عبدالله جلغوم
New member
[align=center]الموقف المعارض للإعجاز العددي [/align]
الإعجاز العددي هو وجه من الإعجاز حديث ، وبالتالي فإن وجود فئة من المعارضين له ، هي ظاهرة طبيعية ، فهذه حال كل جديد ، أن يجد من الناس من يحتفي بولادته ، ومن يرفض الاعتراف به لسبب أو لآخر ، ومن يتردد في قبوله أو يتخذ منه موقفا وسطا . إلا أن هذه المواقف عادة ما تبدأ بالتغير وربما بالتلاشي إذا تبين لهؤلاء أن في وجود هذا العلم الجديد فائدة للمسلمين . وهذا ما حصل فعلا حينما أشار الخليفة عمر رضي الله عنه على الخليفة أبي بكر رضي الله عنه بجمع القرآن ، فقد تردد أبو بكر في هذا العمل لأنه رأى فيه عملا جديدا ، فلما تبين له صواب هذا الرأي عمل به وقام بجمع القرآن . وتكرر المشهد حينما تم تنقيط المصحف وتشكيله بالحركات ، وكذلك حين ترقيم آياته ، فقد انقسم الناس بين مؤيد ومعارض ،وكادت تحدث بسبب ذلك فتنة ، فلما ظهر للناس الخير في ذلك العمل ،قبلوا به وانتقل المعارضون إلى صف المؤيدين.. والمعارضة في رأينا ظاهرة صحية ، تعني الحرص على كتاب الله قبل كل شيء ، وقد تمتلك القدرة على التوجيه ، والمشاركة في تصويب الخطأ ، كما قد تمتلك المنهج والموضوعية وقوة الفكرة والطرح البديل ، ولكن المعارضة التي تخلو من هذه الصفات ، تصبح شيئا من العبث لا طائل من ورائها . ( انظر رد الشيخ بسام جرار : موقع نون للدراسات القرآنية ).
المعارضة المطلوبة :
إذن فالمعارضة والتردد في قبول الجديد ظاهرة صحية ، نرى أنها نابعة من الحرص على القرآن ، وإذا كان هذا هو علتها، فنحن معها ويجمعنا بها الهدف الواحد ، ولكن المطلوب من هذه المعارضة ، أن تكون علمية موضوعية حكيمة تمتلك الحجة وقوة الفكرة والمنهج الموضوعي والبديل المنطقي المقنع ، وأن يكون الناطقون باسمها على دراية بما يتحدثون عنه ، فليس من المعقول مثلا أن يرفض أحدهم أن عدد حروف البسملة 19 حرفا ، متحديا حقيقة ثابتة ، فهذا العدد هو فعلا الموجود في المصحف ، لأن هناك من يقدس هذا العدد ...
نقد الإعجاز العددي :
حجج المعارضين للإعجاز العددي :
ليس تعصبا لفئة المتحمسين للإعجاز العددي – وأنا منهم – فإنني لم أعثر على أي حجة منطقية مقبولة لدى الطرف المعارض ، تبرر رفض الإعجاز العددي والتنكر له جملة وتفصيلا ، على نحو يمكن القبول به، ومع ذلك سنورد فيما يلي ما يبرر به المعارضون رفضهم للإعجاز العددي ، ونرد على تلك الحجج واحدة واحدة .
( 1 ) تعدد القراءات ومسائل الاختلاف :
لقد اختلف القدماء في كثير من المسائل المتعلقة بعلوم القرآن ، نحو عدد آيات القرآن ، وترتيب سوره ، وأعداد آياتها ، ورسم القرآن , وتعدد القراءات ، وغير ذلك .. ولما كانت هذه المسائل هي المادة الأولى للباحثين في الإعجاز العددي ( ترتيب السور والآيات والكلمات والحروف وأعدادها ) فإن ما قد يصل إليه الباحث من نتائج باعتبار قراءة ما ، لا ينطبق تماما على القراءات الأخرى ، وبالتالي ينتفي فيه وجه الإعجاز المفترض . وبهذا الأسلوب يحتج المعارضون على من يعتبر من الباحثين أن رسم القرآن توقيفي ،بأن هناك من الآراء ما يخالف ذلك ، وعلى من يعتبر أن عدد آيات القرآن 6236 آية حسب العد الكوفي ،بأن هناك أقوالا أخرى غيره ، وهكذا . أين الطريق في هذه المتاهة ؟ إن اكتشاف إعجاز عددي ما ، باعتبار من قال إن رسم القرآن توقيفي ،لا يلغيه قول من قال إن رسم القرآن اصطلاحي ، كما أن من أخذ بعدد ما لعدد آيات القرآن معتبر في رواية ما ،لا يلغيه مخالفته لرواية أخرى ، مادام موجودا حقيقة في المصحف الذي نتداوله . وفي النهاية ،كيف نبرر رفض ما يكتشف من إعجاز القرآن باعتبار أن الرسم القرآني " العثماني " توقيفي ، بحجة أنه اصطلاحي مثلا ، ولدينا مئات الأدلة من واقع القرآن تشهد بذلك ؟
ولماذا نحول تعدد القراءات وما يترتب عليها من اختلاف في عدد آيات القرآن ، إلى مبرر لإلغاء ما يكتشف من إعجاز عددي في إحداها ؟ مؤيد بما يكفي من الأدلة ومن واقع المصحف ؟
لماذا لا نتوقع أن تتعدد صور الإعجاز العددي في القرآن ، بتعدد الرسم ، و بتعدد تلك القراءات ؟ ولماذا لا نحتكم إلى القرآن ، بدل أن نحتكم إلى أقوال واجتهادات لا نعلم يقينا مدى صحتها , فنحكم بها على ما يكتشف من إعجاز ؟
إن معارضة على هذا النحو ، وبهذا الأسلوب ، ستؤدي إلى قرون أخرى من النقل والتكرار واجترار الماضي بكل ما فيه .
