أبوخطاب العوضي
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم مالك يوم الدين , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إله الأولين والآخرين , وقيوم السماوات والأرضين , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , سيد المرسلين , وإمام المتقين , وقائد الغر المحجلين , المبعوث رحمةً للعالمين , صلى الله وسلم وبارك عليه , وعلى آله الطيبين الطاهرين , وأصحابه الغر الميامين الذين حفظ الله بهم الملة , وأظهر الدين , وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين .
أما بعد فإن عقيدة أهل السنة والجماعة تمتاز بالصفاء والوضوح والخلو من الغموض والتعقيد , وهي مستمدة من نصوص الوحي كتابا وسنة , وكان عليها سلف الأمة , وهي عقيدة مطابقة للفطرة , ويقبلها العقل السليم الخالي من أمراض الشبهات , وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقاة من آراء الرجال وأقوال المتكلمين , ففيها الغموض والتعقيد والخبطُ والخلط , وكيف لا يكون الفرق كبيراً والبونُ شاسعاً بين عقيدة نزل بها جبريل من الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وبين عقائد متنوعة مختلفة خرج أصحابها المبتدعون لها من الأرض , وخلقهم من ماء مهين .
فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه من ربه تعالى , وسار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان , والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة , ولم يكن عليها الصحابة الكرام , بل قد ولد بعضها في زمانهم , وبعضها بعد انقراض عصرهم , وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ( وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم , ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم , فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة , ولكنها شر حفظهم الله منه , وابتُلي به من بعدهم .
والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي , وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم , كالفرق بين الله وخلقه , ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم , فإنه يقال فيه : إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , وبين القوانين الوضعية الوضيعـة التي أحدثهـا البشر , كالفـرق بين الله وخلقـه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يعتقد , والحقيقة الواضحة الجلية فيما يُحكم به , فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!
اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام , وأخرجه من الظلمـات إلى النور , إنك سميع مجيب .وقد ألف علماء السنة قديماً مؤلفات توضح عقيدة أهل السنة والجماعة , منها ما هو مختصر ومنها ما هو مطول , وكان بين هذه المختصرات مقدمة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته , ومقدمة رسالته على طريقة السلف مختصرة مفيدة , والجمع بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادر في فعل المؤلفين , وهو حسن , يجعل المشتغل في فقه العبادات والمعاملات على علم بالفقه الأكبر الذي هو العقيدة على طريقة السلف .
وهي مع وجازتها وقلة ألفاظها تبين بوضوح العقيدة السليمة المطابقة للفطرة , المبينة على نصوص الكتاب والسنة , وهي شاهد واضح للمقولة المشهورة ( إن كلام السلف قليل كثير البركة , وكلام المتكلمين كثير قليل البركة ) .
ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع المقدمة ( إن الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيره , ولا شيبه له , ولا نظير له , ولا ولد له , ولا والد له , ولا صاحبة له , ولا شريك له ) .
فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة , وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين , فإنه مبني على التكلف , ومتصف بالغموض , ومن أمثلة ذلك ما جاء في العقائد النسفية قول مؤلفها ( ليس بعرض ولا جسم , ولا جوهر , ولا مصوّر , ولا محدود , ولا معدود , ولا متبعّض , ولا متجزّ , ولا متركّب , ولا متناه ) .
وهذه المنفيات لم يأت بالنص عليها في كتاب ولا سنة , والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي , واعتقاد أن الله مصتف بكل كمال , منزه عن كل نقص , ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام ولا تطابق الفطرة التي هم عليها , وهي من تكلف المتكلمين , وفيها غموض وتلبيس , يتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها , وهو نفي الجسم , فإنه يحتمل أن يراد به ذاتٌ مشابهة للمخلوقات , وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً , لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , وإن أريد به ذات قائمة بنفسها , مباينةٌ للمخلوقات , متصفة بصفات الكمال , فإن هذا المعنى حقٌّ , ولا يجوز نفيه عن الله , وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل .
وسيأتي في كلام المقريزي ( ص 14 , 14 ) قوله عن الصحابة ( فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه , ونزهوا من غير تعطيل , ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا , ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت , ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله , ولا عرف أحدٌ منهم شيئا ) .
