د. محي الدين غازي
New member
لفضيلة الوالد الدكتور محمد عناية الله سبحاني
قال تعالى:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
تأويل البغوي لتلك الآيات:
قال البغوي في تأويل تلك الآيات:
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } وهي المِشربة التي كان الملك يشرب منها.
قال عكرمة: كانت مِشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها.
والسقاية والصواع واحد، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا.
وقيل: حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم.
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } نادى منادٍ، { أَيَّتُهَا الْعِيرُ } وهي القافلة التي فيها الأحمال. { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } قفوا. قيل: قالوه من غير أمر يوسف. وقيل: قالوه بأمره، وكان هفوة منه. وقيل: قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم. فذلك قوله عز وجل: { قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ } عطفوا على المؤذن وأصحابه، { مَاذَا تَفْقِدُونَ } ما الذي ضلّ عنكم.
{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير } من الطعام، { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } كفيل، يقوله المؤذن.
{ قَالُوا } يعني المنادي وأصحابه { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء السارق، { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } في قولكم ".
{ قَالُوا } [يعني: إخوة يوسف]{ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي: فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق 185/أ ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير.
وقال رحمه الله :
فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من تفتيش أمتعتكم.
فأخذ في تفتيشها. ورُوي أنه ردّهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } لإزالة التهمة، { قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. قال
قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال: ما أظن هذا أخذه، فقال إخوته: والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه. فذلك قوله تعالى:
{ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } وإنما أَنَّث الكناية في قوله "ثم استخرجها" والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: "ولمن جاء به حمل بعير"؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية.
وقيل: الصواع يذكر ويؤنث. فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء.
فأخذوا بنيامين رقيقا.
وقال رحمه الله :
وقيل: إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق. { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف: "فيكيدوا لك كيدا"، فكدنا ليوسف في أمرهم.
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } فيضمه إلى نفسه، { فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي: في حكمه. قاله قتادة. وقال ابن عباس: في سلطانه. { إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } يعني: إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى.
(أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي - معالم التنزيل:سورةيوسف تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعةالرابعة ، 1417 هـ)
تأويل الزمخشري لتلك الآيات:
وقال الزمخشري:
السِّقايَةَ مِشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل : كان يسقى بها الملك ، ثم جعلت صاعا يكال به. وقيل : كانت الدواب تسقى بها ويكال بها.
روى : أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ، ثم قيل لهم ذلك.
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فَما جَزاؤُهُ الضمير للصواع ، أى ، فما جزاء سرقته إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في جحودكم وادّعائكم البراءة منه قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أى جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوا في جزائه.
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال:ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقالوا :واللّه لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا،فاستخرجوه منه.
وقال رحمه الله :
فإن قلت : لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت :
قالوا رجع بالتأنيث على السقاية ، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث ، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا ، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم منه صواعا كَذلِكَ كِدْنا مثل ذلك الكيد العظيم كدنا لِيُوسُفَ يعنى علمناه إياه وأوحينا به إليه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ ، لا أن يلزم ويستعبد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أى ما كان يأخذه إلا بمشيئة اللّه وإذنه فيه.
وقال رحمه الله:
فإن قلت : ما أذن اللّه فيه يجب أن يكون حسناً ، فمن أى وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان ، وتسريق لمن لم يسرق ، وتكذيب لمن لم يكذب ، وهو قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ، فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قلت : هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة ، لأنّ قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل : كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف ، وقوله إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً ، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه ، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم : وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام:وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ليتخلص من جلدها ولا يحنث . وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم اللّه تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.( الزمخشري-الكشاف عن حقائق التنزيل:سورةيوسف)
ذلك ماقاله البغوي والزمخشري في تأويل تلك الآيات،ومعظم المفسرين يدندنون حول ماقالا،فلاداعي للإكثارمن نقول تلك التفاسير،وهنا تثور في ذهن الدارس تساؤلات ،وتأتي إشكالات:
تساؤلات وإشكالات:
1- نبي الله يوسف عليه السلام كان قدوة للمحسنين،وكان من عباد الله المخلصين،وقالت عنه النسوة بعد ما جرّبن عليه كل مايملكن من أسباب الفتنة: (إن هذا إلا ملك كريم!) وناداه صاحبه في السجن باسم الصدّيق: (يوسف أيهاالصدّيق)، فهل تتناسب تلك الصورة الوضيئة الملَكيّة المشرقة العملاقة مع تلك الصورة التي تتمثل لنا مماقيل في تأويل تلك الآيات ؟!