( 2 ) محاكاة التناسق العددي في القرآن :
الحجة الثانية التي يتسلح بها البعض في مواجهة الإعجاز العددي ،ما يرونه من أن مسألة العدد هي في متناول البشر ، ففي إمكان فرد أو جماعة، تأليف كتاب مثلا ، وتضمينه أسرارا عددية، أو يتحرون فيها تناسقا وتوازنا بين أعداد عدد من الكلمات . وانطلاقا من هذا التصور ، يرون أن ما يعتبره البعض من التوازن والتناسق العددي في القرآن ليس إعجازا ، وانه في متناول الناس . والواضح من هذه الحجة أن هؤلاء يظنون الإعجاز العددي هو تناسق أو توازن في عدد من الكلمات . وما هو كذلك .
يقول أحدهم : إن بإمكان مؤلف أن يضع كتابا من عدد من الصفحات من مضاعفات الرقم 19، وان يجعل كل فصل مؤلفا من 19 صفحة ، وكل صفحة من 19 سطرا ... ويتساءل بعد ذلك : فأين هو الإعجاز في العدد 19 ؟
هكذا بكل بساطة ، يتخيل صاحبنا الإعجاز العددي ، ولسنا نرى في هذا التصور غير مقدمة خاطئة قادت إلى نتيجة خاطئة ..
هذه الحجة – القدرة على محاكاة الإعجاز العددي في القرآن - تدل على الجهل التام بحقيقة ترتيب القرآن بمستوياته المتعددة ، فترتيب سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه ليس على هذه الصورة المتخيلة. إن ترتيب القرآن شيء مختلف تماما ، والأرقام في القرآن مختلفة عن هذا التصور البسيط .
ويغيب عن أصحاب هذا الرأي ، الطريقة التي نزل بها القرآن ، والطريقة التي رتب بها . لقد نزل القرآن مفرقا حسب الأحداث والوقائع وحاجات الناس ، سورة ، فمجموعة من الآيات ، فجزء من سورة لم تكتمل ، فسورة كاملة .. ثم جمع في النهاية على نحو مغاير تماما لترتيب النزول ( ترتيب التلاوة الآن ) وان هذا الترتيب الذي انتهى إليه القرآن ،قد تم بتوجيهات كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، و بدوره ينقلها إلى كتبة الوحي .. وبناء على ذلك ،فإن من المستحيل أن نجد في أي كتاب بشري تناسقا يشبه ما في القرآن ،إذا روعيت الطريقة نفسها التي نزل بها القرآن . يمكن للباحث مثلا بعد أن ينهي كتابه ، أن يعود فيراجعه ،ويحصي كلماته وحروفه، ثم يختار بعضها ، ويقوم بالتعديل والحذف والزيادة ليحقق عددا من التناسقات العددية ، حتى مع امتلاك القدرة على ذلك ، يظل ما في القرآن مختلفا تماما . القرآن نزل مفرقا حسب الوقائع والأحداث ، وجمع في النهاية على نحو مغاير تماما لترتيب نزوله ، ثم اكتشف في هذا الكتاب بعد قرون طويلة أنه محكم الترتيب ، ترتبط سوره وآياته وكلماته وحروفه بعلاقات رياضية لا حصر لها . إذا اتضح لنا هذا فإن من المستحيل أن يبدأ كاتب بتأليف كتاب، وبعد الانتهاء منه يجد فيه من الترابط والتناسق والتوازن مثل ما في القرآن .
ونضيف إلى ذلك ، أن أخذ القرآن بنظام رياضي – عددي في ترتيبه ,لم يكن عائقا أمام انتهاء القرآن إلى نظام غاية في البيان والفصاحة ، دون أدنى تعارض بينهما ، ودون أن يكون أحدهما على حساب الآخر .
ونقول لأصحاب هذه الحجة : إن تفرد القرآن بهذه الميزة هي ما يؤكد أنه كتاب الله الكريم ، وليس كتاب محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم المفترون والمشككون بالقرآن . فكيف نرفض وجها من الإعجاز هو ما يميز كتاب الله عن أي كتاب ؟
إن محاكاة ترتيب القرآن أمر ليس في متناول البشر لا أفرادا ولا جماعات .
( 3 ) تناسق وليس إعجازا :
ويرى البعض أن ما يكتشف من الترابط العددي ، والعلاقات الرقمية بين سور القرآن وآياته وكلماته ، هي من التناسق العددي ، ولكنها ليست إعجازا .
