الطائفة الثالثة (3)
الفائدة (13): السورة: هي التي لها مطلع ومقطع (أو مبتدأ ومنتهى)، ويعرف مبتداها بالبسملة، كما يعرف منتهاها بالبسملة = لأنها على الصحيح نزلت في الفصل بين السور.
وفائدة هذا الموضوع: أنه وقع خلاف في أربع سور (سورتان .. سورتان)، هل هي متصلة أو منفصلة ؟
الموضع الأول: سورة الأنفال مع براءة = فالملاحظ: أن سورة الأنفال مع براءة ليس فيها سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ولذلك علة معروفة، ووقع الإشكال عند ابن عباس لما سأل عن سبب عدم وجود البسملة، أو لماذا لم تكن السورتان سورة واحدة.
الموضع الثاني: سورة (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ) مع سورة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)، فذكر بعض العلماء أنها سورة واحدة، ويمكن أن يستدل على خلاف ذلك: بعدم وجود البسملة بينهما.
وأقل سورة في عدد آياتها هو ثلاث آيات، فليس عندنا سورة من آية واحدة ولا من آيتين.
الفائدة (14): مسألة: هل علم عد الآي من قبيل الاجتهاد أو من قبيل النقل ؟
ليعلم أولا: أن هناك سورا:
1. وقع الإجماع على عدها معنى ومبنى.
2. وهناك سور وقع الإجماع على عدها، واختلف في مواقع العدّ منها، فمثلا سورة الفاتحة = اتفقوا أنها سبع آيات، واختلفوا في العد: فمن عدّ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية، لم يعد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، ومن لم يعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية، عد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية.
3. وهناك سور وقع الاختلاف في العدد والمواطن، ومثال ذلك: سورة الملك .
فهذا الخلاف الوارد في عد الآي لا يمكن الانفكاك منه إلا بأن نقول: أن كل هذا الخلاف ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يُقال إن الأصل: أن العد متلقى من الرسول صلى الله عليه وسلم لكن وقع الاجتهاد في بعض المواطن.
وبعض علماء القراءات يُشددون على القول الأول: أنه متلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهم إذا جاؤوا يعللون سبب الاختلاف وقع في كلامهم شيء من الاضطراب لعدم التوائم بين هذا الخلاف الواضح جداً وبين كونه منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا لو قلنا بأن عد الآي الأصل فيه النقل وأنه قد وقع فيه الاجتهاد فإنه لا يؤثر على علم العدّ وأصالته من جهة، وأيضا لا يؤثر على نقل القرآن من جهة أخري.
ومن أمثلة ذلك (إثبات وجود الخلاف): الخلاف في عد آية الكرسي، فاختلف علماء العد في عد الآية، فذهب بعضهم أن قوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} رأس آية، ولو تأملت لوجدت أن هذا يخالف الأحاديث الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في آية الكرسي، فلو قلنا أن المجتهد قد استخدم ما يسمى في علم العدّ بالنظائر (المشاكلة)، لوجد أن هناك آية مناظرة في أول آل عمران، فكونه اجتهد في عد الآية لا يترتب عليه مشكله لا علمية ولا عمليه بل نقول هذا من الاجتهاد.
الفائدة (15): التفضيل (تفضيل القرآن) علي أنواع:
فالتفضيل الذي يترتب عليه الأجر، أو يترتب عليه تخصيص قراءة بزمن معين، أو طريقة معينة، لا يكون إلاّ للشارع، فإذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة آيات أو سور في زمن معين، أو ورد عنه صلى الله عليه وسلم بيان فضل لسورة من السور، فإنه هذا يكون من أفضلية هذه الآيات أو السور، وهي التي بنى عليها العلماء كتب فضائل القرآن فإنهم يتكلمون عن الفضائل العامة ثم فضائل السور ثم فضائل الآيات، ومن اعترض على التفضيل بين السور ببعض الدعاوى العقلية فإن قوله محجوج بثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وحين نرجع إلى تحرير بعض العلماء لما هو السبب في أفضلية بعض السور، فهذا قد يرجع إلى موضوع السورة أو الآية، فمثلاً: سورة " قل هو الله أحد " لا تخالف من جهة التعبد سورة " تبت يدا أبي لهب وتب "، فهذه لها من الأجر مثل ما لتلك "لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ".
وأما حديث " أن سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " فيدل على فضيلة دائمة خاصة، فيبحث العلماء في سبب تفضيل هذه السورة، ومنه ما أشار إليه المؤلف في قوله: " والفاضل الذ منه فيه أتت " فما أتى في الحديث عن الباري هو أفضل موضوعات القرآن ولهذا قال العلماء: إن سبب تفضيل سورة "قل هو الله أحد" كونها كلها في الإخلاص وفي توحيد الله سبحانه وتعالى، وفي ذكره سبحانه وتعالى .
