قصة يوسف:إعجاز التجنيس السردي

إنضم
20 أبريل 2003
المشاركات
513
مستوى التفاعل
11
النقاط
18
قصة يوسف:إعجاز التجنيس السردي
الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين ،وعلى آله وأصحابه، والمقتدين به إلى يوم الدين..
وبعد فقد قال الله تعالى:
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف : 7]
جاءت هذه الآية قبل الشروع في سرد قصة يوسف وإخوته دليلا على سبيل تدبرها..وجل المفسرين وقفوا عند معناهالأخلاقي، إلا أننا نرى في مضمون الآية وجها -آخر-منهجيا.. أعني أن الآية تحث المتدبر على "السؤال" مفتاحا أو أداة إجرائية لاستكشاف كنوز القصة ،و أن تثوير النصوص مماثل لتثوير الأرض فحرث القطعة المخصوصة لا يلائمها إلا محراث مخصوص..وكذلك النصوص، فمنها ما يستجيب لآلية المقارنة، ومنها ما ينفتح بآلية الاستقراء ،ومنها ما يستأنس بالتمثل الوجداني... وهلم جرا..فالآية تنبه على جدوى آلية السؤال وتعد السائل ،لا بأجوبة فحسب، وإنما بأجوبة هي "آيات" .
لكن لا بد من فقه للسؤال فليس كل سؤال يصلح...والأمر هنا مقاس على "الدعاء" في نحو قول الفاروق رضي الله عنه:
( اني لا أحمل هم الاجابة ولكني أحمل هم الدعاء )
إن الآية حققت كمون الآيات في القصة ،وأكدت انكشافها للسائلين. ولكن لا مناص من أن يستجمع السؤال آدابه و شرائط صحته- بعضها عقلي وبعضها خلقي- كأن يكون السؤال ملائما وأن لا يكون صاحبه مريدا للمراء والادعاء....

إن الثراء الموضوعاتي ميزة ملحوظة في قصة يوسف، تنبه لها المفسرون قديما، فقد قال أبو حيان بصدد تعليل كونها أحسن القصص:
كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِانْفِرَادِهَا عَنْ سَائِرِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالشَّيَاطِينِ، وَالْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالطَّيْرِ، وَسِيَرِ الْمُلُوكِ، وَالْمَمَالِكِ، وَالتُّجَّارِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ وَكَيْدِهِنَّ وَمَكْرِهِنَّ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ ذِكْرِ التَّوْحِيدِ، وَالْفِقْهِ، وَالسِّيَرِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَحُسْنِ الْمِلْكَةِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَالْحِيَلِ، وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ، وَالْمَعَادِ، وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، فِي الْعِفَّةِ، وَالْجِهَادِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْمَرْهُوبِ إِلَى الْمَرْغُوبِ، وَذِكْرِ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ، وَمَرْأَى السِّنِينَ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، وَالْعَجَائِبِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا.

هذا، ونحن نرى أنه إلى جانب هذا التعدد الموضوعي نلمح في النسج جمعا عجيبا لأجناس سردية متنوعة:
فالقصة في مسارها العام تتحرك على وتيرة موحدة منضبطة بعلامتين أسلوبيتين:
-التقطيع المشهدي الذي يستجيب لتغير المكان والزمان والأشخاص فيتخذ السرد نهج عرض المشاهد -مع غياب الربط السردي أحيانا-كما نلاحظ في الانتقال الفوري من مشهد عتبة الباب إلى مشهد أحاديث النساء.
-توظيف الحوار فهو لب كل المشاهد ونافذة مفتوحة على آفاق الوقائع وخبابا الأنفس...
هذا التجانس الظاهر يكاد يخفي تنوعا مذهلا- هو عندي من الإعجاز بلا أدنى ريب- فهذه المشاهد المتعاقبة المتآخية على وتيرة واحدة هي عند التأمل مستقلة تنتمي إلى عوالم وأجناس سردية شديدة التباين..!فقد أحصيت –والحصيلة مؤقتة للتمثيل- الفنون التالية:
1-الرواية السوريالية
2-الرواية العجائبية/ المرعبة
3-الرواية القضائية Roman judiciaire
4-الرواية السوداء roman noir
5-الرواية العاطفية/ الجنسيةErotique
6-رواية المخدع roman de boudoir
7-الرواية البوليسية (الفراسة أو التحريات) polar
8-رواية التلغيز (المعمى) Enigme
9-رواية المثل..Fable
(نحن لم نذكر الفنون الأخرى ولو شئنا الاستكثار لعرجنا على الاجتماعية والسياسية والتعليمية والتاريخية والسيرية.... وهي قطعا حاضرة في قصة يوسف عليه السلام)