والقائل هنا يعتبر إعجاز القرآن في لغته وبيانه ، وليس في أعداد سوره وآياته وكلماته ، وما يرتبط بذلك من علاقات يرى فيها البعض إعجازا ، إلا أنه يقر بأن في هذا التناسق ما يدل على صدق الرسول وأن القرآن كتاب الله الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
ويبدو الخلاف هنا هو في المصطلح ، هل هو تناسق أم إعجاز ؟
ونرد على هذه الحجة أيضا ، بالآية نفسها التي يستشهدون بها على أن وجه التحدي الذي جاء في القرآن إنما هو في لغته وبيانه وهي قوله تعالى :
) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( الإسراء 17/88 )
هل نجد في هذه الآية تحديدا لوجه الإعجاز المتحدى به ؟ الآية تقول " بمثل هذا القرآن " ولم تقل بمثل لغته وفصاحته . بعبارة أخرى إن الآية لم تحدد الوجه المتحدى به على سبيل الحصر ، هل هو اللغة ، التشريع ، الأخبار ، العلم ، الترتيب .. لقد تركت الباب مفتوحا لأي اكتشاف جديد يؤكد إعجاز القرآن . فإذا كانت الآية لم تحدد وجها واحدا للإعجاز ، فلماذا يتولى البعض القيام بهذه المهمة . القرآن هو المعجزة التي أيد الله بها خاتم الأنبياء والمرسلين , وبما أن هذه المعجزة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فإن من صفات هذه المعجزة أنها متجددة بتجدد الأجيال والعصور ، لكل جيل فيها نصيب ، ولكل عصر فيها نصيب .. لقد وجد الذين عاصروا الرسالة في لغة القرآن وبيانه ما يعجزهم ويدلهم على صدق النبي المرسل إليهم ، وكذلك ستجد الأجيال القادمة في معجزة القرآن الوجه الذي يناسبهم .. إن اقتصار إعجاز القرآن على لغته وبيانه ، يعني الوقوف بإعجاز القرآن عند زمن البلاغة والبيان ، فماذا لزماننا نحن ؟
( 4 ) الإعجاز العددي بدعة :
الإعجاز العددي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . هكذا يرى البعض الإعجاز العددي . فهو مما لم يعلمه السلف الصالح ، ولا العلماء الأجلاء الذين يؤخذ عنهم العلم ، ولو علموا فيه خيرا لما فاتهم . هذه هي حجتهم في رفض هذا الوجه من إعجاز القرآن .. نقول : لو كان الأمر كما يزعمون ، فنقط القرآن وتشكيله بالحركات هو مما لم يعرفه السلف الصالح ، فلماذا السكوت عليه ؟ أرقام الآيات في القرآن هي أيضا مما لم يعرفه الصحابة ، فلماذا الأخذ بها ؟ أليست بدعة ؟ إن كثيرا مما يكتب في تفسير القرآن هو أيضا مما لم يكن معروفا ، فما حاجتنا إليه ؟ ولماذا لا نتوقف عند تفسير ابن عباس مثلا ؟
كما أن اكثر ما يكتب عن الإعجاز العلمي اليوم ،هو أيضا مما لم يكن معروفا من قبل ، فلماذا نقبل به ؟ هل المطلوب منا أن نتوقف عند ما عرفه القدماء ، وأن لا نتجاوزه ؟
إن أصحاب هذه الحجة لا يفرقون بين زمن وزمن ، ويتناسون أن ما وفره لنا هذا العصر من أدوات المعرفة،هو مما لم يكن متوفرا من قبل ، إن في وسع الباحث اليوم أن يجري من العمليات الحسابية في ساعة باستخدام الحاسوب ، ما لو فكر أحد القدماء أن يفعلها لاحتاج إلى عمره كله ، هذا إذا توفرت له الأوراق والأقلام ، ومعنى ذلك ، أن وصول الباحث اليوم إلى ما لم يعرفه القدماء أمر طبيعي ، ليس فيه انتقاص من قدر أحد ، بسبب ما وفره له العصر من أدوات . وبالتالي فإن ظهور هذا الوجه من الإعجاز في عصرنا هذا هو أمر طبيعي جدا . إن وجود هذا الوجه من الإعجاز في القرآن ، دليل مادي ملموس على أن القرآن كتاب الله الكريم، وأنه المعجزة المتجددة بتجدد العصور والأجيال ؟
( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) ( الأنعام 6/67 )
( 5 ) تقديس الأعداد :
ويبرر البعض رفضه للإعجاز العددي ،بأن هناك من الناس من يقدس العدد ويوظفه فيما يتعارض مع الدين ( يعنون بذلك البهائيين وتقديسهم للرقم 19 ) . وهي حجة أغرب من سابقتها . فماذا نفعل إذا وجد من الناس من يقدس البقر ، هل سنحرم أكلها ؟ وإذا قدس الناس القمر فماذا نفعل ؟هل سنحرم النظر إليه ؟ وإذا كان هناك من يستغل العدد لأغراض خاصة تخالف الدين ، فهل يكون موقفنا هو رفض كل ما له صلة بالعدد ؟
إن هذه الانحرافات واستغلال جماعة ما للعدد بما يخالف الشرع ،سبب لمزيد من الاهتمام والدراسات للعدد في القرآن ، لبيان الصحيح من الخطأ للآخرين، وهذا يعني أخيرا أن تقديس بعض الناس للعدد في القرآن هي حجة للبحث في العدد لا حجة لتركه .
