(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير المنار وموقف النقاد منه) لحازم محي الدين

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29 مارس 2003
المشاركات
19,306
مستوى التفاعل
124
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com


(قراءة في منهج رشيد رضا في تفسير المنار وموقف النقاد منه) للكاتب الفلسطيني د. حازم محي الدين

بعد أن استقرَّ المقام برشيد رضا في القاهرة (عام 1898م)، وانتهى من إقناع شيخه محمد عبده بضرورة تأسيس مجلة "المنار"، عقد العزم على إقناع أستاذه أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، يعكس منهجه في الإصلاح والتجديد، لكن الشيخ عبده رفض هذا الاقتراح قائلاً: "إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه، فله تفاسير كثيرة أتقن بعضها ما لم يتقنها بعض، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات، ولعل العمر لا يتسع لتفسير كامل" (تفسير المنار، 1 /12).

ثم اقترح عليه أن يكتب تفسيراً يقتصر فيه على حاجة العصر، ويترك كل ما هو موجود في كتب التفسير السابقة، ويبين ما أهملوه فيها، غير أنَّ محمد عبده رفض هذا الاقتراح أيضاً محتجاً أنَّ "الكتب لا تفيد القلوب العُمي...، إذا وصل لأيدي هؤلاء العلماء كتابٌ فيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منه شيئاً يردونه، ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرَّفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة التي نريد بيان معناها الصحيح، وما تفيده" (تفسير المنار، 1/13). ثم ذكر له محمد عبده أنه قد سبقت له محاولات في تدريس التفسير، بسبب إيمانه بقدرة الكلام المسموع على التأثير في النفوس أكثر من الكلام المقروء إلا أن هذه المحاولات لم يهتم بها أحد، مع أنها كان من حقها أن تدوَّن، وتُكتب، لذلك فهو لا يفضل تكرار هذه المحاولات الفاشلة. وهنا ردَّ عليه رشيد رضا بقوله: "إن الزمان لا يخلو ممنْ يقدِّر كلام الإصلاح قدره، وإن كانوا قليلين، وسيزيد عددهم يوماً فيوما، فالكتابة تكون مرشداً لهم في سيرهم. وإنَّ الكلام الحق، وإنْ قلَّ الآخذ به، والعارف بشأنه لا بدَّ أن يُحفظ، وينمو بمصادفة المباءة المناسبة له" [1]. هكذا استمر الحوار بينهما حتى انتهى باقتناع عبده بوجهة نظر رضا، وبدأ بالفعل بإلقاء دروس في التفسير في الأزهر ابتداءً من شهر محرم سنة (1317هـ/ 1899م)، وانتهى منه في منتصف محرم سنة (1323هـ/ 1905م) قُبَيل وفاة عبده، مبتدئاً من بداية القرآن الكريم، منتهياً عند تفسير قوله تعالى {وكان الله بكلِّ شيءٍ محيطاً} من الآية 125 من سورة النساء.

كان منهج محمد عبده في التفسير "أن يتوسع فيما أغفله، أو قصَّر فيه المفسرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الألفاظ، والإعراب، ونُكت البلاغة، وفي الروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات، ويتوكأ في ذلك على عبارة تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرها، أو ينتقد منها ما يراه منتَقداً، ثم يتكلم في الآية أو الآيات المنزلة في معنى واحد بما فتح الله عليه مما فيه هداية وعبرة" (تفسير المنار، 1/15) وكان رشيد رضا في أثناء دروس محمد عبده يدوّن أهم ما يسمعه منه في مذكرات خاصة، ثم بدأ ينشر ما جمعه فيها ابتداءً من أول محرم سنة (1318هـ / 1900م)، وذلك في المجلد الثالث من مجلة "المنار". ولم يكتف رضا في أثناء حياة شيخه بالنقل عنه، وتدوين أفكاره وآرائه فقط بل كان يضيف إلى كل ذلك زيادات كثيرة، وكان يميز في معظم الأحيان، أقواله عن أقوال محمد عبده، بقوله: "وأقول"، "وأنا أقول"، "وأزيد الآن" (تفسير المنار، 1/15).

وبعد وفاة محمد عبده سنة (1323هـ / 1905م) استقلَّ رشيد رضا بكتابة التفسير، وكان ينوي القيام بتفسيرٍ كامل للقرآن الكريم، ويظهر هذا جلياً من كلامه في نهاية معظم مجلدات تفسيره الاثني عشر، وذلك عندما كان يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يعينه على إتمام هذا التفسير، لكن قضاء الله تعالى حال دون تنفيذ ما كان ينوي ويضمر إذ توفاه الله تعالى بعد فراغه من تفسير قوله تعالى من سورة يوسف: {ربِّ قد آتَيتَني من المُلك وعلَّمتني من تأويلِ الأحاديثِ فاطِرَ السمواتِ والأرضِ أنتَ وليِّ في الدُّنيا والآخرةِ توفَّني مُسلِماً وأَلحِقني بالصالحينَ} (يوسف: 101).

منهج رشيد رضا في تفسير المنار :
لا نستطيع أن نقرر بشكل قاطع، أنَّ للشيخ رشيد رضا منهجاً، وأسلوباً موحّداً، اتبعه في كامل تفسيره، لأنه فسّر ما فسّر في مدة تزيد على الثلاثين عاماً (ما بين 1317 هـ/ 1899م و1354 هـ/ 1935م)، وهذه مدة طويلة تمنع على الأرجح أي مفسِّر من اتّباع خطة تفصيلية موحّدة يلتزم بها في كل ما يفسِّره [2]، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نستخرج الملامح الرئيسة لمنهجه وأسلوبه في التفسير، والتي إنْ زاد عليها في بعض الأحيان، ولكنه لم يخالفها على الإجمال في كامل تفسيره.

ولكن قبل ذكر هذه الملامح العامة، أجد من الضروري، من الناحية المنهجية، ذكر نقطتين مهمتين:

أولهما: كان تفسير المنار في الأصل عبارة عن دروس شفهية، كان محمد عبده يلقيها على جمهور من الطلبة والمثقفين المصريين في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا في الوقت نفسه يقوم بتدوين خلاصة أفكار هذه الدروس في مذكرات خاصة به مدةً من الزمن، ثم بدأ يحرّر هذه المذكرات، ويضيف عليها من كتب التفسير الأخرى، ومن أفكاره الخاصة، ويعرض كل ذلك على عبده ليأخذ موافقته عليه، ويقوم بعد ذلك بنشرها في مجلته المنار ابتداءً من الجزء السادس في المجلد الثالث الصادر في محرم سنة (1318هـ)/ إبريل (1900) م. وابتداءً من هذا التاريخ استمر رضا حتى وفاته بنشر تفسيره على صفحات مجلته "المنار"، علماً أنه قد بدأ منذ سنة (1908م) بجمع كل ما كان ينشره من التفسير في مجلته في نهاية كل سنة ويعيد نشره في مجلد مستقل [3].

أردتُ من ذكر ما سبق الإشارةَ إلى أن اختلاف فئة مُتلقيّ التفسير بين مرحلة عبده [4]، ومرحلة رضا، وخاصة بعد أن بدأ بنشر تفسيره على صفحات مجلته التي يقرؤها جمهورٌ عريض من المسلمين في معظم بلاد العالم الإسلامي آنذاك، فرض على رشيد رضا أن يستجيب أكثر لحاجات هذه الجماهير العريضة المتعطشة للهداية، والثقة بالدين وأحكامه بأكثر مما فعل عبده، وقد تجلَّت هذه الاستجابة في مظاهر عدة، أهمها ازدياد حضور النزعة الإصلاحية في التفسير، التي ازدادت وضوحاً وجلاءً من خلال الفصول الإصلاحية الاستطرادية الكثيرة [5] التي كتبها رشيد، وأدرجها في تفسيره دون أن تكون هناك دائماً حاجة واضحة لذكرها في المواضع التي ذُكرت فيها في التفسير [6] وكذلك الفصول الاستطرادية العديدة التي عقدها للرد على المبشرين وحملاتهم، وبشكل خاص تلك الفصول التي جعلهم فيها في موقع الدفاع عن النفس عندما هاجم وبكل قوة عقائد الصلب والتثليث والفداء. وكذلك اعتماد رضا أسلوباً في الكتابة بعيداً عن لغة التجريد والتنظير، والمصطلحات والمفاهيم الدقيقة التي تعلو عن مستوى عامة قرائه، وفي المقابل سعيه إلى مراعاة السهولة والجمال في التعبير، بحيث يتمكن القارئ المحدود الثقافة والعلم من فهم عباراته، ويقف دون صعوبة على مراده منها، وبذلك استطاع تفسيره أن يحقق الهدف الذي أراده له رشيد رضا منه، وهو أن يتدبَّر القارئ القرآن الكريم، ويهتدي به، ويُعينه على "النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملّته، الذي هو المقصود بالذات منه" (تفسير المنار1/16).

ثانيهما: أخبرنا رشيد رضا بنفسه عن منهجه في التفسير بعد أن انفرد في العمل بعد وفاة عبده، قائلاً: "هذا، وإنني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته، خالفتُ منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة" (تفسير المنار1/16).

يمكن أن نفهم من هذا النص أنَّ رشيد رضا قام بعد استقلاله بالعمل بتضييق فسحة حرية النظر اللغوي، والعقلي المستقل التي كان يمنحها عبده لنفسه أثناء تفسيره لصالح توسيع دائرة الاعتماد على النصوص الدينية: قرآناً وسنةً، وعلى أقوال السلف، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على التفريع الفقهي، والتوسع الكلامي واللغوي.

وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت310هـ)، والبغوي (ت516هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، والسيوطي (ت 911هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت538هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت711هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ).

ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء الرسميين، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني، توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها.

ولنعد الآن إلى ذكر الملامح العامة التي ميّزت منهج وطريقة رشيد رضا في تفسيره:

1- كان رشيد رضا يلجأ في تفسيره للآيات الكريمة إلى القرآن الكريم نفسه أولاً، مؤكداً أنَّ "الآيات يفسِّر بعضها بعضاً إّذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أُمرنا " (تفسير المنار2/259) ثم كان يلجأ بعد ذلك كما صرح هو إلى "سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول.. وبأساليب لغة العرب، وسُنن الله في خلقه" (تفسير المنار، 6/196). أي الالتزام بالمنطق الداخلي المتماسك، والمنسجم للنص القرآني، والاعتصام بعواصم الأثر والخبر الصحيح، والأخذ بطرق اللغة العربية قي دلالة الألفاظ، والتراكيب على المعاني، ومقتضيات العقل السليم من خلال تحكيم سنن الله تعالى العاملة في الكون والتاريخ، واعتبارها إحدى مرجعيات، ومعايير التفسير السليم.

2- كان حريصاً في بداية تفسير كل مجموعة من الآيات الكريمة، أن يربط هذه الآيات ربطاً منطقياً محكماً بمجموعة الآيات التي تسبقها، أو بموضوع السورة الرئيسي الذي تتحدث عنه مجمل آيات السورة، وبذلك عمل رشيد رضا على إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، والسياق الواحد الذي يؤلف بين آياتها [7].

3- كان حريصاً عندما تتعرض الآية التي يفسّرها لقضيةٍ ما، أن يسرد ويحلّل بشكل موجز معظم الآيات الكريمة الأخرى التي تتحدث عن القضية نفسها، وبذلك يكون رضا من أوائل من تنبَّه لأهمية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم في العصر الحديث.

4- كان معنياً بذكر أسباب النزول وتمحيص الروايات الواردة فيها، كما كان مهتماً بذكر القراءات القرآنية عند وجودها (تفسير المنار1/ 167، 3/ 247)، كما كان حريصاً أيضاً على ذكر الأحاديث النبوية التي تدور في فلك الآية أو الآيات التي يفسرها، ولم يغفل عند ذكره هذه الأحاديث، عن التعليق عليها، ونقد أسانيدها، وتمحيص رواتها، هذا فضلاً عن تخريجها، وعَزْوها إلى مصادر الحديث المعتمدة [8].

5- لم يتوسَّع في نقل أقوال النحاة، وعلماء البلاغة في إعراب الآيات القرآنية الكريمة، ووجوه البلاغة فيها إلا ما كان منهما ضرورياً لبيان معنى الآيات، وجمال الأسلوب القرآني، ودقة التعبير فيها (تفسير المنار 10 /524)، وكان هدفه من هذا الاقتصاد هو ألاَّ يشغل القارئ عن وجوه الهداية، والإصلاح في معاني الآيات المفسرة، وهي مقصوده الأول من التفسير، كما كان ذلك مقصود شيخه محمد عبده من تفسير القرآن [9]. وبشكل عام، فإنَّ رشيد رضا لم يكن يُكثر النقل عن العلماء السابقين في المجلدات الأولى من تفسيره، ولكنه وابتداءً من المجلد السابع، بدأ يُكثر، وينقل بإسهاب من الكتب والتفاسير السابقة، وخصوصاً كتب ابن حزم (ت 456هـ)، والغزالي(ت 505هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وابن قيِّم الجوزية (ت751 هـ)، وابن كثير(ت774هـ)، والشاطبي (ت 790هـ).

6- لم يكن رشيد رضا حاسماً منذ البداية في موقفه إزاء تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وأمور الغيب بشكل عام، حيث كان يتأرجح بين موقفي السلف والخلف، أي بين موقف التنزيه مع التفويض من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبين موقف التنزيه مع التأويل فيما يتعلق في تفسير هذه الآيات الكريمة، حتى حسم موقفه بوضوح إزاء هذه القضايا بسبب إقباله الكبير على قراءة كتب أئمة الفكر السلفي، وعلى رأسهم ابن تيمية، وتَبَنيه لموقفهم بشكل كامل، مع الاحتفاظ لنفسه بذكر بعض تأويلات محمد عبده، وعلماء الخلف، وتأويلات خاصة به أحياناً، بسبب اقتناعه بضرورة هذه التأويلات في إقناع أصحاب الثقافة المادية والفلسفية الذين لا يقبلون التسليم بأمور الغيب كما وردت النصوص بها دون تأويل يُزيل التعارض الظاهري بينها، وبين العقل [10]. فهو مؤمن إيماناً تاماً بمنهج السلف في تفسير آيات الغيب، إلا أنه قدّم بعض التنازلات، عن قناعةٍ وإدراكٍ منه لِما يفعل، في هذا المجال إرضاءً لنزعته الإصلاحية التي قضت عليه هنا بسرد بعض التأويلات من أجل أن يكسب أنصاراً جدداً للإسلام من بين قُرائه من ذوي الثقافة العصرية، ومن أبناء المؤسسات التعليمية الحديثة الذين بدؤوا يهيمنون على مقاليد الحياة السياسية والثقافية في عصره.

7- لم يكن رشيد رضا يتحرَّج في مواضع كثيرة من مناقشة، ونقد شيخه محمد عبده في بعض آرائه، وخاصة في الأمور والمسائل العقدية التي مال فيها عبده عن مذهب السلف [11]، فهو لا يسلِّم له تسليماً مطلقاً، ولا يؤيِّد كلامه عندما يؤيده إلا بعد قناعةٍ منه، واتفاقٍ معه بالرأي، وليس عن طريق التقليد المحض الذي سبق أن ذمَّه كثيراً، وبهذا نعلم أن رشيد رضا كان يحتفظ بشخصيته العلمية المستقلة، حتى وهو ينقل كلام أستاذه، ومن باب أولى غيره من المفسرين [12].

8- قام بربط تفسير الآيات ومضمونها بواقع المسلمين ومشاكلهم السياسية والاجتماعية، واتخذ من تفسير الآيات وسيلة لتنبيه المسلمين، وتذكيرهم بالواجبات الملقاة على عاتقهم، وكثيراً ما كان يستفيد من هذا الربط، ويقوم بالانتقاد الشديد لمعظم علماء وشيوخ عصره الذين تمسكوا بالتقليد، وابتعدوا عن الاجتهاد، ولم يقوموا بدورهم في تذكير المسلمين، وربط حياتهم بالقرآن الكريم، والسنة الصحيحة. (تفسير المنار، 4/ 98، 318)

9- كان حريصاً في نهاية تفسير كل سورة تقريباً، على كتابة خلاصة إجمالية لأحكامها، وقواعدها، ومقاصدها [13]، يركِّز فيها بشكل خاص على السُنن الإلهية الكثيرة التي أوردها في ثنايا الآيات المفسَّرة (تفسير المنار، 9 / 559 - 585)، بحيث يمكننا القول: إنَّ استنباط السُنن الإلهية في الخلق والتكوين، وفي الاجتماع والعمران البشري، وشؤون الأمم من القرآن الكريم، من أهم وأبرز السِّمات والخصائص التي تمَيَّز تفسير المنار بها عن مختلف التفاسير الأخرى.

نقد تفسير المنار :
على الرغم من المكانة المتميزة التي احتلها تفسير المنار في سياق حركة التفسير الحديثة، وموقعه المؤثر في مجمل حركة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد تعرَّض إلى انتقادات كثيرة من قِبل فئات عدة، يأتي في مقدمتهم بعض علماء المدرسة السلفية الحديثة الذين رأوا في تساهل رشيد رضا في ذكر بعض التأويلات، وتأويل بعض المعجزات، وردّ بعض الأحاديث النبوية، وانفراده ببعض الآراء الفقهية [14]، وقسوته أحياناً على بعض العلماء السابقين، اتباعاً أعمى من رشيد رضا لمنهج شيخه محمد عبده الذي أسرف في نظرهم في الاعتماد على العقل والرأي في التفسير. ولم يشفع لرشيد رضا أمام هؤلاء العلماء ما ذهب إليه، بعد وفاة شيخه، من ترجيح مذهب السلف على مذهب الخلَف العقلي، وأخذه الواضح بمقومات المنهج الأثري في التفسير، وتوسعه الكبير في الاقتباس من أمهات التفسير المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، فقد بقي في نظرهم، وفي مؤلفاتهم أحد نماذج العلماء المسلمين الذين انهزموا فكريا أمام الغرب المتقدِّم، والذين قدَّموا من أجل التوفيق بين الإسلام، وبين حضارة الغرب الغالبة تنازلات على حساب خصوصية الإسلام، ومنهجه المستقل في العقيدة والتشريع، ولعل أهم من يمثل علماء هذه المدرسة هو الدكتور فهد الرومي أحد أبرز العلماء السعوديين المعاصرين [15].

