فوائد وتنبيهات في مسائل الصفات

إنضم
13/05/2025
المشاركات
79
مستوى التفاعل
13
النقاط
8
الإقامة
صنعاء - اليمن
فوائد وتنبيهات في مسائل الصفات
بقلم/ د. محمد بن جميل المطري

يجب أن نُثبت لله سبحانه ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من الصفات الإلهية الذاتية والفعلية من غير تكييفٍ ولا تمثيل، ولا تحريفٍ ولا تعطيل، ونُمِرُّهَا كما جاءت في النصوص بلا تكلف، وبلا غلو في الإثبات، ولا غلو في النفي، ومن غير تفويض للمعنى الواضح المفهوم من معاني الصفات العظيمة، مع الإيمان بأن الله ليس كمثله شيء، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وهذه طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان.
واعلم أن أفضل كتب العقيدة: كتاب الله سبحانه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يهدي مَنْ تدبره للتي هي أقوم في كل شيء، ومن أعظم الأشياء التي يهدي إليها القرآن مسائل العقيدة، فاحرص على تعلم تفسير القرآن الكريم، وتَدبَّرِ القرآنَ الحكيم كاملًا بلا تقصير، فالقرآن يُفسِّر بعضُه بعضًا، وهداياتُه لا حصر لها.
وقد ألَّف أهل العلم رحمهم الله قديمًا وحديثًا كتبًا نافعة في العقائد، اعتمدوا فيها على كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلفُ الصالح، وضبطوا مسائل الأسماء والصفات، ومِنْ أنفعِ الكتب المصنَّفة في باب الصفات: كتاب التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والعقيدة الحموية له أيضًا، وكتاب القواعد المثلى في أسماء الله وصفاته العلى لابن عثيمين رحمه الله.
وقد وقع لبعض العلماء غفر الله لنا ولهم أخطاءٌ في إثبات بعض الصفات كالإمام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله المتوفى سنة 280 هـ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله في كتابه العلو للعلي الغفار (ص: 195) مخبرًا عن كتاب الدارمي في النقض على بِشر الـمَرِيْسِيّ: "في كتابه بحوثٌ عجيبةٌ مع الـمَرِيْسِيّ، يبالغ فيها في الإثبات، والسكوتُ عنها أشبهُ بمنهج السلف في القديم والحديث".
وقال الألباني رحمه الله في تعليقه على كتاب التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل للمُعلِّمي (2/ 572): "لا شك في حفظ الدارمي وإمامته في السنة، ولكن يبدو من كتابه الرد على الـمَرِيْسِيّ أنه مغال في الإثبات، فقد ذكر فيه القعود والحركة والثقل ونحوه، وذلك مما لم يرد به حديث صحيح، وصفاته تعالى توقيفية، فلا تُثبَت له صفةٌ بطريق اللزوم مثلًا، كأن يقال: يلزم من ثبوت مجيئه تعالى ونزوله ثبوت الحركة، فإن هذا إن صح بالنسبة للمخلوق، فالله ليس كمثله شيء، فتأمل".
ولا يعني هذا التهوينَ من شأن كتاب النقض على الـمَرِيْسِيّ للدارمي، فهو من أحسن الكتب في الرد على شُبَه الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكل كتاب لا يسلم من الخطأ والنقص والاختلاف إلا كتاب الله العظيم، وكلٌ يُؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن وقع له غلو في إثبات بعض الصفات: القاضي أبو يعلى ابنُ الفرَّاء رحمه الله المتوفى سنة 458 هـ، فله مع سعة علمه وفضله بعض العجائب والزلات الشنيعة في كتابه إبطال التأويلات غفر الله لنا وله، وقد وقعت له تلك الأخطاء بسبب أخذه بظاهر بعض النصوص التي لا تصح أو لا يصح الاستدلال بها على الصفات لعدم صحة دلالتها، ومن ذلك: أنه أثبت لله سبحانه الأضراس واللهاة كما في كتابه إبطال التأويلات (ص: 218، 219)، والذراعين والصدر كما في إبطال التأويلات (ص: 221، 222)، والساعد كما في إبطال التأويلات (ص: 345)، والفخذ كما في إبطال التأويلات (ص: 206)، وأشنع من هذا قوله في إبطال التأويلات (ص: 190) بعد أن ذكر حديثًا موضوعًا لا يصح: "هذا الخبر يفيد أشياء منها: جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا على وجه الاستراحة، بل على صفة لا تُعقل معناها، وأن له رجلين يضع إحداهما على الأخرى على صفة لا نعقلها، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته".