1-تنفتح القصة على رؤيا يوسف الصبي وهي ترسم معالم سريالية بامتياز يكفي أن نتمثل المشهد الحسي –رؤية الرؤيا-لنقف على غرابته مع الشعور بالابتهاج:
الفضاء العلوي المفتوح
الزمن المبهم تجاورت فيه آية الليل وآية النهار
العناصر النورية المتنوعة في صفة الإشعاع
الجو الروحي المنبعث من فعل السجود
فكأن الامر متعلق بمنظومة شمسية جديدة تكون فيها الشمس نفسها مجرد عنصر طائف أما المركز فيحتله يوسف الصبي..
أما الشعور بالابتهاج فقد عبر عنه الصبي بقوله "رأيتهم لي ساجدين"
فتكرار فعل" رأى" ليس للتأكيد وإنما نحسبه دالا على الانبهار فإن تكرار الكلمات في مثل هذه المواقف شائع خاصة عند الاطفال كأنهم يكررون الكلمة ريثما يلتقطون أنفاسهم ويستأنسون بغرابة المشهد أو الحدث ليعوه أو يعبروا عنه.

2-رؤيا الملك مقابلة تماما لرؤيا الصبي كتقابل عالم الأطفال وعالم السياسة :
الطهر والبراءة من جهة والشراسة في الجهة الأخرى..
الرؤية المبتهجة والرؤية المرتعبة ..
رؤيا الملك قصة رعب بامتياز
والرعب ناشيء عن "المسخ"
والمسخ هو محور الأدب العجائبي المرعب وهو هنا متجسد في ثالوث:
-المسخ في جبلة البقرفقد أصبح لاحما بعد إذ هو عاشب!
-المسخ في طبيعة التغذي جنس يأكل أفراد نفسه!!
-المسخ في منطق الحدث فالعجفاء تلتهم السمينة..كأن الشيء يختفي لا في شيء!!!
رواية سريالية وعجائبية والأعجب هو أن يرويها القرآن دون أن يحيد قيد أنملة عن الحقيقة والواقع..في حين أن التهاويم والأكاذيب ضربة لازب في كل قصة عجائبيه وإلا لانقلب جنسها!!

3-الرواية السوداء جنس سردي حديث الظهور ازدهر في أمريكا ابتداء من عشرينيات القرن الماضي -موافقا لسنوات منع الخمور عندهم- فصور هذا الجنس ما شاع في مجتمعهم من الجريمة المنظمة وتشكيل عصابات المافيا ومؤامرات الاغتيال والرشوة وغيرها...باختصار الرواية السوداء رؤية سوداء لمجتمع تنهار فيه القيم وينعدم فيه الأمن والثقة...
ونحن نعد مؤامرة إخوة يوسف أشد "سوادا" عند المقارنة :
-الرواية السوداء تصوير للعنف في الشوارع والفضاءات العامة وهو في قصة يوسف عنف من داخل الاسرة: فإذا كان البيت هو مأوى الإنسان ومظنة الرحمة والأمن فكيف وقد أصبح مصدر التهديد!!

الرواية السوداء صراع بين الأسر المتنافسة على المال والسلطة بدون رحمة لكن الأسرة الواحدة في تلاحم وتراحم ضمانا للقوة اللازمة –انظر مثلا رواية "العراب"-أما قصة يوسف فهي أشد وقعا على النفس وأشد ألما: فالحرب قد تثبر في النفس الحس بالمجد والشجاعة والبطولة ، لكن "الحرب الأهلية" لا معنى لها إلا الحسرة والإشفاق..

محور الرواية السوداء هو الاغتيال والمستهدفون عادة هم الاقوياء في المجتمع من ذوي المال والسلطة والنفوذ ومن ثم قد يكون للاغتيال ما يسيغه في نظر أعدائهم لكن ما الذي يسيغ اغتيال:
- طفل
- صغير
- بريء
- هو أخوهم
- مستأمنون عليه..
صفة واحد تكفي لاستبشاع الجريمة فكيف وقد اجتمعت الخمس!!

في قصة مؤامرة إخوة يوسف انهيار بشع للقيم:
لاوقار لأب شيخ،
ولا رحمة بصبي صغير،
ولا مراعاة لميثاق،
لا يعلو فيها غير سلطة الكذب والتزييف...
مؤامرة إخوة يوسف رواية سوداء بامتياز!

4-الأجناس السردية التي نحن بصدد بيانها لها أسلوبان في الظهور:إمامتجاورة أو مندمجة.
وقصة مؤامرة إخوة يوسف تمنحنا مثالا عن الاندماج بين جنسين فهي سوداء كما مر قريبا وهي رواية قضائية من منظور آخر:
فليس من العسير- ونحن نتتبع تفاصيل المؤامرة- استحضارجو المحاكمات:
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)}
أوليست هذه تلاوة لصك الاتهام!
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)}
أو ليس هذا حكما ابتدائيا مقترحا!
{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}
أو ليس هذا حكمااستئنافيا أو تعديلا مقترحا مع مداولة !
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)}
أو ليس هذا حكما نهائيا تحقق فيه شرط الإجماع وانتقلوا بموجبه إلى إجراءات تنفيذ الحكم!

