عبدالعزيز الضامر
New member
في أحد الأيام جمع بي لقاءٌ مع الدكتور سليمان بن إبراهيم الحصيّن (أستاذ التفسير وعلوم القرآن ورئيس قسم الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود- فرع الأحساء), ودارت فيه بعض المُدارسات حول قضايا التفسير...منها هذه المقالة التي تُعَبِّر عن رأي الدكتور فطلبت منه أن يُحَرِّر هذا الرأي فأقوم بنشره في الملتقى فكان ذلك!!
قصة باطلة
قتل بني إسرائيل لأنفسهم توبةً إلى الله من عبادة العجل
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:54)
الناظر في كتب التفسير على اختلافها يلحظ الاتفاق على رواية ما ورد من أنَّ بني إسرائيل قد استجابوا لِمَا أُمِروا به من قتل أنفسهم وأنه قد حصلت فيهم مقتلة عظيمة بلغت سبعين ألفاً من القتلى في يوم واحد..
ولو كانت حدثت بالفعل ما أغفل القرآن الكريم ذكرها والإشادة بأهلها والثناء عليهم كُلَّما تحدَّث عن بني إسرائيل ولكن هذا لم يحدث.
وقد تتابعت كتب التفسير في إيراد هذه الروايات والإشارة إليها, ولم أجد من تعرض لها بالنقد وكأنها من المُسلَّمات مع أنَّ الآية ليس فيها ما يدل من قريب أو بعيد على استجابة بني إسرائيل لِمَا أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام بقتل أنفسهم توبةً إلى الله..
فهذا هود الهوَّاري رحمه الله والمتوفى سنة(280هـ) يروي هذه الحادثة في تفسيره وينسبها للكلبي (1/106) ثُمَّ جاء ابن جرير الطبري رحمه الله والمتوفى سنة(310هـ) فجزم باستجابتهم للأمر فقال: حدثنا محمد بن المثنى بسنده عن أبي عبد الرحمن فقال في تفسير قوله تعالى: (فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) قال: عمدوا إلى الخناجر فجعل يطعن بعضهم بعضاً (1/679-680) ثُمَّ ذكر عن ابن عباس أنَّ المقتلة خلَّفت سبعين ألفاً من بني إسرائيل وذكر عن السدي ومجاهد رضي الله عنهما نحو ذلك وأبي العالية وابن شهاب..وقد وافقه كثير من أصحاب التفاسير منهم الماوردي (1/122), والواحدي في الوسيط (1/140), وفي الوجيز (1/105), والسمعاني (1/80), والزمخشري (1/143), وابن عطية (1/294), والفخر الرازي (3/87), وأبي حيان (1/637), وابن كثير (1/96), والقرطبي (1/401), والبقاعي (1/374), وابن عادل (2/83), والقاسمي (2/127), والمراغي (1/120), وابن عاشور (1/503), وسيد قطب (1/71), وابن سعدي (صـ52), والشعراوي (1/343)..وكأنها حقيقة لا يرقى إليها شك.
ومن يقرأ كتاب الله العزيز يجد أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنهم عبادة العجل بدون شرط قتل أنفسهم فقال عز وجل: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:51-52)
ففي قوله تعالى: (ثُمَّ عفونا) دليل على أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنهم عبادتهم العجل ولم يُعاقبهم عليها..
قال البقاعي في تفسيره نظم الدرر (1/366-367) "وخصه باسم العفو لَمَّا ذكر ذنوبهم لأنَّ المغفور له لا يذكر ذنبه فإنَّ العفو رَفَعَ العقوبة دون رفع ذكرها والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة"..فدل هذا العفو على أنَّ المراد بالتوبة في قوله تعالى: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي: رفع عنكم الحُكم بقتل أنفسكم..ولعل في حرف (ثُمَّ) من قوله تعالى: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ) ما يدل على صحة هذا القول وأنَّ العفو إنما جاء بعد أن أمرهم نبي الله موسى عليه السلام بقتل أنفسهم فتكون التوبة من قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) راجعة إلى رفع الحُكم عنهم بقتل أنفسهم وليست راجعة إلى استجابتهم بدليل حرف العطف (الفاء) الذي يفيد التعقيب..فالتوبة كانت برفع الحُكم مباشرة بعد أمر نبي الله موسى به.
وكيف يُظن بهم أنهم امتثلوا لأمر موسى عليه السلام بقتل أنفسهم, وقد امرهم الله تعالى بذبح بقرة فترددوا وتعنتوا ولم يمتثلوا للأمر إلاَّ بعد عناء..قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67) ومما يُؤكد أنهم لم يستجيبوا لِمَا أُمروا به من قتل أنفسهم أنهم أحرص ما يكون على حياة وليس على الموت شهادة؛ لأنهم قومٌ عصاة مستكبرين لا يُؤمنون إلاًَّ بالماديات.. قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:96) فكيف يُبادرون بقتل أنفسهم بهذه السرعة وهم أحرص الناس على حياة..أية حياة.. لايهم أن تكون حياة كريمة..أو حياة مميزة..أية حياة بهذا التنكير والتحقير.
هذا فضلاً عن عصيانهم الدائم الملازم لهم واللائق بحالهم..قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:63) وقال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (النساء:46) فهل يُظن بقومٍ هذا حالهم المسارعة إلى امتثال ما أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام من قتل أنفسهم..هذا بعيد جداً وهذه القصة من جملة ما كذَّبه أهل الكتاب.. والله أعلم بالصواب.
