بسم1
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قد أختلف قليلا مع ما نقله أخي وزميلي البهيجي وفقه الله ، ولمدارسة ما تفضلتي به أختي الكريمة وددت الإدلاء بما يلي :
إن دين الإسلام ينقسم إلى عملين أساسيين مختلفين عن بعضهما البعض ولا يمكن تحقق الفرض والدخول في الدين بدونهما، وليس بينهما ترادف فهما متغايران معنوياً متلازماً فعلياً وهما
الإسلام و
الإيمان ، وكما ورد في حديث جبريل عليه السلام ، نلحظ أن الإيمان هو العمل القلبي باستقرار التصديق والقناعة الباطنة بستة أركان ، أما الإسلام فهو انعكاس ذلك الإيمان على الجوارح فيترجم على شكل عبادات وافعال لتلك الجوارح ، فالشهادتين والصلاة والزكاة والحج والصوم أعمال جوارح لا يمكن قبولها مالم تكن ناشئة عن استقرار الأعمال القلبية (الإيمان بأركانه).
ولذلك فإن الله جل وعلا عندما يفترض على عباده فريضة فإنه يبدأها بنداء موجه للمؤمنين بقوله تعالى (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لأن الفرائض لن تقبل ممن لم يستقر الإيمان في قلبه ، فتقديم الإيمان والنداء به يحمل دلالة واضحة على ضرورة الدخول فيه أولا قبل الاتصاف بصفة الإسلام فإن آمن العبد كان إيمانه هو ما يدفعه لإتيان أعمال الجوارح ، ولعلنا نستعرض بعض صيغ الأوامر للمؤمنين التي يتبعها الأمر بعبادة من عبادات الجوارح إما عبادة قولية او فعلية أو أمر يؤتى أو يترك بالجوارح عامة :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة:104]
فالأمر متعلق بالجوارح بالأمر بقول والنهي عن قول ، ولو لم يستقر الإيمان لا يحصل الانتفاع بفعل أو ترك.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:153]
وكذلك في هذا الموضع يأمر الله بالصبر والصلاة وكلها أعمال جوارح ، لا يقبلها الرحمن مالم يسبقها إيمان لذلك كان النداء للمؤمنين يسبق الأمر بالعمل تخصيصاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواكُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة:172]
وهنا ايضاً يحل الله الطيبات لعباده المؤمنين ، ونطاق الأمر متعلق بالمؤمنين فلو لم يتحقق الإيمان فلا فائدة من أمر أو نهي لمن لم يكن ضمن المؤمنين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة:178]
فالتشريعات التي يفرضها الله جل وعلا على عباده المؤمنين بتفاصيلها المختلفة تتطلب تحقق الإيمان حتى يعد هذا الفعل مندرجاً تحت تقوى الله واتباع أوامره ايمانا واحتساباً
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة:254]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
وهنا نفهم أن كونهم مسلمين أي قائمين بأفعال الجوارح (اركان الإسلام) فيسبق الايمان افعال الجوارح
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوالَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء:29]
وهكذا فلو تتبعنا نداءه تعالى (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نجده في 89 موضعا في كتاب الله يأمر المؤمنين بالشرائع والأوامر والنواهي والحلال والحرام فدلّ ذلك دلالة واضحة على المغايرة بين الإيمان والإسلام مفهوماً والتلازم بينهما تحققاً.
نأتي الآن لموضع المدارسة وهو قوله تعالى :
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]
قولوا أسلمنا لأن ذلك يوافق حقيقتكم فأنتم أيها الأعراب تأتون أفعال الجوارح الظاهرة ولكن لم تكن هذه الأفعال ناجمة عن استقرار الإيمان ، فقلوبكم خالية من الإيمان ، وحالهم هذا هو عين النفاق .
والاسلام هنا هو بمعنى الاستسلام لسلطة المجتمع والحاكم المسلم وليس دليل على تحقق الاسلام لله ، لأن الاسلام لله متعلق بتحقق الايمان للدرجة التي ينعكس فعلاً ظاهراً في الجوارح ، فإذا ما حقق فعل الجارحة وظهر للمجتمع ما يعصم ماله ونفسه من الافعال الظاهرة فإنه فيما يتعلق بحقيقة الدين يعد مسلماً للبشر مستسلماً لسلطتهم مظهراً خلاف ما يبطن وهذا هو عين النفاق.
بعكس الإسلام الذي يرضاه الله وهو ما دعى ابراهيم به (
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) اي مستسلمين لك بتحقق عبادة الجارحة التي نشأت من تحقق يقين القلب واستقرار الايمان وهو في تحققه هو عين الاحسان لأن المسلم لله حينها أتى العبادة مؤمناً بمشاهدة الله له.
وأتبع الله في هذا الموضع الاسلام لله فقال تعالى (
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) وقال عز وجل (
مُسْلِمَةً لَكَ) فكان لابد من التفريق بين الاسلام للناس والاسلام لله فدعا ابراهيم بتحقق الاسلام لله وليس الاستسلام للناس.
ثم إن دعوته عليه السلام مالبثت أن تحققت بحادثة الذبح ، لذا وصف الله نبيه ابراهيم في قوله تعالى:
(
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)
أي اتيا فعل الجارحة بدافع من تحقق الايمان في القلب فسماه ربنا اسلاما ثم أتبع اثباتا لذلك فقال
(
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)
أي تحقق الاسلام لله الناشئ عن الإيمان فكان هذا هو الإحسان في اجتماعه بهذه الصورة فوصفه الله بالمحسن ، فوجب علينا التفريق بين الاسلام العاصم لذمة المخلوق من المخلوق ، والاسلام العاصم لذمة المخلوق من الخالق ، فالأول متعلق بالمحيط الاجتماعي اما الثاني فبين المخلوق وربه وهو اعلم بحاله.
ومصداقا لذلك المفهوم فقد قرر الله تعالى نفاقهم في أكثر من موضع ومنها :
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة:101]
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة:97]
وهذا المفهوم عندما اختل فأتى من زعم بان الدين ثلاث مراتب أدناها الاسلام وأعلاها الاحسان تسبب في كارثة لأنه علم الاجيال ان ينافق اولاً ثم يؤمن ثانيا وقد يستطيع الاحسان وقد يعجز عنه فنشأت اجيال منافقة بغير علم في حين الثلاثة مصطلحات لا ينفك أحدها عن الآخر ولا يقبل منك إتيان العبادات في غياب الإيمان ، ويجب ان يكون إتيان العبادة بدافع من استقرار الإيمان فإن حدث هذا كان ذلك احسانا كما رأينا في قصة إبراهيم عليه السلام.
مشاهدة المرفق 12079
والله أعلى وأعلم ، ولي عودة بإذن الله..