( 6 ) القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب رياضيات وعلوم :
ويحتج البعض بالقول أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وليس كتابا في الرياضيات والعلوم ، وبالتالي فإن صرف الوقت في البحث عن الأعداد في القرآن ، لإثبات إعجازه العددي ، إضاعة للوقت وانصراف عن التدبر في آيات القرآن .
ونحن نقول أيضا ما يقوله هؤلاء : القرآن كتاب هداية وإرشاد وشريعة ، ولكن ما الذي يمنع أن يكون القرآن كذلك ، وأن يكون كتابا منظما مرتبا وفق أسس وعلاقات رياضية ؟ أليس هذا ابلغ في الإعجاز وأقوى ؟ ونسأل هؤلاء : هل يرتب الله كل شيء في هذا الكون ابتداء من الذرة وانتهاء بالمجرة ويستثني كتابه الكريم ؟ لماذا نقبل بالترتيب المحكم في الكون كله ونتردد في قبوله في القرآن ؟ أليس خالق الكون هو منزل القرآن ؟
لقد وفر لنا القرآن وجها من الإعجاز، يصلح لمخاطبة من ليست العربية لغته ، فلماذا نتنكر له ؟ ونصر على أن نظل بعيدين عن لغة العصر الذي نعيش فيه ؟
( 7 ) أخطاء الباحثين وصحة الإحصاءات :
ويجعل البعض من افتراض عدم الدقة في الإحصاءات ، وما يمكن أن يقع فيه الباحثون في الإعجاز العددي من أخطاء في العد ، سببا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا ، ويرون في تلك الأخطاء إساءة للقرآن والقول بغير علم ، ودرءا للوقوع في المعصية ، فالموقف الأسلم هو تجنب هذا النوع من الأبحاث . وقد يكون هذا الموقف نتيجة لدراسة رشاد خليفة حول الرقم 19 المعروفة كما أسلفنا .
في مواجهة هذه الحجة أقول : لا أظن أن من بين الباحثين من يتعمد الخطأ المقصود في الإحصاء ، فالجميع يسعى لعمل يخدم به القرآن ، طمعا بالأجر والثواب من عند الله. ومع افتراضنا صحة هذا الكلام نسبيا، فهو غير كاف لاتخاذ موقف رافض للإعجاز العددي ، فإن كان البعض قد اخطأ ، فالبعض قد أصاب . ولا يضر القرآن خطأ باحث ، فالقرآن هو كتاب الله المحفوظ ، ورعاية الله له لا تنقطع .
( 8 ) الانتقائية لدى بعض الباحثين والتفسير المحدث :
ومن المعارضين من يرى في أبحاث الإعجاز العددي المتوفرة حاليا، انتقائية من الباحث لما يخدم تصورا مسبقا في نفسه ، يصبح معه همه الوحيد أن يصل إلى ما يوافق هواه ، وقد يضطر بسبب ذلك إلى الخلط بين منهجين في العد أو طريقتين ، أو اللجوء إلى حساب أقل ما يوصف به أنه متكلف .
مع افتراض وجود هذا النوع من الدراسات ، فهي أيضا ليست مبررا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا ، وليس من المقبول أن نحكم على جميع الدراسات من خلال دراسة ما نراها باطلة ، هناك الدراسة الجادة والهادفة ، وهناك الباطلة أو الرديئة ، فلماذا نحمل هذه وزر تلك ، ونرفض الاثنتين معا ؟ .
( 9 ) عدم الحاجة إلى إعجاز جديد :
ومن الحجج الواهية التي يظن البعض أنها مبرر لرفض الإعجاز العددي : الزعم بعدم الحاجة إلى هذا الوجه من الإعجاز ، حيث يرى أصحاب هذه الحجة ، أن لدينا من وجوه الإعجاز ما يكفي .
إن على من يزعم أننا لسنا في حاجة إلى وجه إعجاز جديد ، أن يدرك أن إعجاز القرآن لا حدود له , إنه المعجزة المتجددة في كل عصر وجيل , لكل عصر منه نصيب ولكل جيل منه نصيب , نحن اليوم نكتشف ما لم يكن القدماء يعرفون عنه شيئا , والأجيال القادمة ستكتشف ما لا علم لنا به , وأن أي اكتشاف في إعجاز القرآن سيكون له أثره في زيادة اليقين لدى المؤمنين به , ومدهم بما يثبتهم ويقوي من عزائمهم , وهذا من رحمة الله بنا .
10- التكلف لدى الباحثين في الإعجاز العددي :
ويرى بعض معارضي الإعجاز العددي ، أن سمة التكلف ظاهرة في أبحاث الإعجاز العددي ، فالباحث يلجأ إلى الانتقائية واختيار ما يؤدي إلى غاية مسبقة في نفسه ، وهو بذلك يحمل النص القرآني ما لا يحتمل بل ويخرج به عن أهدافه ومقاصده .
وعلى افتراض صحة هذه التهمة على بعض الأبحاث ، فليست مبررا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا . ففي كل علم هناك البحث الجيد وهناك البحث الرديء ، ولا يجوز أن نحكم على الجيد بالرديء . أظن أن على من يحتجون " بالتكلف " أن تكون لهم معايير واضحة يستندون إليها في أحكامهم ، وان تكون تلك المعايير معقولة وغير متكلفة أيضا ، حتى لا يقعوا فيما يحتجون عليه.
