فهد الوهبي
Member
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.. فإن جهود العلماء في العناية بكتاب الله تعالى، لا تزال متواصلةً: حفظاً، وتفسيراً، وإقراءً، ودفاعاً..
ومن أعظم ما سجله التاريخ في عناية العلماء بالقرآن الكريم ما ابتدأه الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أشار عليه الخليفة الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم.
ويذكر العلماء أن جمع القرآن الكريم مر بثلاث مراحل:
1- الجمع الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم : وهو بمعنى حفظه في الصدور، وهو المذكور في قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه).
2- الجمع الثاني في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: وهو بمعنى جمعه من متفرق في مصحف واحد، وكان سبب هذا الجمع كثرة القتلى من حفاظ القرآن الكريم، وصاحب الفكرة هو الخليفة الراشد الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3- الجمع الثالث في عهد عثمان رضي الله عنه : وهو بمعنى توحيد المصاحف المختلفة ونشره وتوزيعه على الأمصار .
4- ثم جاءت المرحلة الرابعة وهي: الجمع الصوتي للقرآن الكريم:
وهو من الجهود المباركة في هذا العصر، وكثيرٌ من الناس يظن أن تاريخ هذا المشروع قريبٌ، والحقيقة أن ذلك التاريخ يعود إلى خمسين سنة ماضيةً، حين كانت بداية المشروع هناك في القاهرة، في الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم، حيث تقدم بهذه بفكرة هذا المشروع الأستاذ لبيب السعيد (ولد سنة: 1914م ــ وتوفي سنة: 1988م) وقد ألف كتاباً في هذا المشروع أسماه ( الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ) طبع في دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1387هـ، وجدته في إحدى مكتبات عمان الأردن في إحدى الزيارات.
[align=center]
[/align]أولاً: قصة المصحف المرتل في القاهرة :
وأحب أعرج في هذا المقال على تاريخ ذلك الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، حفظاً لحق صاحب الفكرة، وشكراً لتلك الجهود التي بذلها في سبيل تحقيق هذا المشروع القيم، علماً بأنه ليس من أبناء الأزهر، وإنما أستاذ ومجتهد وفقه الله تعالى لخدمة كتابه، ويسر له ما كان عسيراً على غيره..
= من هو لبيب السعيد :
من العجيب أنك لا تكاد تجد ترجمة للأستاذ لبيب السعيد، وكل ما يمكن أن يذكر ما يأتي(1):
• ولد في المنصورة بمصر في 8 / 12 / 1914م.
• كان يعمل في وزارة المالية المصرية.
• رأس الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم.
• عمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حتى منتصف الثمانينات.
• له عدد من الكتب منها:
أ- الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم .
ب- المقارئ والقراء.
ت- الأذان والمؤذنون.
ث- رسم المصحف.
ج- التغني بالقرآن.
• له سلسلة ( معارف قرآنية ) سُجلت في إذاعة الرياض في السبعينيات.
• توفي رحمه الله في 22/1/1988م.
[align=center]
[/align]
= بواعث هذا المشروع :
يقول الأستاذ لبيب السعيد : "وأعود إلى ما قبل إعلاني عن مشروع المصحف المرتل ببضع سنين لا أستطيع تحديدها بدقة. منذ يومئذ وأنا أحس أن جمع القرآن جمعاً صوتياً بكل قراءاته المتواترة والمشهورة أمرٌ يجب أن ينهض به أهل هذا الزمان .
وكنت أتابع، في المقارئ الكبيرة بالقاهرة، الممتازين من علماء القراءات، وكان يؤلمني أنه كان إذا مات منهم أستاذٌ حاذقٌ خَلَفَه أحياناً مَنْ لا يعدله أستاذيةً وحذقاً، وضاعت على المسلمين ـ إلى الأبد ـ مواهب الميّت لأنها لم تُسجَّلْ.
ما كان أعظم شعوري بالخسارة الفادحة المستمرة على مدى الزمن في القراء الذين يموتونّ! ذلك أن إنتاجهم ـ بطبيعته ـ غير إنتاج غيرهم من أصحاب العلوم والفنون، فهؤلاء يستطيع الواحد منهم ـ بفضل الكتابة ـ أن يواصل ـ بعد موته ـ الحياة في إنتاجه، أما أصحاب التراث الصوتي، وفي مقدمتهم القُرَّاء، فكان تراثهم يفنى بفنائهم، لأن العلم لم يكن اهتدى بعدُ إلى طرائق تسجيل هذا التراث. وحتى بعد الاهتداء، تأخر تسجيل المصحف أمداً غير قصير"(2).
هكذا كانت خلجات صدر لبيب السعيد، وحديث نفسه، الحسرةُ على عدم حفظ تلك الأصوات الشجية، وتلك المزامير القرآنية، وفوات السابق على اللاحق، هكذا اختمرت الفكرة في ذهن الأستاذ لبيب حتى جاءت سنة 1959م.