5-الرواية العاطفية واضحة قي الفصل الذي يجمع المرأة ويوسف:
فههنا مشهد يتحرك في جوانية مزدوجة:
فضاء داخلي مكاني مغلق الأبواب
فضاء داخلي نفسي مزدحم متصادم يملي سلوكات متباينة يتحكم في بعضها "مبدأ اللذة" وفي بعضها "مبدأ الخوف"...فإقدام الشهوة تدفع المرأة إلى حركية عنيفة عمياء ،وإحجام العفة يفرض على يوسف النفاذ بالجلد..وكان الاستباق إلى الباب هو الهدف الذي اتحد عنده الإقدام والإحجام ،لكن بقصدين مختلفين :فتح الفضاء للتحرر، أوإبقاء الفضاء مغلقا استصحابا للخلوة..

6-الرواية البوليسية تبدأ دائما من حيث انتهت الأحداث..ومن ثم فهي تعيدها جذعا من خلال المسار العقلي التفسيري:
فمسرح الحدث هو ذهن المحقق الذي يسعى إلى فهم ما وقع باستجماع كل ما أوتي من فراسة ودقة في الملاحظة ..
ماذا وقع في غرفة المرأة؟ هل يمكن إعادة تمثيل الحدث؟
لم يخرج من الغرفة السرية إلا روايتان متعارضتان..فتساقطتا...
فيكون الدور الحاسم للشاهد من أهلها الذي أنقذ القصة من الوقوع تحت التفسير الرخيص المستجيب للأهواء أوالمتملق للأسياد من الطبقة العليا.
الشاهد هو المحقق الذكي الذي قرأ بفراسة فذة ما يرويه القميص المقدود.. القميص الذي يقوم الآن بوظيفة "العلبة السوداء" عن طريق مؤشراتها يمكن فهم ما حدث!
وما يثير في المشهدين( مشهد خلف الباب ومشهد ما بين يديه) هو هذا الانتقال السردي الفوري من العالم العاطفي حيث ظلمة الغرائز وسورة الشهوة العمياء إلى العالم المستنير بالعقل والبحث العلمي الرصين المرتكز على:
-القسمة الحاصرة
-الفرض الملائم
-التحقق التجريبي
-الاستنباط و التنبؤ العلمي.

7- المخدع Boudoir هو غرفة صغيرة مستحدثة من بين قاعة الأكل وغرفة النوم (وقد ساهم الماركيز دوساد في الشهرة الأدبية لهذه الغرفة الصغيرة بعدما ترجم أحد كتبه "فلسفة المخدع"..)
وهذا المخدع خاص ل"نميمة النساء"، وأدب المخدع تسجيل لأحاديثهن وما يروينه من أخبار وفضائح ومغامرات مدارها على المكر والدهاء.
وفي قصة "صواحب يوسف" جل هذه المعاني...

8-رؤيا الملك تحمل في بنيتها خصائص " أدب الأمثال" وهذا الأدب معروف عند العرب والعجم قديما وحديثا..نموذجه العربي المشتهر كليلة ودمنة ونموذجه الأعجمي أمثال الفرنسي لافونتين (التي تأثر بها أحمد شوقي أيما تأثر ونظم على منوالها )
بنية أدب المثل هي تجليات لعالم وقرينه:
عالم طبيعي وحشي
عالم ثقافي إنساني
وقراءة المثل –أي تاويله- هو المطابقة بين العالمين على أساس من التماثل ..تماثل لم يدركه علماء الملك وأدركه يوسف النبي..
رؤيا الملك مشهد طبيعي بمظهريه :
المظهر الحيواني سبع بقرات سمان وسبع عجاف
المظهر النباتي سبع سنبلات خضر وأخر يابسات
فهو مشهد قائم على التضاد:السمين والهزيل،الطري واليابس الآكل والمأكول..
هذه اللوحة الطبيعية تمثيل لعالم الناس في همومهم الاجتماعية والاقتصادية رخاء وشدة وعسرا ويسرا...

9-ونختم هذه السياحة السردية بفن التلغيز(أدب المسامرة) وهو متضمن في رؤيا الملك أيضا...
إن اللغز يتركب عادة من ثلاث لحظات:
-طرح اللغز بنية التعجيز –غالبا-
-عجز عام عن تفسيره مع تعليق تقليدي –غالبا-هذا "كلام فارغ" أو "غير معقول" أو "أضغاث أحلام" (كما قال مفسرو الملك )
-الجواب الصحيح يصل إليه البارع من الناس( وعند خلوهم منه ينوب عنه صاحب اللغز نفسه.)
و بعد،
فهذه ملامح عامة من أجناس سردية متنوعة اجتمعت على نحو عجيب في قصة واحدة..ولسنا نرى الإعجاز في كثرتها وإنما في انصهارها كلها لنسج قصة واحدة لا تفاوت فيها ولااختلاف..ومن ثم لم نترجم للمقال بمعجزة الأجناس ولكن بمعجزة التجنيس.
والله أعلم.
 
بارك الله فيكم يا أبا عبدالمعز على هذه اللفتة العلمية الأدبية ، ومرحبا بعودتك مرة أخرى للكتابة فقد طال العهد ، واتصل البعد .
وفقكم الله لكل خير .
 
عودة
أعلى