وقد تعرّض رشيد رضا وتفسيره إلى نقد طائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية، فقد وجَّه إليه بعض علماء هاتين المدرستين انتقادات شديدة بسبب زحزحته المكانة التقليدية المرموقة التي كان يتمتع بها كل من الفقهاء التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية في المجتمع، وذلك من خلال الحملة العنيفة التي قام بها على صفحات تفسيره على التقليد المذهبي وعلمائه (12/ 220ـ 221.) وعلى البدع والخرافات الدينية الشائعة الذيوع في كثير من البيئات الصوفية الطُرقية. ومن خلال دعوته اللاهبة في مقابل ذلك إلى إحياء روح الاجتهاد، وروح الزهد والتزكية وفق نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فقط. ولقد تركزت معظم انتقادات هذا الفريق من العلماء على الميول السلفية والوهابية التي ظهرت جلياً في تفسير المنار، بالإضافة إلى تأويله لبعض المعجزات، وإنكاره لكثير من الكرامات التي يدعيها شيوخ الطرق الصوفية. ونذكر من علماء هذه الطائفة التي تصدت لرشيد رضا الشيخ الأزهري المتصوف يوسف الدجوي (ت 1946م) الذي قاد حملة صحفية قوية ضد رشيد رضا، على صفحات مجلة الجامع الأزهر آنذاك "نور الإسلام"، واتهمه باتهامات خطيرة، مثل: إنكار الملائكة والجن، وإنكار بعض المعجزات، والإيمان بمذهب دارون، وردّ بعض الأحاديث الصحيحة، ونشر مقالاته تلك في كتاب سماه "صواعق من نار في الرد على صاحب المنار"، الأمر الذي دفع رضا للرد، وتبيين حقيقة، وسلامة موقفه إزاء القضايا التي اتهمه فيها، في مقالات عديدة جمعها ونشرها في كتاب سماه: "المنار والأزهر" [16].

وهناك فريق آخر من الباحثين المعاصرين ممن ينتمون إلى تيار إعادة قراءة القرآن الكريم وفق مناهج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، يرى أنَّ مساهمة رشيد رضا في تفسير "المنار" ما هي إلا خطوة تراجعية عن بعض ما أنجزته مدرسة المنار على يد رائديها الأفغاني وعبده ـ وهو في نظرهم إنجاز محدود، وموضع نقد وتقويم ـ وذلك بسبب ما قام به رضا من إعادة العمل التفسيري إلى تخوم المدرسة التقليدية القديمة في التفسير، وتظهر أهم ملامح تلك العودة، في نظرهم، من خلال إكثاره من النُقول الواسعة عن علماء التفسير السابقين، فضلاً عن استطراداته الواسعة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والتشريع، هذا بالإضافة إلى عجزه عن الاستفادة من المناهج الغربية الحديثة في دراسة، ونقد النصوص المقدسة؛ وكأحد نماذج هذه المدرسة يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي في معرض تقييمه لتفسير المنار: "فنلاحظ إذن أنه لا يمت بصلة إلى حركة التفسير "الكتابي" -نسبة إلى الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين- التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن السابع عشر بالخصوص، والتي كانت أبرز ملامحها متمثلة في استقلالها عن علم اللاهوت، واعتمادها منهجاً نقدياً في تناول النصوص المقدسة. فتفسير المنار أبعد ما يكون عن التفسير النقدي، وليس فيه أدنى إعادة نظر في المسلَّمات المتعلقة بالترتيب الرسمي والتعبُّدي للسور والآيات، ومواطن الإشكال في عدد من التعابير القرآنية، ويتبنى بالطبع المفهوم التقليدي للوحي الذي يكون فيه الرسول مجرد مبلِّغ سلبي للرسالة الإلهية، فلا مجال فيه لأثر ما لشخصية النبي وللظروف التاريخية التي أحاطت به، ولا لمشكلة الانتقال من الكلام الإلهي المفارق إلى الكلام البشري المحدود بالضرورة. وبعبارة أخرى فقد كان تفسير المنار تفسيراً إيمانياً بالدرجة الأولى" [17].

يكاد الدكتور عبد المجيد الشرفي بكلامه هذا يستعيد بشكل شبه كامل ما قاله المستشرق آرثر جيفري قبل أكثر من سبعين عاماً في مجلة "العالم الإسلامي"، في مقالة بعنوان " النقد العالي للقرآن" طالب فيها علماء المسلمين باقتفاء أثر علماء الغرب بإخضاع القرآن الكريم إلى معايير النقد التاريخي والأدبي التي أخضعوا لها نصوصهم المقدسة، دون أدنى اعتبار منه للاختلافات الصريحة بين طبيعة النص القرآني المقطوع بصحته التاريخية، وإيمان المسلمين القاطع بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لفظاً ومعنىً على قلب رسوله محمد r، وبين نصوصهم المقدسة التي تعرضت للتحريف والتزوير التاريخي باعترافهم هم، وأنها نصوص مقدسة دوَّنها أتباع الرسل عليهم السلام، ولا تُعَد كلام الله تعالى نفسه لفظاً ومعنىً في وقت واحد كما هو حال القرآن الكريم [18].

وفي الحقيقة، فإنه يمكن القول بأن ما يريده أصحاب هذا الاتجاه ـ فضلاً عن إخضاع النص القرآني لأسئلة الحداثة وإشكالاتها النقدية المتعلقة بالنصوص المقدسة ـ هو عزل النص القرآني عن شبكة النصوص التفسيرية التي أحاطت به، وأصبحت مدخلاً إجبارياً لفهمه، وأصبحت معاني القرآن الكريم بالتالي أسيرةً لمنهجية هذه النصوص في تحديد المعنى بشكل عام، لذلك فقد اعتبروا محاولة رضا للعودة بتفسير القرآن الكريم إلى أحضان التراث، والارتباط بمنهجيته التفسيرية العامة بمثابة تراجع منهجي لا يساعد على تطوير علم التفسير [19].

وفي الحقيقة، فإنّ أصحاب هذا الرأي قد غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار السياق المعرفي والتاريخي الحرج الذي كان يكتب فيه رشيد رضا تفسيره، وتجاهلوا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقرّاء تفسيره، إذ هما، بالإضافة إلى اقتناعه العلمي بطبيعة الحال، اللذان أجبرا رشيد رضا على اختيار ما اختاره من إجراءات وأساليب في التفسير، حيث ما كان له أن يؤثر في وعي قرائه، ويكسب تأييدهم لأفكاره الإصلاحية المنبثّة في كل صفحات تفسيره، إلا إذا احترم ذاكرتهم الجمعية التي تضمن لهم أدنى حدود التضامن، والتماسك في اللحظات التاريخية العصيبة التي كانوا يمرون بها، وإلا إذا قام مخلصاً بالانتظام في داخلها، وتقديم أفكاره على قاعدةٍ متينة منها، وهذا هو بالضبط الذي فعله عندما استكثر من الاعتماد على تراث المفسرين من قبله أخذاً ونقاشاً ونقداً، واعتمد منهجيتهم العامة في التفسير.


ــــــــــ الحواشي ـــــــ
[1] رضا، رشيد، تفسير المنار، 1 / 14. نلاحظ من كلام رشيد رضا هنا مدى وضوح وحضور الغاية الإصلاحية وراء اقتراحه بل إلحاحه على محمد عبده أن يكتب تفسيراً للقرآن الكريم. وعلى هذا يمكن أن نقول: إن مشروع كتابة تفسير "المنار" كان منذ اللحظة الأولى لولادته استجابةً معرفية لمشروع إصلاحي تغييري، ولم يكن استجابة للآمر العلمي المحض عند صاحبيه عبده ورضا على السواء.

[2] لقد تركت هذه المدة الطويلة التي دُوِّن فيها تفسير "المنار"، وما حدث فيها من تقلبات سياسية، بعض الآثار السلبية عليه، مثل التطويل، والإسهاب، والتكرار، وظهور شيء من النزعة الخطابية في بعض المواضع. انظر، الشرباصي، أحمد، رشيد رضا الصحفي، المفسِّر، (القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1977م) 152ـ 157.

[3] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، (الكويت، مكتبة المعلا، ط1، 1409هـ/1988م) 317.

[4] يصف لنا رشيد رضا هوية الفئة التي كانت تحضر دروس محمد عبده بقوله: "هذا وإن درس التفسير في الأزهر كان أحفل الدروس وأنفعها في الدين، والاجتماع، والسياسة، والأدب والبلاغة، وكان يحضره كثير من علماء الأزهر، وأساتذة المدارس الثانوية والعالية، وكبار رجال القضاء الأهلي، وفضلاء الوجهاء، ورجال الحكومة". رضا، رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة، مطبعة المنار، ط1، 1350هـ/ 1931م) 1/769.

[5] ذكر رشيد رضا أن سبب ذكر هذه الاستطرادات هو تحقيق "مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يُثبِّتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحلَّ بعض المشكلات التي أَعيَا حلُّها بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس " تفسير المنار، 1/16.

[6] كان رشيد رضا يدرك بنفسه هشاشة الصلة بين معظم هذه الفصول، وبين نسيج النص التفسيري الذي أٌضيفت إليه، لذلك لم يتردد في القول "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يُقرأ فيه التفسير". المصدر السابق، 1/16.

[7] انظر على سبيل المثال تقريره لارتباط آية الدَيْن الطويلة بما سبقها من آيات الحثّ على الصدقة وتحريم الربا في آخر سورة البقرة، تفسير المنار، 3 / 118 - 119. وانظر أيضاً، 4/ 122ـ 123، 256ـ 257، 434 ـ 435.