فينبغي الاحتياط الشديد في إثبات الصفات لله سبحانه، وعدم التساهل في إثبات الصفات المحتملة الثبوت والدَّلالة، التي لا يُعرف إثباتها عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، ويكفينا ما كفى السلفُ الصالح رحمهم الله من قراءة آيات وأحاديث الصفات، والإيمان بها، ومعرفة معانيها الظاهرة كما يليق بعظمة الله سبحانه، والسكوت عن الكلام عن ما يُشكِل منها، وتركِ التكلف بالتكييف أو التمثيل أو التأويل أو التعطيل، ونقول كما قال الله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، ونأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ)) رواه أحمد بن حنبل في مسنده (6702) و (6741) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ، مَا اسْتَبَانَ لَكُمْ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ، فَكُلُوهُ إِلَى عَالِمِهِ) رواه الحاكم في المستدرك (5321) وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك.
وروى أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام (858) عن أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالك بن أنس يقول: "إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان".
وكما وقع بعضُ الناس في الغلو في إثبات بعض الصفات وقع بعضُهم في الغلو في نفي الصفات، فنفى المعتزلةُ جميع الصفات الإلهية، فأثبتوا الأسماء الحسنى لله دون الصفات، فقالوا: الله سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، ورحيم بلا رحمة، وهكذا! تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد استغرب منهم العلامة اللُّغَوي الكبير أبو منصور الأزهري الهَروي في كتابه تهذيب اللغة (2/ 74) فقال رحمه الله: "السميع من صفات الله وأسمائه، وهو الذي وسع سمعه كل شيء؛ قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، وقال في موضع آخر: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} [الزخرف: 80]، قلت: والعجبُ من قوم فسَّروا السميع بمعنى المسمِع، فرارًا من وصف الله بأن له سمعًا، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع ذو سمع، بلا تكييف ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعُه كسَمعِ خَلقِه، ونحن نصفُه بما وصف به نفسَه، بلا تحديد ولا تكييف".
ونفى المعتزلة والأشاعرة علو الله على خلقه بذاته، وأنكروا استواءه على عرشه بمعنى العلو والارتفاع كما يليق بجلاله، وأنكروا أن الله في السماء كما أخبرنا بذلك في كتابه في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، وزاد الأشاعرةُ بدعةً عجيبةً ما سبقهم بها أحدٌ من العالمين، وهي قولهم: إن الله ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارجِه، ولا فوقَ ولا تحت! يُنظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 37)، أساس التقديس في علم الكلام للفخر الرازي (ص: 19)، المواقف للإيجي (3/ 31، 32)، شرح المقاصد في علم الكلام للتفتازاني (2/ 65 - 67).
قال الألباني في مقدمة كتاب مختصر العلو للعلي العظيم للذهبي (ص: 47): "قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: أما الكلام في الصفات؛ فإن ما روي منها في السنن الصحاح؛ مذهب السلف رضوان الله عليهم إثباتُها وإجراؤها على ظواهرها، ونفيُ الكيفية والتشبيه عنها. وقد نفاها قومٌ فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قومٌ فخرجوا في ذلك إلى ضربٍ من التشبيه والتكييف، والقصدُ إنما هو سلوكُ الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودينُ الله بين الغالي فيه، والمقصِّرُ عنه.
ثم قال الخطيب: وتنقسم الأحاديثُ المروية في الصفات ثلاثةَ أقسام:
أ- منها أخبارٌ ثابتةٌ أجمع أئمةُ النقل على صحتها، لاستفاضتها وعدالة ناقليها، فيجب قَبولُها، والإيمانُ بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقادُ ما يقتضي تشبيهًا لله بخلقه، ووصفهَ بما لا يليق به من الجوارح والأدوات، والتغير والحركات.