وسيأتي أيضا في كلام المظفر السمعاني ص 16 ,قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين ( وكان مما أمر بتبليغه التوحيد , بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه , ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض , ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه , فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم , ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح , ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق , فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم , فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض ) وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شريح صحيح البخاري ( باب قول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك" ونقل فيه 13/504 عن الحسن البصري قال ( لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .
والجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية , ونسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان , لأنه أظهر هذا المذهب الباطل ونشره , وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله ( لو كان حقا ما يقوله الأشاعرة والمتكلمين وغيرهم من المتكلمين حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها , ويُفصل المعاني التي اشتملت عليها , ورأيت أن أمهد لهذا الشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف , وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي المالكي المتوفي سنة 1285هـ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً , رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح . وقد سميت هذا الشرح ( قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ) وأسأل الله عز وجل أن ينفع كما به كما نفع بأصله , وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم , والسير على ما كان عليه سلفهم , في العقيدة والعمل , وأن يوفقني للسلامة من الزلل , ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل , إنه سميع مجيب , وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــ
ترجمة مختصرة لابن أبي زيد القيرواني
هو عبدالله أبومحمد بن أبي زيد , واسم أبي زيد عبدالرحمن , سكن القيروان , وكان إمام المالكية وقته وقدوتهم , وجامع مذهب مالك , وشارع أقواله , وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية , وكُتبه تشهد له بذلك , فصيح القلم , ذا بيان ومعرفة بما يقوله , بصيرا بالرد على أهل الأهواء , يقول الشعر ويجيده , ويجمع إلى ذلك صلاحاً تاما ورعا وعفة , وحاز رئاسة الدين والدنيا , وإليه كانت الرحلة من الأقطار , ونجب أصحابه وكثر الآخذون عنه .
وعرف قدره الأكابر , وكان يعرف بمالك الصغير , قال فيه القابسي ( هو إمامٌ موثوق به في ديانته وروايته ) واجتمع فيه العلم والورع والفضل والعقل , شهرته تغني عن ذكره , كان سريع الانقياد والرجوع إلى الحق , تفقه بفقهاء بلده وسمع من شيوخها , وعوَّل على أبي بكر بن اللباد وأبي الفضل القيسي , وسمع منه خلق كثير وتفقه به جلة , وكانت وفاته سنة 386هـ , له كتاب النوادر والزيادات على المدونة , مشهور أزيد من مائة جزء , وكتاب مختصر المدونة مشهور أيضاً , وعلى كتابيه هذين المعول في التفقه , وله الرسالة , غيرها من المؤلفات الكثيرة المذكورة في الديباج المذهب لابن فرحون المالكي ص136-138 .
وكل ما مر منقول باختصار من هذا الكتاب , قال فيه الذهبي في أول ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/10 ( الإمام العلامة القدوة الفقيه , عالم أعل المغرب ) , وقال في آخرها ( وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول , لا يدري الكلام ولا يتأول , فنسأل الله التوفيق ) .
أخوكم في الله : أبوخطاب العوضي
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم مالك يوم الدين , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إله الأولين والآخرين , وقيوم السماوات والأرضين , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , سيد المرسلين , وإمام المتقين , وقائد الغر المحجلين , المبعوث رحمةً للعالمين , صلى الله وسلم وبارك عليه , وعلى آله الطيبين الطاهرين , وأصحابه الغر الميامين الذين حفظ الله بهم الملة , وأظهر الدين , وعلى من اتبعهم بإحسان وسار على نهجهم إلى يوم الدين .
أما بعد فإن عقيدة أهل السنة والجماعة تمتاز بالصفاء والوضوح والخلو من الغموض والتعقيد , وهي مستمدة من نصوص الوحي كتابا وسنة , وكان عليها سلف الأمة , وهي عقيدة مطابقة للفطرة , ويقبلها العقل السليم الخالي من أمراض الشبهات , وذلك بخلاف العقائد الأخرى المتلقاة من آراء الرجال وأقوال المتكلمين , ففيها الغموض والتعقيد والخبطُ والخلط , وكيف لا يكون الفرق كبيراً والبونُ شاسعاً بين عقيدة نزل بها جبريل من الله إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وبين عقائد متنوعة مختلفة خرج أصحابها المبتدعون لها من الأرض , وخلقهم من ماء مهين .