2- هل نصدّق أن سيدنايوسف عليه السلام - مع كل ماكان يتحلى به من علوّ وسموّ وشموخ، ومع ما كان يتمتع به من عبقرية خارقة وعقلية نادرة- لجأ في شأن إخوته إلى خطّة هي أشبه بالمناورات السياسية والمداورات الدبلوماسية منها بأعمال النبوة وأخلاق الرسالة؟!
3- هل يشفي نفس الباحث ماقاله الزمخشري: (وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية) وكررالقول وزاد عليه فقال: (وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم اللّه تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.) ؟؟
ليت شعري ماالمصالح والمنافع الدينية كانت في تلك الحيلة ؟ وماالمصالح العظيمة التي كانت تفوتهم لولم تكن تلك الحيلة ؟؟ وماهي تلك المفاسد التي كادت تهاجم لو أن بنيامين قدرجع مع إخوته إلى أبيه ، ولم تدم إقامته مع يوسف ؟ ومتى كان تلقين تلك الحيلة ليوسف ؟ فالقرآن لايذكر شيئامن ذلك.
4- ماالذي ألجأ المفسرين إلى أن يقولوا عن سيدنا يوسف ماقالوا ؟ وماالذي حملهم على أن يلبسوه ثوبا لايستوي عليه،ولايناسبه ؟ بل يشوّه شخصيته الجميلة الجذابة ! وينزله من ذروة الجبل السامق إلى سطح الأرض الهابط!
5- من أنبأهم أن السقاية والصواع شئ واحد ؟ ومن أنبأهم أن السقاية التي جعلها سيدنايوسف في رحل أخيه،ماكانت سقايته الخاصة،وإنماهو صواع الملك ؟
6- وإن جعل سيدنايوسف في رحل أخيه صواع الملك بدون إذن منه،ألا يجري عليه حكم السرقة ؟
7- وماالذي حمل سيدنايوسف على أن يجعل في رحل أخيه شيئا لايملكه ؟
8- هل أثر عن ملك من الملوك أنه كان يشرب من إناء تكال به الحبوب، هل أثر أنه كان يستعمل هذا الإناء للكيل والشرب في وقت واحد ؟لم يؤثر هذا عن الفقراء والمساكين،بله الملوك والسلاطين !
تأويل تلك الآيات:
وهنا يأتي سؤال: فماهوالتأويل الصحيح لتلك الآيات، التأويل الذي يكون سليمامن تلك الإشكالات.
فإن كنا نحب أن نتوصل إلى التأويل الصحيح لتلك الآيات،فلنحسن الظن أولا بنبي الله يوسف عليه السلام، ولنعلم أنه لم تكن هناك أي خطّة مسبقة لإحراج إخوته،واستبقاء أخيه بنيامين عنده، وإنما كانت ضيافة كريمة خالصة،ثم توديع سخيّ نديّ في ظل الأخوة والمودة،ومن هنا جعل في رحل أخيه السقاية.
وتلك السقاية كانت سقايته الخاصة، التي كان يستخد مها لنفسه،ويشرب بها الماء، فكانت أحسن هدية ودّية رمزية لأبيه الحنون المحزون عن طريق أخيه الأحبّ الأصغر.
ولانستبعد إذاكان في بال يوسف أن هذه السقاية ستحمل ريحه إلى أبيه الحنون،فتقرّ عينه،ويثلج قلبه،ويدخل البهجةفي نفسه،ويخفف من لوعته على فراقه،فقد حكى له أخوه ماكان يعاني منه أبوه!
