فوائد منتقاة من أضواء البيان للشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله

عند قوله تعالى في يوسف {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}
قال الشيخ عليه رحمة الله ورضوانه:
وفي هذه الآية الكريمة إشكال:
وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها,وصف لصاحبها,وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو (يؤمن) مقيد بها فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين, وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة..!


قال مقيده عفا الله عنه:
لم أر من شفى غليلي في هذا الإشكال, والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي,لأن من يعبد مع الله غيره لايصدق عليه اسم الإيمان ألبتة شرعا, أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق, فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله, ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً.
وإذا حققتَ ذلك علمتَ أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به, وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) فهو الإسلام اللغوي, لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه, والعلم عند الله تعالى.

قال بعض العلماء:نزلت آية {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} في قول الكفار:
لبيك لا شريــك لك
إلا شريكا هو لك
تمـــلكه وما مـلك
وهو راجعٌ إلى ما ذكرنا..انتـــهــــى
 
قال الشيخ رحمة الله عليه عند قول الحق تعالى وعزّ:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من عمل صالحاً وأحسن في عمله أنه جل وعلا لا يضيع أجره ، أي جزاء عمله : بل يجازي بعمله الحسن الجزاء الأوفى .
وبين هذا المعنى فيآيات كثيرة جداً ، كقوله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } . وقوله تعالى : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } وقوله { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } والآيات الدلة على هذه المعنى كثيرة جداً .

وفي هذا المعنى الكريمة سؤلان معروفان عند العلماء :
الأول - أن يقال أين خبر « إن » في قوله تعالى { إِنَّ الذين آمَنُواْ } الآية؟ فإذا قيل : خبرها جملة { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } توجه السؤال .
الثاني - وهو أن يقال : أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم « إن »؟


اعلم أن خبر « إن » في قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } قيل هو جملة { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } وعليه فقوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } جملة اعتراضية . وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه .

وقيل : « إن » الثانية واسمها وخبرها ، كل ذلك خبر « إن » الأولى . ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن « إن » ب « إن » وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة « الحج » : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } الآية ، وقول الشاعر :
إن الخليفة إن الله ألبسه ... سربال به ترجى الخواتيم
على أظهر الوجهين في خبر « إن » اولى في البيت .

وعلى هذا فالجواب عن السؤال الثاني من وجهين :
الأول - أن الضمير الراب محذوف ، تقديره : لا تضيع أجر من أحسن منهم عملاً : كقولهم : السمن منوان بدرهم ، أي منوان منه بدرهم ، كما تقدم في قوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } الآية . أي يتربص بعدهم .
الوجه الثاني - أن من { مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } هو الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وإذا كان الذين آمنوا ، ومن أحسن عملاً ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير . وهذا مذهب الأخفش ، وهو الصواب . لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى .
 
عند قوله تعالى (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)
يقول الشيخ رحمة الله عليه:

فإن قيل : ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان؟

فالجواب - أ نه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما ، إذ لا يمكن دخوله فيهما معاً في وقت واحد . وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر
ـــــــــــــــ
للفائدة:
جواب الزمخشري رحمه الله:فإن قلت : فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت : معناه ودخل ما هو جنته ماله جنة غيرها ، يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما.

وتعقبه أبو حيّان رحمه الله بقوله:ولا يتصور ما قال لأن قوله ودخل جنته إخبار من الله تعالى بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أنه قصد في الإخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقت واحد ، والمعنى { ودخل جنته } يُـرِي صاحبَه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن.
 
قال -رحمة الله عليه وعلى علماء المسلمين ومحبيهم - عند آية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}

فإن قيل : إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون ، لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم . والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون . فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره؟!

فالجواب - أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيمك أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعم وابصارهم ، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ، ونحو ذلك - إنما جعلها عليهم جزاء وفاقاً لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك ، جزاء على كفرهم ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } أي بسبب كفرهم ، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم . وقوله : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } وهو دليل أيضاً واضح على أن سبب إزاعة الله قلوبهم هو زيغهم السابق . وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } وقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } الآية ، وقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، وقوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك . وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبه الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم .

وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضاً عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا : وهو أن يقول :

قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها ، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب ، لأن « إن » من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، كقولك : اقطعه إنه سارق ، وعاقبه إنه ظالم

فالمعنى : اقطعه لعلة سرقته ، وعاقبه لعلة ظلمة .وكذلك قوله تعالى : { فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم . لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع ، وتارة بالختم ، وتارة بالأكنة ، ونحو ذلك - سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه .
 
قال رحمه الله مستكملاً مسائل الآية السابقة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}

وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان :

الأول - أن يقال : ما مفسر الضمير في قوله : { ان يفقهوه }؟

وقد قدمنا أنه الآيات في قوله { ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } بتضمن الآيات معنى القرآن . فقوله { أن يفقهوه } أي القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريباً .

السؤال الثاني - أن يقال : ما وجه إفراد الضمير في قوله { ذكر } وقوله : { أعرض عنها } وقوله { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد ، وهو الاسم الموصول في قوله : { مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ } الآية .


والجواب - هو أن الإفراد باعتبار لفظ « من » والجمع باعتبار معناها ، وهو كثير في القرآن العظيم . والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقاًز خلافاً لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعة المعنى لا تصح . والدليل على صحة قوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً }
فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ « من » أولاً فأفرد الضمير في قوله { يؤمن } وقوله « ويعمل » وقوله « يُدْخِلْهُ » ووراعى المعنى في قوله : { خالدين } فأتى فيه بصيغة الجمع ، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } وقوله : { أن يفقهوه } فيه وفي كل من يشابهه من الألفاظ وجهان معرفوان لعلماء التفسير :
أحدهما - أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه . وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها . وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري .

والثاني - أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف ، وأمثال هذه الاية في القرآن كثيرة . وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }
اي لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا . وقوله : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فتبينوا أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } أي لئلا تصيبوا ، أو كراهة أن تصيبوا ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم .
 
قال الشيخ - رحمه الله - عند آية:
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}

هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلم النَّبي صلى الله عليه وسلم . وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها ، أو رحمة الولاية وعلمها . والعلماء مختلفون في الخضر : هل هو نبي ، أو رسول أو ولي . كما قال الزاجر :
واختلفت في خضر أهل العقول ... قيل نبي أو ولي أو رسول
وقيل ملك . ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة . وأن هذا العلم اللدني علم وحي ، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .
اعلم أولاً - أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن . وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي . فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في « الزخرف » : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ }الآية . أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين . وقوله تعالى في سورة « الدخان » : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ الآية ، وقوله تعالى في آخر « القصص » { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } الآية .
ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى : { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } ,وقوله : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } الآية ، إلى غير ذلك من الآيات

ومعلوم أ الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها .
والاستدلال بالأعم على الأخص فيه: أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف ,ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا . وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي ، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل و علا . ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر ، وتعييب سفن الناس بخرقها . لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى . وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي } و « إنما » صيغة حصر .


فإن قيل : قد يكون ذل عن طريق الإلهام !

فالجواب : أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة وعدم الدليل على الاستدلال به , بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهَم دون غيره ، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كاوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } ، وبخبر « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل .
وغير معصوم لا ثقةَ بخواطره ، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان . وقد ضُمِنت الهداية في اتباع الشرع ، ولم تُضمَن في اتباع الخواطر والإلهامات . والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية ، يختص الله به من يشاء من خلقه, أما ما يُلهَمُه الأنبياءُ مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم ، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم . قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :
وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا ... وعصمة النَّبي توجب اقتفا
وبالجملة ، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك -إلا عن طريق الوحي . فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة - فلا شك في زندقته . والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى ، قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاماً . وقال تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } الآية . والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً . وقد بينا طرفا من ذلك في سورة « بني إسرائيل » في الكلام على قوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع ، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة ، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام ، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره .
 
قال رحمه الله , عند آية {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}

فإن قيل : نبئنا بالأخسرين أعمالاً من هم؟

كان الجواب - هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وبه تعلم أن « الذين » من قوله { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } خبر مبتدأ محذوف جواباً للسؤال المفهوم من المقام ، ويجوز نصبه على الذم ، وجره على أنه بدل من الأخسرين ، أو نعت له .
وقوله { ضَلَّ سَعْيُهُمْ } أي بطل عملهم وحبط ، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد كما في قوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } ، وقوله : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } الآية . وقوله : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله
.