ب- القسم الثاني: أخبارٌ ساقطة، بأسانيدَ واهية، وألفاظٍ شنيعة، أجمع أهلُ العلم بالنقل على بُطولها، فهذه لا يجوز الاشتغالُ بها، ولا التعريجُ عليها.
ج- القسم الثالث: أخبارٌ اختلف أهلُ العلم في أحوال نقلَتِها، فقَبِلَها البعضُ دون الكل، فهذه يجبُ الاجتهادُ والنظرُ فيها لتلحق بأهل القَبول، أو تُجعل في حيز الفساد والبُطول". انتهى.
وهذه الرسالة فيها نصائحُ وتنبيهاتٌ مهمةٌ لأهل السنة والجماعة، المعظمين للنصوص الشرعية، المعرضين عن الفلسفة، المعظمين للسلف الصالح الذين أمرنا الله باتباعهم والإيمانِ كإيمانهم كما قال سبحانه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} [البقرة: 137]، فإني وجدت بعض العلماء المتأخرين والمعاصرين يجعلون لله سبحانه صفاتًا لم يكن مشهورًا عن السلف الصالح أنهم يجعلونها من الصفات الإلهية، فمن ذلك:
صفة الملل والسآمة، عدها القاضي أبو يعلى رحمه الله من صفات الله في إبطال التأويلات (ص: 369)، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كما في الفتاوى والرسائل (1/209)، والعلامة الشيخ ابن باز رحمه الله كما في فتاوى نور على الدرب (3/158)، أما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فتوقف في إثباتها كما في مجموعة دروس وفتاوى الحرم (1/152).
ومن ذلك: صفة الظِّل لله، أثبت هذه الصفة ابن باز رحمه الله كما في مجموع فتاوى ابن باز (28/402)، ولم أجد له سلفًا من العلماء المتقدمين، وقد خالفه في ذلك بعضُ العلماء المعاصرين، قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية (2/ 136): "قوله: ((لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)) يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظلُ ذاتِ الرب عز وجل، فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عز وجل".
ومن ذلك: صفة الشم، أثبتها بعض المعاصرين، وذهب ابن عثيمين إلى التوقف في إثبات أو نفي هذه الصفة لله، لعدم ورود ذلك عن الصحابة، ففي سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين: هل تثبت صفة الشم لله؟ فقال الشيخ رحمه الله باللهجة العامية: "وش عليك منه، هذا من التنطع، والصحابة لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا لما قال لهم: ((لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ))". الكنز الثمين في سؤالات ابن سنيد لابن عثيمين (ص: 20).
وتوجد صفاتٌ أخرى في ثبوت دليلها أو دلالتها على وصف الله بها نظرٌ واحتمالٌ قوي: كالجَنب، والحَقْو، والحُجْزة، والأنامل، والتردد، ولا يُعرف عن الصحابة والتابعين وأتباعهم أنهم كانوا يثبتونها لله سبحانه، وقد أثبتها بعض العلماء الأجلاء من غير تشبيه لورودها في بعض النصوص، ولا ننكر على من أثبتها مع تنزيه الله سبحانه عن النقص، والإيمان بأنه ليس كمثله شيء، وعلى من أثبت لله صفةً مختلفًا فيها أن لا يوالي ويعادي عليها، ولا يُضلِّل من لم يثبتها أو توقف في إثباتها.
واعلم أن العلم النافع هو الظاهر المشهور عند العلماء، ولا ينبغي الأخذ بالقول الشاذ والغريب، قال الزَّجَّاجي رحمه الله في اشتقاق أسماء الله (ص: 63): "ليس لنا أن نطلق على الله عز وجل من الصفات إلا ما أطلقه جماعة المسلمين، وجاء في الكتاب، وإن كان في اللغة محتمِلًا"، قلت: وكذلك إن جاء في السنة الصحيحة الثابتة.
