات ألوهية الله وحده , وعلى النفي لأمور سبعة : نفيُ الإلهية عن غيره , ونفي التشبيه , ونفي النظير , ونفي الولد , ونفي الصاحبة , ونفيُ الشريك .

فقوله ( أن الله واحدٌ لا إله غيره ) مأخوذ من قوله تعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )وهو مشتملٌ على بيان أن الله وحدَه هو الإلهُ الحق الذي يجب أن تُفرد له العبادة وأن لا يكون لغيره نصيبٌ منها , ولهذا الأمر العظيم أرسل اللهُ الرسل وأنرل الكتب , كما قال الله عز وجل ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) , وقال ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) , وقال ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) , فالله خلق الخلق , وأرسل الرسل , وأنزل الكتب لأمرهم بعبادته وحده , وترك عبادة غيره , وهذا النوع من التوحيد – وهو توحيد الألوهية , وهو إفراد الله بالعبادة – هو أحدُ أنواع التوحيد الثلاثة , التي هي توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .

فتوحيد الألوهية : توحيد الله بأفعال العبد , كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر , وغيرها من أنواع العبادة , كلها يجب على العباد أن يخصوا الله تعالى بها , وأن لا يجعلوا له فيها شريكاً .

وتوحيد الربوبية : هو توحيد الله بأفعاله , كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتصرف في الكون , وغير ذلك من أفعال الله التي هومختصٌّ بها , لا شريك له فيها .



وتوحيد الأسماء والصفات : هو إثباتُ ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الاسماء والصفات على وجه يليق بكمال الله وجلاله , من غير تمثيل أو تكييف , ومن غير تحريف أو تعطيل .

وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسنة , ويتضح ذلك بأول سورة في القرآن وآخر سورة , فإن كلا منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة .

فأما سورة الفاتحة فإن الآية الأولى فيها , وهي ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) مشتملةٌ على هذه الأنواع , فإن ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) فيها توحيد الألوهية , لأن إضافة الحمد إليه من العباد عبادة , وفي قوله ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إثبات توحيد الربوبية , وهو كون الله عز وجل رب العالمين , والعالَمون , هم كل من سوى الله , فإنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوق , والله الخالق , وكل من سواه مخلوق , ومن أسماء الله الرب .

وقوله ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) مشتمل على توحيد الأسماء والصفات , والرحمن الرحيم اسمان من أسماء الله يدُلان على صفة من صفات الله , وهي الرحمة , و أسماءُ الله كلها مشتقةٌ , وليس فيها اسم جامد , وكل اسم من الأسماء يدل على صفة من صفاته .

و ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فيه إثبات توحيد الربوبية , وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة , وإنما خصَّ يوم الدين بأن الله مالكُه , لأن ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميع لرب العالمين , بخلاف الدنيا , فإنه وُجد فيها من عتا وتَجبر , وقال ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى )

وقوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فيه إثباتُ توحيد الألوهية , وتقديم المفعول وهو ( إِيَّاكَ ) يُفيد الحصرَ , والمعنى : نخصكَ بالعبادة والاستعانة , ولا نشرك معك أحداً .

وقوله ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) فيه إثبات الألوهية , فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الدعاءُ العبادة ) فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديه المستقيم الذي سلكه النبيون والصدِّيقون والشهداء والصحون , هم أهل التوحيد ويسأله أن يُجنبه طريق المغضوب عليهم والضالين , الذين لم يحصل منهم التوحيد , بل حصل منهم الشرك بالله وعبادةُ غيره معه .

وأما سورة الناس فقوله تعالى ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة , فإن الاستعاذة بالله من توحيد الألوهية .

و ( بِرَبِّ النَّاسِ ) فيه إثبات الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات , وهو مثل قول الله عز وجل في الأول الفاتحة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

وقوله ( مَلِكِ النَّاسِ ) فيه إثبات الربوبية والأسماء والصفات .

و ( إِلَهِ النَّاسِ ) فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات .

والنسبة بين أنواع التوحيد الثلاث هذه أن يقال ( إن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية , وتوحيد الألوهية متضمن لهما ) والمعنى أن من أقر بالألوهية فإنه يكون مقرا بتوحيد الربوبية وبتوحيد الأسماء والصفات , لأن مَن أقر بأن الله هو المعبود وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها , لا يكون منكراً بأن الله هو الخالق الرازق المُحيي المميتُ , وأن له الأسماء والصفات العُلى .

وأما من أقر بتوحيد الألوهية , وقد أقر الكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربوبية , فلم يُدخلهم هذا الإقرار في الإٍسلام , بل قاتلهم حتى يعبدوا الله وحده لا شريك له , ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبية الذي أقر به الكفار , لإلزامهم بتوحيد الألوهية , ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )

ففي كل آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبية للإلزام بتوحيد الألوهية , فيقول في كل آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبية ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) والمعنى أن مَن تفرد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده , يجبُ أن يُخص بالعبادة وحده , لأن مَن اختص بالخلق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يجب أن يُخص بالعبادة وحده , وكيف يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عدماً , وقد أوجدها الله , كيف يُعقل أن يكون لها نصيب من العبادة وهي مخلوقةٌ لله ؟! .

ثم إنه لا بد لقبول العبادة والعمل الصالح من توفر شرطين :

أحدهما : أن يكون العمل لله خالصاً , والثاني : أن يكون لسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم موافقاً .

فلا بد من تجريد الإخلاص لله وحده , ولا بد من تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم فلو وُجد العمل مبنيا على سُنة وفُقد شرط الإخلاص لم يُقبل , لقول الله عز وجل ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ) , ولو وُجد العملُ خالصاً لله لكنه لم يُبنَ على سُنة , بل بُني على البدع والمحدثات فإنه مردودٌ على صاحبه , لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) وفي لفظ لمسلم ( من عملا عملاً ليس عليه أمرٌنا فهو رد ) أي : مردود عليه غير مقبول منه .

ولا يُقال : إن العمل إذا كان خالصاً لله , ولم يكن مبنياًّ على سُنته , وكان قصدُ صاحبه حسناً أنه محمود ونافعٌ لصاحبه , ومِما يدل على ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال للصحابي الذي ذبح أُضحيته قبل صلاة العيد ( شاتُك شاةُ لحم ) , فلم يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أُضحية , لأنها ذُبحت قبل ابتداء وقت الذبح الذي يبدأ بعد صلاة العيد , والحديث أخرجه البخاري ( 5666 ) ومسلم ( 1961 ) وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح 10/17 ( قال الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة : وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنةً لم يصح , إلا إذا وقع على وفق الشرع ) .

وفي سنن الدارمي 1/68-69 : أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقف على أناس في المسجد مُتحلقين وبأيديهم حصى ’ يقول أحدهم ( كبروا مائة , فيُكبرون مائة , فيقول : هللوا مائة , فيُهللون مائة, فيقول : سبحوا مائة , فيُسبحون مائة , فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا : يا أبا عبدالرحمن ! حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح , قال : فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيعَ من حسناتكم شيءٌ , ويْحكم يا أمى محمد ! ما أسرع هلكتكم ! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم , متوافرون وهذه ثيابُه لن تَبلَ , وآنيته لم تُكسر , والذي نفسي بيده إنكم لعلى مِلةٍ هي أهدى من مِلة محمد صلى الله عليه وسلم , أو مفتتحو باب ضلالة ؟! قالوا : والله يا أبا عبدالرحمن ! ما أردنا إلا الخير , قال : وكم من مريد للخير لن يصيبه ) . وهذا الأثر أورد الألباني في السلسلة الصحيحة رقم ( 2005 ) .

وقل ابن أبي زيد رحمه الله ( أن الله إلا واحد لا إله غيره ) هو معنى كلمة الإخلاص ( لا إله إلا الله ) وهي مشتملةٌ على نفي عام وإثبات خاص فالنفي العام نفي العبادة عن كل مَن سوى الله , والإثبات الخاص إثباتها لله وحده , و ( لا ) نافيةٌ للجنس , وخبرها محذوفٌ تقديرُه : حقٌّ , والمقصود نفيُ وجود إله بحق سوى الله , وإلا فإن الآلهة بالباطل موجودةٌ وكثيرةٌ , وقد ذكر الله عن الكفار أنهم قالوا ( أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) .