فعقيدة أهل السنة والجماعة بدت وظهرت مع بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي عليه من ربه تعالى , وسار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان , والعقائد الأخرى لا وجود لها في زمن النبوة , ولم يكن عليها الصحابة الكرام , بل قد ولد بعضها في زمانهم , وبعضها بعد انقراض عصرهم , وهي من محدثات الأمور التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال ( وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) وليس من المعقول ولا المقبول أن يحجب حق عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم , ويدخر لأناس يجيئون بعد أزمانهم , فتلك العقائد لو كان شيء منها خيراً لسبق إليه الصحابة , ولكنها شر حفظهم الله منه , وابتُلي به من بعدهم .
والحقيقة الواضحة الجلية أن الفرق بين عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الوحي , وبين عقائد المتكلمين المبنية على آراء الرجال وعقولهم , كالفرق بين الله وخلقه , ومثل ذلك ما يكون به القضاء والحكم , فإنه يقال فيه : إن الفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة المنزلة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم , وبين القوانين الوضعية الوضيعـة التي أحدثهـا البشر , كالفـرق بين الله وخلقـه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) فما بال عقول كثير من الناس تغفل عن هذه الحقيقة الواضحة الجلية فيما يعتقد , والحقيقة الواضحة الجلية فيما يُحكم به , فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟!
اللهم اهد من ضل من المسلمين سُبل السلام , وأخرجه من الظلمـات إلى النور , إنك سميع مجيب .وقد ألف علماء السنة قديماً مؤلفات توضح عقيدة أهل السنة والجماعة , منها ما هو مختصر ومنها ما هو مطول , وكان بين هذه المختصرات مقدمة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي لرسالته , ومقدمة رسالته على طريقة السلف مختصرة مفيدة , والجمع بين الأصول والفروع في كتاب واحد نادر في فعل المؤلفين , وهو حسن , يجعل المشتغل في فقه العبادات والمعاملات على علم بالفقه الأكبر الذي هو العقيدة على طريقة السلف .
وهي مع وجازتها وقلة ألفاظها تبين بوضوح العقيدة السليمة المطابقة للفطرة , المبينة على نصوص الكتاب والسنة , وهي شاهد واضح للمقولة المشهورة ( إن كلام السلف قليل كثير البركة , وكلام المتكلمين كثير قليل البركة ) .
ومن أمثلة ما في هذه المقدمة من النفي المتضمن إثبات كمال لله تعالى قوله في مطلع المقدمة ( إن الله إلهٌ واحدٌ لا إله غيره , ولا شيبه له , ولا نظير له , ولا ولد له , ولا والد له , ولا صاحبة له , ولا شريك له ) .
فإن هذه المنفيات عن الله عز وجل مستمدة من الكتاب والسنة , وهذا بخلاف النفي في كلام المتكلمين , فإنه مبني على التكلف , ومتصف بالغموض , ومن أمثلة ذلك ما جاء في العقائد النسفية قول مؤلفها ( ليس بعرض ولا جسم , ولا جوهر , ولا مصوّر , ولا محدود , ولا معدود , ولا متبعّض , ولا متجزّ , ولا متركّب , ولا متناه ) .
وهذه المنفيات لم يأت بالنص عليها في كتاب ولا سنة , والواجب السكوت والإمساك عما لم يدل عليه دليل من الوحي , واعتقاد أن الله مصتف بكل كمال , منزه عن كل نقص , ومثل هذه السلوب لا يفهمها العوام ولا تطابق الفطرة التي هم عليها , وهي من تكلف المتكلمين , وفيها غموض وتلبيس , يتضح ذلك بالإشارة إلى واحد منها , وهو نفي الجسم , فإنه يحتمل أن يراد به ذاتٌ مشابهة للمخلوقات , وعلى هذا الاحتمال يرد اللفظ والمعنى جميعاً , لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير , وإن أريد به ذات قائمة بنفسها , مباينةٌ للمخلوقات , متصفة بصفات الكمال , فإن هذا المعنى حقٌّ , ولا يجوز نفيه عن الله , وإنما يرد هذا اللفظ لاشتماله على معنى حق ومعنى باطل .