= بداية المشروع :
تقدم الأستاذ لبيب السعيد في أواخر فبراير أو أوائل مارس 1959م إلى مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم ـ وكان رئيس مجلس إدارتها ـ باقتراح ابتدأه بما يأتي:
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
اقتراح مقدم إلى مجلس إدارة الجمعية من رئيسها لبيب السعيد
بشأن تسجيل القرآن الكريم صوتياً بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة[/align]
ثم ذكر تفاصيل المشروع.
وجاء فيه قوله :
(وفيما يختص بالتسجيل نفسه، أقترح أن يشمل تلاوة الكتاب العزيز كله بقراءة حفص، ثم بمختلف القراءات المتواترة والمشهورة وغير الشاذة، على أن لا تُرَدَّدَ الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة، كما يشمل التسجيل دروساً عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة ميسرة تمكن الجمهور العادي من الانتفاع بها.
أما فيما يختص بمن يتولون القراءة والتدريس العملي، فيجب أن يكونوا من أعلم علماء القرآن، مع مناسبة أصواتهم للتسجيل، وأن تختارهم لجان لها خبرتها القرآنية العظمى، ويشارك فيها الأزهر الشريف والهيئات العلمية واللغوية والثقافية الأخرى)(3).
= من الصعوبات :
لقي الأستاذ لبيب في سبيل تحقيق مشروعه عدداً من العقبات، أنَّ لها أنات، منها ما سطره قلمه حيث قال:
(وعجزتُ عن تدبير "استوديو" للتسجيل فيه بالمجان، فرغبتُ إلى نائب وزير الدولة لشؤون رياسة الجمهورية، وإلى المدير العام للإذاعة أن يأذنا لي بالتسجيل في استوديوهات الإذاعة، وسعيت في ذلك سعياً، حتى اسْتُجيب لطلبي، بشرطٍ أصرَّتْ عليه الإذاعة، وهو أن يكون لها الحق المطلق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها، ولعل سروري بهذا الشرط وأنا أقدم به إقراراً كتابياً كان أكبر من سرور الإذاعة)(4).
ويقول في ذكر عوائق المشروع :
( ولستُ أنسى يوماً من أيام رجب سنة 1379هـ (يناير 1960م) سعيت فيه، بناء على نصيحة أحد المخلصين للمشروع، إلى ثري كبير هو وزير في إحدى الدول العربية، وكان يقيم في مصر في حي الدقي، فتلقَّى هذا الثريُّ حديثي عن المشروع بعدم الاكتراث، وخرجتُ يومها من لدنه خجلان آسفاً نادماً)(5).
= نقطة تحول في تاريخ المشروع :
يقول الأستاذ لبيب : (وحفزني الإخفاق في تمويل المشروع إلى التفكير في وضعه تحت الرعاية المالية للدولة نفسها. وفي يوم الأربعاء24 من فبراير 1960م، قابلت وزير الأوقاف ورجوته مساعدة المشروع مالياً، فاستجاب فوراً وفي حماسة، وكانت استجابته مبعث طمأنينة واستبشار وأمل، وأصبح العمل شغل الوزير نفسه ومحل اهتمامه، فأفاد كثيراً) (6).
= بداية التسجيل:
أ ـ المصحف الأول:
ابتدأ التسجيل الأول برواية حفص بصوت القارئ الحصري ـ رحمه الله ـ أحد القراء المشهورين في مصر، ولم يكن التسجيل سهلاً : ( لم يكن التسجيل شيئاً هيناً، فمع امتياز القارئ، وكونه قد أصبح آنئذ شيخ المقارئ، كانت اللجنة تستوقفه كثيراً ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب)(7).
وكانت اللجنة مكونة من :
أ ـ الشيخ عبد الفتاح القاضي ( وقد استعفى من اللجنة في وقت مبكر لأسباب منها بعد عمله عن القاهرة).
ب ـ الشيخ عامر عثمان ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
ج ـ الشيخ عبد العظيم الخياط ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
د ـ الشيخ محمد سليمان صالح ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
هـ ـ الشيخ محمود حافظ برانق ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
وابتدأ الطبع في مايو سنة 1960م،وانتهت الطبعة الأولى في 23/ يوليو/ 1961م. حيث بدئ بتوزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام.
ب ـ المصحف الثاني:
في سنة 1962م، تم تسجيل قراءة أبي عمرو برواية الدوري، واختير لهذه الرواية ثلاثة من القراء لهدف ذكره الأستاذ لبيب بقوله : ( وقد أشرتُ بأن لا يستأثر قارئ واحد بتسجيل المصحف كاملاً، دفعاً لملل السامعين، واستفادة بأكبر عددٍ من أصحاب المواهب، وتحقيقاً لتكافؤ الفرص) (8).
وهم المشايخ:
أ ـ الشيخ فؤاد العروسي.
ب ـ الشيخ محمد صديق المنشاوي.
ج ـ الشيخ يوسف كامل البهتيمي.
ولكن في أثناء التسجيل جاء المنع من شيخ الأزهر الشيخ محمود شتوت خوفاً من اختلاف المسلمين حول أي القراءات أولى.
ولكن الأستاذ لبيب بادر بمقابلة الشيخ رحمه الله وأقنعه بالفكرة وأثرها .
وتم الانتهاء من تسجيل هذه الراوية في سبتمبر سنة 1963م.