وفي البيان والتحصيل لابن رشد الجد رحمه الله (16/ 400) في بيان مذهب الإمام مالك: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله عز وجل إلا بما وصف به نفسَه في القرآن أو وصفه به رسوله في متواتر الآثار، واجتمعت الأمةُ على جواز وصفه به" انتهى باختصار وتصرف يسير، وفي تخصيصه الحديث المتواتر نظر، فيكفي لإثبات صفةٍ لله سبحانه صحةُ الحديث ولو كان من الآحاد، ولكن لا بد أن يكون صريحَ الدَّلالة أو ظاهرَ الدلالة، وكذلك في اشتراطه إجماع الأمة نظر، فيكفي أن يكون القول مشهورًا عند العلماء، روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي (1292) عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: "شرُّ العلم الغريب، وخيرُ العلم الظاهرُ الذي قد رواه الناس"، وفي تدريب الراوي للسيوطي رحمه الله (2/ 634): "قال ابن المبارك: العلم الذي يجيئك من هاهنا وهاهنا: يعني المشهور"، وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (41/ 376) عن الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله قال: "ليس من العلم ما لا يُعرف، إنما العلم ما عُرِف، وتواطأت عليه الألسن".
هذا، واعلم أن بعض نصوص الصفات لا يُراد ظاهرُها الذي قد يَتبادر إلى أذهانِ بعض الناس، وسأذكر لذلك مثالين، أولهما مجمعٌ عليه، والثاني فيه خلافٌ معتبر:
المثال الأول: قوله تعالى: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، فسَّر العلماء الآية بأن المراد: لا يكلمهم اللهُ يوم القيامة كلامَ رحمة ورضا كما يكلم المؤمنين، ولا ينظر إليهم برحمته، فإن الله لا يخفى عليه شيء. يُنظر: تفسير ابن جرير الطبري (5/ 516)، تفسير البغوي (1/ 461)، تفسير ابن كثير (1/ 484) و (2/ 62)، دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشنقيطي (ص: 28)، تفسير الفاتحة والبقرة لابن عثيمين (2/ 261).
المثال الثاني: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174].
اختلف المفسرون رحمهم الله في تفسير هذه الآية على قولين:
القول الأول: أن المراد أن الله أخرج الذرية من ظهر آدم بأن مسح عليه فخرجوا كالذَّر، وأنطقهم بقدرته فشهدوا أنه ربهم.
القول الثاني: أن المعنى: واذكر حين أُخِذ بنو آدم من أصلاب آبائهم فخُلِقوا حين وُلِدُوا على الفِطرة، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم، قال بعضهم: وهذا من باب التمثيل، والمعنى: أن الله نصب لبني آدم الأدلةَ على ربوبيته ووحدانيته، فشَهِدَت بها فِطَرُهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقرَّرهم، وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا، وأقررنا بوحدانيتك.
وقد رجَّح القولَ الأول: الطبريُّ في تفسيره (10/ 546، 552 - 565)، والواحدي في البسيط (9/ 451 - 455)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (7/ 314)، وابن جُزَي في التسهيل لعلوم التنزيل (1/ 312)، والشوكاني في فتح القدير (2/ 299، 300)، والشنقيطي كما في العذب النمير (4/ 310 - 318).
ورجَّح القولَ الثاني: الزمخشريُّ في الكشاف (2/ 176، 177)، وابن تيمية كما في جامع الرسائل (1/ 11، 12)، وابن القيم في الروح (ص: 163 - 171)، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/ 500، 506)، والقاسمي في محاسن التأويل (5/ 217)، والسعدي في تفسيره تيسير الكريم الرحمن (ص:308).
ولا حرج على من أخذ بأحد القولين، وغالب المفسرين يذكرون القولين أو أحدهما من غير تضليلٍ لمن قال بأحد القولين.
وهنا تنبيهٌ مهم، وهو أن بعض الآيات فيها نسبة الفعلِ إلى اللهِ وهو فعلُ الملائكة بأمر الله سبحانه، قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد (2/ 6): "ما يسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف: 3]، ونظائره، فتأمله".