والجملة الأولى من جُمل النفي السبع في كلام ابن أبي زيد ( لا إله غيره ) تأكيد لقوله ( أن الله إلهٌ واحد ) وختمها بقوله ( ولا شريك له ) , لبيان أن العبادة يجب أن تكون خالصة لله , وألا يكون له شريك في أي نوع من أنواع العبادة , والله تعالى واحدٌ في ربوبيته , وواحدٌ في ألوهيته , وواحدٌ في إسمائه وصفاته , وفلم يُشاركه أحدٌ في ألوهيته , فهو مستحق للعبادة دون من سواه , ولم يُشاركه أحد في ربوبيته , وفهو سبحانه وحده الخالقُ المدبر ولم يُشاركه أحد في أسمائه وصفاته , لأن المعاني اللائقة بالله لا يُشاركه أحدُ من خلقه فيها .

وقوله ( ولا شبيه له ولا نظير ) أي : أن اله لا مِثل له ولا يُشبه أحدُ من خلقه , بل هو المتفرد بصفاته , قال الله عز وجل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) قال ابن كثير رحمه الله ( أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء , لأنه الفردُ الصمد الذي لا نظير له ) .

وهذه الآية أصلٌ في عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات , وهي الإثبات مع التنزيه , بخلاف المشبهة , فإن عندهم الإثبات مع التشبيه , وبخلاف المعطلة فإن عندهم التنزيه مع التعطيل , وأهل السنة أثبتوا الصفات , ونزهوها عن مشابهة المخلوقات .

وقوله ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) إثباتٌ لا سْمي السميع البصير , وهما يدلان على إثبات صفتي السمع والبصر .
وقوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) يدل على التنزيه , أي : أنه له سمعٌ لا كالأسماع , وبصرٌ لا كالأبصار .

وقال تعالى ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) قال ابن كثير رحمه الله ( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هل تعلمُ للربِّ مثلاً أو شبيهاً , وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جُبير وقتادة وابن جريج وغيرهم ) .

وقال الله تعالى ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) والكفو هو المثلُ والنظير , قال القرطبي في تفسيره 20/246 ( لم يكن له شبيهٌ ولا عدل , ليس كمثله شيء ) .

وكلمة ( أَحَدٌ ) جاءت في سياق النفي , فتكون عامةً في نفي كلِّ شبيه أو مثيل , وما جاء في تفسير ابن كثير من تفسير هذه الكلمة بالزوجة هو من قبيل التفسير بالمثال , وهذه الجملة من السورة مؤكدةٌ لما تقدم من الجُمل , ولا سيما الجملة الأولى , فهو سبحانه وتعالى أحدٌ , ولا يكون أحدٌ كفواً له .

وقوله ( ولا وَلَدَ له , ولا وَالِدَ له , ولا صاحبةَ له ) الصاحبةُ هي الزوجة , وقد جاء في القرآن نفي الولد والوالد والصاحبة عن الله عز وجل قال الله عز وجل ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) فنفى عنه الوالد والولد , ونفي عنه كل مثلٍ ونظير , ومنه الزوجة , وفي هذه السورة الكريمة إثباتُ أحديَّيه وصمديته , ونفيُ الأصول والفروع والنظراء عنه , فهو أحدٌ لا كُفء له , وهو صمدٌ لا ولد ولا والد له , والصمدُ هو الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجها , وهو الغنيُّ عن كل مَن سواه , المفتقرُ إليه كل من عَداه , فلكمال غناه لا يحتاجُ إلي الوالد والولد , ولكونه واحداً أحداً لا يكون أحدٌ له مثلاً ونظيراً , والوالد جاء نفيهُ في القرآن الكريم في هذه السورة في قوله تعالى ( وَلَمْ يُولَدْ ) وأما الولد فقد جاء نفيهُ عن الله في آيات كثيرة , وذلك أن اليهود يقولون : عزيرٌ ابن الله , والنصارى يقولون : المسيح ابن الله , والكفار الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الملائكة بنات الله , ومن ذلك قول الله عز وجل في البقرة ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) وقال في المؤمنون ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ ) وقال في مريم ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ) وغير ذلك من الآيات منها في النساء والأنعام والتوبة ويونس والإسراء والكهف والأنبياء والصافات والزخرف والجن .