[8] انظر، على سبيل المثال، تفسير المنار، 3 /82 - 91. وانظر أيضاً، شقير، شفيق، موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث الشريف: دراسة تطبيقية على تفسير المنار، (بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1419هـ/ 1998م)، 275ـ 408.

[9] أشار رشيد رضا إلى أن للقرآن الكريم بلاغتين، بلاغة مضمونه ومعانيه، وتأتي في المقام الأول، وبلاغة ألفاظه وأساليبه، وتأتي على الرغم من أهميتها في المقام الثاني. فها هو يقول "وإن كثرة البحث في الثاني -يقصد البلاغة اللفظية- ليشغل المفسر عن الأول الخاص منه بالهداية، وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا السبب نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات". تفسير المنار، 12/ 91. انظر أيضاً، 10 / 524.

[10] يقول رشيد رضا: "وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أنَّ من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف، ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويلٍ يرضاه أسلوب اللغة العربية، فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئاً منه بسوء قصد.. والتفسير الموافق للغة العرب لا يُسمى تأويلاً، وإنما يجب معه تنزيه الخالق، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه". تفسير المنار، 1/ 252ـ 253. وفي الحقيقة فقد ذكر رضا هذا الكلام في المجلد الأول من تفسيره الذي نشره بشكل مستقل بعد أن أضاف عليه إضافات كثيرة، عام 1346هـ/1927م، أي في المرحلة التي تشبَّع فيها رضا من الفكر السلفي، دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن تمسكّه بمشروع محمد عبده الإصلاحي بشكل عام.

[11] انظر مناقشته لمحمد عبده في الفرق بين الذنب والسيئة، تفسير المنار، 4 / 302 - 304. وانظر نقده له في مسألة "الغُلو"، وانتصاره لمذهب السلف في تقرير هذه المسألة، تفسير المنار، 1 / 395. وانظر أيضاً، 2/ 139.

[12] انظر على سبيل المثال نقده لفخر الدين الرازي، تفسير المنار، 1/ 68، 4/ 61ـ 63. ونقده لشهاب الدين الآلوسي (ت1854م) صاحب تفسير "روح المعاني "، 1/ 91ـ 94.

[13] وصف رشيد رضا عمله هذا بأنه " أشق عمل في التفسير، ولم أُسبق لمثله ". أرسلان، شكيب، السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، (دمشق، مطبعة ابن زيدون، ط1، 1356هـ/ 1937م) 615.

[14] انظر على سبيل المثال ما ذهب إليه من أن المسافر يجوز له التيمم، حتى لو كان الماء بين يديه، ولا يوجد أي مانع يمنعه من استخدامه إلا كونه مسافراً. تفسير المنار، 5/ 120ـ 121.

[15] انظر على سبيل المثال، الرومي، فهد، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4/ د.ت)، 809ـ 812، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 333ـ 339.

[16] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 477 ـ 478.

[17] انظر الشرفي، عبد المجيد، الإسلام والحداثة، (تونس، الدار التونسية للنشر، ط2، 1991م)، 67ـ 68.

[18] Jeffrey, Arthur, Higher Criticism of Quran, the Confiscated of Commentary of Muhammad Abu Zaid, The Moslem World, Volume XXII, No, 1, January, 1932, pp 78-83.

[19] انظر، النيفر، أحميدة، الإنسان والقرآن: التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج، (دمشق، دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م)، 76.

المصدر : الملتقى الفكري للإبداع هنا .
 
جزاكم الله خيرا ..

مقال ماتع يبين عددا من ملامح هذا السفر الطيب الذي نفع الله به في العصر الحديث نفعا كبيرا، وإن لم يسلم -كأي كتاب- من منقد.
ويكفي في هذا التفسير أنه "كان منذ اللحظة الأولى لولادته استجابةً معرفية لمشروع إصلاحي تغييري، ولم يكن استجابة للآمر العلمي المحض عند صاحبيه عبده ورضا على السواء" كما قال الكاتب.

وإن كان من "العلماء السعوديين" -على حد تعبير الكاتب- من انتقد هذا التفسير، فإن آخرين أثنوا عليه ونصحوا بقراءته، وعلى رأسهم العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-.
ومن أحسن الكتابات التي تحدثت عن هذا التفسير كتاب: (اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر) للدكتور/ محمد إبراهيم الشريف، نال بها درجة الدكتوراة بامتياز من جامعة القاهرة، خصص جزءا كبيرا منها للحديث عن مدرسة المنار وبذور التجديد فيها وتأثيرها على الحركة العلمية التفسيرية من بعدها إلى اليوم..
وهو كتاب جدير بالقراءة، ولعله يتيسر نقل بعضا منه أو التعريف به باستقلال.
 
عرض موفق لتفسير المنار وبيان وجهات النظر حول هذا السفر الضخم، ولكن ما أغفله الكاتب من بيان منهجه كثرة نقوله من كتب اليهود والنصارى مع تشدد رضا بترك رواياتهم في تفسيره وقد بين ذلك الدكتور فهد الرومي في اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، كما أن الكاتب أشار إلى تأويله المعجزات النبوية إشارة فقط دون التوقف عليها ببيان أكثر مع الأمثلة وبيان وجهة نظر رشيد رضا في ذلك وهي تقريب وجهات النظر بين الغرب والمسلمين ليقتنع بهذه المعجزات، وللشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله رسالة عتاب ينتقد فيها منهج رشيد رضا في تفسيره حول ذلك أرسلها له وقد ذكر هذه الرسالة د.محمد عبد الله السلمان في كتابه الشيخ رشيد رضا السلفي المصلح.
وأود التعليق على بعض مضمون هذه الدراسة حول تفسير المنار أننا إذا أردنا النظر إلى هذا التفسير من منظار الانتصار لفكرة أو مذهب أو تيار فإنك ستجد هذا التنازع في نسبته لمدرسة وتيار، أو نفيه عن هذه أو تلك ولذلك - وبهذا الاعتبار - لا أخفي عجبي من اعتبار الشيخ رضا سلفياً مع تأويله المعجزات وإسرافه في عدم تقبل الغيبيات والتسليم بها وتفسير بعضها بالماديات كالملائكة بقوة الخير والشياطين بقوة الشر...الخ، هل لأنه فقط أكثر الثناء على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية وأكثر الاستشهاد بكلام ابن تيمية!!
أما إذا نظرنا إلى التفسير من جهة علمية شرعية مبتعدين عما سبق فسنخرج بنتيجة أخرى وهي أن الشيخ رشيد رضا كان يهدف إلى مسايرة الغرب الذي انطبع بالماديات ورفض الغيبيات بقوة وأثر هذا الجو على العالم الإسلامي وطغى عليه وأحدث فتنة عظيمة كادت أن تحول قبلة المسلمين إلى أوربا وترافق ذلك مع نشاط الاستشراق ودعمه لتلامذة المستشرقين من أبناء جلدتنا الذين رجعوا من أوربا باسم العلمانية، هذا مع تنازعه الفكري مع ما تعلمه من أصول الدين والشريعة التي يصطدم بها عند المقارنة فيجد نفسه أمام منهجين أساسيين:
- الأول: تأويل ما يثبت من الغيبيات وهو المنهج الأصلي الذي كان يتبعه محمد عبده.
- الثاني: تضعيف الروايات أو ردها ورفضها والطعن بها مهما كانت درجة ثبوتها عند المحدثين.
هذا مع تأثره بما يحصل في العالم من حركات وتيارات يقترب منها تارة ويبتعد عنها أخرى حسب الجو العلمي والسياسي، ولذلك كان يتأرجح بين هذه وتلك.
وإذا نظرنا إلى منهجه بالمقارنة مع أمثاله في العالم الإسلامي فسنجد أنه كان بهذا قريبا لمنهج أحمد بهادر خان في الهند حتى إن رشيد رضا لا يخفي إعجابه بمقالة نشرتها في ذلك الوقت جريدة الرياض الهندية وعنوانها : (هل ولد السيد أحمد خان ثانية بمصر وظهرت جريدته تهذيب الأخلاق بشكل المنار؟).
ولذلك استحوذت مدرسة محمد عبده التي نشطها رشيد رضا بالاهتمام والدراسة من قبل المستشرقين الذين كانوا يحرصون على تسميتها بالمدرسة الإصلاحية وخص ج. جومييه تفسير المنار بدراسة (تفسير القرآن عند مدرسة المنار) عام 1954
وأختم بما قاله اللورد كرومر الحاكم البريطاني في مصر: (إن محمد عبده كان مؤسساً لمدرسة فكرية حديثة في مصر قريبة الشبه من تلك التي أسسها السيد أحمد خان في الهند..)، ثم يقول كرومر: (إن أهمية السياسة ترجع إلى أنه يقوم بتقريب الهوة التي تفصل بين الغربي وبين المسلمين، وأنه هو وتلاميذ مدرسته خليقون بأن بقدم لهم كل ما يمكن من العون والتشجيع، فهم الحلفاء الطبيعيون للمصالح الأوربية..) . آراء المستشرقين حول القرآن 2/810.
 
كلام نفيس بارك الله فيكم .
وللدكتور عادل الشدي -حفظه الله- كلاما حول موقفه من التفسير العلمي , ومدى وجود شيء من ذلك في تفسيره .
لعلي أنقله قريبا بإذن الله .
 