فودّعهم يوسف مع شئ من التحفظ،فإن إخوته لم يعرفوه بعد، وبعد الوداع دخل في خضمّ الأعمال التي كانت تنتظره .وكان من قدرالله أن يوسف ودّع إخوته، وما لبث أن فُقد صواع الملك قبل أن يبعد بهم السير،فانتشرالغلمان أوالعمّال في كل جهة ينظرون إلى القوافل، وينادونهم ويستوقفونهم، والقرآن لم يذكرإلا قافلة إخوة يوسف لأن له صلة بقصة يوسف.
فدارالنقاش بين الغلمان أوالعمّال وبين إخوة يوسف كماهو مذكورفي الآيات،ثم كان تفتيش أوعيتهم، واحدابعد واحد،حتى جاء دوربنيامين،وهم لم يجدوا في أوعيتهم ذلك الصواع الذي فقدوه،وإنما وجدوا في وعاءبنيامين السقاية التي وضعها فيه يوسف، فعرفوها،أنها للعزيز يوسف.
وبعد استخراج السقايةمن وعاء بنيامين لم يعد شك في كونه سارقا،فإنهم إن لم يجدوا عنده ماكانوا يفقدونه، فقدوجدواشيئا مثله،فذاك صواع الملك،و تلك سقاية العزيز،وكلاهما يتصلان ببيت الأمارة، وهكذاثبتت جريمة السرقة على بنيامين،وتم احتجازه حسب الاتفاق الذي تمّ بينهم.
والظاهرالمتبادر أن كل ماجرى مع إخوة يوسف، لم يجر إلا في غَيْبة يوسف ؛فإنه كان في خضمّ أعماله، مطمئنا إلى أنه ودّعهم آمنين سالمين بعد ما قام بواجبه نحوهم،ولم يبلغه ماحدث مع إخوته إلا في نهاية المطاف أي:بعد ما جرى التفتيش،و أُخذت السقاية،وتمّ احتجاز بنيامين جزاء على ماثبت من سرقته في بادئ النظر.
قد يقال إن كان بنيامين على علم بأمرالسقاية،وكان يعلم أن يوسف هوالذي وضعه في رحله،فماالذي منعه من بيان حقيقة الأمر،حتى يبرّ ئ نفسه من تهمة السرقة.
وماالذي دعاه إلى أن يعتصم بالسكوت،وكأنه معترف على نفسه بالجريمة !
نقول: كان هذاسرّا بين سيدنايوسف وبين أخيه بنيامين،فمارضيَ بنيامين أن يبوح بهذا السر، ويكشفه قبل أوانه، ولزم السكوت وكأنه سرق السقاية فعلا.
فحينما تمّ احتجاز بنيامين،وأُحضر أمام سيدنايوسف، وقُصّت عليه القصة،ظنّه سيدنا يوسف من قدرالله ،ومن تدبير الله،حيث عاد إليه شقيقه الحبيب من غير عناء،وتحقق له ماكان يتمناه بكل يُسر.
وهنايثور سؤال آخر: لماذا تمنى سيدنايوسف أن يبقى أخوه في جنبه ؟ وهل نسي أن له أباشيخا كبيرا ينتظره في بيته، وقد عصره الحزن على فراقه منذ عشرات السنين،و إذا لم يجد بنيامين مع من عاد إليه من مصر، عسى ألا يطيق هذاالحزن الجديد؛ فإن نكء القرح بالقرح أوجع !
نقول: كان سيدنايوسف يدرك ذلك جيدا،ولهذا لم يفكّر في حبسه عنده،مع أن نفسه الكريمة الودودةكانت تتمنى ذلك، وذلك لأن إخوته كانوايحقدون على أخيه،كماكانوايحقدون عليه، فكانوايقسون عليه،ويؤذونه بعدفراقه ،كماهو واضح من قوله لأخيه حينما جمع الله بينهمابعد عشرات السنين:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وما لبث حقدهم القديم الدفين في صدورهم أن جرى على لسانهم، حينما وجدت السقاية في وعائه:
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)
هكذا، بكل صراحة، وبكل وقاحة !!
فهم لم يحسنوا به ظنّا،ولم يلتمسواله عذرا،بل قذفوه بكلمة بذيئة نابية، ولم يقذفوه فقط، بل قذفوا أخاه التقيّ النقيّ بكل وقاحة، وبدون خجل ولاندم على ما فعلوابه في سالف الزمان!