= الفرح بنجاح المشروع :
كانت فرحة الأستاذ لبيب غامرة بإنجاز هذا المشروع، يقول :
( وقد ازددتُ إدراكاً لفضل الله عليَّ، وعلى الناس، إذ قدَّرَ لهذا المشروع النجاح، حين كنت خارج مصر، في بلاد بعيدة، أستمع إلى المصحف المرتل، من الإذاعة، أو أستمع إليه، في دور السفارات، والقنصليات العربية... لقد كان ينسلخ عني وقتئذ ـ شأني شأن كل مستمع مسلم عربي ـ الشعور بغربة اللسان أو غربة المكان، وقد حكى لي غير واحد ممن سمعوا المصحف المرتل في ديار الغربة أنهم لم يكونوا يملكون حبس دموعهم تأثراً وفرحاً) (9).
= أمانيُّ باقية :
كانت أماني الأستاذ لبيب بتنفيذ المشروع على الوجه المخطط له بتسجيل جميع روايات القرآن الكريم، يقول:
( فليت أن المشروع يتم عاجلاً ، وفق التخطيطات المرسومة له! وليت أن الله صاحبَ الفضل والمنة ينفع بهذا المشروع كما نحب، وخيراً مما نحب! وليت أنه ـ سبحانه ـ يجعل هذا المشروع ـ دائماً ـ عملاً خالصاً تماماً لوجهه الكريم! ) (10).
ثانياً: قصة الجمع الصوتي في المدينة النبوية :
ذكر الدكتور عبد العزيز القارئ قصة هذا الجمع في المدينة النبوية بأسلوبه المتميز في لقاء شبكة التفسير وأنا أنقل جملاً من كلامه وفقه الله (11):
= بداية الفكرة :
يقول الدكتور عبد العزيز القارئ: (أهم أمنية علمية قرآنية كنت حريصاً على تحقيقها هي " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة " وهذا الهدف الخطير الكبير فكرت فيه أيام تقلدي لعمادة كلية القرآن الكريم بالمدينة النبوية ؛ لأنني نظرت فإذا حولي بالكلية أعلام كبار من علماء القراآت: الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله ، ثم جاء بعده إلى المدينة الشيخ عامر بن السيد عثمان شيخ المقارئ المصرية رحمه الله ، ثم جاء الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات رحمه الله، وعُين بمجمع المصحف ، وكان يدرس بكلية القرآن ..
وأهل العلم يعرفون إمامة هؤلاء الثلاثة في مجال القراآت ، وكان بالكلية أيضاً الشيخ عبد الفتاح المرصفِي رحمه الله ، والشيخ الدكتور محمود سيبويه البدوي رحمه الله ، والشيخ محمود جادو رحمه الله ، والشيخ عبد الرافع رضوان حفظه الله وبارك في عمره، وغيرهم ؛ وكان كل هؤلاء علماءَ في القراآت بمرتبة الحجية ، أي كل واحد منهم حجة في هذا الفن؛ وهم يُعدُّون من أهل الطبقة الأولى في هذا العصر ، وبقي من أهل هذه الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي بارك الله في عمره وأمدَّه بالصحة والعافية ، فإنه من طبقة الشيخ عامر والشيخ الزيات ، وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت الكبار من أهل هذه الطبقة ..
فلما رأيت اجتماع أولئك الأئمة في القراآت في مكان واحدٍ هو المدينة النبوية؛ وأكثرهم عندي في كلية القرآن أدركت أنها فرصة لا تفوَّت لتحقيق هذا الهدف الكبير وهو "الجمع الصوتي للقراآت المتواترة" ؛ وهو لو تحقق فإنه يُعدُّ بحق الجمع الرابع للقرآن ؛ فإن القرآن جُمِعَ قبلَ ذلك ثلاث مرات ...
لكنْ لم يُفكِّر أحدٌ أنه يمكن تسجيل القرآن صوتياً ؛ لأن هذا ارتبط بالتقدم "التكنولوجي" في العصر الحديث حيث تطورت أجهزة الصوتيات بشكل لم يَسْبِقْ له نظيرٌ وأصبح ممكناً تسجيل القراآت كلها صوتياً ؛ وفي تسجيلِ القراآت تسجيلٌ للغات العرب ولهجاتها ، فهو موضوع كبير من جميع جوانبه ).
= عوامل نجاح المشروع:
يقول الدكتور عبد العزيز وفقه الله : ( لكنَّ مثلَ هذا المشروع الجليل الخطير يتطلب ثلاثة أمور بدونها لا يصبح ذا قيمة علمية تُذكر :
1- توافر الإشراف العلمي الراقي : بوجود مراجع بمرتبة الحجية في القراآت كما مثلت سابقاً ، يشرفون على التسجيل ويراقبونه ؛ لأن القراآت أكثرها أمور صوتية دقيقة قد تخفى حتى على بعض الخواصِّ.
