فوائد عقدية و سلوكية من آية الكرسي

إنضم
21/11/2010
المشاركات
114
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
إمبابة مصر
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين ، و على من أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فقد قال تعالى : ﴿ اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] هذه هي آية الكرسي ،وسميت بذلك لذكر الكرسي فيها ،و هي أعظم آية في القرآن فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أبا المنذر: أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ » قال: الله ورسوله أعلم ، قال: يا أبا المنذر, أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت: ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ قال فضرب في صدري وَقَالَ : « والله ليهنك العلم أبا المنذر » [1].

وإِنَّمَا تَمَيَّزَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ بِكَوْنِهَا أَعْظَمَ لِمَا جَمَعَتْ مِنْ أُصُولِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ والوحدانية وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ السَّبْعَةُ أُصُولُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ[2] .

ومما ورد في فضل آية الكرسي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»، قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك، وسيعود»، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك»، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود»، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: ﴿ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ [البقرة: 255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة»، قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي»، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم ﴾ [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة»، قال: لا، قال: «ذاك شيطان»[3]

ومما ورد في فضل آية الكرسي أيضا عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ »[4] .



[1] - رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 810

[2] - شرح النووي على صحيح مسلم 6/94

[3] - رواه البخاري في صحيحه رقم 2311

[4] - رواه النسائي في السنن الكبري رقم 9848 وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 6462 ،والسلسلة الصحيحة حديث رقم 972
 

وقد اشتملت آية الكرسي على عشر جمل مستقلة ،وهي :
1 - ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ .
2 - ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ .
3 - ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ .
4 - ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ .
5 - ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ .
6 - ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ .
7 - ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ .
8 - ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ .
9 - ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ .
10 - ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ .

وهذه الجمل تزخر بالكثير من الفوائد العقدية والسلوكية الهامة لكل مسلم ومسلمة فحري بنا أن نتعلمها ونعلمها .

و الجملة الأولى : قوله تعالى : ﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ أي لا معبود حق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله ، و في هذا الجزء من الآية ذكر توحيد الألوهية ،و الرد على من يعبد غير الله ، فإذا كان لا معبود حق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله فكل إله غير الله فهو إله باطل ،و كل ما عبد دون الله فهو معبود بباطل ، وليس بحق ، ومن ثم لا يجوز أن يعبد إذ عبادته من دون الله تعتبر شركا و عبادة باطلة فكيف يقدم المرء على عبادة باطلة ؟!! وكيف يعبد المرء إله باطل ؟!!

وإذا كان لا معبود حق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله فالواجب صرف جميع أنواع العبادة لله وحده دون غيره ؛ لأن الله هو الإله الحق المعبود بحق المستحق للعبادة ،ولا يجب أن تصرف العبادة لغير الله كائنا من كان ؛ لأن أي إله غير الله إله باطل معبود باطل لا يستحق العبادة ،وعبادته من دون الله عبادة شركية باطلة .

وإذا كان لا معبود حق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله فمن يعبد غير الله فقد أعطى لمعبوده ما لا يستحقه ،وما لا ينبغي له ،وصرف العبادة لغير مستحقها ووضع العبادة في غير موضعها،وهذا ظلم عظيم وجور مبين ،وصدق الله تعالى القائل : ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان : 13 ].

وإذا كان لا معبود حق إلا الله ، ولا معبود بحق إلا الله فمن يعبد غير الله فقد شبه معبوده بالله في خصائص الإلهية ،وجعله شريكا لله في الإلوهية ،وهذا ظلم ليس بعده ظلم أي لا يوجد ظلم أكبر منه

و بعد أن عرفنا ربنا عز وجل أن لا معبود حق إلا هو ولا معبود بحق إلا هو أردف تَّوْحِيد الإلوهية بِمَا يَشْهَدُ لَهَ تعالى مِنْ ذِكْرِ خَصَائِصِهِ وَصِفَاتِهِ الْكَامِلَةِ فقال : ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ أي أن الله عز وجل استحق العبادة وحده ؛ لأنه الحي القيوم .

والحي أي الذي له الحياة المطلقة الكاملة التامة التي لم تسبق بعدم ،ولا يلحقها عدم فهي حياة ذاتية دائمة ملازمة له فلم يزل ولا يزال الله متصفا بها .

وإذا كانت حياة الله حياة كاملة فهذا يستلزم ألا يوجد نقصَ فيها ولا عيب بأي وجه من الوجوه فلا يشوبها سنة ولا نوم ولا مرض ولا موت و لا فناء ونحو ذلك .

وإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتم حياة استلزم إثباتها إثبات وجود كل كمال يضاد نفي كمال الحياة فحياة الله الكاملة تستلزم وجود صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال إذ لا تتم الحياة الكاملة بدون وجود جميع صفات الكمال ،و الحي هو ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال .
 

و القَيُّوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره، فلا يتعلق قِوَامُهُ بشيء ويتعلق به قِوَامُ كل شيء، وذلك غايةُ الجَلال والعظمة[1].

واسم القيوم يتضمن كمال غنى الله وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته وعزته فانتظم هذان الاسمان – أي الحي القيوم - صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة[2].

واسم القيوم يتضمن جميع صفات الله الفعلية من: الخلق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والإعزاز والإذلال، والعطاء والمنع، والخفض والرفع[3] .


وكل شيء من الأشياء والوجود قائم بالله عز وجل؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي أمدها حتى بقيت، وهو الذي أعدها أي هيأها لما تكون صالحة له وقيام الشيء بالله عز وجل يشمل ثلاثة أشياء : الإيجاد، والإمداد، والإعداد [4].

والحيّ القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل ، فإن الآفل قد زال قطعًا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول ، ولا ينقصُ شيءٌ من صفاتِ كمالِه ، ولا يفنَى ولا يُعدَم ، بل هو الدائم الباقي الذي لم
يزل ولا يزال موصوفًا بصفاتِ الكمال. و هذا يتضمن كونه قديمًا ، فالقيوم يتضمن معنى القديم ، وزيادات صفات الكمال دوامُها الذي لا يدلُّ عليه لفظ القديم . ويتضمن أيضًا كونَه موجودًا بنفسه، وهو معنى كونه واجبَ الوجود ، فإن الموجودَ بغيره كان معدومًا ثم وُجِدَ ، و كل مفعولٍ فهو مُحدَثٌ ، وتقديرُ قديمٍ أزلي مفعولٍ كما يقوله بعض المتفلسفة باطلٌ في صريح العقل [5].

وذكر القيوم بعد الحي للتأكيد على كمال حياته فالله عز و جل حي بذاته مستغني بنفسه عن غيره لم يحتج إلى غيره ليحيه ؛ لأنه كامل الحياة ،وقيوم .

وذكر الحي القيوم بعد ذكر توحيد الإلوهية لبيان بعض أسباب استحقاقه بإفراده بالعبادة دون غيره إذ أنه لا معبود بحق إلا هو ؛ لأن لا كامل الحياة إلا هو ،ولا كامل الصفات إلا هو ،ولا حي بذاته إلا هو ولا قائم بنفسه إلا هو ،ولا مقيم للخلق إلا هو ،ولا مدبر للخلق إلا هو ،ولا موجِد للخلق إلا هو ،ولا رازق للخلق إلا هو ،ولا حافظ للخلق إلا هو ،ولا معتني بالخلق إلا هو ،والله عز وجل لا يزول ولا يأفل .

وفي قوله تعالى :﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ الرد على من يعبد غير الله إذ من يستحق العبادة لابد أن يكون حيا كامل الحياة كامل الصفات قائم بنفسه لا بغيره مقيم لغيره لا يزول ولا يأفل ،ومن يعبد صنما فقد عبد ميتا ليس بحي ولا قائم بنفسه فضلا عن أن يقيم غيره ،ومن يعبد بشرا فقد عبد ناقص الحياة ناقص الصفات يقوم بغيره لا بنفسه ويزول ويأفل ،ومن عبد نجما أو قمرا فقد عبد جمادا ميتا يزول و يأفل ،و الناقص ذاتا وصفات لا يكون إلها بأي حال من الأحوال .


ولو علم جميع البشر صفات من يستحق العبادة ،و أنه لابد أن يكون حيا قيوما بما تستحقه هذين الصفتين من المعنى ،وأن هذين الصفتين لا يتصف بهما إلا الله ما عبدوا غير الله .

وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى كمال حياته وكمال قيوميته أردف ذلك بما يدل على كمال حياته وقيوميته فقال سبحانه : ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ أي أن الله كامل الحياة كامل القيومية فلا يغلبه سنة - و هي النعاس مقدمة النوم - ولا يغلبه نوم إذ السنة والنوم تنافي كمال الحياة والقيومية. ،وقوله : ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ يتضمن كمال حياته وقيوميته، فإن النوم أخو الموت، ومن تأخذه السنة والنوم لا يكون قيوما دائما بنفسه، مقيما لغيره، فإن السنة والنوم يناقض ذلك[6]


و إن قيل إن كان الله لا تأخذه سنة فهو لا ينام من باب أولى فما فائدة نفي النوم عنه ،والجواب عدم غلبة السنة لا يستلزم عدم غلبة النوم فقد يأخذ الإنسان النوم ولا تأخذه السِّنَة إذ قد ينام الإنسان فجأة دون أن يسبق ذلك سنة ،وَنَفْيُ السِّنَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُغْنِي عَنْ نَفْيِ النَّوْمِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَحْيَاءِ مَنْ لَا تَعْتَرِيهِ السِّنَةُ فَإِذَا نَامَ نَامَ عَمِيقًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَأْخُذُهُ السِّنَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِ النَّوْمِ غَلَبَةً[7] .


وقد يستطيع الإنسان أن يدفع عن نفسه السِّنَة، لكن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه النوم ، وقد يدافع الإنسان النوم، فيحصل له السنة ولكن لا يحصل النوم ، أي قد توجد السنة منفردة عن النوم، وقد يوجد النوم من غير سنة فنفى القرآن كل منهما إذ الاقتصار على نفي النوم لا يفيد نفي السنة ، والاقتصار على نفي السنة لا يفيد نفي النوم .

وقوله تعالى : ﴿ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ فيه رد على من يعبد غير الله فالإله المستحق للعبادة هو الذي لا يغلبه السنة و لا يغلبه النوم فكيف تعبدون من يغلبه السنة و يغلبه النوم من البشر ؟!! كيف سمحت لكم عقولكم أن تعبدون بشرا مثلكم ينعس وينام ؟!!و الناقص ذاتا وصفات لا يكون إلها بأي حال من الأحوال .


وإذا عرف المكلف أن الله سبحانه وتعالى حي قيوم لا يحول ولا يزول القائم الدائم الذي له الحياة الدائمة والبقاء, وأنه منزه عن مشابه الخلق فلا يجري عليه الموت او الفناء ولا تأخذه سنة ولا نوم يرفع ويخفض ويقبض ويبسط, ويرزق ويحيي ويميت, وأنه يهب لأهل الجنة الحياة الدائمة, وأنه قائم على كل نفس بما كسبت يحفظ ويجازي ويحاسب, وفي الذكر الحكيم: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وجب عليه أن يؤمن به ويتوكل عليه ويقدسه وينزهه , ويعبده حق عبادته, فهو المدبر لأمر الخلائق في السماء والأرض, المصرف لشؤونها لأنها ليست قائمة بنفسها بل محتاجة للحي القيوم الذي يرزقها ويحييها ويقيمها, ولا شك أن من عرف هذا في ربه توكل عليه, وانقطع قلبه عن الخلق إليه, ذلك أنهم محتاجون مفتقرون مثله إلى خالقهم في قيامهم وقعودهم وحياتهم ومماتهم وبعد مماتهم, في دينهم ودنياهم, فكيف يرجوهم بعد ذلك ؟ وقد علم أن الله سبحانه وتعالى واهب الحياة ومالكها فله الكمال والقدرة التامة, وهو القيوم الذي له كمال القدرة فهو القائم بنفسه المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته فهو القائم بتدبير ما خلق وله الحياة وله الممات[8].


وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على كمال حياته و قيوميته أردف ذلك بذكر كمال ملكه وسلطانه لما في السموات وما في الأرض فقال: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ دفعا لما قد يتوهمه البعض أن الله قد يكون قائما على ملك غيره لا ملكه ومدبرا لملك غيره لا ملكه .

وهذا الجزء من الآية يدل أن الله هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض[9] ،و في هذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه[10] ، و أن الجميع خاضعون لمشيئته، وهو المصرف لشئونهم والمدبر لأمرهم و الحافظ لوجودهم ،وهذا تأكيد لكمال قيوميته .

و إذا كان الله مالك ما في السموات وما في الأرض فله أن يفعل في ملكه ما يشاء وكيف يشاء ،وفي هذا رد على من يعترضون على أوامر الله و تصرفه في خلقه .