فقضية البحث عن سبب التفضيل، مسألة ليس لها علاقة بأصل التفضيل، لأن أصل التفضيل يقال من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، أما البحث عن سبب التفضيل فهو قدرٌ زائد على قضية إثبات التفضيل أو التفاضل بين السور والآيات .
الفائدة (16): مسألة الترجمة الحرفية:
لا يتصور أن يوجد ترجمة حرفيه مطابقة تماما للفظ العربي، ولا حتى في اللفظ العربي نفسه، بمعنى أننا لو أردنا أن نغير ألفاظ القرآن بألفاظ عربية فإنه لا يكون هو النص الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا سلمنا بهذه القضية، فأي دعوى بأن يُقرأ القرآن بغير اللفظ العربي، أو أن يترجم حرفيا = هذا في باب المحالات.
ومن لطائف الترجمة: أننا لو قلنا لأحد المترجمين اقرأ قول الله سبحانه وتعالى "تبت يدا أبي لهب وتب " وترجمها للإنجليزي مثلاً ، ثم جئنا بإنسان لا علاقة له بلغة العرب لا يعرف القرآن لكنه يعرف العربية وقلنا ترجم لنا هذا النص من الإنجليزية إلى العربية، فلا يتصور أن يعيده كما هو في نصه العربي، إلا إذا كان يعرف هذا الأصل .
وأما ترجمة المعاني فهذا شيء آخر .
فلابد من الفصل بين الأمرين، فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يتصور قراءة القرآن العربي بغير العربية إلا إذا قيل: إن الذي يقرأ القرآن يقرأه باللفظ العربي لكنه يلحن، مثل ما نسمع من بعض العجم إبدال حرف الحاء وحرف العين، فيقول "الهمد لله رب العالمين"، فهذا لحن ولا يُقال أنها بغير اللفظ العربي، فهو لفظ عربي وقع فيه لحن، وهذا ليس مراد المؤلف .
فإن المؤلف يشير إلى خلاف حكاه بعض الفقهاء فيما لو لم يستطع المسلم أن يقرأ الفاتحة بلغة العرب، فهل يجوز له أن يقرأها بغير لغة العرب ؟ أي: أن تترجم له ويقرأها بغير لغة العرب ؟
فهذا الخلاف ذُكر، ولكن المُشاهد أنه لا يكاد يوجد مسلم في شرق الأرض وغربها كائنا من كان لا يستطيع أن يتعلم سورة الفاتحة بالذات، مما يدل على أن الله سبحانه قد يسر هذا القرآن بكل لسان ، فإذا تعلمه فإنه يكون قادرٌ على القراءة فحكاية مثل هذا الخلاف هي حكاية للخلاف فيما لو وقع ولكنه قليل ونادر، وقد يكون في بدايات إسلام المرء، ونحو ذلك .
الفائدة (17): قراءة القرآن بالمعنى لا تجوز، وهذه القراءة بالمعنى لها قضية تاريخية = فبعض القراءات التي وردت في جيل التابعين و نُسبت لبعض الصحابة، حملها بعضهم على أنها قراءة بالمعنى، واستدلوا بحديث " الأحرف السبعة .... وفيه: ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، وآية عذاب بآية رحمة " .
فيقولون إن هذا يدل على جواز القراءة بالمعنى ويستدلون ببعض الآثار مثل: لما كان أحد الصحابة يعلم أحد التابعين " إن كانت إلا صيحة واحدة " فأبدل كلمة بكلمة فهذه تعتبر قراءة بالمعنى، لكن لو ثبتت عن آحاد من العلماء فإنها لا تقبل، لأن الأصل قراءة القرآن كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ومن جعل هذا الحديث شاهداً له فهذا القول فيه شبهه ولكن لا يدل على ما ذهبوا إليه، وهذا المقطع من الحديث مُشكل، فإذا كان حديث الأحرف السبعة بذاته مشكل فإذا هذا المقطع من حديث السبعة الأحرف مشكل أيضا ً .
وحله عندي أن يقال:
أن هذا المقطع من قوله " ما لم تختم آية ....." أنه نزل مع أول نزول الأحرف السبعة ثم رُفع، والدليل على رفعه = أننا لا نجد في القرآن المتواتر بين أيدينا، فقد كانت زمنا معينا ثم نُسخت هذه الرخصة هذا أقوى جواب عندي في هذا المقطع الذي في حديث الأحرف السبعة .
والمقصود أنه: قد اتفق العلماء أنه لا يجوز قراءة القرآن بالمعنى وأنه لا يوجد لفظ يمكن أن يؤدي اللفظ القرآني بتمامه، يقول ابن عطية: كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام.
الفائدة (18): فرق بعض العلماء بين التفسير والتأويل: وهذا التفريق: يدلُّ على وجود إشكال عند هؤلاء العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل، والذي يظهر على هذه الفروق كلها أنها تخصيصاتٌ لا دليل عليها، وتفريقات لا يستقيم وتراهم لم يثبتوا على قولٍ سوى وجود الفرق، ثمَّ اختلفوا في بيانه.