وأما الصاحبة فقد جاء نفيُها عن الله عز وجل في القرآن مع نفي الولد عنه في قوله عز وجل ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ... ) وقوله في الجن ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً ) أي : تعالت عظمته .

وما جاء في كلام ابن أبي زيد - رحمه الله - من نفي الشبيه والنظير والوالد والولد والصاحبة هو نفيٌ على طريقة السلف , وهو نفيٌ متضمنٌ إثبات كمال الله عز وجل , فنفيُ الشبيه والنظير متضمنٌ إثبات كمال أحديته , ونفيُ الوالد والولد والصاحبة متضمن إثبات كمال غناه , وكل ما جاء في القرآن من نفي شيء من الله فإنه يتضمن إثبات كمال ضد ذلك المنفي , مثل قوله ( ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) فإنه دال على إثبات كمال قدرته , وكذا قوله ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) أي : من تعب , فهو متضمن إثبات كمال قدرته , ومثل قوله ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) وهو دال على إثبات كمال عدله , وقوله ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) فهو دال على إثبات علمه .

وهذا بخلاف النفي عند أهل الكلام , فإنه لا يدل على كمال , بل يُؤدي إلى تشبيه الله عز وجل بالمعدومات , وكما سبق إيضاح ذلك في الفائدة الثانية .

يتبع
 
ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ , ولا لآخِريّتِه انقضَاءٌ

كلام ابن أبي زيد هذا منتزعٌ من قول الله عز وجل ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وفي هذه الآية إثبات اسم ( الأول ) لله عز وجل , الذي يدلُّ على أن كل شيء آيلٌ إليه , واسم ( الآخر ) الدالُّ على بقائه ودوامه وآخريته , وقد جاء تفسير الأسماء في هذه الآية في حديث مشتمل على دعاء وفيه ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء , وأنتَ الآخر فليس بعدك شيء , وأنت الظاهر فليس فوقك شيء , وأنتَ الباطن فليس دونك شيء , اقْضِ عنَّا الدين وأغننا من الفقر ) أخرجه مسلم في صحيحه 2713 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

ومعنى قول ابن أبي زيد هذا أن الله لم يسبقه عدم , ولا يلحقه عدم , وأما المخلوقات فلها بداية سبقها عدم , ولها نهاية يلحقها عدم .

وأما ما جاء في نصوص الكتاب والسنة من بقاء الجنة والنار ودوامهما ودوام أهلهما فيهما , فلا يُنافي كونه سبحانه الآخرَ الذي ليس بعده شيء , لأن بقاءه لازم لذاته , بخلاف الجنة والنار ومن فيهما , فإنه مكتسبٌ قد شاءه الله وأراده , ولو لم يشأه لم يحصل ولم يقع , قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص629 ( وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما , بل بإبقاء الله لهما ) .

وقول ابن أبي زيد ( ليس لأَوَّلِيَّتِهِ ابتداءٌ , ولا لآخِريّتِه انقضَاءٌ ) أولى من قول الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة ( قديمٌ بلا ابتداء , دائمٌ بلا انتهاء ) لتعبيره بما يُطابق اسْمَي الله : الأول والآخر .
 
لا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الواصفون , ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ , يَعتَبِرُ المتفَكَّرونَ , بآياته , ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ ذاتِه

أهل السنة يصفون الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم , على ما يليق به سبحانه وتعالى , مع فهم المعنى والجهل بالكيف , فهُم يُثبتون الصفات ولا يبحثون عن كيفياتها , وهم مفوضةٌ بالكيف دون المعنى , كما جاء واضحاً في الأثر المشهور عن مالك رحمه الله عندما سئُل عن كيفية الاستواء فقال ( الاستواءُ معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة ) .

ومعنى كلام ابن أبي زيد أنه لا يستطيع أحدٌ أن يصف الله بما هو عليه , بأن يعرف كيفية اتصافه بالصفات , لأن ذلك من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو .

وقوله (ولاَ يُحيطُ بأمرِه المُتَفَكِّرونَ ) أمرُ الله منه ما هو كوني قَدري , ومنه ما هو ديني شرعي , فالكونيُّ مقل قول الله عز وجل ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) , والشرعي مثل قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ... ) .