[1] - جواهر القرآن لأبي حامد الغزالي ص 74

[2] - بدائع الفوائد لابن القيم 2/184

[3] - شرح العقيدة الطحاوية لعبد الرحمن البراك ص 50

[4] - شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين ص 41

[5] - جامع المسائل لابن تيمية 1/58

[6] - لوامع الأنوار البهية لأبي العون السفاريني 1/264

[7] - التحرير والتنوير لابن عاشور 3/19

[8] - صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال لحسين بن محمد المهدي 2/206

[9] - تفسير السعدي ص 110

[10] - محاسن التأويل للقاسمي 2/190
 
و إذا كان الله مالك ما في السموات وما في الأرض فلا يجوز أن نتصرف في ملك الله إلا بما يريده الله ويرضاه .

و إذا كان الله هو المالك وحده فهو الآمر وحده ،والناهي وحده ،والحكم حكمه والخلق ملكه .

وملك كل ما في السموات والأرض من أسباب استحقاق الله العبادة وحده فإذا كان الله هو المالك وحده فهو المعبود وحده ،وفي هذا رد على من يعبد غير الله إذ كيف تعبدون غير الله ،والله هو المالك وحده ؟!!،وكيف تعبدون غير الله وجميع ما سوى الله مملوك لله فكيف تعبدون المملوك وتتركون الملك ؟!!.،وكيف تعبدون من لا يملك شيئا ،وتتركون عبادة من يملك كل شيء ؟!!

وإذا عرف المرء أن الله عز وجل هو المالك وحده الذي بيده الأمر كله والناس خاضعون لمشيئته و سلطانه وقهره فإنه يذل له وحده ولا يخشى أحدا سواه .

و إذا كان الله عز وجل هو الملك المالك وحده فالواجب على الإنسان الرضى و التسليم لما قضاه الله له .

وبعد أن ذكر سبحانه ملكه وسلطانه لما في السموات والأرض أردف ذلك بما يدل على كمال ملكه وسلطانه فقال: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ ، وذكر قوله : ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ بعد قوله: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام ربوبيته وسلطانه عز وجل[1].

ولَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ وَالْمَالِكُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُ فِي الْكُلِّ جَارٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ حُكْمٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ[2] .

والاستفهام في هذه الآية إنكاري: لمعنى النفي، أي لَا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وسيق النفي بطريق الاستفهام للإشارة إلى استحالة ذلك كأنه قد سئل وبحث عن نظير تكون له قدرة الخالق الباري حتى يكون شفيعًا عنده قريبًا منه يؤثر في إرادته، فلم يوجد، لأن ذلك مستحيل استحالة مطلقة .


والشفيع يكون : لمعنى النصير للمشفوع لأجله، المعاضد له، ويكون في مرتبة المشفوع عنده أو قريبًا منه؛ لأنه يؤثر في إرادته، ويحوله من نظر إلى نظر، وله معه أو عنده سلطان أو شركة في أمره؛ وإن ذلك مستحيل على الله سبحانه وتعالى، فلا نظير له سبحانه؛ إنه القادر فعال لما يريد، فلا إرادة لأحد بجوار إرادته سبحانه، إنما الإرادة له وحده؛ ولذلك كان أكثر العلماء على أن هذه الجملة السامية سيقت لبيان عموم سلطانه، وأنه قد انفرد بالتدبير، فلا إرادة لأحد في سلطانه غير إرادته.
ولقد قال البيضاوي، وهو من أئمة أهل السنة، في تفسير قوله تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ " بيان لكبرياء شأنه، وأنه لَا أحد يساويه أو يدانيه، يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلا عن أن يعاوقه عنادًا أو مناصبة أي مخاصمة ".


وإنه من كمال سلطانه وشمول إرادته أنه لَا إرادة لأحد إلا مشتقة من إرادته؛ ولذا كان الاستثناء في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ أي أنه لَا يكون لأحد إرادة إلا إذا كانت مستمدة من إذنه؛ فهو المسيطر على كل شيء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويأذن لمن يشاء، ويعطي لمن يشاء إرادة في سلطان إرادته، هو المنفرد بالأمر والتدبير [3].



وعليه فإِنْكَارُهُ وَنَفْيُهُ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مُلْكِهِ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، فَإِنَّ مَنْ شَفَعَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ إِذْ صَارَتْ شَفَاعَتُهُ سَبَبًا لِتَحْرِيكِ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْمُلْكِ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ[4].

وإذا كان لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه فكيف تتطلب الشفاعة من أحد لم يأذن الله له بها ؟!!