2- توافر الأداء القرآني الراقي : بوجود قرَّاء ذوي أداء مُتْقَنٍ ، وأصوات حسنة، وتنغيم جيد ، وهذا كان متوافراً في طلاب كلية القرآن ، وكان أحسن هؤلاء الذين اخترناهم للمشروع طالبٌ باكستانيٌّ ، تميّزَ بفصاحة الحروف وإتقان التجويد ، وجودة التنغيم ، وحسن الصوت، لكن رئاسة الجامعة وقتها حرصت على ترحيله بمجرد تخرجه ففقد المشروع واحداً من أهم عناصره !!
3- الإرادة الإدارية : فإن مثل هذا المشروع يحتاج إلى إشراف إداري ، وتمويل كاف، وجهة علمية قادرة تتبنى تنفيذه ، وكانت هذه الجهة موجودة وهي كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ...).
= بداية المشروع :
يقول وفقه الله : (وأمدَّتنا وزارة الإعلام وقتها بإنشاء "استوديو" للتسجيل في نفس الكلية ، وكان لهذا التبرع السخي أثر كبير دفع المشروع إلى الأمام ؛ وبدأنا نُسجل ونذيع ما نسجله في إذاعة القرآن الكريم باسم " دروس من القرآن الكريم " ؛ حتى يستمع أهل العلم وأهل الاختصاص إلى ما نسجله ويشاركوننا الرأي والمشورة ؛ ونجحت هذه الخطة نجاحاً باهراً ..
أخبرني أحد أهم كبار العلماء وأعيانهم وقتذاك فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس القضاة بالمدينة النبوية ـ رحمه الله ـ أنه لا تفوته حلقة من حلقات هذا البرنامج ؛ وأنه يستمع إليه دائماً ، وأبدى إعجابه به وبمشايخ القراآت الذين يُديرون الشرح فيه، وخاصة الشيخ محمود سيبويه وقال : حقاً إنه لسيبويه عصره .
ولما طلبت من فضيلته أن يزودنا بملحوظاته وتوجيهاته فاجأني بملحوظة دقيقة هامة عن أحد من كان يقوم بالأداء والتلاوة بين يدي المقرئ قال : فلانٌ ممن يقرأ استبعدوه لأن نغمته أعجمية هندية والقرآن عربي. واستبعدناه فعلاً). .
= ثم ما ذا حدث للمشروع :
يقول الدكتور وفقه الله : ( وبعد انتهاء مدة عمادتي لكلية القرآن الكريم استمرَّ التسجيل فترة من الوقت حتى بلغوا آخر سورة المائدة أو بعدها ثم توقف المشروع) ..
= آهات الشيخ عبد العزيز القارئ على المشروع :
يقول وفقه الله : (والآن يَعْلُو غبارُ النسيان ذلك "الاستوديو" الذي أنشأته وزارة الإعلام بالكلية ، ويبدو أنه فاتت فرصةٌ ثمينة لتحقيق " الجمع الرابع للقرآن الكريم " الذي هو " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة " ؛ لأن معظم أولئك الأئمة الأعلام من علماء القراآت رحلوا إلى الآخرة) ..
= ثم سئل وفقه الله : هل يمكن الآن تنفيذ هذا المشروع ؟
فقال: (نعم يمكن ، فإنه كما ذكرتُ سابقاً بقي من أئمة القراآت من أهل الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي أمدّه الله بالحصة والعافية ..
وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت من أهل هذه الطبقة يُعدُّون في مرتبة الإمامة والحجية، أعرف منهم شيخ مقارئ دمشق الشيخ كريم راجح حفظه الله وبارك في عمره.
وهناك كثيرون من القراء الشباب من أهل الطبقة الثانية والثالثة ، لكنَّ هذا المشروع لخطورته وجلالة شأنه وعِظَمِ صلته بالقرآن الكريم لا يكفي أن يباشره مثلُ هؤلاء الأفاضل ؛ لا بد من الأئمة الكبار) .
5- ثم بقيت بعد ذلك المرحلة الخامسة من الجمع : وهو الجمع المرئي للقرآن الكريم(12)، وذلك بتسجيل القرآن الكريم بالصوت والصورة والتدقيق على طريقة الأداء لأن عدداً من الأحكام لا يمكن ملاحظتها إلا بالرؤية والبصر، وهاهم علماء القراءات متوافرون ولله الحمد والمنة ، فليت إحدى المؤسسات الحكومية ترعى هذا المشروع، وأولى تلك المؤسسات هو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وهو أهل لذلك...
[align=center]والله تعالى أعلم ...
الاثنين 14 / 11 / 1430هـ[/align]
ـــــــ حواشي ـــــــــ
(1) أغلب ما ذكرته في هذه الترجمة مأخوذ من ترجمة مختصرة لابنه أحمد كما في الرابط :
http://www.mazameer.com/vb/t31785-2.html
(2) الجمع الصوتي الأول : (101).
(3) السابق : (105).
(4) السابق : (109).
(5) السابق : (110).
(6) السابق نفس الصفحة .
(7) السابق : (111).
(8) السابق : (114).
(9) السابق : (499).
(10) السابق : (500).
(11) انظر لقاء شبكة التفسير مع فضيلته على الرابط :
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=10331
(12) أشار إلى هذا الجمع واقترحه الدكتور عبد الرحمن الشهري في لقاء تلفزيوني ضمنا في برنامج الوسطية في القناة السعودية الأولى.