وكل من الأمر الكوني والأمر الشرعي مشتملٌ على حكمة , فما قدره الله فلحكمة , وما شرعه الله فلحكمة , وقد يعلم العبادُ شيئاً من الحكم في الأمر الكوني القدري والأمر الشرعي , ولكنهم لا يحيطون بحكم الله في خلقه وشرعه , فإن الواجب الإيمان بالقدر , والاستسلامُ للأمر والنهي , سواء عرف العبادُ حكم ذلك لأم لم يعرفوها .

ولكنهم إذا عرفوا شيئاً من ذلك زاد إيمانهم ويقينهم , وإذا لم يعرفوا الحكمة في القدر والشرع فإن ذلك لا يثنيهم عن القيام بما هو واجب عليهم من الإيمان بالقدر والانقياد للأحكام الشرعية .

والذي اشتمل عليه كلام ابن أبي زيد رحمه الله نفيُ الإحاطة بالحكم والأسرار , لتعبيره (المُتَفَكِّرونَ ) وليس المقصود معرفة الأحكام الشرعية , فإن ذلك مطلوبٌ في العلم والعمل , لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ( ما نهيتكم عن فاجتنبوه , وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ) أخرجه البخاري 7288 , ومسلم 1327 .

وقوله (يَعتَبِرُ المتفَكَّرونَ بآياته ) آيات الله نوعان : شرعية وكونية , فالآيات الشرعية هي التي اشتمل عليها القرآن الكريم , والآيات الكونية آياته في خلقه كالليل والنهار , والشمس والقمر وغير ذلك ويدل للاعتبار بالآيات الشرعية قول الله عز وجل ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) , وقوله ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) وقوله ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) .

ويدل للاعتبار بالآيات الكونية قول الله عز وجل ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) , وقوله ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) وقوله ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) , وقوله ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) , وقوله ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وقوله (ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ ذاتِه ) الله عز وجل بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق , وقد مر في كلام ابن أبي زيد رحمه الله التفويض لكيفية الصفات , وأنه لا يبلغ كُنهَ صفته الواصفون , وكما أنه لا يجوز البحث في كيفية الصفات , فكذلك لا يجوز البحث في كيفية الذات , ولهذا قال (ولا يَتَفكَّرونَ في مَاهِيَةِ ذاتِه ) أي حقيقتها والكيفية الني هي عليها .
 
4- ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض , ولايِؤُوده حفظُهما وهو العليُّ العَظيمُ

هذه الجمل الأربع قطعةٌ من آية الكرسي المشتملة على عشر جمل ومثلها في الاشتمال على عشر جمل قول الله عز وجل ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) نبه على ذلك ابن كثير رحمه الله عند تفسيره هذه الآية من سورة الشورى .

قوله ( ولا يُحيطون بشيءٍ من عِلمه إلاَّ بِما شاء ) من صفات الله عز وجل العلم , وعلمُه محيطٌ بكل شيء كمال قال الله عز وجل ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) , أما المخلوقين فلا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه , كما قال ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) , وقال ( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) , وقال ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) , وأخبر الله عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ... ) , وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُخبر قومه أنه لا يعلم الغيب , فقال ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيّ ... ) , وقال ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وأخبر الله عن الملائكة أنههم ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) , وقال الله عز وجل ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) , وقال الله عن الجن ( وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ) , وقال ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) .

وأما السنة فقد جاء فيها أحاديث كثيرة تدل على بيان أمور لا يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم , مثل قصة الإفك , فإنه لم يعلم براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلا بعد نزول القرآن في براءتها في آيات تُتلى في سورة النور , ومثل قصة العِقْد الذي فقدته عائشة رضي الله عنها في إحدى سفراتها مع النبي صلى الله عليه وسلم , وقد بقول في منزلهم للبحث عنه , وانتهى ماؤهم , فأنزل الله إليه آية التيمم , وعند رحيلهم وُجد العقدُ تحت الجمل الذي تركب عليه عائشة رضي الله عنها .

قال ابن كثير عن تفسير آية الكرسي ( وقوله " وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ " أي : لا يطلع أحدٌ من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه , ويحتمل أن يكون المراد : لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه , كقوله " وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً " ) .