والتحقيق : أن الآية نازلة في الكفار الذيت يعتقدون أن كفرهم صواب وحق ، وأن فيه رضى ربهم ، كما قال عن عبدة الأوثان : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } ، وقال عنهم { وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } ، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تصلى نَاراً حَامِيَةً } الآية ، على القول فيها بذلك . وقوله تعالى في الكفار : { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } وقوله : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه { أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } الآية . فقول من قال : إنهم الكفار ، وقول من قال : إنهم الرهبان ، وقوله من قال إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنَّبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية . .
 
في قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) قال رحمة الله عليه وعلى علماء المسلمين :

فإن قيل هذه الآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة . وقوله صلى الله عليه وسلم : « لن يدخلَ أحدَكم عملُه الجنة » قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلا يتغمدني الله برحمة منه وفضل » يرد بسببه إشكال على ذلك .

فالجواب - أن العمل لا يكون سبباً لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى وتقبله له فضل منه . فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله ، وغيره من الأعمال لا يكون سبباً لدخول الجنة . والجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر ، هذا أظهرها عند . والعم عند الله تعالى . وقد قدمنا أن « النزل » هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم.

وعند قول الله تعالى وتقدس: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) قال الشيخ رحمه الله:

معنى قوله : { خِفْتُ الموالي } أي خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي : أن يضيعوا الدين بعدي ، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام ، فارزقني ولداً يقوم بعدي بالدين حق القيام . وبهذا التفسير تعلم ان معنى قومه « يرثني » أنه إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال .
ويدل لذلك أمران :
أحدهما - قوله { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين .

والأمر الثاني - ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا نورث ، ما تركنا صدقه » ومن ذلك أيضاً ما رواه الشيخان أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعلي والعباس رضي الله عنهم (أنشدكم الله الذي بغذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ، ما تركنا صدقه ) قالوا : نعم .
ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النَّبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن . فقالت عائشة : أليس قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:« ما تركنا صدقة » ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقتسم ورثتي ديناراً ، ما تركتُ بعد نَفَقَة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقةٌ » وفي لفظ عند أحمد : « لا تقتسم ورثني ديناراً ولا درهماً » ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه . عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : من يرثك إذا مت؟ قال : ولدي وأهلي؟ قالت : فما لنا لا نرث النَّبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن النَّبي لا يورث » ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق .
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين .

فإن قيل : هذا مختص به صلى الله عليه وسلم . لأن قوله « لا نورث » يعني به نفسه . كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفاً : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله قال : « لانورث ما تركنا صدقة » يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه . فقال الرهط : قد قال ذلك الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال : إن مراد النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله « لا نورث » نفسه ، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك ، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال؟

فالجواب من أوجه :
الأول - أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء ، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة , وقولُ عمرَ لا يصح تخصيص نص من السنة به , لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول .
الوجه الثاني - أن قولَ عمرَ « يريد صلى الله عليه وسلم نفسه » لا ينافي شمولا الحكم لغيره من الأنبياء ، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث ، ولم يقل عمرُ إن اللفظ لم يشمل غيره ، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضاً .
الوجه الثالث - ما جاء من الأحاديث صريحاً في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء . وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله تعالى .


قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه :
وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول وغيرهم بلفظ « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ « نحن » لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ « إنا معاشر الأنبياء لا نورث . . » الحديث وأخرجه عن محمد بن منصور ، عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة ، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه . وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور . وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور . وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانىء عن فاطمة رضي الله عنها ، عن أبي بكر الصديق بلفظ « إن الأنبياء لا يورثون » انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .
وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء . وقد قال ابن حجر : إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ « نحن » وهذه الروايات التي أشار لها تشد بعضَها .
وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحاً في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، وعليه - فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه « لا نورث » أنه يعني نفسه . كما قال عمر وجميعَ الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة .
والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان :
تصيير مشكل من الجلي ... وهو واجب على النَّبي
إذا أريد فهمه وهْو بما ... من الدليل مطلقا يجلو العما
وبهذا الذي قررنا تعلم : أن قوله هنا { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } يعني وراثة العلم والدين لا المال . وكذلك قوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } الآية . فتلك الوراثة أيضاً وراثة علم ودين . والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين ، كقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } الآية ، وقوله : { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } وقوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } الآية ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن السنة الورادة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « العلماء ورثة الأنبياء » وهو في المسند والسنن قال صاحب ( تمييز الطيب من الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ) : رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدراداء مرفوعاً بزيادة « إن الأنبياء لم يورثوا ديناراًً ولا درهماً ، وإنما ورثوا العلم » وصححه ابن حبان والحاكمُ وغيرهما - انتهى منه بلفظه .

وقال صاحب ( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ) : « العلماء ورثة الأنبياء » رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعاً بزيادة « إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم . . » الحديث ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد .
ولذا قال الحافظ : له طرق يعرف بها أن للحديث أصلاً ، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة اه محل الغرض منه .

والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض . فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال

الأول - هو ما ذكرنا . (يريد رحمه الله أنها وراثة العلم والدين لا المال)
والثاني - أنها وراثة مال.
والثالث : أنها وراثة مال بالنسبة له , وبالنسبة لآل يعقوب في قوله « ويرث من آل يعقوب » وراثة علم ودين .


وهذا اختيار ابن جرير الطبري . وقد ذكر من قال : إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال : « رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته » أي ماذا يضره إرث ورثته لماله . ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم . والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين؛ للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك .

وفي قول الله تعالى (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قال الشيخ رحمه الله :

فإن قيل : ما وجه استفهام زكريا في قوله { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء .؟

فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب ) في سورة « آل عمران » وواحد منها فيه بُـعدٌ وإن روى عن عكرمةَ والسديِّ وغيرهما .
الأول - أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام , لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة , أو يأمره بأن يتزوج شابة ، أو يردهما شابين؟
فاستفهم عن الحقيقة ليعلهما , ولا إشكال في هذا ، وهو أظهرها .
الثاني - أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى .
الثالث - وهو الذي ذكرنا أن فيه بُعداً هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي : من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان : ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان ، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشىء عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : { رَبِّ اجعل لي آيَةً } الآية

وإنما قلنا : إن هذا القول فيه بُـعدٌ لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان .
 
قال الشيخ - رحمه الله وغفر له - عند تفسيره قولَ الله تعالى (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيّاً)
فيه سؤالٌ معروفٌ , وهو أن يقال: ما وجه ذكر البكرة والعشيِّ, مع أنّ الجنّة ضياءٌ دائمٌ ولا ليل فيها. وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة:


الأول: أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن، كقوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي قدر شهر. وروي معنى هذا عن ابن عباس، وابن جريج وغيرهما.

الجواب الثاني: أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداءً وعشاءً فذلك الناعم، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك. ويروى هذا عن قتادة، والحسن، ويحيى بن أبي كثير.

الجواب الثالث: أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي، والمساء والصباح، كما يقول الرجل:أنا عند فلان صباحاً ومساءً، وبكرة وعشياً. يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين.

الجواب الرابع: أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم. والعشي: هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم، لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال. وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول.

الجواب الخامس: هو ما رواه الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: "قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: "وما يهيجك على هذا"؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}، فقلت: الليل بين البكرة والعشي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هناك ليل، إنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة" انتهى بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره.

وقال القرطبي بعد أن نقل هذا: وهذا في غاية البيان لمعنى الآية. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" ثم قال: وقال العلماء ليس في الجنة ليل ولا نهار، وإنما هم في نور أبداً، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب، وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب، وفتح الأبواب. ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما ا هـ منه. وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول. والعلم عند الله تعالى.


وقال رحمه الله عند قول الله تعالى (ويقول الإنسانُ أئذا ما متّ لسوف أخْـرجُ حيّا)

فإن قيل: أين العامل في الظرف الذي هو "إِذَا" .؟

فالجواب: أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط؛ وتقديره: أأخرج حياً إذا ما مت أي حين يتمكّن في الموت والهلاك أخرج حياً. يعني لا يمكن ذلك.