وإن كان من "العلماء السعوديين" -على حد تعبير الكاتب- من انتقد هذا التفسير، فإن آخرين أثنوا عليه ونصحوا بقراءته، وعلى رأسهم العلامة ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-.
أين أجد نصيحة الشيخ محمد -رحمه الله- ؟
وهل علق عليه ؟
ومن أحسن الكتابات التي تحدثت عن هذا التفسير كتاب: (اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر) للدكتور/ محمد إبراهيم الشريف، نال بها درجة الدكتوراة بامتياز من جامعة القاهرة، خصص جزءا كبيرا منها للحديث عن مدرسة المنار وبذور التجديد فيها وتأثيرها على الحركة العلمية التفسيرية من بعدها إلى اليوم..
وهو كتاب جدير بالقراءة، ولعله يتيسر نقل بعضا منه أو التعريف به باستقلال.
هل بالإمكان تعريفنا بهذا الكتاب أكثر , لأني وجدت من أشكل عليه شيئا مما فيه ؟
بارك الله فيكم ونفع بكم .
 
العقل في تفسير المنار لأحمد الشرباصي

العقل في تفسير المنار لأحمد الشرباصي

أشكر الأخ أبا المكارم على إعلانه عن هذا البحث وقد نزّلت هذا البحث الماتع وقرأته وصححت ما فيه من أخطاء طباعية وعرضته هنا للإخوة يقرأوه دون حاجة إلى تنزيل غير أن عُهدته التاريخية على رافعه وطابعه فهو ملف وورد وعلى المجلة ذاتها، فالكتاب مرفوع على هيئة ملف وورد لا صورة بي دي اف. فأنا لم أر البحث في المجلة ولم أسأل الدكتور الشرباصي رحمه الله عن صحة صدوره وأظنه صحيحا دقيقا ولكن ليس من حقي الجزم بتوثيقه.ونصيحتي إلى الإخوة الذين يرفعون بحوثا ومقالات أن يقوموا بسكنرتها وسكنرة عنوان الكتاب أو المجلة المستل منها توثيقا للبحث المنقول وتسهيلا على الإخوة الباحثين أن يقتبسوا ويحيلوا في المستقبل، والله يحب إذا عمل أحدنا عملا أن يتقنه. وها هو ذا البحث:

العقل وتفسير المنار

للدكتور أحمد الشرباصي
هذا المقال حول تفسير المنار المشهور لرشيد رضا نشر عام 1970 م في مجلة الوعي الإسلامي.

العقل في تفسير المنار:

الاحتكام إلى العقل ظاهرة واضحة في تفسير المنار وفي القدر المشترك بين محمد عبده ورشيد رضا على وجه التخصيص.
ورشيد رضا يرى أن أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع مبنية على إدراك العقل لها، واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد وسد ذرائع الفساد
ومن أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار القول بأن جنة آدم وحواء التي كانا فيها ثم اخرجا منها هي بستان من البساتين كان آدم وزوجه منعّمين فيها. وأنه ليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها.
ويعتمد التفسير هنا على أن الجنة كما يفهمها أهل اللغة هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه.
وكذلك من أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار أن يقرر أنه ليس هناك نص على أن حواء خُلقت مــن ضلع آدم وأن قوله تعالى: {وخلق منها زوجها ليس نصا في ذلك، لأن المعنى خلق من جنسها مثل قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا} وأما الحديث الذي يقول: فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج فهو على حد قوله تعالى {خلق الإنسان من عجل} ومن أمثلة ذلك أيضا ما ذكره في تفسير المنار في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} حيث قال: الكلمات جمع كلمة وتُطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام، والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي ثم جاء فيه بعد ذلك ولم يذكر الكلمات ما هي، ولا الإتمام كيف كان لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال} هذا هو المتبادر ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره في تفسيره عن قوله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} حيث اختار التفسير أن المصلى هنا موضع الصلاة بمعناها اللغوي العام وهو الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وعبادته مطلقا وقال رشيد أن حمل الصلاة على معناها اللغوي أظهر.
ومن اللمحات العقلية اللغوية البلاغية الرائعة ما جاء في تفسير المنار عن قوله تعالى:{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} حيث قال بعض المفسرين أن لفظ (مثل) هنا زائد ولكن صاحب تفسير المنار يعلق على ذلك بقوله: واستنكر الأستاذ الإمام ( أي الشيخ محمد عبده) ذلك واستكبره كعادته فإنه يخــطّــئ كل من يقول أن في القرآن كلمة زائدة أو حرفا زائدا وقال: إن المثل هنا معنى لطيفا ونكتة دقيقة.
وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على الأنبياء ولكن طرأت على أيمانهم بالله نزغات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس، وتمسكوا بالقشور وهي رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلا منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدّعون العمل بالدين.
فلما بين الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق، وأن هؤلاء الذين يدّعون اتّباع الأنبياء قد ضلوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق، أمرنا سبحانه تعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين بأن يؤمنوا بمثل ما نؤمن نحن به لا بما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن الله ومن التفرق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد.
فالذين يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالتنزيه وهو يؤمنون بالتشبيه، وعلى ذلك القياس.
فلو قال: فإن آمنوا بالله وبما أنزل على أولئك النبيين وما أوتوه، فقد اهتدوا، لكان لهم أن يجادلوا بقولهم: إننا نحن المؤمنون بذلك دونكم، ولفظ (مثل) هو الذي يقطع عرق الجدل.

على أن المساواة في الإيمان بين شخصين، بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر، في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به، وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا، فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة، مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم الإدراك.
ولو كانت القراءة: (فإن آمنوا بما آمنتم به) كما روي عن ابن عباس في الشواذ، كان الأولى أن يقدّر (المثل ) فكيف نقول – وقد ورد لفظ (مثل) متواترا: أنه زائد ؟

ومن أمثلة استخدام العقل في تفسير المنار ما جاء فيه بشأن الحجر الأسود حيث قرر أنه لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ولا تحصره جهة من الجهات.
وكذلك ما جاء في تفسير المنار عن صخرة بيت المقدس، حيث ذكر أنها ليست بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها وليس لها منافع أو خواص لا توجد في غيرها ولا هيكل سليمان نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الأبنية وكذلك يُقال في الكعبة والبيت الحرام.
ولا شك أن تفسير النص القرآني في ضوء العقل وفقه اللغة العربية التي نزل بها القرآن، يعطي الإسلام قوة وصلابة عند الذين يعتزّون بالعقل والعلم المادي ولذلك يروي السيد رشيد رضا أن أحد النوابغ من رجال القضاء الأذكياء قال لــلأستاذ الإمام (يقصد الشيخ محمد عبده): " إنك بتفسيرك القرآن بالبيان الذي يقبله العقل ولا يأباه العلم، قد قطعت الظن على الذين يظنون أنه قد اقترب الوقت الذي يهدمون فيه الدين ويستريحون من قيوده، وجهل رجاله وجمودهم"
ويعلق السيد رشيد على هذا بأنه اتبع طريقة العقل من بعض المنكرين لوجود الله تعالى، فلم يستطيعوا لها دحضا.
ولكن مدرسة تفسير المنار التي جعلت من أهدافها التوفيق بين الدين والعقل أصابها طائف من المبالغة، حيث أسرفت أحيانا في الخضوع للعقل، وهو أمام الغيب قاصر مهما كانت قوته وأسرفت أحيانا في الحذر والاحتراس من تقبّل الغيبيات والتسليم بها، وإذا كان الناس قد حمدوا لها تحديد نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم والتوفيق بين كلام الله وسنته الكونية المألوفة ومقاومتها طوفان الخرافات والاسرائيليات والأساطير التي تسربت إلى رحاب التفسير، واستعانتها بمقررات العلم الحديث في إقناع أهله بالدين وتعاليمه.
إذا كان الناس قد حمدوا لها ذلك كله فإنهم قد فزعوا حين رأوا الأمر قد زاد عن حدّه، فكاد ينقلب إلى ضده، ومن أمثلة المبالغة في تحكيم العقل في تفسير المنار ذكره أن الملائكة هي القوى والأفكار الموجودة في النفوس وأن المراد بسجود الملائكة لآدم هو تسخير القوى للإنسان في هذه الحياة، وأن قصة آدم بما فيها من محاورة الملائكة، وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة له إلخ، هي من باب التمثيل لا أنها وقعت بالفعل... الخ
والعجيب أن السيد محمد رشيد رضا قد أشار إلى خطأ من يقول أن الدليل العقلي هو الأصل، فيرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته له مطلقا، ويعلق رشيد على هذا بقوله:
" والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني مع قطعي، وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا"

ليت ما في تفسير المنار كله خضع لهذه القاعدة المعتدلة المستقيمة.

