وجهة نظر المؤرخ المحايد
وجهة نظر المؤرخ المحايد
قال الأديب الكبير والمؤرخ والمفكر والكاتب العملاق هـ جـ ويلز في كتابه العالمي "معالم تاريخ الإنسانية" جـ3 ص 16 من الترجمة العربية:
وهو أحسن ما وقعت عليه عيني باللغة العربية مصدرا عن حياة يسوع في سياق تاريخ عالمي موضوعي وعن الإضافات التي أضافها بولس إلى تعاليم يسوع.
وههنا
الكتاب لمن أراد قراءته وهاهنا أيضا قسط مما قاله فيه:
"ويكاد يكون مصدر معلوماتنا عن شخصية يسوع (عليه السلام) محصورا في الأناجيل الأربعة وكلها بالتأكيد كانت موجودة بعد وفاته ببضع عشرات من السنين ومن الإشارات إلى حياته في رسائل الدعاة المسيحيين الأوائل ، ويظن الكثيرون أن الأناجيل الثلاثة الأولى متي ومرقص ولوقا مستمدة من بعض وثائق أقدم منها ولكن إنجيل القديس يوحنا يتصف بطابع أخص وأبرز كما أنه يصطبغ بصبغة لاهوتية ذات طابع هيليني قوي.
ويميل النقاد إلى اعتبار إنجيل القديس مرقس أصح ما كتب عن شخص يسوع وأعماله وأقواله وأجدرها بالثقة، بيد أن الأناجيل الأربعة جميعا تتفق في إعطائنا صورة لشخصية واضحة تماما...لكن كما أن شخصية غوتاما بوذا قد شُوهت وانطمست وراء تلك الصور الجامدة المتربعة التي عليها وثن البوذية المتأخرة المذَهَّب ، فكذلك يشعر المرء أن شخص يسوع النحيل المكدود قد أضرَّ به كثيرا ذلك الجو الوهمي وتلك الروح التقليدية اللذان فرضهما على صورته الفن المسيحي الحديث تبجيل خاطئ من رسام تقي قانت. كان يسوع معلما فقيرا يتجول في بلاد اليهودية المتربة اللافحة الشمس ويعيش على هبات عرضية من الطعام ومع ذلك فإنه يصوَّر على الدوام نظيفا ممشط الشعر مرجله صقيل الإهاب نقي الثياب مستقيم العود ومن حوله سكن لا يريم كأنما هو منزلق في الهواء وهذا وحده قد جعله وهماً لا يؤمن به كثير من الناس الذين لا يستطيعون أن يميزوا بين لباب القصة وبين زخرف إضافات التحسين والتحلية غير الموفقة التي يضيفها بعض المبتلين بغباء. ومن الجائز أن الأجزاء الأولى من الأناجيل استطرادات وإضافات من نفس هذا الطراز، فإن المعجزات المتصلة بمولد يسوع : ذلك النجم العظيم الذي جلب الحكماء من الشرق ليعبدوا الله عاكفين عند مهده بالمذود. ومذبحة الأطفال الذكور في بيت لحم بأمر هيرودس نتيجة لهذه الظواهر والنذر، والهرب إلى مصر إنما هي أمور يظنها كلها كثير من الثقات من أمثال تلك المواد المضافة. وهي في خير أحوالها حوادث لا ضرورة لها للتعاليم وهي تسلبها الشيء الكثير مما لها من قوة وسلطان عندما تُجرد من أمثال تلك الإضافات وكذلك الشأن في مسألة النسب المتناقضة اتي أوردها متي ولوقا. والتي يحاولان فيها إرجاع النسب مباشرة لأبيه يوسف إلى الملك داود. كأنما كان شرفا ليسوع أو لأي إنسان آخر أن يكون رجل كهذا أحد أسلافه. وإدخال هذه الأنساب أشد إمعانا في الغرابة ومنافرة العقول لأن يسوع كما تقول القصة ليس ابناً ليوسف بتاتاً. إذ قد حملت فيه أمه بطريقة إعجازية.