الإعجاز العددي هو وجه من الإعجاز حديث ، وبالتالي فإن وجود فئة من المعارضين له ، هي ظاهرة طبيعية ، فهذه حال كل جديد ، أن يجد من الناس من يحتفي بولادته ، ومن يرفض الاعتراف به لسبب أو لآخر ، ومن يتردد في قبوله أو يتخذ منه موقفا وسطا . إلا أن هذه المواقف عادة ما تبدأ بالتغير وربما بالتلاشي إذا تبين لهؤلاء أن في وجود هذا العلم الجديد فائدة للمسلمين . وهذا ما حصل فعلا حينما أشار الخليفة عمر رضي الله عنه على الخليفة أبي بكر رضي الله عنه بجمع القرآن ، فقد تردد أبو بكر في هذا العمل لأنه رأى فيه عملا جديدا ، فلما تبين له صواب هذا الرأي عمل به وقام بجمع القرآن . وتكرر المشهد حينما تم تنقيط المصحف وتشكيله بالحركات ، وكذلك حين ترقيم آياته ، فقد انقسم الناس بين مؤيد ومعارض ،وكادت تحدث بسبب ذلك فتنة ، فلما ظهر للناس الخير في ذلك العمل ،قبلوا به وانتقل المعارضون إلى صف المؤيدين.. والمعارضة في رأينا ظاهرة صحية ، تعني الحرص على كتاب الله قبل كل شيء ، وقد تمتلك القدرة على التوجيه ، والمشاركة في تصويب الخطأ ، كما قد تمتلك المنهج والموضوعية وقوة الفكرة والطرح البديل ، ولكن المعارضة التي تخلو من هذه الصفات ، تصبح شيئا من العبث لا طائل من ورائها . ( انظر رد الشيخ بسام جرار : موقع نون للدراسات القرآنية ).
المعارضة المطلوبة :
إذن فالمعارضة والتردد في قبول الجديد ظاهرة صحية ، نرى أنها نابعة من الحرص على القرآن ، وإذا كان هذا هو علتها، فنحن معها ويجمعنا بها الهدف الواحد ، ولكن المطلوب من هذه المعارضة ، أن تكون علمية موضوعية حكيمة تمتلك الحجة وقوة الفكرة والمنهج الموضوعي والبديل المنطقي المقنع ، وأن يكون الناطقون باسمها على دراية بما يتحدثون عنه ، فليس من المعقول مثلا أن يرفض أحدهم أن عدد حروف البسملة 19 حرفا ، متحديا حقيقة ثابتة ، فهذا العدد هو فعلا الموجود في المصحف ، لأن هناك من يقدس هذا العدد ...
نقد الإعجاز العددي :
حجج المعارضين للإعجاز العددي :
ليس تعصبا لفئة المتحمسين للإعجاز العددي – وأنا منهم – فإنني لم أعثر على أي حجة منطقية مقبولة لدى الطرف المعارض ، تبرر رفض الإعجاز العددي والتنكر له جملة وتفصيلا ، على نحو يمكن القبول به، ومع ذلك سنورد فيما يلي ما يبرر به المعارضون رفضهم للإعجاز العددي ، ونرد على تلك الحجج واحدة واحدة .
( 1 ) تعدد القراءات ومسائل الاختلاف :
لقد اختلف القدماء في كثير من المسائل المتعلقة بعلوم القرآن ، نحو عدد آيات القرآن ، وترتيب سوره ، وأعداد آياتها ، ورسم القرآن , وتعدد القراءات ، وغير ذلك .. ولما كانت هذه المسائل هي المادة الأولى للباحثين في الإعجاز العددي ( ترتيب السور والآيات والكلمات والحروف وأعدادها ) فإن ما قد يصل إليه الباحث من نتائج باعتبار قراءة ما ، لا ينطبق تماما على القراءات الأخرى ، وبالتالي ينتفي فيه وجه الإعجاز المفترض . وبهذا الأسلوب يحتج المعارضون على من يعتبر من الباحثين أن رسم القرآن توقيفي ،بأن هناك من الآراء ما يخالف ذلك ، وعلى من يعتبر أن عدد آيات القرآن 6236 آية حسب العد الكوفي ،بأن هناك أقوالا أخرى غيره ، وهكذا . أين الطريق في هذه المتاهة ؟ إن اكتشاف إعجاز عددي ما ، باعتبار من قال إن رسم القرآن توقيفي ،لا يلغيه قول من قال إن رسم القرآن اصطلاحي ، كما أن من أخذ بعدد ما لعدد آيات القرآن معتبر في رواية ما ،لا يلغيه مخالفته لرواية أخرى ، مادام موجودا حقيقة في المصحف الذي نتداوله . وفي النهاية ،كيف نبرر رفض ما يكتشف من إعجاز القرآن باعتبار أن الرسم القرآني " العثماني " توقيفي ، بحجة أنه اصطلاحي مثلا ، ولدينا مئات الأدلة من واقع القرآن تشهد بذلك ؟
ولماذا نحول تعدد القراءات وما يترتب عليها من اختلاف في عدد آيات القرآن ، إلى مبرر لإلغاء ما يكتشف من إعجاز عددي في إحداها ؟ مؤيد بما يكفي من الأدلة ومن واقع المصحف ؟
لماذا لا نتوقع أن تتعدد صور الإعجاز العددي في القرآن ، بتعدد الرسم ، و بتعدد تلك القراءات ؟ ولماذا لا نحتكم إلى القرآن ، بدل أن نحتكم إلى أقوال واجتهادات لا نعلم يقينا مدى صحتها , فنحكم بها على ما يكتشف من إعجاز ؟
إن معارضة على هذا النحو ، وبهذا الأسلوب ، ستؤدي إلى قرون أخرى من النقل والتكرار واجترار الماضي بكل ما فيه .