بل بالعكس من ذلك، ظلّت قلوبهم تغلي بالحقد عليه مع أنه قدطال به الأمد،وهم لايعرفون أنه الآن على قيد الحياة،أم صاررهين الجدث !
وعلى أية حال،فالله سبحانه وتعالى كاد ليوسف عليه السلام، وحقق أمنيته في صحبةأخيه، كماهو دأبه في أنبيائه ورسله المكرمين، حيث يكرمهم بتحقيق رغباتهم،ولايردّ لهم سؤالا إلا نادرا.
وربط على قلب أبيه الكبير المحزون، وألهمه الصبروالسلوان، وبعد فترة وجيزةمن الزمن جمعهم جميعا مع يوسف الصديق في بيت ملكه،بعدمانزع مافي صدورإخوته من غلّ،ولله الحمد.
فلننظر ما بين هذاالتأويل وبين ماسبقه من وجوه التأويل ! فالفرق بينهما كبير.
ومن هنا نقول: إذاكانت الآية تحتمل وجوها من المعاني،لم يؤخذ منهاإلاماكان أقرب لحسن التأويل،ولم يؤخذ إلا ماكان أقرب لجوّ السورة وأ هدافها.
قال تعالى:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
تأويل البغوي لتلك الآيات:
قال البغوي في تأويل تلك الآيات:
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } وهي المِشربة التي كان الملك يشرب منها.
قال عكرمة: كانت مِشربة من فضة مرصعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، وكان يشرب منها.
والسقاية والصواع واحد، وجعلت في وعاء طعام بنيامين، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا.
وقيل: حتى خرجوا من العمارة، ثم بعث خلفهم مَنْ استوقفهم وحبسهم.
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } نادى منادٍ، { أَيَّتُهَا الْعِيرُ } وهي القافلة التي فيها الأحمال. { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } قفوا. قيل: قالوه من غير أمر يوسف. وقيل: قالوه بأمره، وكان هفوة منه. وقيل: قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه، فلما انتهى إليهم الرسول، قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلتكم، ونوفِّكم كيلكم، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، ولا نَتَّهِمُ عليها غيركم. فذلك قوله عز وجل: { قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ } عطفوا على المؤذن وأصحابه، { مَاذَا تَفْقِدُونَ } ما الذي ضلّ عنكم.
{ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير } من الطعام، { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } كفيل، يقوله المؤذن.
{ قَالُوا } يعني المنادي وأصحابه { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي: جزاء السارق، { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } في قولكم ".
{ قَالُوا } [يعني: إخوة يوسف]{ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي: فالسارق جزاؤه أن يسلَّم السارق بسرقته إلى المسروق منه فيسترقه سنة، وكان ذلك سُنَّة آل يعقوب في حكم السارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق 185/أ ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده، فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم.
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } الفاعلين ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير.
وقال رحمه الله :
فقال الرسول عند ذلك: لا بدّ من تفتيش أمتعتكم.
فأخذ في تفتيشها. ورُوي أنه ردّهم إلى يوسف فأمر بتفتيش أوعيتهم بين يديه.
{ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } لإزالة التهمة، { قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ } فكان يفتش أوعيتهم واحدا واحدا. قال
قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين، قال: ما أظن هذا أخذه، فقال إخوته: والله لا نترك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه. فذلك قوله تعالى:
{ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } وإنما أَنَّث الكناية في قوله "ثم استخرجها" والصُّوَاع مذكر، بدليل قوله: "ولمن جاء به حمل بعير"؛ لأنه ردّ الكناية ها هنا إلى السقاية.
وقيل: الصواع يذكر ويؤنث. فلما أخرج الصواع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم من الحياء.
فأخذوا بنيامين رقيقا.
وقال رحمه الله :
وقيل: إن ذلك الرجل أخذ برقبته ورده إلى يوسف كما يرد السراق. { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } والكيد ها هنا جزاء الكيد، يعني: كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم. وقد قال يعقوب عليه السلام ليوسف: "فيكيدوا لك كيدا"، فكدنا ليوسف في أمرهم.