والعجيب أيضا أن الدكتور طه حسين قال لي عن إخضاع التفسير للعقل: "لي على الشيخ محمد عبده اعتراض، فإن تأويله لنصوص القرآن، وحرصه على أن يكون نص القرآن ملائما كل الملائمة للعلم الحديث، مما أخالفه فيه، فهو مثلا يقول عن الحجارة الموصوفة في سورة الفيل بأنها من سجيل أنها جراثيم وهذا توسيع في تحكيم العقل، والمسلمون الأوائل وهم صحابة الرسول لم يفهموا هذا.
والله يفعل ما يشاء ولكن الإنسان يفعل ما يستطيع، والإنسان الآن قد وصل إلى القنبلة الذرية والهيدروجينية والغازات السامة، مما لم يكن العرب يعرفونه في ذلك الوقت فالله يخبرنا بأنه أرسل حجارة من سجيل ولا بد أن آخذ القرآن بلا تأويل وأن أقبل النص القرآني كما هو والعلم لم يحط بكل شيء والله وحده هو الذي يعلم كل شيء"
ثم أضاف د. طه حسين قوله" إن بعض المستشرقين يذهب مع هذا المذهب فيقول إن الفيل لم يكن فيلا بل كان قائدا من قواد الروم جاء مع أبرهة واسمه افيلاس وقد سمعت هذا من المسيو جاستون فييت الذي كان مديرا لدار الآثار العربية.

إشارات اجتماعية وسياسية :

من الأمور التي لاحظتها في تفسير المنار أن رشيدا كان ينتهز فرص التفسير ليضع في كلامه إشارات اجتماعية أو سياسية، تتعلق بالوطن العربي، أو العالم الإسلامي ومن أمثلة ذلك أنه في الجزء الأول يشير إلى النزعة الفرعونية التي بدت من بعض المصريين، ودفعتهم إلى بغض إخوانهم في اللغة والدين ممن هاجروا إلى مصر وقال رشيد هذا سنة 1320 هـ (1902م).
ولما جاءت سنة 1346 هـ (1927م) أضاف إلى قوله السابق أن تلك النزعة الفرعونية قد قويت عند القبط وزنادقة المسلمين ورشيد قد لقي متاعب من هؤلاء.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه تعرض في سورة الأعراف لتفسير قوله تعالى: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} وفي نهاية تفسيره للآية قال " اللهم تب على أمتنا وارفع عنها رجس الأجانب الطامعين، وأعوانهم المنافقين"

وهو قد قال هذا سنة 1338هـ (1919م) والاحتلال البريطاني جاثم على البلاد والثورة المصرية تجاهد لزحزحته وبعض الخونة يسير في ركاب الإنجليز.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه في تفسيره لسورة الأعراف يتحدث عن إباحة الحكومة المصرية للزنا وسكوت علماء الدين على ذلك ويقول إن هذا بإغواء الإفرنج كما يتحدث عن دعوة بعض المصريين إلى أن تكون حكومة مصر غير دينية، وأن تُلغى المحاكم الشرعية اقتداء بالحكومة التركية وأن مصطفى كمال اتاتورك في الوقت نفسه استدل على جواز إقامة التماثيل شرعا بوجودها منصوبة في مصر.

وعندما يفسر السيد رشيد قوال الله تعالى في سورة هود {واتبعوا أمر كل جبار عنيد} يعرّض بالملوك الجبارين في الأرض قبل انقراضهم
وعندي أن هذه الإشارات السياسية والاجتماعية لها قيمتها الكبيرة فهي تعطينا ملامح للعصر الذي عاش فيه رشيد، وتعرّفنا بالتيارات والأحداث التي كانت خلاله كما أننا نفهم منها أن رشيدا لم يكن بمعزل عن مجتمعه بل كان يمتزج به ويتعرف إليه ويحكم عليه وكان أيضا يستخدم كتابته حتى في التفسير للحث على ما يؤمن به وللتنفير مما يراه ضارا أو سيئا.
ومن المفيد جدا أن يتتبع متتبع هذه الإشارات خلال التفسير، وخلال آثار رشيد الأخرى وبذلك التتبع تتكامل صورة واضحة المعالم لتأثر رشيد بعصره وتأثيره في عصره ولجوانب هذا العصر بما فيه من اتجاهات وتيارات.

ملاحظات على تفسير المنار

ألاحظ على تفسير المنار ما يلي:
اولا: الاستطرادات الطويلة التي تــشــبه البحوث المستقلة، والتي توجد فجوات واسعة، تحول دون متابعة التفسير ورشيد نفسه يشير إلى هذه الاستطرادات ويقول: "واستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية وحدها في غير الوقت الذي يقرآ فيه التفسير"
ثانيا: الأسلوب الخطابي الذي يبدو أحيانا في تفسير المنار ولعل رشيدا نفسه قد أحس بهذا اللون الخطابي الذي يفتح الباب للتطويل الاسهاب فعمد إلى اختصار تفسير المنار في أجزاء موجزة تحت عنوان: التفسير المختصر المفيد الذي يمكن أن يزداد علمنا بأمره عن الحديث عن كتب رشيد رضا.
ثالثا: عدم الاستقرار أحيانا في التفسير، ومن أمثلة ذلك أنه تكلم عن السبب في عدم نزول: " بسم الله الرحمن الرحيم" في أول سورة التوبة فقال:
" ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها المنافقين وبُدئت بنبذ عهود المشركين وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزل فيما قبلها من أحكامه "
فنفهم من هذا أن عدم ذكر البسملة هو أن السورة منذرة وليست موطنا داعيا إلى التحدث عن الرحمة التي ذُكرت كثيرا في القرآن، ولكن رشيدا يعود في الجزء العاشر من التفسير إلى الحديث في الموضوع فلا يجعل هذا القول هو المختار، بل يقول عن سورة التوبة: ولم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من سور، هذا هو المعتمد المختار في تعليله وقيل: رعاية لمن كان يقول أنها مع الانفال سورة واحدة والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر.
ففي الموطن الأول يلوح لنا أن رشيدا قد اختار الرأي القائل بأن سورة التوبة حُذفت منها البسملة لأنها إنذار وتشريع قتال، وفي الموطن الأخير يرى أن المعتمد المختار غير ذلك، وكلمة المشهور التي ذكرها لا تقطع بأن هذا هو المعتمد، فقد يكون هناك قول مشهور، ومع ذلك لا يكون هو المعتمد المختار.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه تحدث في الجزء الأول من التفسير عن اسم الله الأعظم فقرر أن اسمي الحي والقيوم هما مع اسم الجلالة الله: " ما يعبر عنه بالاسم الأعظم وهو القول الراجح عندنا."
لكنه حينما بلغ تفسير قوله تعالى : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " في الجزء الثالث قال كلاما لا يفيد تأكيده لما سبق أن قرره. أنه قال " وهذا الذي قلناه في بيان معنى (الحي القيوم) يجلى لمن وعاه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا هو الاسم الأعظم، أو قال ( أعظم أسماء الحي القيوم)، وقد أخرج أحمد وأبو دواد والترمذي وابن ماجه، عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: (اسم الله الأعظم) في هاتين الأيتين: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} وفاتحة آل عمران {ألم(*) الله لا إله إلا هو الحي القيوم }
فهو في الموطن الأول صرح بأن الاسم الأعظم يتكون من ثلاثة أسماء: " الله، الحي ، القيوم " ولكنه في الموطن الأخير لم يصرح بذلك، بل أفهمنا أن الاسم الأعظم يتكون من اسمين هما {الحي القيوم} وإن كنا نستطيع أن نستنبط من الشواهد التي ذكرها الأسماء الثلاثة التي يتكون منها الاسم الأعظم.
رابعا: العجلة أحيانا في كتابة التفسير وعدم التهيؤ الكامل لصياغته بإتقان وإحسان وكل لون من ألوان الكتابة قد تحتمل فيه العجلة إلا كتاب الله العلي الأعلى فإنه يلزمه التدبر والاستعداد والتفرغ عند كتابة تفسيره.
ورشيد كما يحدثنا كان يكتب التفسير أحيانا وهو على سفر وهو مثلا يقول في حديثه عن رحلته إلى الحجاز " وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت من كتابة نبذة من التفسير للمنار، لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته إلى مصر"
وأغرب صور العجلة وقلة الاستقرار في كتابة رشيد للتفسير هو ما فعله في الجزء الخامس من تفسير المنار مما ترشدنا إليه عبارة ختم بها هذا الجزء وفيها يقول: " تم الجزء الخامس من التفسير وقد نُشر في المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من المنار بدأت كتابة هذا الجزء وأنا في القسطنطينية سنة 1328هـ، ففاتني تصحيح ما طبع منه في أُثناء رحلتي تلك، وأتممته في أثناء رحلتي هذا العام 1330 هـ إلى الهند ومنه ما كتبته في مسقط والكويت والعراق، وقد أتممته في المحجر الصحي بين حلب وحماة، في أوائل شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشر آخره في جزء المنار الذي صدر في آخر رمضان، ولم أقف على تصحيح شيء مما كتبته في هذه الرحلة أيضا"
لعل رشيدا أراد بهذا أن يشير إلى اقتداره على الكتابة وهو مشغول أو غير مستقر، أو لعله أراد بذلك أن يلتمس لنفسه الأعذار فيما يحدث من تقصي أو من هفوات الطبع، ومهما يكن الدافع فتفسير كتاب الله ينبغي له التفرغ والاستقرار.
ولا يستطيع عارف بقدر كتاب الله تعالى أن يرتضي خطة رشيد في كتابته التفسير التي يقول عنها: " وإننا نكتب التفسير دائما في وقت ضيق وتعطي ما نكتبه للمطبعة من غير قراءة ولا مراجعة، ثم لا نراه إلا عند تصحيح ما يُجمع في المطبعة وكلما جُمع شيء يُطبع، وإن لم تتم كتابة ما يتعلق به"
خامسا: انتقال تفسير المنار من مختصر إلى متوسط إلى طويل، فرشيد يذكر في نهاية تفسير الفاتحة المنشور في الجزء الأول من تفسير المنار أن غرضه الأول من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في مجلة المنار كان بيان ما يستفيده من دروس شيخه الأستاذ الإمام (محمد عبده) مع شيء مما يفتح الله به عليه في إيجاز.
فاختصر فيما كتبه أولا، ولما طبع تفسير الفاتحة على حدته زاد فيه بعض الزيادات وكان قد بدا له أن يجعل هذا التفسير مطولا مستوفى ولما بدأ طبع الجزء الأول من التفسير وانتهى من طبع الصفحات الخاصة منه بتفسير الفاتحة عززه بفوائد ألحقها بآخر تفسير هذه السورة.
ولقد صرح رشيد في مواطن أخرى بأنه يدل تنقيحا وإضافة على التفسير بعد نشره في المجلة مثل أن يقول : " وبعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه، وزدنا فيه فوائد أثبتناها في نسخة التفسير التي تطبع على حدتها "
ولو أن رشيدا كان في هذه التغييرات يسير على نظام محدد واضح لهان الخطب ولكنه تارة يضع الإضافة في وسط الكلام، وتارة يضعها في الهامش وتارة يجعلها في آخر الموضوع وتارة يجعلها في نهاية الجزء مع استدراكات أخرى.... إلخ.
التفسير بعد رشيد:
انتهى رشيد رضا رحمه الله في التفسير إلى الآية الحادية بعد المئة من سورة يوسف وهي: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}
ثم لحق رشيد بربه وكان من حوارييه وأصدقائه العالم السوري الشيخ بهجة البيطار فواصل البيطار تفسير سورة يوسف حتى نهايتها وقد نشر تفسير هذه السورة مستقلا في كتاب كتب مقدمته الشيخ البيطار كما نشر في الجزء الثاني من المجلد الخامس والثلاثين من مجلة المنار.
ثم طلب الأستاذ محي الدين رضا ابن أخي رشيد رضا من الأستاذ البيطار أن يواصل كتابة التفسير لنشره في مجلة المنار التي أريد لها أن تستمر فاستجاب البيطار لذلك وبين يدي رسالة منه إلى الاستاذ محي الدين رضا بتاريخ 20 ربيع الأنور سنة 1355 هـ ومنها قوله " أما تمام هذه التفسير الكبير تفسير المنار المنير المنقطع النظير فأي مانع يمنعني منه لولا الشعور بالضعف والتقصير ؟على أنني اعتزمت بحول الله وتوفيقه المضي في هذه السبيل: سبيل إتمامه.." الخ
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فلم يستمر صدور المنار طويلا وبوقوفه عن الصدور انقطع التفسير ثم حاول الاستاذ حسن البنا أن يواصل التفسير فيبدأ من حيث انتهى السيد رشيد رضا رحمه الله والأستاذ البيطار وكتب فعلا تفسيرا لجانب من سورة الرعد نشر في الأعداد الستة التي أصدرها من المنار بعد وفاة السيد رشيد كما عرفنا ثم وقف المنار عن الصدور فانقطع بذلك التفسير.
 