وسأوضح هذا بذكر مثالين:
المثال الأول: قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} [مريم: 79]، قال السمعاني رحمه الله في تفسيره (3/ 312): "أي: يأمر الملائكة حتى يكتبوا"، فالمعنى: ستكتب الملائكة الحفظة بأمر الله ما يقول هذا الكافر المفتري على الله أنه سيعطيه في الجنة مالًا وولدًا، فأسند اللهُ الكتابة إلى نفسه، والمرادُ كتابةُ ملائكته، كما قال تعالى: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقال عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (5/ 512): "وأما الكتابة فرسُلُه يكتبون كما قال ههنا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12]، فأخبر بالكتابة بقوله: {نحن}؛ لأن جنده يكتبون بأمره".
المثال الثاني: قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]، قال ابن عثيمين رحمه الله في تفسير سورة الواقعة: "الله تعالى يضيف الشيء إلى نفسه إذا قامت به ملائكته؛ لأن الملائكة رسُلُه عليهم السلام، وليس هذا من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولكنه من باب تفسير الشيء بما يقتضيه السياق؛ لأنه ربما يقول قائل: إن ظاهر الآية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} أن الأقرب هو الله عز وجل فلماذا تحرفونه؟! فنقول: نحن لا نحرفها، بل فسرناها بما يقتضيه ظاهرها؛ لأن الله قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}، وهذا يدل على أن هذا القريب في نفس المكان، ولكن لا نبصره، وهذا يُعيِّن أن يكون المرادُ قربَ الملائكة؛ لاستحالة ذلك في حق الله تعالى، وأيضًا فإن القرب مقيدٌ بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]، فإن قيل: كيف يضيف الله الشيء إلى نفسه والمراد الملائكة؟! قلنا: لا غرابةَ في ذلك، فإن الله يضيف الشيء إلى نفسه وهو من فعل الملائكة لأنهم رسُلُه، ففِعلُهم فِعلُه، ألم تر إلى قول الله تبارك وتعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 18]، والمراد قراءة جبريل عليه السلام، لا قراءة الله، لكنه أضاف فعل جبريل إليه لأنه بأمره، وهو الذي أرسله به". تفسير العثيمين: الحجرات – الحديد (ص: 351، 352).
هذا، واعلم أن بعض نصوص الصفات اختلف العلماء المتقدمون في إثبات صفة لله بها، ومن ذلك قوله سبحانه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فأكثر السلف من الصحابة والتابعين على أن هذه الآية ليست من نصوص الصفات، وأن المعنى: يكشف الله يوم القيامة عن شدة وأهوال. يُنظر: تفسير ابن جرير (23/ 186)، تفسير السمعاني (6/ 28)، تفسير ابن كثير (8/ 198، 199)، تفسير ابن عادل (7/ 134)، تفسير الألوسي (15/ 39).
قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله في كتابه تأويل مشكل القرآن (ص: 89)، وهو من أهل السنة المثبتين للصفات: "من الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة من الأمر، ... وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه - شمَّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة". ويُنظر: معاني القرآن للزجاج (5/ 210).
وذهب بعض المفسرين إلى أنها من آيات الصفات، ورجحه ابن تيمية وابن القيم. يُنظر: بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (5/ 473، 474)، الصواعق المرسلة لابن القيم (1/ 252، 253).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "يحتمل أن يُراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يُراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين" شرح العقيدة السفارينية (1/ 262).
وما أحسنَ ما قالَه ابنُ عثيمين في شرح العقيدة السفارينية (1/ 309): "مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه، فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقًا؛ لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه، وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة، بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال، وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن؛ ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم، ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده. إذًا هذه الكلمة التي نسمعها بأن مسائل العقيدة لا خلاف فيها، ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك. كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقاد الإنسان، فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزمًا لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل - أحاديث أو آيات - قد يشك الإنسان فيها، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، هذه من مسائل العقيدة، وقد اختلف فيها السلف؛ هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟".
ومن الصفات التي اختلف العلماء رحمهم الله في إثباتها: صفة المشي والهرولة، أثبتها عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه نقض الدارمي على المريسي (1/561)، والهروي في الأربعون في دلائل التوحيد (ص: 79)، وابن القيم في الصواعق المرسلة (3/915)، وعلماء اللجنة الدائمة كما في فتاوى اللجنة الدائمة (3/142)، وابن باز كما في فتاوى نور على الدرب (1/67).