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ } فيضمه إلى نفسه، { فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي: في حكمه. قاله قتادة. وقال ابن عباس: في سلطانه. { إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } يعني: إن يوسف لم يكن يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كِدْنَا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة الإخوة أن جزاء السارق الاسترقاق، فحصل مراد يوسف بمشيئة الله تعالى.
(أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي - معالم التنزيل:سورةيوسف تحقيق: محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعةالرابعة ، 1417 هـ)
تأويل الزمخشري لتلك الآيات:
وقال الزمخشري:
السِّقايَةَ مِشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل : كان يسقى بها الملك ، ثم جعلت صاعا يكال به. وقيل : كانت الدواب تسقى بها ويكال بها.
روى : أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ، ثم قيل لهم ذلك.
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
فَما جَزاؤُهُ الضمير للصواع ، أى ، فما جزاء سرقته إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في جحودكم وادّعائكم البراءة منه قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أى جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله ، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوا في جزائه.
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف ، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفى التهمة حتى بلغ وعاءه فقال:ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقالوا :واللّه لا تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا،فاستخرجوه منه.
وقال رحمه الله :
فإن قلت : لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه؟ قلت :
قالوا رجع بالتأنيث على السقاية ، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث ، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعا ، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم منه صواعا كَذلِكَ كِدْنا مثل ذلك الكيد العظيم كدنا لِيُوسُفَ يعنى علمناه إياه وأوحينا به إليه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تفسير للكيد وبيان له ، لأنه كان في دين ملك مصر ، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ ، لا أن يلزم ويستعبد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أى ما كان يأخذه إلا بمشيئة اللّه وإذنه فيه.
وقال رحمه الله:
فإن قلت : ما أذن اللّه فيه يجب أن يكون حسناً ، فمن أى وجه حسن هذا الكيد؟ وما هو إلا بهتان ، وتسريق لمن لم يسرق ، وتكذيب لمن لم يكذب ، وهو قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ، فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قلت : هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة ، لأنّ قوله إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل : كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف ، وقوله إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً ، على أنه لو صرّح لهم بالتكذيب كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه ، لأنهم كانوا كاذبين في قولهم : وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام:وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ليتخلص من جلدها ولا يحنث . وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم اللّه تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.( الزمخشري-الكشاف عن حقائق التنزيل:سورةيوسف)
ذلك ماقاله البغوي والزمخشري في تأويل تلك الآيات،ومعظم المفسرين يدندنون حول ماقالا،فلاداعي للإكثارمن نقول تلك التفاسير،وهنا تثور في ذهن الدارس تساؤلات ،وتأتي إشكالات:
تساؤلات وإشكالات:
1- نبي الله يوسف عليه السلام كان قدوة للمحسنين،وكان من عباد الله المخلصين،وقالت عنه النسوة بعد ما جرّبن عليه كل مايملكن من أسباب الفتنة: (إن هذا إلا ملك كريم!) وناداه صاحبه في السجن باسم الصدّيق: (يوسف أيهاالصدّيق)، فهل تتناسب تلك الصورة الوضيئة الملَكيّة المشرقة العملاقة مع تلك الصورة التي تتمثل لنا مماقيل في تأويل تلك الآيات ؟!
2- هل نصدّق أن سيدنايوسف عليه السلام - مع كل ماكان يتحلى به من علوّ وسموّ وشموخ، ومع ما كان يتمتع به من عبقرية خارقة وعقلية نادرة- لجأ في شأن إخوته إلى خطّة هي أشبه بالمناورات السياسية والمداورات الدبلوماسية منها بأعمال النبوة وأخلاق الرسالة؟!
3- هل يشفي نفس الباحث ماقاله الزمخشري: (وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية) وكررالقول وزاد عليه فقال: (وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد ، وقد علم اللّه تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها ، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.) ؟؟
ليت شعري ماالمصالح والمنافع الدينية كانت في تلك الحيلة ؟ وماالمصالح العظيمة التي كانت تفوتهم لولم تكن تلك الحيلة ؟؟ وماهي تلك المفاسد التي كادت تهاجم لو أن بنيامين قدرجع مع إخوته إلى أبيه ، ولم تدم إقامته مع يوسف ؟ ومتى كان تلقين تلك الحيلة ليوسف ؟ فالقرآن لايذكر شيئامن ذلك.