فإن قيل: لم لا تقول بأنه منصوب بـ"أَخْرَجَ"، المذكور في قوله: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}، على العادة المعروفة، من أن العامل في {إِذَا} هو جزاؤِها؟

فالجواب: أن لام الابتداء في قوله: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}، مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية. فلا يجوز أن تقول: اليوم لزيْدٌ قائم؛ تعني لزيد قائم اليوم. وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضاً، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً}، بدون اللام يمتنع نصب "إِذَا" بـ"أَخْرَجَ" المذكورة؛ فهو خلاف التحقيق.
والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله. ودليله وجوده في كلام العرب؛ كقول الشاعر:
فلما رأته آمنا هان وجدها ** وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

فقوله: «هكذا» منصوب بقوله: «يفعل» كما أوضحه أبو حيان في البحر. وعليه فعلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله: إِذَا منصوب بقوله: أَخْرَجَ؛ لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله.


فإن قلت: لام الإبتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف التنفيس الدال على الاستقبال؟

فالجواب: أن اللام هنا جرِّدت من معنى الحال، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط. ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمحشري في الكشاف، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال، وعلى قوله: يسقط الإشكال من أصله. والعلم عند الله تعالى.

قال رحمه الله تعالى :
فإن قيل:ظاهر الآية أن لفظة{خَيْرٌ}في قوله:{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً}،صيغة تفضيل،والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين. ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور، قال:وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله:{خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً}،يعني:خير جزاء من جزاء المشركين. {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً}،يعني:مرجحاً من مرجعهم إلى النار.والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه.والخيرية منفية بتاتاً عن جزاء المشركين وعن مردهم، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم.!

فالجواب: أن الزمخشري في كشَّافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله: أنه كأنه قيل ثوابهم النار، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميم أن تقتل عامر** يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
فقوله:
«أعتبوا بالصيلم» يعني أرضوا بالسيف، أي لا رضى لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به. ونظيره قول عمرو بن معدي كرب:
وخيلٍ قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجميع

أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع. وقول الآخر:
شجعاء جرتها الذميل تلوكه ** أصلاً إذا راح المطي غراثا

يعني أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير، وعلى هذا المعنى فالمراد: لا ثواب لهم إلا النار. وباعتبار جعلها ثواباً بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين. هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب، وقرى الضيف، ووصل الرحم مثلاً يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا؛ كما قدمنا دلالة الآيات عليه، وحديث أنس عند مسلم. فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين. وهذا واضح لا إشكال فيه. والعلم عند الله تعالى.
 
قال الشيخ - رحمه الله تعالى - عند آية طه (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى)

تنبيــه:
فإن قيل ، ما وجه الإفراد في قوله { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } في « الشعراء »؟ مع أنهما رسولان؟ كما جاء الرسول مثنى في « طه » فما وجه التثنية في « طه » والإفراد في « الشعراء » ، وكل واحد من اللفظين : المثنى والمفرد يراد به موسى وهارون؟


فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به ، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مراراً . فالإفراد في « الشعراء » نظراً إلى أن أصل الرسول مصدر . والتثنية في « طه » اعتداداً بالوصفية العارضة وإعراضاً عن الأصل ، ولهذا يجمع الرسول اعتداداً بوصفيته العارضة ، ويفرد مراداً به الجمع نظراً إلى أن أصله مصدر . ومثال جمعه قوله تعالى : { تِلْكَ الرسل ...} الآية ، وأمثالها في القرآن . ومثال إفراده مراداً به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي :

ألكني إليها وخير الرسول ** أعلمهم بنواحي الخبـَرْ

ومن إطلاق الرسول مراداً به المصدر على الأصل قوله :

لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ** بقول ولا أرسلتهم برسولِ
أي برسالة .

وقول الآخر :

ألا بلغ بني عصم رسولا ** بأني عن فتاحتكم غنيُّ

يعني أبلغهم رسالة .
 
ويقول رحمه الله تعالى عند آية (قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)


فإن قيل : قوله في « طه » : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } الآية ، وقوله في « الأعراف » : { سحروا أَعْيُنَ الناس } الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له ، يعارضهما قوله في « الأعراف » : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال.!




فالذي يظهر في الجواب والله أعلم:

أنهم أخذوا كثيراً من الحبال والعصي ، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى وهي كثيرة . فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى ، لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي فخافوا من كثرتها ، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم . وهذا ظاهر لا إشكال فيه . وقد قال غير واحد : إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي ، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي ، فخيل للناظرين أنها تسعى وعن ابن عباس : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي .
وقيل : كانوا أربعمائة .
وقيل كانوا اثني عشر ألفاً .
وقيل أربعة عشر ألفاً .
وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً .
وقيل : كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون .
وقيل : كان اسمه يوحنا معه اثني عشر نقيباً ، مع كل نقيب عشرون عريفاً ، مع كل عريف ألف ساحر .
وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم ، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف ، وكان رئيسهم أعمى ا هـ .

وهذه الأقوال من الاسرائيليات ، ونحن نتجنبها دائماً ، ونقلل من ذكرها ، وربما ذكرنا قليلاً منها منبهين عليه ..
.
 
ويقول رحمه الله عند آية (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)

فإن قيل : لم جمع السوءات في قوله { سَوْءَاتُهُمَا } مع أنهما سوأتان فقط؟

فالجواب من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول:
أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان : القبل والدبر ، فهي أربع ، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر ، ودبرَه . وعلى هذا فلا إشكال في الجمع .

الوجه الثاني:
أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية ، والإفراد ، وأفصحها الجمعُ ، فالإفرادُ ، فالتثنيةُ على الأصح ، سواء كانت الإضافة لفظاً أو معنى .

ومثال اللفظ : شويت رؤوس الكبشين أو رأسهما ، أو رأسيهما .

ومثال المعنى : قطعت من الكبشين الرؤوس ، أو الرأس ، أو الرأسين .

فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد ، نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم .
ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ، وقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا }

ومثال الإفراد قول الشاعر :
حمامة بطن الواديين ترنمي ** سقاك من الغر الغوادي مطيرها

ومثال التثنية قول الراجز :
ومهمهين قذفين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين

وللضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظاً وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظراً إلى اللفظ ، والتثنية نظراً إلى المعنى ، فمن الأول قوله :

خليلي لا تهلك نفوسكما أسى ** فإن لها فيما به دهيت أسى

ومن الثاني قوله :
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة ** إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر

الوجه الثالث:
ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان . قال في مراقي السعود :

أقل معنى الجمع في المشتهر ** الاثنان في رأي الإمام الحميري

وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقاً للفراء ، كقولك : ما أخرجكما من بيوتكما ، وإذا أويتما إلى مضاجعكما ، وضرباه بأسيافهما ، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما ، ونحو ذلك
.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا محمود كما استفدت منكم قبل في مداخلاتكم السالفة في نفس الموضوع. فجزاكم الله عنا خير الجزاء.
وأرجو من الله العلي القدير أن تتفضلوا بالموافقة على التراسل معكم من أجل استشاراتكم في بعض المسائل العلمية التي حواها التفسير المبارك لشيخنا الفاضل رحمه الله رحمة واسعة. لأنه كما سبق في علمكم فقد كلفت بدراسة حول أضواء البيان.ووجدتكم شيخنا ممن فتح الله عليكم بدراسة تفسير الأضواء.
 
في تفسير الشيخ لقول الله تعالى (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا )

قال حفظه الله:

تنبيه:
إعلم أن الآئمة الأربعة وأصحابهم وجماهير فقهاء الأمصار : على أن من نسي صلاة أو نام عنها قضاها وحدها ولا تلزمه زيادة صلاة اخرى .

قال البخاري في صحيحه : ( باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة ) وقال إبراهيم : من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة .

حدثنا أبو نعيم ، وموسى بن إسماعيل قالا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك » . { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا }

قال موسى : قال همام : سمعته يقول بعد { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا } حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، حدثنا انس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اهـ .

وقال في ( فتح الباري ) في الكلام على هذا الحديث وترجمته قال علي بن المنير:

صرح البخاري بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه لقوّة دليله ، ولكنه على وفق القياس ، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر .

فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به ، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب . لقول الشارع « فليصلها » ولم يذكر زيادة ، وقال أيضاً : « لا كفارة لها ، إلا ذلك » فاستفيد من هذا الحصر ان لا يجب غير إعادتها .