ومن أعظم ما سجله التاريخ في عناية العلماء بالقرآن الكريم ما ابتدأه الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أشار عليه الخليفة الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم.
ويذكر العلماء أن جمع القرآن الكريم مر بثلاث مراحل:
1- الجمع الأول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم : وهو بمعنى حفظه في الصدور، وهو المذكور في قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه).
2- الجمع الثاني في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: وهو بمعنى جمعه من متفرق في مصحف واحد، وكان سبب هذا الجمع كثرة القتلى من حفاظ القرآن الكريم، وصاحب الفكرة هو الخليفة الراشد الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3- الجمع الثالث في عهد عثمان رضي الله عنه : وهو بمعنى توحيد المصاحف المختلفة ونشره وتوزيعه على الأمصار .
4- ثم جاءت المرحلة الرابعة وهي: الجمع الصوتي للقرآن الكريم:
وهو من الجهود المباركة في هذا العصر، وكثيرٌ من الناس يظن أن تاريخ هذا المشروع قريبٌ، والحقيقة أن ذلك التاريخ يعود إلى خمسين سنة ماضيةً، حين كانت بداية المشروع هناك في القاهرة، في الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم، حيث تقدم بهذه بفكرة هذا المشروع الأستاذ لبيب السعيد (ولد سنة: 1914م ــ وتوفي سنة: 1988م) وقد ألف كتاباً في هذا المشروع أسماه ( الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم ) طبع في دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة 1387هـ، وجدته في إحدى مكتبات عمان الأردن في إحدى الزيارات.
[align=center]
وأحب أعرج في هذا المقال على تاريخ ذلك الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، حفظاً لحق صاحب الفكرة، وشكراً لتلك الجهود التي بذلها في سبيل تحقيق هذا المشروع القيم، علماً بأنه ليس من أبناء الأزهر، وإنما أستاذ ومجتهد وفقه الله تعالى لخدمة كتابه، ويسر له ما كان عسيراً على غيره..
= من هو لبيب السعيد :
من العجيب أنك لا تكاد تجد ترجمة للأستاذ لبيب السعيد، وكل ما يمكن أن يذكر ما يأتي(1):
• ولد في المنصورة بمصر في 8 / 12 / 1914م.
• كان يعمل في وزارة المالية المصرية.
• رأس الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم.
• عمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حتى منتصف الثمانينات.
• له عدد من الكتب منها:
أ- الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم .
ب- المقارئ والقراء.
ت- الأذان والمؤذنون.
ث- رسم المصحف.
ج- التغني بالقرآن.
• له سلسلة ( معارف قرآنية ) سُجلت في إذاعة الرياض في السبعينيات.
• توفي رحمه الله في 22/1/1988م.
[align=center]
= بواعث هذا المشروع :
يقول الأستاذ لبيب السعيد : "وأعود إلى ما قبل إعلاني عن مشروع المصحف المرتل ببضع سنين لا أستطيع تحديدها بدقة. منذ يومئذ وأنا أحس أن جمع القرآن جمعاً صوتياً بكل قراءاته المتواترة والمشهورة أمرٌ يجب أن ينهض به أهل هذا الزمان .
وكنت أتابع، في المقارئ الكبيرة بالقاهرة، الممتازين من علماء القراءات، وكان يؤلمني أنه كان إذا مات منهم أستاذٌ حاذقٌ خَلَفَه أحياناً مَنْ لا يعدله أستاذيةً وحذقاً، وضاعت على المسلمين ـ إلى الأبد ـ مواهب الميّت لأنها لم تُسجَّلْ.
ما كان أعظم شعوري بالخسارة الفادحة المستمرة على مدى الزمن في القراء الذين يموتونّ! ذلك أن إنتاجهم ـ بطبيعته ـ غير إنتاج غيرهم من أصحاب العلوم والفنون، فهؤلاء يستطيع الواحد منهم ـ بفضل الكتابة ـ أن يواصل ـ بعد موته ـ الحياة في إنتاجه، أما أصحاب التراث الصوتي، وفي مقدمتهم القُرَّاء، فكان تراثهم يفنى بفنائهم، لأن العلم لم يكن اهتدى بعدُ إلى طرائق تسجيل هذا التراث. وحتى بعد الاهتداء، تأخر تسجيل المصحف أمداً غير قصير"(2).
هكذا كانت خلجات صدر لبيب السعيد، وحديث نفسه، الحسرةُ على عدم حفظ تلك الأصوات الشجية، وتلك المزامير القرآنية، وفوات السابق على اللاحق، هكذا اختمرت الفكرة في ذهن الأستاذ لبيب حتى جاءت سنة 1959م.
= بداية المشروع :
تقدم الأستاذ لبيب السعيد في أواخر فبراير أو أوائل مارس 1959م إلى مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم ـ وكان رئيس مجلس إدارتها ـ باقتراح ابتدأه بما يأتي:
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم
اقتراح مقدم إلى مجلس إدارة الجمعية من رئيسها لبيب السعيد
بشأن تسجيل القرآن الكريم صوتياً بكل رواياته المتواترة والمشهورة وغير الشاذة[/align]
ثم ذكر تفاصيل المشروع.