وقوله ( وَسِعَ كرْسِيُّه السَّموات والأرض ) الكرسي مخلوقٌ من مخلوقات الله , وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه موضع القدمين , كما في المستدرك للحاكم 2/282 , وقال ( إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ولم يتعقبه الذهبي , وفي إسناده عمار الدُّهني , وهو من رجال مسلم دون البخاري .

وانظر تخريجه في السلسة الضعيفة للشيخ الألباني 906 , والضعيف فيه هو المرفوع , وأما الأثر الذي جاء عن ابن عباس من تفسير الكرسي بالعلم , ففي إسناده جعفر بن أبي المغيرة , عن سعيد بن جبير , قال فيه الحافظ في التقريب ( صدوق يتهم) , وقال ابن منده في كتاب الرد على الجهمية ص45 ( لم يُتابع عليه جعفر , وليس بالقوي في سعيد بن جُبير ) , وأورده الذهبي في ترجمت جعفر في الميزان 1/417 , وقال ( وذكره ابن أبي حاتم وما نقل توثيقه , بل سكت ) , ونقل ما تقدم عن ابن منده .

وقال الطحاوي في عقيدة أهل السنة والجماعة ( والعرشُ والكرسيُّ حقَق ) .

وقوله ( ولايِؤُوده حفظُهما ) أي : لا يثقله ولا يشقُّ عليه , وهو نفي متضمن إثبات كمال قدرته , قال ابن كثير في تفسيره ( أي : لا يثقله ولا يكترثه حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما , بل ذلك سهلٌ عليه يسيرٌ لديه ) .

وقوله ( وهو العليُّ العَظيمُ ) اسمان من أسماء الله يدلان على صفتين من صفات الله , وهما العلو والعظمة , والله تعالى متصفٌ بالعلوِّ بأنواعه الثلاثة : علو القدر , وعلوُّ القهر , وعلوُّ الذات , وقد جاء اسم الله العليّ في القرآن مقترناً بثلاثة من أسماء الله , وهي العظيم , والحكيم , والكبير مع تقدمه عليها في الذكر .

فاقترانه بالعظيم كما هنا , وفي أول سورة الشورى .

واقترانه بالكبير كما في سورة النساء ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) , وفي سورتي الحج ولقمان ( وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .

واقترانه بالحكيم كما في آخر سورة الشورى ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .
 
ما شاء الله ( النووي ) :)

ما شاء الله ( النووي ) :)

5- العالِمُ الخبيرُ , المُدَبِّرُ القَديرُ , السَّمِيعُ البصيرُ , العَلِيُّ الكَبيرُ

العليم الخبير اسمان من أسماء الله يدلان على صفتي العلم والخبرة , وهما متقاربان في المعنى , وجاء في بعض النسخ ( العليم ) بدل ( العلِم ) , و ( العليم ) أولَى لأمرين :

الأول : أن ( العليم ) جاء في القرآن كثيراً مطلقاً غير مقيد , وأمَّا ( العالم ) فيأتي في القرآن مقيداً بعلم الغيب , كقوله تعالى ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) , وقوله ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض ) .

والثاني : أنه يأتي في القرآن كثيراً اقترانُ اسم ( العليم ) باسم ( الخبير ) مع تقدُّم اسم ( العليم ) كما قال الله عز وجل ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) , وقال ( قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) .

وقوله ( المُدَبِّرُ القَديرُ ) القدير اسمٌ من أسماء الله يدل على صفة من صفات الله , وهي القدرة , قال الله عز وجل ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) , وقدرة الله عامةٌ لكل شيء , قال الله عز وجل ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) , وقال ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) , وقال ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .

وأما المدبر على أنه من أسماء الله , وقد جاء وصف الله تعالى بالتدبير , كما قال الله عز وجل ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) , وقال ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) , والله سبحانه وتعالى المُدبر للأمر المتصرف في الكون كيف يشاء , لا إله إلا هو .

وقوله ( السَّمِيعُ البصيرُ ) السميع والبصير اسمان من أسماء الله يدلان على صفتين من صفات الله , وهما السمع والبصر , وسمع الله محيطٌ بكل المسموعات , وبصره محيطٌ بكل المرئيات , قال الله عز وجل ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) .