أين أجد نصيحة الشيخ محمد ابن عثيمين-رحمه الله- ؟
وهل علق عليه ؟

أذكر أن الشيخ أثنى على تفسير المنار في أحد لقاءاته المفتوحة ضمن ما سئل عنه ولا أذكر الموضع تحديدا.
وقد سألت الدكتور أحمد البريدي عن هذا فكان جوابه:

أحمد البريدي قال:
تفسير المنار من مصادر الشيخ في تفسيره ومن المواضع التي أذكرها تفسير سورة البقرة وأول تفسير سورة النساء
 
نشر العلامة أحمد شاكر مقالاً في مجلة المنار ـ المجلد [‌ 31 ] الجزء [‌ 3 ] صــ ‌ 193 ‌ ربيع الآخر 1349 ـ سبتمبر 1930 )). بعنوان : تفسير القرآن الحكيم
وهذا بعض ما ورد فيه بنصه :
( ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته ، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهديكتابها، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره ، وكان منارًا يُهتدى به في هذه السبيل ، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير ، وكان - فيما أظن - يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك ، فينهجوا نهجه ، ويسيروا على رسمه ، ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً ، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه .

ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام ، وزادها وضوحًا وبيانًا ، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة ، وجمعها في أجزاء على أجزاء
القرآن الكريم ، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه ، فكأنه أُلهم من روحه ، لم يكل ولم يضعف ، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة ، وكثيرًا من العاشر .

فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق ، ولا أستثني ؛ فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين .

ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة ، غير مقلد ولامتعصب ، بل على سنن العلماء السابقين : كتاب الله وسنة رسوله . ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا المقام ، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه .

ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها ، وأرشد إلى الموعظة بها . وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها . وأعلن حجة الله على الناس؛ فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء ، مع البلاغة العالية ، والقوة النادرة . لله دره !

وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية ، وكأنه لم يترك بعده قولاً لقائل ، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم . وهذا قيام بواجب قصَّر فيه أكثر المسلمين ، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها ، وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة للإسلام ، وهي أمة البربر المجيدة . وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين .

ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم ، فحللها تحليلاً دقيقًا وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة ، وأقام الحجة القاطعة على أن
الإسلام دين الفطرة ، وأنه دين كل أمة في كل عصر . ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله ، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم .

وإنه لكتاب العصر الحاضر ، يفيد منه العالم والجاهل ، والرجعي والمجدد . بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين .
وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه ، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام ، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها
بالجهالات المتكررة .
ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها ومعاهدها حق الدرس ، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً ، بل لا تدفع عنه مَن أراد به عدوانًا ، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة .
فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه ، وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه ، وهم عماد الأمم .
ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله ، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها ، وذلك بحول الله وقوته .)
الشيخ أحمد محمد شاكر​
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، فتعليقا على الموضوع الأول الذي جاء في خاتمته ما يلي :
" وفي الحقيقة، فإنّ أصحاب هذا الرأي قد غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار السياق المعرفي والتاريخي الحرج الذي كان يكتب فيه رشيد رضا تفسيره، وتجاهلوا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقرّاء تفسيره، إذ هما، بالإضافة إلى اقتناعه العلمي بطبيعة الحال، اللذان أجبر رشيد رضا على اختيار ما اختاره من إجراءات وأساليب في التفسير، حيث ما كان له أن يؤثر في وعي قرائه، ويكسب تأييدهم لأفكاره الإصلاحية المنبثّة في كل صفحات تفسيره، إلا إذا احترم ذاكرتهم الجمعية التي تضمن لهم أدنى حدود التضامن، والتماسك في اللحظات التاريخية العصيبة التي كانوا يمرون بها، وإلا إذا قام مخلصاً بالانتظام في داخلها، وتقديم أفكاره على قاعدةٍ متينة منها، وهذا هو بالضبط الذي فعله عندما استكثر من الاعتماد على تراث المفسرين من قبله أخذاً ونقاشاً ونقداً، واعتمد منهجيتهم العامة في التفسير. "
ألا يدل هذا الكلام على أن رشيد رضا ـ رحمه الله ـ كان يسير على هدي المدرسة الحداثية وأنه كان على طريقتهم في كل ما جاءوا به ، من ضلالات ، وأفكار استشراقية التي قرؤوا بها القرآن قياسا على النصوص المقدسة . لأن هذه الاتهامات التي وجهت إليه لم تراع الظروف المحيطة بالرجل مما جعله يتقي ويخادع عندما يرجع إلى تفسير السلف .فلولا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقراء تفسيره ، حيث أجبر على اختيار ما اختاره ، لخرج عليهم بالوجه الحقيقي بتأويلاته الحداثية .
إن هذه الخاتمة التي خرج بها الكاتب لهي نوع من الكذب والادعاء على الرجل الذي وهب حياته في سبيل الدعوة إلى الله بطريقة الكتابة المسئولة في سبيل توعية الأمة .
رحم الله رشيد رضا ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا .
والحمد لله رب العالمين
 
المصلح الكبير محمد رشيد رضا من الصوفية إلى السلفية

الشيخ المصلح الكبير محمد رشيد رضا ، ومن لا يعرف الشمس في منتصف النهار؟!
سيرة هذا المصلح من السير التي أثارت وجداني ، وتعلق قلبي ، لمعرفة المزيد عن هذ المصلح .. شخصية لا كالشخصيات .. تجارب الدنيا قد عصفت برشيد حتى بان له الطريق .. بحث عن الحق بدليله .. وجاهد من أجل التبليغ وقمع البدع ونشر ما يعتقد أنه الحق .. درس ورحل ليعكف عند من ينير له أفاق المعرفة بالدليل .. وبعد مدرسة خاضت تجارب عديدة استقر الحال بأن وفقه الله لسلوك طريق الصالحين .. فحمل لواء السلفية ناشراً ومعلماً ومنافحاً ومناظراً .. فولد على يديه جيل من المثقفين الذين نهجوا طريق شيخه .. ولزموا منهاج السلف ..

محمد رشيد رضا .. حين أتكلم عن الأعلام .. فليسكت الأقزام .. ولترفع الأقلام .. ولتَعْزِفْ الأنغام .. أنشودة السلام .. فقصتنا مع مصلح هُمام ..