( 2 ) محاكاة التناسق العددي في القرآن :
الحجة الثانية التي يتسلح بها البعض في مواجهة الإعجاز العددي ،ما يرونه من أن مسألة العدد هي في متناول البشر ، ففي إمكان فرد أو جماعة، تأليف كتاب مثلا ، وتضمينه أسرارا عددية، أو يتحرون فيها تناسقا وتوازنا بين أعداد عدد من الكلمات . وانطلاقا من هذا التصور ، يرون أن ما يعتبره البعض من التوازن والتناسق العددي في القرآن ليس إعجازا ، وانه في متناول الناس . والواضح من هذه الحجة أن هؤلاء يظنون الإعجاز العددي هو تناسق أو توازن في عدد من الكلمات . وما هو كذلك .
يقول أحدهم : إن بإمكان مؤلف أن يضع كتابا من عدد من الصفحات من مضاعفات الرقم 19، وان يجعل كل فصل مؤلفا من 19 صفحة ، وكل صفحة من 19 سطرا ... ويتساءل بعد ذلك : فأين هو الإعجاز في العدد 19 ؟
هكذا بكل بساطة ، يتخيل صاحبنا الإعجاز العددي ، ولسنا نرى في هذا التصور غير مقدمة خاطئة قادت إلى نتيجة خاطئة ..
هذه الحجة – القدرة على محاكاة الإعجاز العددي في القرآن - تدل على الجهل التام بحقيقة ترتيب القرآن بمستوياته المتعددة ، فترتيب سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه ليس على هذه الصورة المتخيلة. إن ترتيب القرآن شيء مختلف تماما ، والأرقام في القرآن مختلفة عن هذا التصور البسيط .
ويغيب عن أصحاب هذا الرأي ، الطريقة التي نزل بها القرآن ، والطريقة التي رتب بها . لقد نزل القرآن مفرقا حسب الأحداث والوقائع وحاجات الناس ، سورة ، فمجموعة من الآيات ، فجزء من سورة لم تكتمل ، فسورة كاملة .. ثم جمع في النهاية على نحو مغاير تماما لترتيب النزول ( ترتيب التلاوة الآن ) وان هذا الترتيب الذي انتهى إليه القرآن ،قد تم بتوجيهات كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، و بدوره ينقلها إلى كتبة الوحي .. وبناء على ذلك ،فإن من المستحيل أن نجد في أي كتاب بشري تناسقا يشبه ما في القرآن ،إذا روعيت الطريقة نفسها التي نزل بها القرآن . يمكن للباحث مثلا بعد أن ينهي كتابه ، أن يعود فيراجعه ،ويحصي كلماته وحروفه، ثم يختار بعضها ، ويقوم بالتعديل والحذف والزيادة ليحقق عددا من التناسقات العددية ، حتى مع امتلاك القدرة على ذلك ، يظل ما في القرآن مختلفا تماما . القرآن نزل مفرقا حسب الوقائع والأحداث ، وجمع في النهاية على نحو مغاير تماما لترتيب نزوله ، ثم اكتشف في هذا الكتاب بعد قرون طويلة أنه محكم الترتيب ، ترتبط سوره وآياته وكلماته وحروفه بعلاقات رياضية لا حصر لها . إذا اتضح لنا هذا فإن من المستحيل أن يبدأ كاتب بتأليف كتاب، وبعد الانتهاء منه يجد فيه من الترابط والتناسق والتوازن مثل ما في القرآن .
ونضيف إلى ذلك ، أن أخذ القرآن بنظام رياضي – عددي في ترتيبه ,لم يكن عائقا أمام انتهاء القرآن إلى نظام غاية في البيان والفصاحة ، دون أدنى تعارض بينهما ، ودون أن يكون أحدهما على حساب الآخر .
ونقول لأصحاب هذه الحجة : إن تفرد القرآن بهذه الميزة هي ما يؤكد أنه كتاب الله الكريم ، وليس كتاب محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم المفترون والمشككون بالقرآن . فكيف نرفض وجها من الإعجاز هو ما يميز كتاب الله عن أي كتاب ؟
إن محاكاة ترتيب القرآن أمر ليس في متناول البشر لا أفرادا ولا جماعات .
( 3 ) تناسق وليس إعجازا :
ويرى البعض أن ما يكتشف من الترابط العددي ، والعلاقات الرقمية بين سور القرآن وآياته وكلماته ، هي من التناسق العددي ، ولكنها ليست إعجازا .