وذهب مالك إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصل التي ذكر ، ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب - انتهى منه .

فإن قيل : جاء في صحيح مسلم في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى ضربتهم الشمس ما نصه : ثم قال: يعني ( النبي صلى الله عليه وسلم ) :« أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى , فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها , فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها » اهـ .

فقوله في هذا الحديث : فإذا كان الغد .. الخ يدل على أنه يقضي الفائتة مرتين : الأولى عند ذكرها ، والثانية : عند دخول وقتها من الغد؟


فالجواب ما ذكره النووي في شرحه للحديث المذكور قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها » فمعناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل ، بل يبقى كما كان ، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ولا يتحول . وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين : مرة في الحال ، ومرة في الغد ، وإنما معناه ما قدمناه .
فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث , وقد اضطربت اقوال العلماء فيه , واختار المحققون ما ذكرتُـه والله أعلم انتهى منه .

وهذا الذي فسر به هذه الرواية هو الذي يظهر لنا صوابه والعلم عند الله تعالى . ولكن جاء في سنن أبي داود في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة النوم عن الصلاة المذكورة ما نصه : « فمن أدرك منكم صلاة الغد من غد صالحاً فليقض معها مثلها » اهـ .

وهذا اللفظ صريح في أنه يقضي الفائتة مرتين ، ولا يحمل المعنى الذي فسر به النووي وغيره لفظ رواية مسلم ,للعلماء عن هذه الرواية أجوبة ، قال ابن حجر في ( فتح الباري ) بعد أن اشار إلى رواية أبي داود المذكور ما نصه : قال الخطابي : لا أعلم أحداً قال بظاهره وجوباً ، قال : ويشبه أن يكون الأمـر فيه للاستحباب ليجوز فضيلة الوقت في القضاء. انتهى

ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضاً بل عدُّوا الحديث غلطاً من روايه ,حكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري . ويؤيده ما رواه النسائي من حديث عمران بن حصين أنهم قالوا : يا رسول الله ، ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم » انتـهى كلام صاحب الفتح .

وحديث عمران المذكور قد قدمناه وذكرنا من أخرجه . والعلم عند الله تعالى
.
 
وعند تفسيره لآيـة (وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)

قال رحمه الله:

فإن قيل : اين العامل في الظرف الذي هو { إذا } .؟

فالجواب : أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط؛ وتقديره : أأخرج إذا ما مت أي حين يتمكّن في الموت والهلاك أخرج حياً ,يعني لا يمكن ذلك .

فإن قيل : لم لا تقول بأنه منصوب ب { أخرج } المذكور في قوله { لسوف أخرج حياً } على العادة المعروفة ، من أن العامل في { إذا } هو جزاؤها؟

فالجواب : أن لام الابتداء في قوله : { لسوف أخرج حياً } مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية , فلا يجوز أن تقول : اليوم لَـزيْدٌ قائم؛ تعني لزيد قائم اليوم .

وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضاً ، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف { أئَذا ما مت سأخرج حياً } بدون اللام يمتنع نصب { إذا } ب { أخرج } المذكورة ، فهو خلاف التحقيق .

والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله , ودليله وجوده في كلام العرب؛ كقول الشاعر :
فلَـما رأته آمنا هان وجدها ... وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

فقوله « هكذا » منصوب بقوله « يفعل » كما أوضحه ابو حيان في البحر , وعليه فعَـلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله : { إذا } منصوب بقوله { أخرج } لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله .


تنبيه:

فإن قلت : لام الإبتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامَـعَت حرف التنفيس الدال على الاستقبال؟

فالجواب : أن اللام هنا جرِّدت من معنى الحال ، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط . ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمخشري في الكشاف ، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال ، وعلى قوله يسقط الإشكال من أصله . والعلم عند الله تعالى .
 
[align=center]جزاك الله خير
فلقد استفدت من هذ الفوائد كثيرا
فنرجو الإستمرار في بث هذه الفوائد القيمة
وفقك الله لما يحبه ويرضاه
[/align]
 
[align=center]جزاك الله خير ورفع الله منزلتك في الدارين...

لقد استفدت كثيرا من هذه الفوائد جعل ذلك في ميزان حسناتك يوم أن تلقاه..

لي ملاحظة:

لو أحلت الى الصفحة والسورة لكان أفضل..في رأيي
..[/align]
 
كقوله تعالى (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين)..الآية ,
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن ، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة ، حتى ..
http://webcache.googleusercontent.c...صبر+على+النفقة+وبذل"&cd=2&hl=ar&ct=clnk&gl=sa
 
قَالَ رحمهُ اللهُ ورضي عنهُ في قول الله تعالى ((( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّة ))) :

فإن قيل: لم جمع السوءات في قوله {سَوْآتُهُمَا} مع أنهما سوأتان فقط؟

فالجواب من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان: القبل والدبر، فهي أربع، فكل منهما يرى قبل نفسه, وقبلَ الآخرِ ودبرَه. وعلى هذا فلا إشكال في الجمع.

الوجه الثاني: أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزاءه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية، والإفراد، وأفصحها الجمع، فالإفراد، فالتثنية على الأصح، سواء كانت الإضافة لفظاً أو معنى. ومثال اللفظ: شوبت رؤوس الكبشين أو رأسهما، أو رأسيهما. ومثال المعنى: قطعت من الكبشين الرؤوس، أو الرأس، أو الرأسين. فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد، نحو: على لسان داود وعيسى ابن مريم. ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ومثال الإفراد قول الشاعر:
حمامةَ بطن الواديين ترنمي ** سقاك من الغر الغوادي مطيرها
ومثال التثنية قول الراجز:
ومهمهين قذفين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين
والضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظاً وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظراً إلى اللفظ، والتثنية نظراً إلى المعنى، فمن الأول قوله:
خليلي لا تهلك نفوسكما أسى ** فإن لهما فيما به دهيت أسى
ومن الثاني قوله:
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة ** إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر

الوجه الثالث: ما ذهب مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان. قال في مراقي السعود:
أقل معنى الجمع في المشتهر ** الاثنان في رأي الإمام الحميري
وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه، أي كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقاً للفراء، كقولك: ما أخرجكما من بيوتكما، وإذا أويتما إلى مضاجعكما، وضرباه بأسيافهما، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما، ونحو ذلك.


وقـالَ غفرَ اللهُ لهُ عند قوله تعالى ((( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما )))
في آخر كلامٍ طويلٍ لهُ عن القياس ومسالكهِ وهو يتناولُ مبحثَ غلبةِ الأشبَـاهِ بالنسبةِ إلى قياس الشبهِ وخلافِ العلماءِ فيهِ هل هو ذاتُ المُشَبَّـهِ بهِ أم جزءٌ داخلٌ فيه.؟ ومَثَّـلَ لهذه المسألةِ بالعبد لأنَّـهُ متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال , ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه.

قال رحمه الله:
فلو قتل إنسان عبداً لآخر لزمته قيمته نظراً إلى أن شبهه بالمال أغلب. وقال بعض أهل العلم: تلزمه ديته كالحر زعماً منه أن شبهه بالحر أغلب، فإن قيل: بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه. لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي؟
فالجواب: أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية، لأن كونه كالمال ليس صالحاً لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطباً يثاب ويعاقب إلخ. فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة: لأن كونه كالحر ليس صالحاً لأن يناط به لزوم القيمة، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى. أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى. وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي.
 
1-
قَـالَ رحمه الله في صدر سورة الحج وهو يسوقُ حديث رسول الله صل1 ((( يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد ))).
فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت، فيه التصريح من النَّبي صل1 وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، بعد القيام من القبور كما ترى، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع.

فإن قيل: هذا النص فيه إشكال، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث، حتى تضع حملها من الفزع، ولا ترضع، حتى تذهل عما أرضعت.

فالجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: هو ما ذكره بعض أهل العلم، من أن من ماتت حاملاً تبعث حاملاً، فتضع حملها من شدة الهول والفزع، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
الوجه الثاني: أن ذلك كناية عن شدة الهول كقوله تعالى: ((( يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً ))) ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة.