وجاء فيه قوله :
(وفيما يختص بالتسجيل نفسه، أقترح أن يشمل تلاوة الكتاب العزيز كله بقراءة حفص، ثم بمختلف القراءات المتواترة والمشهورة وغير الشاذة، على أن لا تُرَدَّدَ الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة، كما يشمل التسجيل دروساً عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة ميسرة تمكن الجمهور العادي من الانتفاع بها.
أما فيما يختص بمن يتولون القراءة والتدريس العملي، فيجب أن يكونوا من أعلم علماء القرآن، مع مناسبة أصواتهم للتسجيل، وأن تختارهم لجان لها خبرتها القرآنية العظمى، ويشارك فيها الأزهر الشريف والهيئات العلمية واللغوية والثقافية الأخرى)(3).
= من الصعوبات :
لقي الأستاذ لبيب في سبيل تحقيق مشروعه عدداً من العقبات، أنَّ لها أنات، منها ما سطره قلمه حيث قال:
(وعجزتُ عن تدبير "استوديو" للتسجيل فيه بالمجان، فرغبتُ إلى نائب وزير الدولة لشؤون رياسة الجمهورية، وإلى المدير العام للإذاعة أن يأذنا لي بالتسجيل في استوديوهات الإذاعة، وسعيت في ذلك سعياً، حتى اسْتُجيب لطلبي، بشرطٍ أصرَّتْ عليه الإذاعة، وهو أن يكون لها الحق المطلق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها، ولعل سروري بهذا الشرط وأنا أقدم به إقراراً كتابياً كان أكبر من سرور الإذاعة)(4).
ويقول في ذكر عوائق المشروع :
( ولستُ أنسى يوماً من أيام رجب سنة 1379هـ (يناير 1960م) سعيت فيه، بناء على نصيحة أحد المخلصين للمشروع، إلى ثري كبير هو وزير في إحدى الدول العربية، وكان يقيم في مصر في حي الدقي، فتلقَّى هذا الثريُّ حديثي عن المشروع بعدم الاكتراث، وخرجتُ يومها من لدنه خجلان آسفاً نادماً)(5).
= نقطة تحول في تاريخ المشروع :
يقول الأستاذ لبيب : (وحفزني الإخفاق في تمويل المشروع إلى التفكير في وضعه تحت الرعاية المالية للدولة نفسها. وفي يوم الأربعاء24 من فبراير 1960م، قابلت وزير الأوقاف ورجوته مساعدة المشروع مالياً، فاستجاب فوراً وفي حماسة، وكانت استجابته مبعث طمأنينة واستبشار وأمل، وأصبح العمل شغل الوزير نفسه ومحل اهتمامه، فأفاد كثيراً) (6).
= بداية التسجيل:
أ ـ المصحف الأول:
ابتدأ التسجيل الأول برواية حفص بصوت القارئ الحصري ـ رحمه الله ـ أحد القراء المشهورين في مصر، ولم يكن التسجيل سهلاً : ( لم يكن التسجيل شيئاً هيناً، فمع امتياز القارئ، وكونه قد أصبح آنئذ شيخ المقارئ، كانت اللجنة تستوقفه كثيراً ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب)(7).
وكانت اللجنة مكونة من :
أ ـ الشيخ عبد الفتاح القاضي ( وقد استعفى من اللجنة في وقت مبكر لأسباب منها بعد عمله عن القاهرة).
ب ـ الشيخ عامر عثمان ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
ج ـ الشيخ عبد العظيم الخياط ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
د ـ الشيخ محمد سليمان صالح ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
هـ ـ الشيخ محمود حافظ برانق ( وهو في ذلك الوقت من مدرسي معهد القراءات التابع للأزهر).
وابتدأ الطبع في مايو سنة 1960م،وانتهت الطبعة الأولى في 23/ يوليو/ 1961م. حيث بدئ بتوزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام.
ب ـ المصحف الثاني:
في سنة 1962م، تم تسجيل قراءة أبي عمرو برواية الدوري، واختير لهذه الرواية ثلاثة من القراء لهدف ذكره الأستاذ لبيب بقوله : ( وقد أشرتُ بأن لا يستأثر قارئ واحد بتسجيل المصحف كاملاً، دفعاً لملل السامعين، واستفادة بأكبر عددٍ من أصحاب المواهب، وتحقيقاً لتكافؤ الفرص) (8).
وهم المشايخ:
أ ـ الشيخ فؤاد العروسي.
ب ـ الشيخ محمد صديق المنشاوي.
ج ـ الشيخ يوسف كامل البهتيمي.
ولكن في أثناء التسجيل جاء المنع من شيخ الأزهر الشيخ محمود شتوت خوفاً من اختلاف المسلمين حول أي القراءات أولى.
ولكن الأستاذ لبيب بادر بمقابلة الشيخ رحمه الله وأقنعه بالفكرة وأثرها .
وتم الانتهاء من تسجيل هذه الراوية في سبتمبر سنة 1963م.