فإذا نحن جردنا هذه القصة من الإضافات العسيرة، وجدنا أنفسنا إزاء كائن مكتمل الإنسانسة موفور الجد مرهف العاطفة والحساسية عرضة للغضب السريع ويعلم الناس مبادئ جديدة بسيطة عميقة: هي أبوة الرب العامة المحبة ومجيء مملكة السلام. وغني عن البيان أنه كان شخصاً ذا جاذبية شخصية بالغة القوة فكان يجتذب إليه الأتباع ويملؤهم بالحب والشجاعة وكان الضعفاؤ والمرضى من الناس يتشجعون بحضرته يبرءون مما بهم...وهناك خبر متواتر بأنه أغمي عليه عندما كلف بأن يحمل صليبه إلى مكان التنفيذ كما جؤى بذلك العرف. وكان يناهز الثلاثين من عمره عندما شرع لأول مرة يعلم الناس، وظل يجوب البلاد ثلاثة أعوام ينشر مبادئه ثم هبط اورشليم ، واتُهم بأنه يحاول أن يقيم مملكة عجيبة في بلاد اليهودية وحوكم بهذه التهمة
...ومن الحقائق الثابتة أن ما تحويه الأناجيل من مجموعة الأخبار والتأكيدات اللاهوتية التي تؤلف المبادئ المسيحية الطقوسية لا يقوم إلا على سند محدود جداً. إذ لا يوجد في هذه الكتب كما قد يرى القارئ بنفسه ما يدعم ويؤيد كثيرا من تلك المبادئ التي يرى معلمو المسيحية على اختلاف نحلهم أنها ضرورية بوجه عام للخلاص. فإن سندها من الأناجيل غالبا ما يكون سندًا غير مباشر ومعتمدا على الإشارة، ولا بد إذن من تصيد ذلك السند تصيدا وإقامة الحجة عليه بالبحث والمجادلة. وفيما عدا بعض فقرات تدور حولها المنازعات يعسر عليك أن تجد كلمة تُنسب فعلا إلى إلى يسوع فسر فيها مبادئ الكفارة والفداء أو حض فيها أتباعه على تقديم القرابين أو تناول سر مقدس وسوف نرى فيما بعد كيف مزق الشقاق حول مسألة الثالوث فيما بعد العالم المسيحي بأسرهوليس هناك من دليل على أن حواريي المسيح اعتنقوا ذلك المبدأ .
كذلك لا يبرز هو دعواه أنه "المسيح" ولا يضفي اشتراكه مع الله في الربوبية أي ثوب بارز ربما أحسسنا أنه لم يكن ليفوته أن يضفيه لو أنه كان يراه أمرًا في الدرجة الأولى من الأهمية.
ومن أشد ما يحيّر اللب قوله (انجيل متي الإصحاح 16-20 ) حينئذ أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح، فمن العسير أن يفهم الإنسان السر في هذا المنع، إذا فرضنا أنه كان بعد الحقيقة من ضروريات الخلاص.
ثم إن مراعاة طقس السبت اليهودي وه الذي استبدلوا به الأحد المثرائي ظاهرة هامة عند كثير من النحل المسيحية، على أن يسوع لم يرع السبت معتمدا وقال إنه خلق لأجل الإنسان، ولم يُخلق الإنسان لأجل السبت. وهو لم يفه بكلمة واحدة عن عبادة أمه مريم في صورة إيزيس مليكة السماء، كما أن الكثير مما هو من خصائص المسيحية في العبادة والطقوس لقي منه إغضاءً تاماً، ولقد أمكن من جرأة الكتاب المتشككين أن أنكروا إمكان أن يسمى يسوع مسيحيا على الإطلاق.ويجب على كل قارئ أن يلجأ إلى مرشديه الدينيين ليستضيء بهديهم في الثغرات الخارقة في تعاليمه.
"
وبعد أن خصص فصلا لتعاليم يسوع وأهمها "مملكة السماء" التي تعني جوا من الحب والأمانة أو بتعبير ويلز
"أن التبرؤ من النفس ونبذها هو جزاؤها بعينه وأنه هو نفسه مملكة السماء" يشرع في فصل جديد عنوانه "مبادئ أضيفت إلى تعاليم يسوع":
- وظهر للوقت معلم آخر عظيم ، يعده كثير من الثقات العصريين المؤسس الحقيقي للمسيحية- وهو شاءول الطرسوسي أو بولس- ويظهر أن شاءول هو اسمه اليهودي وأن بولس هو اسمه الروماني، كان مواطنا رومانيا، رجلا أوتي علما أوسع بكثير وعقلية أضيق بكثير مما يبدو أن قد أوتي يسوع، والراجح أنه كان يهودي المولد وإن كان بعض الكتاب اليهود ينكرون ذلك ، ولا مراء في أنه تعلم على أساتذة من اليهود. بيد أنه كان متبحرًا في لاهوتيات الإسكندرية الهيلينية وكانت لغته الإغريية. ويقرر بعض علماء الأدب الكلاسيكي القديم أن لغته الإغريقية غير مرضية، فهو لم يستخدم لغة أثينا، بل إغريقية الإسكندرية، بيد أنه استخدمها بقوة وبطلاقة. ..كان صاحب نظرية دينية ومعلماً يعلم الناس قبل أن يسمع بيسوع الناصري بزمن طويل ، وهو في رواية العهد الجديد يبدو بادئ ذي بدء في إهاب الناقد المرير، والخصم العنيد والمضطهد الناشط للنصارى جميعاً.