2- ويقول رحمه الله في آية\ ((( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً .. ))) وهو يناقشُ ابنَ جرير رحمه الله في قوله ((( وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: المخلقة: المصورة خلقاً تاماً. وغير المخلقة: السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة، وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير. وذلك هو المراد بقوله ((( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ))) خلقاً سوياً، وغير مخلقة: بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوير، ولا ينفخ الروح. )))
يقول الشيخُ : قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينةٌ تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا في أول الآية ((( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ))) لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى: ثم خلقناكم من مضغة مخلقة، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة، فيه من التناقض، كما ترى فافهم.
فإن قيل: في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة: السقط، لأن قوله ((( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً))) يُفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام، إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط.
فالجواب: أنه لا يتعين فهم السقط من الآية، لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء , .
أما السقط: فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله ((( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ )))، لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً، ولو بعد التشكيل والتخطيط، لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله ((( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ))) فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة، وغير المخلقة: يخلق منه بعض المخاطبين في قوله ((( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ))).
وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية، هو القول الذي لا تناقض فيه، لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره: وهو أن المخلقة: هي التامة، وغير المخلقة: هي غير التامة.​
 
في قوله سبحنه وتعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال الشيخ رحمه الله :
والذي تدل عليه الآية أن التقدير: إن الذين كفروا، ويصدون عن سبيل الله، نذيقهم من عذاب أليم. كما دل على هذا قوله في آخر الآية {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وخير ما يفسر به القرآن القرآن.

فإن قيل: ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ}.؟
فالجواب: من أربعة أوجه: واحد منها ظاهر السقوط.
الأول: هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع، قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال، أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وقوله { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } قاله أبو حيان وغيره.
الثاني: أن يصدون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: إن الذين كفروا، وهم يصدون، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية، وهذا القول استحسنه القرطبي.
الثالث: أن يصدون مضارع أريد به الماضي: أي كفروا، وصدوا وليس بظاهر.
الرابع: أن الواو زائدة، وجملة يصدون خبر إن: أي{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ}.

وقوله سبحانه وتعالى {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} قال الشيخُ رحمه الله:
إنهُ متعلق بمحذوف ، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة وهي قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} وعهدنا إليه: أي أوصيناه، أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين، وزادت آية البقرة: أن إسماعيل مأمور بذلك أيضاً مع أبيه إبراهيم، وإذا عرفت أن المعنى: وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئاً، وطهر بيتي. الآية.
فاعلم أن في "أَنْ" وجهين:
أحدهما: أنها هي المفسرة، وعليه فتطهير البيت من الشرك، وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم: أي والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور.
والثاني: أنها مصدرية بناء على دخول "أن" المصدرية على الأفعال الطلبية.

فإنْ قيل: كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم، وهو غير مذكور هنا؟
فالجواب: أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا، لأن كلام الله يصدق بعضه بعضاً.

ولما ناقش رحمه الله مسألة حد استطاعة الحج وتعلقه بالزاد والراحلة قال عفا الله عنه:

الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث: الزاد والراحلة وإن كان صالحاً للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزاً عن تحصيل الراحلة , بل يلزمه الحج لأنه يستطيع إليه سبيلاً ، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج يجب عليه الحج ، لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل..

فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه، دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النَّبي صلى الله عليه وسلم السبيل: بالزاد، والراحلة وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية.؟​
فالجواب من وجهين:

الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج آفاقيون، قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول: أن النص إذا كان جارياً على الأمر الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } جرى على الغالب، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مراراً، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة: الزاد والراحلة، وجرى الحديث على ذلك فلا مفهوم مخالفة له فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب، والحاج الماشي على رجليه. وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
 
يَرى الشَّيخُ مَذْهَـبَ الجُمهُـور في أنَّ وجُوبَ الحجّ فَوريٌّ وما هو عَلَى التَّرَاخي , وانتَصَر لهذا المَذْهَب واستدَلَّ لهُ عند تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق) وأَورَد ما قَد يَسْتَشكلُ به الجُمهور علَى من يقُولُ بالتَّرَاخي (الشافعي، والثوري، والاوزاعي، ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب مالك) فأجَاب الشيخُ عن الاستشكال عليهم , ثُمَّ وضعَ استشكالاً آخَر بعد ذلكَ , وهذا التَّسَلسُلُ في النّقَاش العلميّ المُفتَرَض ماتعٌ جداً ومُقرّب للمعلومات بشكل عجيب.
يقول رحمه الله:
لو قُلنا: إنَّ وُجُوبَ الحَجّ عَلى التَّرَاخي ، فَلاَ يخْلُو منْ أحَد أمْرَين:
@ إمَّا: أنْ يَكُونَ ذلكَ التَّراخي لَهُ غَايةٌ معيَّنةٌ ينتَهي عندَهَا.
@ وإمَّا: لاَ.
والقسمُ الأوَّلُ ممنوعٌ , لأنَّ الحَجَّ لمْ يُعَيَّن لهُ زَمنٌ يتَحتَّمُ فيه دُونَ غَيره منَ الأَزْمنَة , بَل العُمرُ كُلّه تَستَوي أَجْزاؤُهُ بالنّسبَة إلَيْه , إن قُلنَا: إنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَور.
والحَاصلُ: أَنَّهُ ليسَ لأحَد تَعيينُ غايَة لم يُعَيّنها الشَّرعُ.
والقسْمُ الثَّاني: الَّذي هُوَ أنَّ تَرَاخيه ليْسَ لَهُ غَايةٌ يَقتَضي عدَمَ وُجُوبه , لأنَّ مَا جَازَ تركُهُ جَوَازاً لم تُعيَّن لهُ غَايةٌ يَنتَهي إليها , فإنَّ تَركَهث جَائزٌ إلَى غَير غَايَة , وهَذا يَقتَضي عَدَمَ وُجُوبه , والمَفرُوضُ وُجُوبُه.!

فإن قيلَ: غَايتُهُ الوقتُ الَّذي يَغلبُ عَلَى الظَّنّ البَقَاءُ إلَيْه.

فالجَوَابُ: أنَّ البَقَاءَ إلَى زَمَن مُتَأَخّر لَيسَ لأَحَد أن يَظُنَّهُ , لأَنَّ المَوتَ يَأْتي بَغتَةً , فكَم من إنسَان ظَنَّ أنَّهُ يبقَى سنينَ فَيخْتَرمُهُ المَوتُ فجأةً , وَقد قدَّمنَا قولَهُ تَعَالى في ذَلكَ ( وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ) , ولاَ يَنتَهي إلى حَالَة يتيَقَّنُ المَوتَ فيهَا إلاَّ عندَ عَجزه عن الْعبَادات , ولاسيَّما العبَاداتُ الشَّاقَّةُ كَالحَجّ ,والإنسانُ طَويلُ الأَمَل، يهْرمُ وَيَشبُّ أملُه , وَتَحديدُ وُجُوبه بستّينَ سنةً تَحديدٌ لا دَليلَ عَلَيه.
 
فِي مَسأَلَةِ جَوَازِ النَّذْر وخِلاف العُلماءِ في الإِقدَامِ عليهِ إذْ قَد قالَ صلى الله عليه وسلم { النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ } مع أنَّـهُ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِ الطَّاعَة خاصَّةً , وهذا إشكَالٌ قائمٌ إذ كيفَ يجبُ الوَفاءُ به ويكونُ طاعةً , وهُو منهيٌّ عن ابتدائه كما يراهُ بعضُ أهل العلمِ , فهل يجتمع الأمرُ والنَّهي , والكَراهةُ والطَّاعةُ في مسألةٍ واحدة.؟

يقولُ الشَّيخُ رحمه الله وهو يفسِّرُ قول الله (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم) :
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ - :
الظَّاهِرُ لِي فِي طَرِيقِ إِزَالَةِ هَذَا الْإِشْكَالِ ، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ نَذْرَ الْقُرْبَةِ عَلَى نَوْعَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مُعَلَّقٌ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ كَقَوْلِهِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا ، أَوْ إِنْ نَجَّانِيَ اللَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الْفُلَانِيِّ الْمَخُوفِ ، فَعَلَيَّ لِلَّهِ نَذْرُ كَذَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .

وَالثَّانِي : لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ ، كَأَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ تَقَرُّبًا خَالِصًا بِنَذْرِ كَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَةِ.
.
وَأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ النَّذْرَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ خَالِصًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ ، بَلْ بِشَرْطِ حُصُولِ نَفْعٍ لِلنَّاذِرِ , وَذَلِكَ النَّفْعُ الَّذِي يُحَاوِلُهُ النَّاذِرُ هُوَ الَّذِي دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ الْقَدَرَ فِيهِ غَالِبٌ عَلَى النَّذْرِ وَأَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ نَذْرُ الْقُرْبَةِ الْخَالِصُ مِنِ اشْتِرَاطِ النَّفْعِ فِي النَّذْرِ ، فَهُوَ الَّذِي فِيهِ التَّرْغِيبُ وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُوفِينَ بِهِ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الطَّيِّبَةِ ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ قَالَتْ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ :
الْأَوَّلُ: أَنَّ نَفْسَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ فِيهَا قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ ، دَالَّةٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ فِيهَا مِنْ أَنَّ النَّذْرَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ ، وَلَا يُقَدِّمُ شَيْئًا ، وَلَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَكَوْنُهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ قَرِينَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ النَّاذِرَ أَرَادَ بِالنَّذْرِ جَلْبَ نَفْعٍ عَاجِلٍ ، أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ عَاجِلٍ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَا قَضَى اللَّهُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ ، وَأَنَّ نَذْرَ النَّاذِرِ لَا يَرُدُّ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ إِنْ قَدَّرَ اللَّهُ مَا كَانَ يُرِيدُهُ النَّاذِرُ بِنَذْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْرِجُ بِذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ الشَّيْءَ الَّذِي نَذَرَ وَهَذَا وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا ذَكَرْنَا .

الثَّانِي: أَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ وَهَذَا جَمْعٌ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاضِحٌ تَنْتَظِمُ بِهِ الْأَدِلَّةُ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا خِلَافٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ النَّاذِرَ الْجَاهِلَ ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَرُدُّ عَنْهُ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ . وَقَدْ قَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

تَنبِـيهٌ​
:
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ النَّذْرَ الْمُعَلَّقَ كَقَوْلِهِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ نَجَّانِي مِنْ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ كَذَا ، قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْقُرْبَةِ ، فَكَيْفَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ؟

وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّصَّ الصَّحِيحَ دَلَّ عَلَى هَذَا ، فَدَلَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ أَوَّلًا ، كَمَا ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ ، وَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بَعْدَ الْوُقُوعِ ، فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ " نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْبَخِيلَ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا نَذَرَ إِخْرَاجَهُ ، وَهُوَ الْمُصَرَّحُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوَّلًا ، وَلَا غَرَابَةَ فِي هَذَا ; لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ قَدْ يَكُونُ لَهُ جِهَتَانِ .
فَالنَّذْرُ الْمَنْذُورُ لَهُ جِهَةٌ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مِنْ أَجْلِهَا ابْتِدَاءً ، وَهِيَ شَرْطُ حُصُولِ النَّفْعِ فِيهِ ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هُوَ قُرْبَةٌ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْمَنْذُورِ تَقَرُّبًا لِلَّهِ وَصَرْفُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
ـــــــــــ
قولهُ رحمه الله : (لِأَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ) يعني: الشَّيءَ الواحدَ القائمَ بالشَّخصِ
 
قال الشيخ - قدَّس الله روحَه - عند تفسير قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ }:

فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَالَ { فَتُصْبِحُ }مَعَ أَنَّ اخْضِرَارَ الْأَرْضِ ، قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ.؟
فَالْجَوَابُ :
@ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أَيْ : تَصِيرُ مُخْضَرَّةً فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : أَصْبَحَ فُلَانٌ غَنِيًّا مَثَلًا بِمَعْنَى صَارَ ، وَذَكَرَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ تُصْبِحُ فِيهِ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فِي نَفْسِ صَبِيحَةِ الْمَطَرِ , وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَعَلِيٌّ هَذَا فَلَا إِشْكَالَ.
@ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ ، وَتَعْقِيبُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } مَعَ أَنَّ بَيْنَ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.
 
في قول المولَى سُبحَانهُ { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } جنحَ الشَّيخُ إلى تَخْطِئَـةِ عبدِ الرَّحْمَنِ بن زيدِ بن أسلمَ - رحمها الله - لأنَّه جعلَ مردَّ ضمير الفعلِ {سَمَّاكُمُ } عائداً لإبراهيمَ عليه السلام لاَ إلى الله تبارك وتعالى.
فرجَّح الشيخُ أن المُسمِّـيَ هو الله تعالى كما قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- وغيرهُ , ثمَّ افترضَ إشكَالاً مُحتَمل الإيراد عليه وأجاب عنهُ فقال:

فَإِنْ قِيلَ : الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ لِلضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ : هُوَ إِبْرَاهِيمُ .!
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَحَلَّ رُجُوعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ مَحَلُّهُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ ، وَهُنَا قَدْ صَرَفَ عَنْهُ صَارِفٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ «وَفِي هَذَا» يَعْنِي الْقُرْآنَ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ : هُوَ اللَّهُ لَا إِبْرَاهِيمُ ، وَكَذَلِكَ سِيَاقُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ نَحْوَ {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} يُنَاسِبُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ سَمَّاكُمْ أَيِ : اللَّهُ ، الْمُسْلِمِينَ , وأتبع ذلك بكَلام ابن كثير رحمه الله المتضمن ترجيح نفس القول والمشتمل على قوله صلى الله عليه وسلم {فَادْعُوَا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمْ بِهَا الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه}.
 
أمتعتنا والله بهذه الفوائد الرائعة القيّمة التي تتعلق بأشرف كلام... كلام الله تبارك وتعالى, وما أحوجنا لمثلها!!.
نعم قد نقرأ الكثير من المواضيع الماتعة والفوائد البلاغية العابرة لكنها لا تلبث إلا أن يطويها النسيان فتُنسى وتُنسى روعتها التي أطربتنا برهة من الزمن, لكن مثل هذه الفوائد القيمة لابد وأن تعلق (كلا أو جزءا) في ذاكرة قارئها, فكلما تلا كتاب الله تراه ـ وإن طال عهده بتلك الفوائد ـ يتوقف ليستحضرها فتتجدد معانيها وروعتها فيه مرة أخرى, ولا يزال هذا شأنه وشأنها حتى يحب كتاب الله ويحب تلاوته, ويجد من نفسه الإقبال والرغبة في تدبر القرآن والغوص في معانيه وتفاسيره وأسرار بلاغته أكثر وأكثر.
فرحم الله من ألف هذه الأضواء المباركات ورحم الله من اقتطفها وانتقاها فجعلها بين أيدينا.
نسأل الله أن ينفعنا جميعا بما علمنا وألا يحرمكم أجر نشرها. وجزاكم الله خيرا.
 
في قوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يقول الشيخُ رضي الله عنه وغفر له:

فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَى، أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ:
الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } بَعْدَ قَوْلِهِ: { يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقَذْفِ يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَّا الزِّنَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى أَجْرَى أَحْكَامَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اللَّائِطِ , وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحْكَامَ اللَّائِطِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ.

الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ ذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، يَدُلُّ عَلَى إِحْصَانِهِنَّ، أَيْ: عِفَّتِهِنَّ عَنِ الزِّنَى، وَأَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَهُنَّ إِنَّمَا يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلْنَا لَهَا كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ كَوْنُهُنَّ عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ; كَقَوْلِهِ: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } ، أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أَيِ: الْعَفَائِفَ، وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْعَفَائِفِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَلَا تَأْمَنَنَّ الْحَيَّ قَيْسًا فَإِنَّهُمْ ... بَنُو مُحْصَنَاتٍ لَمْ تُدَنَّسْ حُجُورُهَا
وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ عَلَى رَمْيِ الشَّخْصِ لِآخَرَ بِلِسَانِهِ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ:
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي
فَقَوْلُهُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ يَعْنِي: أَنَّهُ رَمَاهُ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَفِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:
الْجِهَةُ الْأُولَى: هِيَ الْقَرِينَتَانِ الْقُرْآنِيَّتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ:{ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى، أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا.
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي شُمُولِهِ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَى خَارِجٌ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ الشُّهَدَاءُ تَلَاعَنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ } الْآيَةَ .
وَمَضْمُونُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرَ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهَا فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَلْدُ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، تَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ.
الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ عُقُوبَةِ مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ، وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ كَوْنَهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ غَافِلَاتٍ لِإِيضَاحِ صِفَاتِهِنَّ الْكَرِيمَةَ.
 