وتحقيق الأمر في ذلك كما يأتي:
بعد أن تبيَّنَ أنَّ التفسيرَ يتعلَّقُ ببيانِ المعنى، وأنَّ التَّأويلَ له مفهومانِ صحيحانِ: أحدُهما يوافقُ معنى التَّفسيرِ، والآخر يرادُ به ما تؤول [أي: ترجع] إليه حقيقةُ الشيء، أي: كيف تكونُ، فإنَّ ملاك القولِ في ذلكَ أن يُقالَ:
إنَّ لهذه الفروق احتمالين:
الاحتمال الأول: أن ترجع الفروق إلى أحد هذه المعاني الصحيحة المذكورة في مصطلحِ التَّأويلِ.
فإن رجعتْ إلى أحدِ هذه المعاني المذكورةِ، فإنها تُقبَلُ، ولكن لا تكونُ هي حدُّ الفرقِ، بل هي جزءٌ من الفَرْقِ لا غير، وهذا يعني أنه قد يكونُ غيرُها صحيحًا، لأنها تذكرُ فرقًا آخرَ صحيحًا، وهو مندرجٌ في المعاني المذكورة في المرادِ بالتَّفسيرِ والتَّأويل.
ولأضرب لك مثالاً بأحد ما ذُكر من الفروقِ، قال أبو منصور الماتريدي (ت: 330) : ((التفسير: القطعُ على أن المرادَ من اللفظ هذا، والشهادةُ على الله سبحانه وتعالى أنه عنَى باللَّفظِ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة)).
إذا فسَّرتَ قوله تعالى: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [البروج: 2] بأنه يوم القيامة، لإجماع المفسرين على ذلك، وقطعت بهذا المعنى، أليس هذا تفسيرًا، أليس هذا تأويلاً بمعنى التفسيرِ.
فإذا قلتَ: معنى قوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [البروج: 2] ، أي اليوم الذي وعد الله عباده بأن يبعثهم فيه، وهو يوم القيامة.
أو قلت: تفسير قوله تعالى ...
أو قلت: تأويل قوله تعالى ...
فالتعبير عن بيان كلام الله بهذه العبارات - كما ترى - مؤدَّاهُ واحدٌ - ويُفهم منه معنى واحدٌ.
وإذا جئت إلى قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) [التكوير: 15] ، ورأيت أنَّ للمفسرين أقوالاً:
الأول: أنَّ المراد بالخنس: النجوم والكواكب.
والثاني: أنَّ المراد بها بقر الوحش والظباء.
فهذه محتملاتٌ في التفسير، واخترت أنَّ المراد بالخنسِ النجومُ والكواكبُ، وعللَّت لذلك الاختيار بأمرين:
1- موافقة السياق، حيث ذُكرَ في لحاقِها آيات كونية، والنجوم والكواكب آيات كونية، فالنجوم والكواكب أنسبُ لهذا المعنى اللحاقي من أن تكون بقر الوحش والظباءِ.
2- وأنَّها أظهر وأشهر للخلق من بقر الوحش والظباء، فلا أحد يخفى عليه معرفة النجومِ، وإن خفي عليه معنى الخنوس والجريان والكنوس فيها، أمَّا بقر الوحش والظباء فإنَّ بعض الناس قد لا يعرفُها وكثير منهم لا يعرف أمر خنوسها وجريانها وكنوسها.
فإذا اخترت هذا المحتمل فأنت مؤوِّلٌ عند الماتريدي (ت: 330) .
لكن هل تسمية هذا الأسلوب - وهو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة - تأويلاً = صحيحٌ؟.
ألست قد فسَّرتَ وبيَّنتَ المعنى المراد، فأنت - إذًا - باختيارك هذا المعنى دون غيره لو قلت: تأويل هذه الآية كذا، أو تفسير هذه الآية كذا، لكان الأمر واحدًا ولا فرق.
وبهذا يظهر أنك سواءً قطعت أو لم تقطع، فأنت مؤوِّلٌ، أي: مفسرٌ، ولا معنى لتخصيص التأويل بأنه ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن لا يرجع شيءٌ من هذه الفروق إلى هذه المعاني الصحيحةِ، ومن ثمَّ، فإنَّه قولٌ غيرُ مقبولٍ، لأنَّه مخالفٌ لمصطلح القرآنِ، ومصطلح السَّلفِ واللُّغةِ. ولأنه لا دليلَ عليه من نقل ولا عقل.
وبهذا يكونُ ما وردَ في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ الواردِ عن السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ أصلاً يقاسُ عليه ما يذكرُه المتأخِّرُون من فروقٍ. انظر للأهمية: مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، د/ مساعد.