4- ماالذي ألجأ المفسرين إلى أن يقولوا عن سيدنا يوسف ماقالوا ؟ وماالذي حملهم على أن يلبسوه ثوبا لايستوي عليه،ولايناسبه ؟ بل يشوّه شخصيته الجميلة الجذابة ! وينزله من ذروة الجبل السامق إلى سطح الأرض الهابط!
5- من أنبأهم أن السقاية والصواع شئ واحد ؟ ومن أنبأهم أن السقاية التي جعلها سيدنايوسف في رحل أخيه،ماكانت سقايته الخاصة،وإنماهو صواع الملك ؟
6- وإن جعل سيدنايوسف في رحل أخيه صواع الملك بدون إذن منه،ألا يجري عليه حكم السرقة ؟
7- وماالذي حمل سيدنايوسف على أن يجعل في رحل أخيه شيئا لايملكه ؟
8- هل أثر عن ملك من الملوك أنه كان يشرب من إناء تكال به الحبوب، هل أثر أنه كان يستعمل هذا الإناء للكيل والشرب في وقت واحد ؟لم يؤثر هذا عن الفقراء والمساكين،بله الملوك والسلاطين !
تأويل تلك الآيات:
وهنا يأتي سؤال: فماهوالتأويل الصحيح لتلك الآيات، التأويل الذي يكون سليمامن تلك الإشكالات.
فإن كنا نحب أن نتوصل إلى التأويل الصحيح لتلك الآيات،فلنحسن الظن أولا بنبي الله يوسف عليه السلام، ولنعلم أنه لم تكن هناك أي خطّة مسبقة لإحراج إخوته،واستبقاء أخيه بنيامين عنده، وإنما كانت ضيافة كريمة خالصة،ثم توديع سخيّ نديّ في ظل الأخوة والمودة،ومن هنا جعل في رحل أخيه السقاية.
وتلك السقاية كانت سقايته الخاصة، التي كان يستخد مها لنفسه،ويشرب بها الماء، فكانت أحسن هدية ودّية رمزية لأبيه الحنون المحزون عن طريق أخيه الأحبّ الأصغر.
ولانستبعد إذاكان في بال يوسف أن هذه السقاية ستحمل ريحه إلى أبيه الحنون،فتقرّ عينه،ويثلج قلبه،ويدخل البهجةفي نفسه،ويخفف من لوعته على فراقه،فقد حكى له أخوه ماكان يعاني منه أبوه!
فودّعهم يوسف مع شئ من التحفظ،فإن إخوته لم يعرفوه بعد، وبعد الوداع دخل في خضمّ الأعمال التي كانت تنتظره .وكان من قدرالله أن يوسف ودّع إخوته، وما لبث أن فُقد صواع الملك قبل أن يبعد بهم السير،فانتشرالغلمان أوالعمّال في كل جهة ينظرون إلى القوافل، وينادونهم ويستوقفونهم، والقرآن لم يذكرإلا قافلة إخوة يوسف لأن له صلة بقصة يوسف.
فدارالنقاش بين الغلمان أوالعمّال وبين إخوة يوسف كماهو مذكورفي الآيات،ثم كان تفتيش أوعيتهم، واحدابعد واحد،حتى جاء دوربنيامين،وهم لم يجدوا في أوعيتهم ذلك الصواع الذي فقدوه،وإنما وجدوا في وعاءبنيامين السقاية التي وضعها فيه يوسف، فعرفوها،أنها للعزيز يوسف.
وبعد استخراج السقايةمن وعاء بنيامين لم يعد شك في كونه سارقا،فإنهم إن لم يجدوا عنده ماكانوا يفقدونه، فقدوجدواشيئا مثله،فذاك صواع الملك،و تلك سقاية العزيز،وكلاهما يتصلان ببيت الأمارة، وهكذاثبتت جريمة السرقة على بنيامين،وتم احتجازه حسب الاتفاق الذي تمّ بينهم.