سليمان بن إبراهيم الحصيّن
أستاذ التفسير وعلوم القرآن ورئيس قسم الشريعة
جامعة الإمام محمد بن سعود- فرع الأحساء
.....................
قصة باطلة
قتل بني إسرائيل لأنفسهم توبةً إلى الله من عبادة العجل
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:54)
الناظر في كتب التفسير على اختلافها يلحظ الاتفاق على رواية ما ورد من أنَّ بني إسرائيل قد استجابوا لِمَا أُمِروا به من قتل أنفسهم وأنه قد حصلت فيهم مقتلة عظيمة بلغت سبعين ألفاً من القتلى في يوم واحد..
ولو كانت حدثت بالفعل ما أغفل القرآن الكريم ذكرها والإشادة بأهلها والثناء عليهم كُلَّما تحدَّث عن بني إسرائيل ولكن هذا لم يحدث.
وقد تتابعت كتب التفسير في إيراد هذه الروايات والإشارة إليها, ولم أجد من تعرض لها بالنقد وكأنها من المُسلَّمات مع أنَّ الآية ليس فيها ما يدل من قريب أو بعيد على استجابة بني إسرائيل لِمَا أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام بقتل أنفسهم توبةً إلى الله..
فهذا هود الهوَّاري رحمه الله والمتوفى سنة(280هـ) يروي هذه الحادثة في تفسيره وينسبها للكلبي (1/106) ثُمَّ جاء ابن جرير الطبري رحمه الله والمتوفى سنة(310هـ) فجزم باستجابتهم للأمر فقال: حدثنا محمد بن المثنى بسنده عن أبي عبد الرحمن فقال في تفسير قوله تعالى: (فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ) قال: عمدوا إلى الخناجر فجعل يطعن بعضهم بعضاً (1/679-680) ثُمَّ ذكر عن ابن عباس أنَّ المقتلة خلَّفت سبعين ألفاً من بني إسرائيل وذكر عن السدي ومجاهد رضي الله عنهما نحو ذلك وأبي العالية وابن شهاب..وقد وافقه كثير من أصحاب التفاسير منهم الماوردي (1/122), والواحدي في الوسيط (1/140), وفي الوجيز (1/105), والسمعاني (1/80), والزمخشري (1/143), وابن عطية (1/294), والفخر الرازي (3/87), وأبي حيان (1/637), وابن كثير (1/96), والقرطبي (1/401), والبقاعي (1/374), وابن عادل (2/83), والقاسمي (2/127), والمراغي (1/120), وابن عاشور (1/503), وسيد قطب (1/71), وابن سعدي (صـ52), والشعراوي (1/343)..وكأنها حقيقة لا يرقى إليها شك.
ومن يقرأ كتاب الله العزيز يجد أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنهم عبادة العجل بدون شرط قتل أنفسهم فقال عز وجل: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:51-52)
ففي قوله تعالى: (ثُمَّ عفونا) دليل على أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنهم عبادتهم العجل ولم يُعاقبهم عليها..
قال البقاعي في تفسيره نظم الدرر (1/366-367) "وخصه باسم العفو لَمَّا ذكر ذنوبهم لأنَّ المغفور له لا يذكر ذنبه فإنَّ العفو رَفَعَ العقوبة دون رفع ذكرها والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة"..فدل هذا العفو على أنَّ المراد بالتوبة في قوله تعالى: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي: رفع عنكم الحُكم بقتل أنفسكم..ولعل في حرف (ثُمَّ) من قوله تعالى: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ) ما يدل على صحة هذا القول وأنَّ العفو إنما جاء بعد أن أمرهم نبي الله موسى عليه السلام بقتل أنفسهم فتكون التوبة من قوله: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) راجعة إلى رفع الحُكم عنهم بقتل أنفسهم وليست راجعة إلى استجابتهم بدليل حرف العطف (الفاء) الذي يفيد التعقيب..فالتوبة كانت برفع الحُكم مباشرة بعد أمر نبي الله موسى به.
وكيف يُظن بهم أنهم امتثلوا لأمر موسى عليه السلام بقتل أنفسهم, وقد امرهم الله تعالى بذبح بقرة فترددوا وتعنتوا ولم يمتثلوا للأمر إلاَّ بعد عناء..قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67) ومما يُؤكد أنهم لم يستجيبوا لِمَا أُمروا به من قتل أنفسهم أنهم أحرص ما يكون على حياة وليس على الموت شهادة؛ لأنهم قومٌ عصاة مستكبرين لا يُؤمنون إلاًَّ بالماديات.. قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة:96) فكيف يُبادرون بقتل أنفسهم بهذه السرعة وهم أحرص الناس على حياة..أية حياة.. لايهم أن تكون حياة كريمة..أو حياة مميزة..أية حياة بهذا التنكير والتحقير.
هذا فضلاً عن عصيانهم الدائم الملازم لهم واللائق بحالهم..قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:63) وقال تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (النساء:46) فهل يُظن بقومٍ هذا حالهم المسارعة إلى امتثال ما أمرهم به نبي الله موسى عليه السلام من قتل أنفسهم..هذا بعيد جداً وهذه القصة من جملة ما كذَّبه أهل الكتاب.. والله أعلم بالصواب.
وكتب
سليمان بن إبراهيم الحصيّن
أستاذ التفسير وعلوم القرآن ورئيس قسم الشريعة
جامعة الإمام محمد بن سعود- فرع الأحساء