في قول الله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} قال الشيخ رضي الله عنه:
اعلم أنه جل وعلا في آية الفرقان هذه ، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ، لأنه قال هنا {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وذلك دليلٌ على أنَّها ليست مطلقَ ما علاك ، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدولُ عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل : يوجد في كلام بعض السلف ، أن القمرَ في فضاء بعيد من السماء ، وأن علمَ الهيئة دل على ذلك ، وأن الأرصاد الحديثة بينت ذلك.!!

قلنا : تركُ النظر في علم الهيئة عملٌ بهدي القرآن العظيم ، لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلُّم هيئة القمر منه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له يا نبي الله : ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم لم ينزل يكبر حتى يستدير بدراً؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر وترك ما لا فائدة فيه ، وذلك في قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سده لَمَّا فتحه الكفرةُ كانت نتيجة فتحه الكفر ، والإلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية ، فالذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه ، وعجائبه في السماوات والأرض ليُستدَل بذلك على كمال قدرته تعالى ، واستحقاقه للعبادة وحده ، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار .
وعلى كل حال فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه كما هو معلوم في محله , ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم ، وضعفهم ، وعجزهم ، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جل وعلا .
وقد قدمنا في سورة الحجر أن ذلك يدل عليه قوله تعالى { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب}.
 
فإن قيل : الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف ، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت ، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده دون المعنى .
وإيضاحه أن يقال في قوله : { جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } هي السماء المحفوظة ، ولكن الضمير في قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة ، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبر عنه عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي ولا ينقص من عمر معمر آخر.

قلنا : نعم هذا محتمل ، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه ، والعدول عن ظاهر القرآن العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، وظاهر القرآن أولى بالاتباع والتصديق من أقوال الكفرة ، ومقلديهم والعلم عند الله تعالى .
 
قال الشيخ رضي الله عنه عند قول الله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً):

فإن قيل: إن الضمير في قوله: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ}، وفي قوله: {يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، ضمير الذكور، فلو كان المراد نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لقيل: ليذهب عنكن ويطهركن.!!

فالجواب من وجهين:
الأول: هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهنّ ولعليّ والحسن والحسين وفاطمة، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها، كما هو معلوم في محله.

الوجه الثاني: هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر، ومنه قول تعالى في موسى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا}، وقوله: {سَآتِيكُمْ}، وقوله: {لَعَلِّي آتِيكُمْ}، والمخاطب امرأته؛ كما قاله غير واحد، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكمُ ** وإن شئت لم أطعم نقاخًا ولا بردا
وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال: إن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لسن داخلات في الآية، يردّ عليه صريح سياق القرءان، وأن من قال: إن فاطمة وعليًّا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها، تردّ عليه الأحاديث المشار إليها.
 
قال الشيخ رحمه الله عند آية {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ}

فَإِنْ قِيلَ : هَذَا النَّصُّ فِيهِ إِشْكَالٌ ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ لَا تَحْمِلُ الْإِنَاثُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا مِنَ الْفَزَعِ ، وَلَا تُرْضِعَ حَتَّى تَذْهَلَ عَمَّا أَرْضَعَتْ.!!

فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَتْ حَامِلًا تُبْعَثُ حَامِلًا ، فَتَضَعُ حَمْلَهَا مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ ، وَمَنْ مَاتَتْ مُرْضِعَةً بُعِثَتْ كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ . انتــهى.

ثم ساق رحمه الله نكتةً لطيفة وقرنَها بموعظة بليغة موجزة فقال:

تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا (يقصدُ رحمه الله ترجيحَ قولِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الزَّلْزَلَةَ الْمَذْكُورَةَ كَائِنَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ مِنَ الْقُبُور) يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالٌ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ :

إِذَا كَانَتِ الزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الْقُبُورِ ، فَمَا مَعْنَاهَا ؟


وَالْجَوَابُ : أَنَّ مَعْنَاهَا : شِدَّة الْخَوْفِ وَالْهَوْلِ وَالْفَزَعِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى زِلْزَالًا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا وَقَعَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ مِنَ الْخَوْفِ {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} أَيْ : وَهُوَ زِلْزَالُ فَزَعٍ وَخَوْفٍ ، لَا زِلْزَالُ حَرَكَةِ الْأَرْضِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ { اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِظَمَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُوجِبٌ وَاضِحٌ لِلِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْهَوْلِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي دَارِ الدُّنْيَا قَبْلَ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ ; لِمَا قَدَّمْنَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ إِنَّ الْمُشَدَّدَةَ الْمَكْسُورَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَسْلَكِ الْإِيمَاءِ وَالتَّنْبِيهِ ، وَمَسْلَكِ النَّصِّ الظَّاهِرِ ؛ أَيْ : اتَّقُوا اللَّهَ ; لِأَنَّ أَمَامَكُمْ أَهْوَالًا عَظِيمَةً ، لَا نَجَاةَ مِنْهَا إِلَّا بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا .
 
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} واختلاف العلماء في المراد بالْمُخَلَّقَة وَغَيرِ الْمُخَلَّقَةِ:

فَإِنْ قِيلَ : فِي نَفْسِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ : السِّقْطُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هُنَاكَ قِسْمًا آخَرَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ فِي الْأَرْحَامِ ، إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى ، وَهُوَ السِّقْطُ.!

فالجَوَابُ:أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهْمُ السِّقْطِ مِنَ الْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا يَشَاءُ أَنْ يُقِرَّهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَقَدْ يُقِرُّهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَقَدْ يُقِرُّهُ تِسْعَةً ، وَقَدْ يُقِرُّهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ شَاءَ .

أَمَّا السِّقْطُ : فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ}; لِأَنَّ السِّقْطَ الَّذِي تُلْقِيهِ أُمُّهُ مَيِّتًا ، وَلَوْ بَعْدَ التَّشْكِيلِ وَالتَّخْطِيطِ ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِنْهُ إِنْسَانًا وَاحِدًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ . فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُخَلَّقَةِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ : يُخْلَقُ مِنْهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ .

وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا ، لَا لِيَتَنَاقَضَ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ .
وَهُوَ أَنَّ الْمُخَلَّقَةَ هِيَ التَّامَّةُ ، وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ هِيَ غَيْرُ التَّامَّةِ .
 
عند قوله تعالى في يوسف {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}
قال الشيخ عليه رحمة الله ورضوانه:
وفي هذه الآية الكريمة إشكال:
وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها,وصف لصاحبها,وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو (يؤمن) مقيد بها فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين, وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة..!


قال مقيده عفا الله عنه:
لم أر من شفى غليلي في هذا الإشكال, والذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي,لأن من يعبد مع الله غيره لايصدق عليه اسم الإيمان ألبتة شرعا, أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق, فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله, ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً.
وإذا حققتَ ذلك علمتَ أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به, وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) فهو الإسلام اللغوي, لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه, والعلم عند الله تعالى.

قال بعض العلماء:نزلت آية {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} في قول الكفار:
لبيك لا شريــك لك
إلا شريكا هو لك
تمـــلكه وما مـلك
وهو راجعٌ إلى ما ذكرنا..انتـــهــــى

قوله تعالى : ( وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ، وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) .
كنت أظن المعنى ياشيخ محمود :
وكأين من آية في السماوات والأرض يمر عليها قومك - يامحمد - وهم عنها معرضون عنها كافرون بها ، وما يوحد أكثرهم الله في ربوبيته إلا وهم مشركون معه غيره في ألوهيته .
 
لكنَّ الشيخَ رحمه الله أورد على ذلك إيراداً لا جواب عنهُ للمورد وهو (أن من يعبد مع الله غيره لايصدق عليه اسم الإيمان ألبتة شرعا, أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق, فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله, ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعاً)
 
أقصد ياشيخ محمود استخدام المصطلح ( الإيمان اللغوي والإيمان الشرعي )
لم لم يعبر الشيخ رحمه الله بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ؟ فإنه لا يؤمن من لم يوحد الله بهما !
أم أن الأولى هنا الحمل على المعنى اللغوي والمعنى الشرعي ؟
 
عند قول الله تعالى {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} قال الشيخ رحمه الله :

فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِهِ تَعَالَى النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَعْبُودِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} مَعَ إِثْبَاتِهِمَا فِي قَوْلِهِ {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}.؟
لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ : «أَقْرَبُ» دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْعًا وَضَرًّا ، وَلَكِنَّ الضَّرَّ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ.!