والقائل هنا يعتبر إعجاز القرآن في لغته وبيانه ، وليس في أعداد سوره وآياته وكلماته ، وما يرتبط بذلك من علاقات يرى فيها البعض إعجازا ، إلا أنه يقر بأن في هذا التناسق ما يدل على صدق الرسول وأن القرآن كتاب الله الكريم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
ويبدو الخلاف هنا هو في المصطلح ، هل هو تناسق أم إعجاز ؟
ونرد على هذه الحجة أيضا ، بالآية نفسها التي يستشهدون بها على أن وجه التحدي الذي جاء في القرآن إنما هو في لغته وبيانه وهي قوله تعالى :
) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( الإسراء 17/88 )
هل نجد في هذه الآية تحديدا لوجه الإعجاز المتحدى به ؟ الآية تقول " بمثل هذا القرآن " ولم تقل بمثل لغته وفصاحته . بعبارة أخرى إن الآية لم تحدد الوجه المتحدى به على سبيل الحصر ، هل هو اللغة ، التشريع ، الأخبار ، العلم ، الترتيب .. لقد تركت الباب مفتوحا لأي اكتشاف جديد يؤكد إعجاز القرآن . فإذا كانت الآية لم تحدد وجها واحدا للإعجاز ، فلماذا يتولى البعض القيام بهذه المهمة . القرآن هو المعجزة التي أيد الله بها خاتم الأنبياء والمرسلين , وبما أن هذه المعجزة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فإن من صفات هذه المعجزة أنها متجددة بتجدد الأجيال والعصور ، لكل جيل فيها نصيب ، ولكل عصر فيها نصيب .. لقد وجد الذين عاصروا الرسالة في لغة القرآن وبيانه ما يعجزهم ويدلهم على صدق النبي المرسل إليهم ، وكذلك ستجد الأجيال القادمة في معجزة القرآن الوجه الذي يناسبهم .. إن اقتصار إعجاز القرآن على لغته وبيانه ، يعني الوقوف بإعجاز القرآن عند زمن البلاغة والبيان ، فماذا لزماننا نحن ؟
( 4 ) الإعجاز العددي بدعة :
الإعجاز العددي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . هكذا يرى البعض الإعجاز العددي . فهو مما لم يعلمه السلف الصالح ، ولا العلماء الأجلاء الذين يؤخذ عنهم العلم ، ولو علموا فيه خيرا لما فاتهم . هذه هي حجتهم في رفض هذا الوجه من إعجاز القرآن .. نقول : لو كان الأمر كما يزعمون ، فنقط القرآن وتشكيله بالحركات هو مما لم يعرفه السلف الصالح ، فلماذا السكوت عليه ؟ أرقام الآيات في القرآن هي أيضا مما لم يعرفه الصحابة ، فلماذا الأخذ بها ؟ أليست بدعة ؟ إن كثيرا مما يكتب في تفسير القرآن هو أيضا مما لم يكن معروفا ، فما حاجتنا إليه ؟ ولماذا لا نتوقف عند تفسير ابن عباس مثلا ؟
كما أن اكثر ما يكتب عن الإعجاز العلمي اليوم ،هو أيضا مما لم يكن معروفا من قبل ، فلماذا نقبل به ؟ هل المطلوب منا أن نتوقف عند ما عرفه القدماء ، وأن لا نتجاوزه ؟
إن أصحاب هذه الحجة لا يفرقون بين زمن وزمن ، ويتناسون أن ما وفره لنا هذا العصر من أدوات المعرفة،هو مما لم يكن متوفرا من قبل ، إن في وسع الباحث اليوم أن يجري من العمليات الحسابية في ساعة باستخدام الحاسوب ، ما لو فكر أحد القدماء أن يفعلها لاحتاج إلى عمره كله ، هذا إذا توفرت له الأوراق والأقلام ، ومعنى ذلك ، أن وصول الباحث اليوم إلى ما لم يعرفه القدماء أمر طبيعي ، ليس فيه انتقاص من قدر أحد ، بسبب ما وفره له العصر من أدوات . وبالتالي فإن ظهور هذا الوجه من الإعجاز في عصرنا هذا هو أمر طبيعي جدا . إن وجود هذا الوجه من الإعجاز في القرآن ، دليل مادي ملموس على أن القرآن كتاب الله الكريم، وأنه المعجزة المتجددة بتجدد العصور والأجيال ؟
( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) ( الأنعام 6/67 )
( 5 ) تقديس الأعداد :
ويبرر البعض رفضه للإعجاز العددي ،بأن هناك من الناس من يقدس العدد ويوظفه فيما يتعارض مع الدين ( يعنون بذلك البهائيين وتقديسهم للرقم 19 ) . وهي حجة أغرب من سابقتها . فماذا نفعل إذا وجد من الناس من يقدس البقر ، هل سنحرم أكلها ؟ وإذا قدس الناس القمر فماذا نفعل ؟هل سنحرم النظر إليه ؟ وإذا كان هناك من يستغل العدد لأغراض خاصة تخالف الدين ، فهل يكون موقفنا هو رفض كل ما له صلة بالعدد ؟
إن هذه الانحرافات واستغلال جماعة ما للعدد بما يخالف الشرع ،سبب لمزيد من الاهتمام والدراسات للعدد في القرآن ، لبيان الصحيح من الخطأ للآخرين، وهذا يعني أخيرا أن تقديس بعض الناس للعدد في القرآن هي حجة للبحث في العدد لا حجة لتركه .