وسيأتي في كلام المقريزي ( ص 14 , 14 ) قوله عن الصحابة ( فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه , ونزهوا من غير تعطيل , ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا , ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت , ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله , ولا عرف أحدٌ منهم شيئا ) .
وسيأتي أيضا في كلام المظفر السمعاني ص 16 ,قوله في بيان فساد طريقة المتكلمين ( وكان مما أمر بتبليغه التوحيد , بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئاً من أمور الدين أصوله وقواعده وشرائعه إلا بلغه , ثم لم يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض , ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه , فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم وسلكوا غير سبيلهم بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم , ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح , ونسبتهم إلى قلة المعرفة واشتباه الطرق , فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم , فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض ) وقول أبي المظفر السمعاني هذا أورده الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري في شريح صحيح البخاري ( باب قول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك" ونقل فيه 13/504 عن الحسن البصري قال ( لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .
والجعد بن درهم هو مؤسس مذهب الجهمية , ونسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان , لأنه أظهر هذا المذهب الباطل ونشره , وأقول كما قال الحسن البصري رحمه الله ( لو كان حقا ما يقوله الأشاعرة والمتكلمين وغيرهم من المتكلمين حقا لبلغه النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وقد رأيت أن أشرح هذه المقدمة شرحاً يزيد في جلائها ووضوحها , ويُفصل المعاني التي اشتملت عليها , ورأيت أن أمهد لهذا الشرح بذكر عشر فوائد في عقيدة السلف , وقد نظم الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي المالكي المتوفي سنة 1285هـ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني نظماً بديعاً سلساً , رأيت من المناسب إثباته مع نص المقدمة قبل البدء بالشرح . وقد سميت هذا الشرح ( قطف الجني الداني شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ) وأسأل الله عز وجل أن ينفع كما به كما نفع بأصله , وأن يوفق المسلمين للفقه في دينهم , والسير على ما كان عليه سلفهم , في العقيدة والعمل , وأن يوفقني للسلامة من الزلل , ويمنحني الصدق في القول والإخلاص في العمل , إنه سميع مجيب , وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــ
ترجمة مختصرة لابن أبي زيد القيرواني
هو عبدالله أبومحمد بن أبي زيد , واسم أبي زيد عبدالرحمن , سكن القيروان , وكان إمام المالكية وقته وقدوتهم , وجامع مذهب مالك , وشارع أقواله , وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية , وكُتبه تشهد له بذلك , فصيح القلم , ذا بيان ومعرفة بما يقوله , بصيرا بالرد على أهل الأهواء , يقول الشعر ويجيده , ويجمع إلى ذلك صلاحاً تاما ورعا وعفة , وحاز رئاسة الدين والدنيا , وإليه كانت الرحلة من الأقطار , ونجب أصحابه وكثر الآخذون عنه .
وعرف قدره الأكابر , وكان يعرف بمالك الصغير , قال فيه القابسي ( هو إمامٌ موثوق به في ديانته وروايته ) واجتمع فيه العلم والورع والفضل والعقل , شهرته تغني عن ذكره , كان سريع الانقياد والرجوع إلى الحق , تفقه بفقهاء بلده وسمع من شيوخها , وعوَّل على أبي بكر بن اللباد وأبي الفضل القيسي , وسمع منه خلق كثير وتفقه به جلة , وكانت وفاته سنة 386هـ , له كتاب النوادر والزيادات على المدونة , مشهور أزيد من مائة جزء , وكتاب مختصر المدونة مشهور أيضاً , وعلى كتابيه هذين المعول في التفقه , وله الرسالة , غيرها من المؤلفات الكثيرة المذكورة في الديباج المذهب لابن فرحون المالكي ص136-138 .
وكل ما مر منقول باختصار من هذا الكتاب , قال فيه الذهبي في أول ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/10 ( الإمام العلامة القدوة الفقيه , عالم أعل المغرب ) , وقال في آخرها ( وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول , لا يدري الكلام ولا يتأول , فنسأل الله التوفيق ) .
أخوكم في الله : أبوخطاب العوضي