والظاهرالمتبادر أن كل ماجرى مع إخوة يوسف، لم يجر إلا في غَيْبة يوسف ؛فإنه كان في خضمّ أعماله، مطمئنا إلى أنه ودّعهم آمنين سالمين بعد ما قام بواجبه نحوهم،ولم يبلغه ماحدث مع إخوته إلا في نهاية المطاف أي:بعد ما جرى التفتيش،و أُخذت السقاية،وتمّ احتجاز بنيامين جزاء على ماثبت من سرقته في بادئ النظر.
قد يقال إن كان بنيامين على علم بأمرالسقاية،وكان يعلم أن يوسف هوالذي وضعه في رحله،فماالذي منعه من بيان حقيقة الأمر،حتى يبرّ ئ نفسه من تهمة السرقة.
وماالذي دعاه إلى أن يعتصم بالسكوت،وكأنه معترف على نفسه بالجريمة !
نقول: كان هذاسرّا بين سيدنايوسف وبين أخيه بنيامين،فمارضيَ بنيامين أن يبوح بهذا السر، ويكشفه قبل أوانه، ولزم السكوت وكأنه سرق السقاية فعلا.
فحينما تمّ احتجاز بنيامين،وأُحضر أمام سيدنايوسف، وقُصّت عليه القصة،ظنّه سيدنا يوسف من قدرالله ،ومن تدبير الله،حيث عاد إليه شقيقه الحبيب من غير عناء،وتحقق له ماكان يتمناه بكل يُسر.
وهنايثور سؤال آخر: لماذا تمنى سيدنايوسف أن يبقى أخوه في جنبه ؟ وهل نسي أن له أباشيخا كبيرا ينتظره في بيته، وقد عصره الحزن على فراقه منذ عشرات السنين،و إذا لم يجد بنيامين مع من عاد إليه من مصر، عسى ألا يطيق هذاالحزن الجديد؛ فإن نكء القرح بالقرح أوجع !
نقول: كان سيدنايوسف يدرك ذلك جيدا،ولهذا لم يفكّر في حبسه عنده،مع أن نفسه الكريمة الودودةكانت تتمنى ذلك، وذلك لأن إخوته كانوايحقدون على أخيه،كماكانوايحقدون عليه، فكانوايقسون عليه،ويؤذونه بعدفراقه ،كماهو واضح من قوله لأخيه حينما جمع الله بينهمابعد عشرات السنين:
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وما لبث حقدهم القديم الدفين في صدورهم أن جرى على لسانهم، حينما وجدت السقاية في وعائه:
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)
هكذا، بكل صراحة، وبكل وقاحة !!
فهم لم يحسنوا به ظنّا،ولم يلتمسواله عذرا،بل قذفوه بكلمة بذيئة نابية، ولم يقذفوه فقط، بل قذفوا أخاه التقيّ النقيّ بكل وقاحة، وبدون خجل ولاندم على ما فعلوابه في سالف الزمان!
بل بالعكس من ذلك، ظلّت قلوبهم تغلي بالحقد عليه مع أنه قدطال به الأمد،وهم لايعرفون أنه الآن على قيد الحياة،أم صاررهين الجدث !
وعلى أية حال،فالله سبحانه وتعالى كاد ليوسف عليه السلام، وحقق أمنيته في صحبةأخيه، كماهو دأبه في أنبيائه ورسله المكرمين، حيث يكرمهم بتحقيق رغباتهم،ولايردّ لهم سؤالا إلا نادرا.
وربط على قلب أبيه الكبير المحزون، وألهمه الصبروالسلوان، وبعد فترة وجيزةمن الزمن جمعهم جميعا مع يوسف الصديق في بيت ملكه،بعدمانزع مافي صدورإخوته من غلّ،ولله الحمد.
فلننظر ما بين هذاالتأويل وبين ماسبقه من وجوه التأويل ! فالفرق بينهما كبير.
ومن هنا نقول: إذاكانت الآية تحتمل وجوها من المعاني،لم يؤخذ منهاإلاماكان أقرب لحسن التأويل،ولم يؤخذ إلا ماكان أقرب لجوّ السورة وأ هدافها.