( 6 ) القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب رياضيات وعلوم :
ويحتج البعض بالقول أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وليس كتابا في الرياضيات والعلوم ، وبالتالي فإن صرف الوقت في البحث عن الأعداد في القرآن ، لإثبات إعجازه العددي ، إضاعة للوقت وانصراف عن التدبر في آيات القرآن .
ونحن نقول أيضا ما يقوله هؤلاء : القرآن كتاب هداية وإرشاد وشريعة ، ولكن ما الذي يمنع أن يكون القرآن كذلك ، وأن يكون كتابا منظما مرتبا وفق أسس وعلاقات رياضية ؟ أليس هذا ابلغ في الإعجاز وأقوى ؟ ونسأل هؤلاء : هل يرتب الله كل شيء في هذا الكون ابتداء من الذرة وانتهاء بالمجرة ويستثني كتابه الكريم ؟ لماذا نقبل بالترتيب المحكم في الكون كله ونتردد في قبوله في القرآن ؟ أليس خالق الكون هو منزل القرآن ؟
لقد وفر لنا القرآن وجها من الإعجاز، يصلح لمخاطبة من ليست العربية لغته ، فلماذا نتنكر له ؟ ونصر على أن نظل بعيدين عن لغة العصر الذي نعيش فيه ؟
( 7 ) أخطاء الباحثين وصحة الإحصاءات :
ويجعل البعض من افتراض عدم الدقة في الإحصاءات ، وما يمكن أن يقع فيه الباحثون في الإعجاز العددي من أخطاء في العد ، سببا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا ، ويرون في تلك الأخطاء إساءة للقرآن والقول بغير علم ، ودرءا للوقوع في المعصية ، فالموقف الأسلم هو تجنب هذا النوع من الأبحاث . وقد يكون هذا الموقف نتيجة لدراسة رشاد خليفة حول الرقم 19 المعروفة كما أسلفنا .
في مواجهة هذه الحجة أقول : لا أظن أن من بين الباحثين من يتعمد الخطأ المقصود في الإحصاء ، فالجميع يسعى لعمل يخدم به القرآن ، طمعا بالأجر والثواب من عند الله. ومع افتراضنا صحة هذا الكلام نسبيا، فهو غير كاف لاتخاذ موقف رافض للإعجاز العددي ، فإن كان البعض قد اخطأ ، فالبعض قد أصاب . ولا يضر القرآن خطأ باحث ، فالقرآن هو كتاب الله المحفوظ ، ورعاية الله له لا تنقطع .
( 8 ) الانتقائية لدى بعض الباحثين والتفسير المحدث :
ومن المعارضين من يرى في أبحاث الإعجاز العددي المتوفرة حاليا، انتقائية من الباحث لما يخدم تصورا مسبقا في نفسه ، يصبح معه همه الوحيد أن يصل إلى ما يوافق هواه ، وقد يضطر بسبب ذلك إلى الخلط بين منهجين في العد أو طريقتين ، أو اللجوء إلى حساب أقل ما يوصف به أنه متكلف .
مع افتراض وجود هذا النوع من الدراسات ، فهي أيضا ليست مبررا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا ، وليس من المقبول أن نحكم على جميع الدراسات من خلال دراسة ما نراها باطلة ، هناك الدراسة الجادة والهادفة ، وهناك الباطلة أو الرديئة ، فلماذا نحمل هذه وزر تلك ، ونرفض الاثنتين معا ؟ .
( 9 ) عدم الحاجة إلى إعجاز جديد :
ومن الحجج الواهية التي يظن البعض أنها مبرر لرفض الإعجاز العددي : الزعم بعدم الحاجة إلى هذا الوجه من الإعجاز ، حيث يرى أصحاب هذه الحجة ، أن لدينا من وجوه الإعجاز ما يكفي .
إن على من يزعم أننا لسنا في حاجة إلى وجه إعجاز جديد ، أن يدرك أن إعجاز القرآن لا حدود له , إنه المعجزة المتجددة في كل عصر وجيل , لكل عصر منه نصيب ولكل جيل منه نصيب , نحن اليوم نكتشف ما لم يكن القدماء يعرفون عنه شيئا , والأجيال القادمة ستكتشف ما لا علم لنا به , وأن أي اكتشاف في إعجاز القرآن سيكون له أثره في زيادة اليقين لدى المؤمنين به , ومدهم بما يثبتهم ويقوي من عزائمهم , وهذا من رحمة الله بنا .
10- التكلف لدى الباحثين في الإعجاز العددي :
ويرى بعض معارضي الإعجاز العددي ، أن سمة التكلف ظاهرة في أبحاث الإعجاز العددي ، فالباحث يلجأ إلى الانتقائية واختيار ما يؤدي إلى غاية مسبقة في نفسه ، وهو بذلك يحمل النص القرآني ما لا يحتمل بل ويخرج به عن أهدافه ومقاصده .
وعلى افتراض صحة هذه التهمة على بعض الأبحاث ، فليست مبررا لرفض الإعجاز العددي جملة وتفصيلا . ففي كل علم هناك البحث الجيد وهناك البحث الرديء ، ولا يجوز أن نحكم على الجيد بالرديء . أظن أن على من يحتجون " بالتكلف " أن تكون لهم معايير واضحة يستندون إليها في أحكامهم ، وان تكون تلك المعايير معقولة وغير متكلفة أيضا ، حتى لا يقعوا فيما يحتجون عليه.