في الحقيقة .. لا أدري هل أترجم له؟!
أم أذكر قصة هدايته؟!
أم أرسل القلم ليكتب ما خطر في البال؟!
فجاءني الجواب في الحال .. لك ما تشـاء ..

فهو محمد رشيد بن علي رضا بن شمس الدين بن بهاء الدين القلموني الحسيني .. يرجع نسبه لآل البيت .. ولد في 27/5/1282هـ في قرية قلمون جنوب طرابلس الشام .. بدأ طلب العلم بحفظ القرآن والخط والحساب .. ثم درس في مدرسة "الرشدية" وكان التعليم بها بالتركية ، ولكن ما لبث أن تركها بعد سنة ليلتحق بالمدرسة الوطنية الإسلامية التي أسسها ويدرس بها شيخه حسين الجسر ، ودرس بها سبعة سنوات أثرت وغيرت في مجرى حياته .. وبدأت مرحلة تصوفه ..

بداية شاذليــة:
لقد بدأ تصوف رشيد حين كان يقرأه شيخه حسين الجسر بعض كتب الصوفيـة ومنها بعض الفصول من الفتوحات المكية ، وفصول من الفارياق ...
وقد كان يقرأ ورد السحر ؛ وعندما يبلغ البيت التالي:
ودموع العين تسابقني *** من خوفك تجري
كان يمتنع عن قراءته،لأن دموعه لم تكن تجري،فكان امتناعه عن قراءة البيت حياءً من الله أن يكذب عليه .. وبعد أن تضلع بالعلم وأصول الدين أدرك أن قراءة هذا الورد من البدع .. فتركه وانصرف إلى تلاوة القرآن.

ودرس على شيخه أبي المحاسن القاوقجي ونال الإجازة في كتاب دلائل الخيرات .. ثم بان له أن هذا الكتاب أغلبه أكاذيب على النبي صلى الله عليه وسلم فتركه .. وأقبل على قراءة أذكار وأوراد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة.

سلوكه الطريقة النقشبنديــة:
يذكر رشيد في هذا المجال أن الذي حبب إليه التصوف هو كتاب "إحياء علوم الدين للغزالي" ..
ثم طلب من شيخه الشاذلي محمد القاوقجي أن يسلكه الطريقة الشاذلية الصورية فأعتذر الشيخ وقال: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلبه فهذا بساط قد طوي وانقرض أهله

ثم يذكر رشيد أن صديقه محمد الحسيني قد ظفر بصوفي خفي من النقشبندية يرى أنه وصل إلى مرتبة المرشد الكامل .. فسلك رشيد طريقة النقشبندية على يديه وقطع أشواطاً كبيرة فيها ، ثم يقول: "ورأيت في أثناء ذلك كثيراً من الأمور الروحيـة الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها عجزت عن تأويل بعضها" ثم يقول: "ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حققت ذلك بعد"

ويصف رشيد الورد اليومي في طريقة النقشبندية بأنه ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة وربط القلب بقلب الشيخ. ثم يذكر أن هذا الورد بدعة كما تبين له بعد ذلك ؛ بل يصل إلى الشرك الخفي حين يربط الشخص قلبه بقلب شيخه فإنه مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادته إلى الله وحده حنيفاً مسلماً له الدين.
وذكر أمور كثيرة ..

يقول عن هذه التجربة الصوفيــة:
"وجملة القول أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس والوقوف على أسرارها جائز شرعاً لا حظر فيه ، وأنه نافع يرجى به معرفة الله ما لا يوصل إليه بدونه"

هدايتـــه من الصوفية إلى السلفيــة:
يعبر عن هذه التجربــة الصوفيــة بعد سنوات طويلة جداً في التصوف:
" إنني قد سلكت الطريقة النقشبنديــة ، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها ، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر باطنه من الدرر ، وما تقذف أمواجه من الجيف ، ثم انتهيت إلى مذهــــب السلــــف الصالحين ، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين"

وقد تأثر بمجلة العروى الوثقى ومقالات العلماء والأدباء .. فتأثر بالأفغاني ومحمد عبده .. وتأثر بشدة وأصبح شيخه الذي حرك عقله وفكره لنبذ البدع والجمع بين العلوم الدينية والعصرية والسعي لتمكين الأمة .. ثم تأثر بشدة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب –رحمهم الله تعالى- .. لقد أحدثت له حركة ونشاط بدل الخمول وغيبة الوعي والانغماس في البدع والضلال كما في الصوفية ..

إنكاره على أهل الطرق الصوفية:
أول حادثة قام بها علناً منكراً سلوك الطرق الصوفيـة .. ذات يوم وبعد صلاة الجمعة أقام أهل إحدى الطرق الصوفية ما يسميه رشيد "مقابلة المولوية" ويقول رشيد في ذلك: "حتى إذا ما آن وقت المقابلة تراءى أما دراويش المولوية قد اجتمعوا في مجلسهم تجاه ايوان بالنظارة ، وفي صدره شيخهم الرسمي ، وإذا بغلمان منهم مرد حسان الوجوه يلبسون غلائل بيض ناصعة كجلابيب العرائس ، يرقصون بها على نغمات الناي المشجية ، يدورون دوراناً فنياً سريعاً تنفرج به غلائلهم فتكوّن دوائر متقاربة ، على أبعاد متناسبة لا يبغي بعضها على بعض ، ويمدون سواعدهم ، ويميلون أعناقهم ، ويمرون واحداً بعد آخر أمام شيخهم فيركعون"
أزعج هذا المنظر رشيد رضا وآلمه أن تصل حالة المسلمين إلى هذا المستوى من البدع والخرافات والتلاعب في عقائد الناس وعقولهم. وكان الذي آلمه كثيراً هو أن هؤلاء بالأعيبهم البدعية قد اعتبروا أنفسهم في عبادة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى ؛ بل يعتبرون سماع ومشاهدة ذلك عبادة مشروعة ولهذا لم يترك رشيد هذه الحادثة تمر دون أن يقوم بواجبه الإصلاحي الذي استقاه من قراءته دراسة بمدرسته السلفية التي يدرسها من خلال مجلاتها وكتبها .. فقام حيث قال: "قلتُ: ما هذا؟! قيل: هذا ذكر طريقة مولانا جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الشريف ، لم أملك نفسي أن وقفت في بهوة النظارة وصحت بأعلى صوتي بما معناه أيها الناس والمسلمون إن هذا منكر لا يجوز النظر إليه ولا السكوت عليه لأنه إقرار له وإن يصدق عليه مقترفيه قوله تعالى: {اتخذوا دينهم هزواً ولعباً} وأنني قد أديت الواجب عليّ فاخرجوا رحمك الله" ثم خرج رشيد مسرعاً إلى المدينـة .. وكانت لصيحته السلفية هذه أن أتبعه عدد قليل إلا أن صيحته لاقت صدى في مجتمعات الناي بين مؤيد ومعارض ..

ورغم كثرة من عارضه وأنكر عليه من مشايخ الصوفية فقد صمم أن يسير في طريقه نحو إصلاح مجتمعه من هذه الضلالات والبدع. ومن الغريب في الأمر أن ممن أنكر عليه شيخه الشاذلي حسين الجسر فقد كان رأيه ألا يتعرض لأصحاب الطرق الصوفية وبدعهم لا من قريب ولا من بعيد وقال لرشيد: إن أنصحك لك أن تكف عن أهل الطريق. فرد عليه رشيد منكراً: "هل لأهل الطريقة أحكام شرعية غير الأحكام العامة لجميع المسلمين؟
فقال: لا ؛ ولكن لهؤلاء نية غير نية سائر الناس ووجهة غير وجهتهم وسأل الجسر رشيد: لماذا يقصر إنكارك على أهل الطريق دون أهل اللهو والفســاد. فرد عليه رشيد قائلاً: إن أهل الطريق ذنبهم أكبر من أهل اللهو لأنهم جعلوا سماع المنكر ورقص الحسـان عبادة مشروعة فشرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله على أني لم أر منكراً آخر ولم أنكره.

ومع قوة حجة رشيد على أستاذه إلا أن شيخه تمسك برأيه لأن له حضرة ووجاهة!!

وبقي الخلاف بينهما ، واشتد بعد هجرة رشيد لمصر وإنكاره الشديد على أهل الطرق الصوفية في مجلة المنار ، بعد أن رأى طرق الصوفية بمصر والبدع الكبيرة هناك وما يحصل في الموالد ، وقد رد الجسر على رشيد ، ورد رشيد على الجسر في مجلته.

وقد قام على القبوريين من الصوفية وغيرهم بعد استفادته من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إضافة إلى كتاب ابن حجر(الزواجر عن اقتراف الكبائر) .. وقد اطلع على كتاب للألوسي (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) فكان من أسباب تبصره بخلل الصوفية ، ونقاء دعوة شيخ الإسلام .. وأن كلام الهيثمي وغيره لم يأتي إلا من هوى وهوس الصوفية!!

فرحم الله الشيخ المصلح الكبير محمد رشيد رضا على ما قدم وبذل في نصح وفضح الصوفية .. وتقبل الله توبته وأوبته من الطرق المضلة .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبها
أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة


http://www.saaid.net/feraq/el3aedoon/17.htm
 
ثناء العلامة أحمد محمد شاكر و كذلك الشيخ ابن عثيمين على تفسير المنار يعطى له أهمية كبيرة ..
 
عودة
أعلى