فَالْجَوَابُ : أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ أَجْوِبَةً عَنْ ذَلِكَ :
مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ : قَالَ : فَإِنْ قُلْتَ : الضَّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ ، مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ .

قُلْتُ : إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ , وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهُ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا ، وَلَا نَفْعًا ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ أَنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا ، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} , وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قَالَ : يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ . ثُمَّ قَالَ لِمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا : لَبِئْسَ الْمَوْلَى ، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرِ . ا هـ مِنْهُ .

وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ هَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ ; لِأَنَّ الْمَعْبُودَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ الْبَتَّةَ ، حَتَّى يُقَالَ فِيهِ : إِنَّ ضَرَّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ أَبُو حَيَّانَ عَدَمَ اتِّجَاهِ جَوَابِهِ الْمَذْكُورِ .

وَمِنْهَا : مَا أَجَابَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ , وَحَاصِلُهُ :

أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى فِي الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ، فَالْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا ، وَلَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا ؛ وَلِذَا قَالَ فِيهَا : مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ ، هِيَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ «مَا» فِي قَوْلِهِ { مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} لِأَنَّ لَفْظَةَ «مَا» تَأْتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ .

أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي مَنْ عَبَدَ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، كَفِرْعَوْنَ الْقَائِلِ { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ، {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } ، {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى عَابِدِيهِمْ ؛ وَلِذَا قَالَ لَهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً { أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فَهَذَا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ كَلَا شَيْءٍ ، فَضَرُّ هَذَا الْمَعْبُودِ بِخُلُودِ عَابِدِهِ فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زَائِلٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغَاةِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ هِيَ التَّعْبِيرُ بِـ «مَنْ» الَّتِي تَأْتِي لِمَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ جَوَابِ أَبِي حَيَّانَ ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
 
انقل لكم ماذكره الشيخ الشعراوي رحمه الله في خواطره
فقوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ. .} [الحج: 13]
إذن: هناك نَفْع وهو قريب، لكن الضر أقرب منه، فهذه الآية في ظاهرها تُناقِض الآية السابقة، والحقيقة ليس هناك تناقض، ولا بُدَّ أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] .
فالأوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكَّمون فيها وفي عابديها، فإذا أرادوا من الآلهة شيئاً قالوا للسدنة: ادعوا الآلهة لنا بكذا وكذا، إذن: كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية، وكانوا هم الواسطة بين الأوثان وعُبَّادها، هذه الواسطة كانت تُدِرُّ عليهم كثيراً من الخيرات وتعطيهم كثيراً من المنافع، فكانوا يأخذون كل ما يُهْدَى للأوثان.
فالأوثان - إذن - سبب في نَفْع سدنتها، لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا، ثم يتركونه بالموت، فمدة النفع قصيرة، وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه، وإنْ جاء الموت فلا إيمانَ ولا عملَ ولا توبةَ، وهذا معنى {ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ. .} [الحج: 13] .
لذلك يقول تعالى بعدها: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير} [الحج: 13] كلمة (بئس) تُقَال للذم وهي بمعنى: ساء وقَبُح، والموْلَى: الذي يليك ويقرُب منك، ويُراد به النافع لك؛ لأنك لا تقرِّب إلا النافع لك، إما لأنه يعينك وقت الشدة، ويساعدك وقت الضيق، وينصرك إذا احتجتَ لِنُصْرته، وهذا هو الوليُّ.
 
كم كنت اأتمنى من يفيدنا بدرر الشيخ الأمين! الحمد لله، ونرجو المزيد..

ولم أنتبه لهدا الموضوع إلا الآن!
 
قال الشيخ رحمه الله عند قوله تعالى (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) وقد رجَّح عَـوْدَ الضَّمير في (يَنْصُرَهُ) على النبي صلى الله عليه وسلم:

فَإِنْ قِيلَ : قَرَّرْتُمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي «يَنْصُرُهُ» عَائِدٌ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ، فَكَيْفَ قَرَّرْتُمْ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ ؟

فَالْجَوَابُ هُوَ: مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ ، فَالْكَلَامُ دَالٌّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ..) الآية. هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالِانْقِلَابُ عَنِ الدِّينِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) انْقِلَابٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
 
قَال الشَّيخُ رحمه الله عند قولِ الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
فإن قيلَ: مَا وَجْهُ عَطْفِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّون

فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَاحِدٌ مِنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ:



الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ قَدْ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مِنْ حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ، فَيَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وَقَوْلُهُ{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُ.


الثَّانِي: أَنَّ يَصُدُّونَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُمْ يَصُدُّونَ، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ اسْمِيَّةٌ لَا فِعْلِيَّةٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ اسْتَحْسَنَهُ الْقُرْطُبِيُّ.


الثَّالِثُ: أَنَّ يَصُدُّونَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي؛ أَيْ: كَفَرُوا وَصَدُّوا. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ.


الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَجُمْلَةُ «يَصُدُّونَ» خَبَرُ «إِنَّ» أَيْ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ...} الآية ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى.

وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} الْآيَةَ ؛ وَقَوْلِهِ تَعَالَى{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } الآية؛ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ..
 
عندَ تفسير قول الله تبارك وتعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} تناول الشيخُ رحمه الله الخلاف في حديث الزَّاد والراحلة ورجَّح صحَّة الاحتجاج به, ثمَّ قَالَ رحمه الله فِي مسألة وجوبِ الحجِّ مَشياً لمنِ استطاعَ (بلاَ مشقَّةٍ فادحَةٍ):

الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ حَدِيثَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلِاحْتِجَاجِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِ الرَّاحِلَةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ; لِأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، كَمَا أَنَّ صَاحِبَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنْهَا قُوتَهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ; لِأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الزَّادِ فِي طَرِيقِهِ كَتَحْصِيلِهِ بِالْفِعْلِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ، دُونَ الرَّاحِلَةِ مَعَ اعْتِرَافِكُمْ بِقَبُولِ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ لَيْسَ مِنَ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ..؟

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ الْآيَةَ بِأَغْلَبِ حَالَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ أَكْثَرَ الْحُجَّاجِ أَفَاقِيُّونَ، قَادِمُونَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، وَالْغَالِبُ عَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنِ الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الْمَسَافَاتِ الطَّوِيلَةِ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ سَفَرِهِ بِلَا زَادٍ، فَفَسَّرَ صلى الله عليه وسلم الْآيَةَ بِالْأَغْلَبِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ النَّصَّ إِذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ، لَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا مَنَعَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ تَزْوِيجَ الرَّجُلِ رَبِيبَتَهُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ قَائِلِينَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى{اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَإِذَا كَانَ أَغْلَبُ حَالَاتِ الِاسْتِطَاعَةِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَجَرَى الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى رِجْلَيْهِ، إِمَّا لِعَدَمِ طُولِ الْمَسَافَةِ، وَإِمَّا لِقُوَّةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ عَلَى الْمَشْيِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى ذِي الصَّنْعَةِ الَّتِي يُحَصِّلُ مِنْهَا قُوتَهُ فِي سَفَرِهِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ وَاجِدِ الزَّادِ فِي الْمَعْنَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.


الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا سَوَّى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْحَاجِّ الرَّاكِبِ وَالْحَاجِّ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ. وَقَدَّمَ الْمَاشِيَ عَلَى الرَّاكِبِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}
 
الشَّيخُ رحمه الله تعالى يُرجِّحُ وجوبَ الحجِّ فوراً على من استطاعهُ, ويخالفُ القائلينَ بأنَّه على التِّراخي, وفي أثناء هذا المبحث في سورة الحجِّ كان يدفع بعضَ أدلَّة القائلين بالتَّراخي, بأدلة عقلية, منها إلزام المخالفِ بأنَّ القولَ بوجوبه على التراخي يلزم منهُ أن لا يكون لهذا التراخي غاية ينتهي إليها, وحاصل ذلك: عدمُ الوجوب.
قال رحمه الله (لِأَنَّ مَا جَازَ تَرْكُهُ جَوَازًا لَمْ تُعَيَّنْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، فَإِنَّ تَرْكَهُ جَائِزٌ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ، وَالْمَفْرُوضُ وُجُوبُهُ)
 
عودة
أعلى