= الفرح بنجاح المشروع :
كانت فرحة الأستاذ لبيب غامرة بإنجاز هذا المشروع، يقول :
( وقد ازددتُ إدراكاً لفضل الله عليَّ، وعلى الناس، إذ قدَّرَ لهذا المشروع النجاح، حين كنت خارج مصر، في بلاد بعيدة، أستمع إلى المصحف المرتل، من الإذاعة، أو أستمع إليه، في دور السفارات، والقنصليات العربية... لقد كان ينسلخ عني وقتئذ ـ شأني شأن كل مستمع مسلم عربي ـ الشعور بغربة اللسان أو غربة المكان، وقد حكى لي غير واحد ممن سمعوا المصحف المرتل في ديار الغربة أنهم لم يكونوا يملكون حبس دموعهم تأثراً وفرحاً) (9).
= أمانيُّ باقية :
كانت أماني الأستاذ لبيب بتنفيذ المشروع على الوجه المخطط له بتسجيل جميع روايات القرآن الكريم، يقول:
( فليت أن المشروع يتم عاجلاً ، وفق التخطيطات المرسومة له! وليت أن الله صاحبَ الفضل والمنة ينفع بهذا المشروع كما نحب، وخيراً مما نحب! وليت أنه ـ سبحانه ـ يجعل هذا المشروع ـ دائماً ـ عملاً خالصاً تماماً لوجهه الكريم! ) (10).
ثانياً: قصة الجمع الصوتي في المدينة النبوية :
ذكر الدكتور عبد العزيز القارئ قصة هذا الجمع في المدينة النبوية بأسلوبه المتميز في لقاء شبكة التفسير وأنا أنقل جملاً من كلامه وفقه الله (11):
= بداية الفكرة :
يقول الدكتور عبد العزيز القارئ: (أهم أمنية علمية قرآنية كنت حريصاً على تحقيقها هي " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة " وهذا الهدف الخطير الكبير فكرت فيه أيام تقلدي لعمادة كلية القرآن الكريم بالمدينة النبوية ؛ لأنني نظرت فإذا حولي بالكلية أعلام كبار من علماء القراآت: الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله ، ثم جاء بعده إلى المدينة الشيخ عامر بن السيد عثمان شيخ المقارئ المصرية رحمه الله ، ثم جاء الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات رحمه الله، وعُين بمجمع المصحف ، وكان يدرس بكلية القرآن ..
وأهل العلم يعرفون إمامة هؤلاء الثلاثة في مجال القراآت ، وكان بالكلية أيضاً الشيخ عبد الفتاح المرصفِي رحمه الله ، والشيخ الدكتور محمود سيبويه البدوي رحمه الله ، والشيخ محمود جادو رحمه الله ، والشيخ عبد الرافع رضوان حفظه الله وبارك في عمره، وغيرهم ؛ وكان كل هؤلاء علماءَ في القراآت بمرتبة الحجية ، أي كل واحد منهم حجة في هذا الفن؛ وهم يُعدُّون من أهل الطبقة الأولى في هذا العصر ، وبقي من أهل هذه الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي بارك الله في عمره وأمدَّه بالصحة والعافية ، فإنه من طبقة الشيخ عامر والشيخ الزيات ، وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت الكبار من أهل هذه الطبقة ..
فلما رأيت اجتماع أولئك الأئمة في القراآت في مكان واحدٍ هو المدينة النبوية؛ وأكثرهم عندي في كلية القرآن أدركت أنها فرصة لا تفوَّت لتحقيق هذا الهدف الكبير وهو "الجمع الصوتي للقراآت المتواترة" ؛ وهو لو تحقق فإنه يُعدُّ بحق الجمع الرابع للقرآن ؛ فإن القرآن جُمِعَ قبلَ ذلك ثلاث مرات ...
لكنْ لم يُفكِّر أحدٌ أنه يمكن تسجيل القرآن صوتياً ؛ لأن هذا ارتبط بالتقدم "التكنولوجي" في العصر الحديث حيث تطورت أجهزة الصوتيات بشكل لم يَسْبِقْ له نظيرٌ وأصبح ممكناً تسجيل القراآت كلها صوتياً ؛ وفي تسجيلِ القراآت تسجيلٌ للغات العرب ولهجاتها ، فهو موضوع كبير من جميع جوانبه ).
= عوامل نجاح المشروع:
يقول الدكتور عبد العزيز وفقه الله : ( لكنَّ مثلَ هذا المشروع الجليل الخطير يتطلب ثلاثة أمور بدونها لا يصبح ذا قيمة علمية تُذكر :
1- توافر الإشراف العلمي الراقي : بوجود مراجع بمرتبة الحجية في القراآت كما مثلت سابقاً ، يشرفون على التسجيل ويراقبونه ؛ لأن القراآت أكثرها أمور صوتية دقيقة قد تخفى حتى على بعض الخواصِّ.