وقال الإمام الترمذي رحمه الله في سننه (5/ 581): "يُروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: ((مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا)) يعني: بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إليَّ العبد بطاعتي، وبما أمرت، تسارع إليه مغفرتي ورحمتي".
وهذا هو القول المشهور عند العلماء المتقدمين، فقد نقله الترمذي مُقِرًا له عن الأعمش رحمه الله وهو من التابعين، وعن بعض أهل العلم غير الأعمش، ولم يذكر الترمذي قولًا غيره، ونقله ابن بطال القرطبي رحمه الله في شرح صحيح البخاري (10/ 429، 430) عن محمد بن جرير الطبري رحمه الله.
وقال الطوفي الحنبلي رحمه الله في الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية (2/ 701 - 705) في كلامه عن هذا الحديث: "الحديث مؤولٌ عندنا على التقرب بالرحمة واللطف والإكرام، كما يقال: فلان قريب من السلطان، والأمير قريب من فلان، يعني: تقارب القلوب والمنزلة، وأنا وإن كنت أثريًّا في آيات الصفات وأخبارها، إلا أن المجاز عندي في هذا الحديث ظاهر غالب، فلا يتوقف في تأويله إلا جامد. وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن النصوص في الصفات من حيث السند على ثلاث طبقات: صحيحٌ مجمعٌ على صحته بين أهل النقل، وضعيفٌ متفقٌ على ضعفه، ومختلفٌ في صحته، فالأول مما تُثبَت به الصفات، والآخرَينِ لا يُعوَّل عليهما في ذلك، في وقت من الأوقات.
ثم الحديثُ المجمعُ على صحته من حيث دَلالةِ المتنِ على ثلاث طبقات:
ما ترجَّح فيه إرادةُ الحقيقة، وما ترجَّح فيه إرادةُ المجاز، وما استوى فيه الأمران".
وقال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي (10/ 47): "قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادةُ ظاهره، ومعناه: مَنْ تقرَّب إليَّ بطاعتي تقرَّبت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة أو إن زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي: صببتُ عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أُحْوِجْهُ إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفُه على حسب تقربه انتهى. وكذا قال الطِّيبي والحافظُ والعَيني وابن بطَّال وابن التِّين وصاحبُ المشارق والراغب وغيرهم من العلماء" انتهى كلام المباركفوري، وهو من العلماء المثبتين للصفات على منهج السلف الصالح، لكنه لم يُثبِت هذه الصفة من هذا الحديث الصحيح لعدم وضوح دلالته على الصفة.
فينبغي الاحتياطُ العظيمُ في إثبات صفات الله رب العالمين، خوفًا من أن نقول على الله ما لا نعلم، فلا ننفي صفاتَ الله العُليا، الثابتة بالنصوص الصحيحة الصريحة، الواضحة الدلالة، والمشهورة عند العلماء، ولا نَعُدُّ من صفات الله سبحانه ما كان في ثبوت دليلِه نظرٌ أو في دَلالته احتمالٌ معتبر، لا سيما إذا كان لا يُعرَف إثباتُها عن السلف الصالح رحمهم الله، الذين هم أعلم منا وأتقى.
إِذَا اتَّـضَـحَ الصَّــوَابَ فَلَا تَدَعْـهُ ... فَإِنَّـكَ كُـلَّـمَا ذُقْـتَ الصَّوَابَـا
وَجَدَّتَ لَهُ عَلَى اللَّهَوَاتِ بَرْدًا ... كَبَرْدِ الْمَاءِ حِينَ صَفَا وَطَابَا
وَلَيْـــسَ بِـحَاكِمٍ مَـنْ لَا يُبَـالِي ... أَأَخْـطَـأَ فِي الْحُـكُومَةِ أَمْ أَصَـابَـا

اللهم برحمتك وفضلك اهدنا الصراط المستقيم، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غِلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد وأهل بيته وأزواجه وذريته، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
 

المرفقات

عودة
أعلى