وفي هذه الآية الكريمة الجمعُ في وصف الله بالسمع بين الفعل الماضي والمضارع والاسم , وهذان الاسمان يأتيان مقرناً بينهما في كثير من آيات القرآن ,كقوله ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) , وقوله ( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) , وقوله ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) , وقوله ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

وقوله ( العَلِيُّ الكَبيرُ ) العلي الكبير اسمان من أسماء الله يدلان على صفتي العلو والكبر , والله تعالى عال على كل شيء قهراً وقدراً وذاتاً , وهو أكبرُ من كل كبير وأعظمُ من كل عظيم , والمخلوقات كلها حقيرةٌ أمام كبرياء الله وعظمته سبحانه وتعالى .

وقد مر قريباً أن اسم الله العلي يأتي مقترناً باسم الكبير , ومر ذكر بعضُ الآيات في ذلك , ومنها أيضاً قول الله عز وجل ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) .
 
6-وَانَّه فوقُ عَرشه المجيد بذاته , وهو في كلِّ مَكان بعِلمه ]


لما ذكر ابن أبي رحمه الله أن من أسماء الله العلي , وقد ذكره قريباً مقترناً باسم العظيم , وبسام الكبير , بين في هذا أن علو الله عز وجل وفوقيته على عرشه أنه علو بالذات , كما أنه علي بالقدر وعلي بالقهر . وإنما نص على علوه على عرشه بذاته لما وُجد من يقول ( إن علو الله علو قدر وعلو قهر , وأول علوه على عرشه باستيلائه عليه , وأنه ليس على العرش حقيقة بذاته ) فعبر بعلو الذات ردا على من قال ( إنه علو مجازي وليس بحقيقي ) وهذا نظير قول السلف عن القرآن إنه غير مخلوقٍ لما وُجد من يقول ( إنه مخلوق ) .

وأما قوله ( وهو في كلِّ مَكان بعِلمه ) فهو لنفي القول بالحلول والاتحاد , وهو أن الله حال في المخلوقات , متحد معها , مختلطٌ بها , فإن الله عز وجل الخالق , وكل ما سواه مخلوقٌ , والمخلوقات كلها كانت عدماً فأوجدها الله , ووجودها مباينٌ لوجودِ الله , وهو سبحانه وتعالى بائنٌ من خلقه , ليست المخلوقات حالة في الله , ولا الخالق حالا في المخلوقات .

ومعية الله فُسرت بأنها معيةٌ بالعلم , كما قال ابن أبي زيد القيرواني هنا , قال الله عز وجل ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فقد بُدئت هذه الآية بالعلم , وخُتمت بالعلم .

وفُسرت بأنها معية حقيقة , والمعنى أن الله فوق عرشه بذاته , وهو مع خلقه دون امتزاج أو اختلاط , فإن المخلوقات صغيرةٌ حقيرةٌ أما عظمة الله وكبريائه , والله عز وجل مع كونه فوق عرشه , فهو قريبٌ من عباده , قال شيخ الإٍسلام ابن تيمية في الواسطية ( وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمانُ بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه سلف الأمة , من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه , عليٌّ على خلقه , وهو سبحانه معهم أينما كانوا , يعلم ما هم عاملون , كما جمع بين ذلك في قوله " هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" , وليس معنى قوله " وَهُوَ مَعَكُمْ " أنه مختلطٌ بالخلق , فإن هذا لا توجبه اللغة , وهو خلاف ما أجمع عليه سلفُ الأمة , وخلاف ما فَطَرَ الله عليه الخلق , بل القمر آيةٌ من آيات الله , من أصغر المخلوقات , وهو موضوعٌ في السماء , وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان , وهو سبحانه فوق العرش , رقيبٌ على خلقه , مُهيمنٌ عليهم , مطلعٌ إليهم , إلى غير ذلك من معاني ربوبيته , وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه – من أنه فوق العرش وأنه معنا – حقٌّ على حقيقته , لا يحتاج إلى تحريف , لكت يُصانُ عن الظنون الكاذبة , مثل أن يُظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تُقله أو تُظله . وهذا باطلٌ بإجماع أهل العلم والإيمان , فإن الله قد وسع كرسيه السمـاوات والأرض , وهو الـذي يُمسك السمـاوات والأرض أن تزولا " وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " , " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِه " ) .