2- توافر الأداء القرآني الراقي : بوجود قرَّاء ذوي أداء مُتْقَنٍ ، وأصوات حسنة، وتنغيم جيد ، وهذا كان متوافراً في طلاب كلية القرآن ، وكان أحسن هؤلاء الذين اخترناهم للمشروع طالبٌ باكستانيٌّ ، تميّزَ بفصاحة الحروف وإتقان التجويد ، وجودة التنغيم ، وحسن الصوت، لكن رئاسة الجامعة وقتها حرصت على ترحيله بمجرد تخرجه ففقد المشروع واحداً من أهم عناصره !!
3- الإرادة الإدارية : فإن مثل هذا المشروع يحتاج إلى إشراف إداري ، وتمويل كاف، وجهة علمية قادرة تتبنى تنفيذه ، وكانت هذه الجهة موجودة وهي كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ...).
= بداية المشروع :
يقول وفقه الله : (وأمدَّتنا وزارة الإعلام وقتها بإنشاء "استوديو" للتسجيل في نفس الكلية ، وكان لهذا التبرع السخي أثر كبير دفع المشروع إلى الأمام ؛ وبدأنا نُسجل ونذيع ما نسجله في إذاعة القرآن الكريم باسم " دروس من القرآن الكريم " ؛ حتى يستمع أهل العلم وأهل الاختصاص إلى ما نسجله ويشاركوننا الرأي والمشورة ؛ ونجحت هذه الخطة نجاحاً باهراً ..
أخبرني أحد أهم كبار العلماء وأعيانهم وقتذاك فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس القضاة بالمدينة النبوية ـ رحمه الله ـ أنه لا تفوته حلقة من حلقات هذا البرنامج ؛ وأنه يستمع إليه دائماً ، وأبدى إعجابه به وبمشايخ القراآت الذين يُديرون الشرح فيه، وخاصة الشيخ محمود سيبويه وقال : حقاً إنه لسيبويه عصره .
ولما طلبت من فضيلته أن يزودنا بملحوظاته وتوجيهاته فاجأني بملحوظة دقيقة هامة عن أحد من كان يقوم بالأداء والتلاوة بين يدي المقرئ قال : فلانٌ ممن يقرأ استبعدوه لأن نغمته أعجمية هندية والقرآن عربي. واستبعدناه فعلاً). .
= ثم ما ذا حدث للمشروع :
يقول الدكتور وفقه الله : ( وبعد انتهاء مدة عمادتي لكلية القرآن الكريم استمرَّ التسجيل فترة من الوقت حتى بلغوا آخر سورة المائدة أو بعدها ثم توقف المشروع) ..
= آهات الشيخ عبد العزيز القارئ على المشروع :
يقول وفقه الله : (والآن يَعْلُو غبارُ النسيان ذلك "الاستوديو" الذي أنشأته وزارة الإعلام بالكلية ، ويبدو أنه فاتت فرصةٌ ثمينة لتحقيق " الجمع الرابع للقرآن الكريم " الذي هو " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة " ؛ لأن معظم أولئك الأئمة الأعلام من علماء القراآت رحلوا إلى الآخرة) ..
= ثم سئل وفقه الله : هل يمكن الآن تنفيذ هذا المشروع ؟
فقال: (نعم يمكن ، فإنه كما ذكرتُ سابقاً بقي من أئمة القراآت من أهل الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي أمدّه الله بالحصة والعافية ..
وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت من أهل هذه الطبقة يُعدُّون في مرتبة الإمامة والحجية، أعرف منهم شيخ مقارئ دمشق الشيخ كريم راجح حفظه الله وبارك في عمره.
وهناك كثيرون من القراء الشباب من أهل الطبقة الثانية والثالثة ، لكنَّ هذا المشروع لخطورته وجلالة شأنه وعِظَمِ صلته بالقرآن الكريم لا يكفي أن يباشره مثلُ هؤلاء الأفاضل ؛ لا بد من الأئمة الكبار) .
5- ثم بقيت بعد ذلك المرحلة الخامسة من الجمع : وهو الجمع المرئي للقرآن الكريم(12)، وذلك بتسجيل القرآن الكريم بالصوت والصورة والتدقيق على طريقة الأداء لأن عدداً من الأحكام لا يمكن ملاحظتها إلا بالرؤية والبصر، وهاهم علماء القراءات متوافرون ولله الحمد والمنة ، فليت إحدى المؤسسات الحكومية ترعى هذا المشروع، وأولى تلك المؤسسات هو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، وهو أهل لذلك...
[align=center]والله تعالى أعلم ...
الاثنين 14 / 11 / 1430هـ[/align]
ـــــــ حواشي ـــــــــ
(1) أغلب ما ذكرته في هذه الترجمة مأخوذ من ترجمة مختصرة لابنه أحمد كما في الرابط :
http://www.mazameer.com/vb/t31785-2.html
(2) الجمع الصوتي الأول : (101).
(3) السابق : (105).
(4) السابق : (109).
(5) السابق : (110).
(6) السابق نفس الصفحة .
(7) السابق : (111).
(8) السابق : (114).
(9) السابق : (499).
(10) السابق : (500).
(11) انظر لقاء شبكة التفسير مع فضيلته على الرابط :
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=10331
(12) أشار إلى هذا الجمع واقترحه الدكتور عبد الرحمن الشهري في لقاء تلفزيوني ضمنا في برنامج الوسطية في القناة السعودية الأولى.