ولم يوفق كاتب هذه السطور إلى العثور على أي بحث في آراء بولس الدينية قبل أن يصبح من أتباع يسوع. ولا بد أنها كانت أساس لآرائه الجديدة وإن لم تزد عن قاعدة انطلاق لها، كما أن أسلوب تعبيرها وطريقتها أسبغت بالتحقيق عن مبادئه الجديدة لونا خاصاً. وإنا لنكاد نتخبط في نفس الظلمات حول تعاليم عمانوئيل الذي يقولون إنه المعلم اليهودي الذي كان بولس يجلس عند قدميه ، كذلك لسنا ندري ما ذا كانت التعاليم غير اليهودية التي درسها. ومن الراجح أنه متأثر جدا بالمثرائية إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية، ويتضح لكل من قرأ رسائله المتنوعة جنبا إلى جنب مع الأناجيل،
أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط ، بارزة قوية فيما نقل عن يسوع من أقوال وتعليم، ألا وهي فكرة الشخص الضحية الذي يُقدم قربانا لله كفارة عن الخطيئة فما بشّر به يسوع كان ميلادا جديدا للروح الإنسانية، أما ما علَّمه بولس فهو الديانة القديمة ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلبا لاسترضاء الآله.
ولم ير بولس يسوع قط، ولا بد أنه استقى معرفته بيسوع وتعاليمه سماعا عن التلاميذ الأصليين. ومن الجلي أنه أدرك الكثير من روح يسوع ومبدئه الخاص بالميلاد الجديد بيد أنه أدخل هذه الفكرة في صرح نظام لاهوتي ، نظام يتسم بشديد البراعة والخفاء، لا تبرح فتنته إلى اليوم تستهوي العقول "فكريا" بصفة رئيسة. ومن الواضح أن عقيدة النصارى التي وجدها على صورة مبدأ للحفز والإثارة وأسلوب العيش قد أصبحت على يديه مذهب "إيمان" . ذلك أنه وجد النصارى ولهم روح ورجاء وتركهم مسيحيين لديهم بداية عقيدة.
بيد أننا يجب أن نرجع القارئ إلى "أعمال الرسل" و"رسائل بولس" ليحصل على بيان واضح عن رسالة بولس وتعاليمه. كان رجلا هائل الطاقة والنشاط، وقد علّم الناس في اورشليم وانطاكية وأثينا وكورنثوس وافسوس وروما. ويحتمل أنه انحدر أيضا إلى اسبانيا، وليست طريقة وفاته بمعروفة على وجه التحقيق، ولكن يقال إنه قُتل في روما إبان حكم نيرون. فقد شب حريق عظيم اتى على قسم كبير من روما فاتُّهمت الطائفة الجديدة بأنها تسببت في ذلك الحريق ولا شك أن انتشار المسيحية السريع مدين لبولس اكثر منه لأي رجل آخر بمفرده
. فلم تكد تمضي على موت المسيح عشرون سنة حتى استرعت هذه الديانة نظر الولاة الرومان في ولايات عديدة. ولئن حصلت
من يد القديس بولس على لاهوتها فلقد ظلت محتفظة بالكثير من تعاليم يسوع من سمة الثورية والبدائية ولقد أصبحت أكثر تسامحاً نوعا من الملكية الخاصة وأصبح في وسعها أن تقبل نصارى أغنياء دون الإصرار على جعل ثرواتهم مشاعا
واغتفر القديس بولس نظام الرق عندما قال أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم. ومع ذلك فقد صمدت كالصخر لا تلين إزاء بعض النظم الجوهرية في العالم الروماني. فإنها لم تُجز أبدا عبادة القيصر فلم يقبل المسيحيون أن قط أن يعبدوا الامبراطور حتى ولا بإيماءة صامتة عند المذبح رغم ما في ذلك من تعريض حياتهم للخطر. وإنها لتستنكر حفلات المجالدين.
....على أن ما أسهمت فيه نحلة الاسكندرية في الفكر المسيحي والطقوس المسيحية كان أعظم قدرا او يكاد
عرفنا إذن أن ما يعدّ جوهر المسيحية عبر التاريخ أي التثليث هو ليس من أفكار يسوع ولا من تعاليمه بل هو من تعاليم بولس.