إلى أن قال ( وما ذُكر في الكتاب والسنة من قُربه ومعيته لا يُنافي ما ذُكر من علوه وفوقيته , فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته , وهو عليٌّ في دُنوه , قريبٌ في علوه ) .

ويشير شيخ الإسلام رحمه بالجملة الأخيرة وهي قوله ( علي في دنوه , قريب في علوه ) إلى ما جاء في حديث نزول الرب إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل , وحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم 1348 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة , وإنه ليدنو , ثم يُباهي بهم الملائكة , فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ) .
 
7- خَلَقَ الإنسانَ , ويَعلمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه , وهو أَقَرَبُ إليهِ من حَبْلِ الوَريدِ , وما تَسْقُطُ إلاَّ يَعلَمُها ولاَ حَبَّةٍ في ظُلُمَات الأرضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلا يابِس إلاَّ في كتاب مُبين


علم الله محيطٌ بكل شيء , فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون , وما لم يكن أن لو كان كيف يكون , كما قال الله عز وجل ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) , فأخبر عن أمر لا يكون , وهو رجوعُ الكفار إلى الدنيا , وأنهم أو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه , وقال الله عز وجل ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) , وقال تعالى ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِه ... ) , وقال تعالى ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) , وقال ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) , وقال ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) , وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علمُ الله , ولا يحصل لله علم في شيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً >

قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه أَضواء البيان 1/75-76 عند قوله تعالى ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ... ) قال ( ظاهرُ هذه الآية قد يُتوهم منه الجاهل أنه تعال يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه , سبحانه وتعالى عن ذلك علواًّ كبيراً , بل هو تعالى عالمٌ بكلِّ ما سيكون قبل أن يكون , وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جلا وعلا " وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " , فقوله " وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " بعد قوله " وَلِيَبْتَلِيَ " دليل قاطعٌ على أنه لم يستفيد بالاختيار شيئاً لم يكن عالماً به , سبحانه وتعالى عن ذلك علواًّ كبيراً , لأن العليم بذات الصدور غنيٌّ عن الاختبار , وفي هذه الآية بيانٌ عظيمٌ لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختبارَه لخلقه , ومعنى " إِلَّا لِنَعْلَمَ " أي : علماً يترتبُ عليه الثواب والعقاب , فلا يُنافي أنه كان عالماً به قبل ذلك , وفائدةُ الاختبار ظهور الأمر للناس , أما عالمُ السرِّ والنجوى فهو عالمٌ بكل ما سيكون كما لا يخفى ) .

وأما قول الله عز وجل ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) فقد فُسر بتفسيرين :

أحدهما : قُرُبه بالعلم والقُدرة والإحاطة , وهذا الذي يظهر من كلام ابن أبي زيد رحمه الله .

والثاني : قُربُ الملائكة , نظير قوله في الواقعة ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) وقد رجحه ابن كثير في تفسيره , وابن القيم كما في مختصر الصواعق 2/268 , وقد جاء في القرآن الكريم ذكرُ الضمير بلفظ التعظيم والمرادُ به الملائكة , كما في قول الله عز وجل ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) والذي قرأه على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريلُ , وقوله ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) , وهو إنما جادل الملائكة , كما قال الله عز وجل ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ... ) الآية
 
وفقكما الله لكل خير

وفقكما الله لكل خير

كنت أتمنى إكمال الموضوع بنفسي , ولكن ليس كل ما يتمناه الإنسان يدركه .

فقد قام الأخ الفاضل ( محمد الهاشمي المصمودي ) بنشر كتاب كاملاً على صيغة ملف وورد , فجزاخ الله عنا خير الجزاء على ما قدم ونفع به .

وإن شاء الله سوف ابدأ في تنزيل كتاب آخر بعد العودة من السفر .

والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد

اضعط هنا لتحميل كتاب : قطف الجني الداني شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني
 
جزاك الله خيرا ... ولكن رابط الحفظ لا يعمل
 
عودة
أعلى