[1] - شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين ص ص 169

[2] - تفسير الرازي 7/8

[3] - زهرة التفاسير 2/937

[4] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 3/210
 
و معنى قوله : ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ أن الله هو الذي يأذن للشفعاء أن يشفعوا، وبدون إذنه لا يمكن لأحد أن يشفع أبداً، لا الأنبياء، ولا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الصالحين، وهذا محل الشاهد؛ أن الشفاعة لا تكون إلاّ بإذن الله، ففي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء بدون إذنه سبحانه وتعالى في ذلك، وزعموا أن هؤلاء الشفعاء يقومون بما يريدون منهم عند الله عزّ وجلّ، ولذلك صرفوا لهم العبادة، فصاروا يذبحون للقبور، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويتبركون بها، ويتمسحون بترابها، وبجدرانها، يعبدونها من دون الله، لأنهم يقولون: ﴿ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ﴾ ، تركوا الله عزّ وجلّ وعبدوا غيره، فعملهم هذا حابط باطل، لأنهم يضعونه في غير محله[1].

وفي قوله تعالى : ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ الرد على من ينكرون الشفاعة إذ الآية تثبت الشفاعة ،وإلا لما صح الاستثناء .

و لَمَّا بَيَّنَ سبحانه وتعالى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْكُلِّ وَكَوْنِ غَيْرِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْكُلِّ، أَنْ لَا يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِي مُلْكِهِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ عَالِمًا بِالْكُلِّ [2] فقوله : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ دَلِيلٌ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا[3] .

وفي قَوْلِهُ : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات[4].

وفي قَوْلِهُ : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ بيان إحاطة علمه بأحوال خلقه المستلزم لعلمه بمن يستحق الشفاعة ومن لا يستحقها [5].

وفي قَوْلِهُ : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ الرد على غلاة القدر القائلين أن الله يعلم الأشياء بعد حدوثها فقط .

و إذا استحضر المرء قوله تعالى : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ علم أن الله مطلع عليه و يعلم ماضيه وحاضره ومستقبله لا تخفى عليه خافية فيحذر أن يعصاه أو ينوي معصيته .

و بعد أن بين سبحانه كمال علمه وإحاطته أردف ذلك بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه لبيان ضآلة علم البشر بالنسبة إلى علم الله قال سبحانه : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ أَيْ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ ، إِلَّا بِمَا أَطْلَعَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، كَقَوْلِهِ : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طَهَ: 110] [6] .

و يدل قوله : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ أننا لا نعلم شيئاً عن الله إلا ما أعلمنا به ؛ ولأن الله لم يعلمنا كيفية صفاته فلا سبيل لنا لنعرفها .

و يدل قوله : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ أن لا أحد يمكن أن يأتي بعلم لم يشأ الله له أن يعلمه فإذا علم الإنسان شيئا فليحمد الله ويشكره أنه من عليه بعلم ما علمه.


وعُطِفَتْ جُمْلَةُ : ﴿ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ عَلَى جُمْلَةِ : ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ لِأَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِمَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 216] [7].

ولما بيّن سبحانه وتعالى كمال ملكه وحكمه في السموات وَفِي الْأَرْضِ، بَيَّنَ أَنَّ مُلْكَهُ فِيمَا وَرَاءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ [8] مما يدل على عظيم ملكه وواسع سلطانه فقال : ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ أي شمل، وأحاط، كما يقول القائل: وسعني المكان؛ أي شملني، وأحاط بي؛ و «الكرسي» هو موضع قدمي الله عز وجل؛ وهو بين يدي العرش كالمقدمة له؛ وقد صح ذلك عن ابن عباس موقوفاً[9] .

وقوله : ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب [10].



[1] - إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد لصالح الفوزان 1/243

[2] - تفسير الرازي 7/8

[3] - تفسير ابن كثير 1/519

[4] - تفسير ابن عرفة 2/726

[5] - روح البيان للألوسي 1/402

[6] - تفسير ابن كثير 1/521

[7] - التحرير والتنوير لابن عاشور 3/22

[8] - تفسير الرازي 7/8

[9] - تفسير العثيمين الفاتحة والبقرة 3/254

[10] - تفسير السعدي ص 110
 

وَبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على عظيم ملكه وسلطانه وواسع ملكه وسلطانه اتبع ذلك بذكر قدرته على حفظ هذا الملك نفيا لما قد يتوهمه البعض أن اتساع الملك يفقد القدرة على حفظ الملك ورعايته والسيطرة عليه كما هو المعهود من بني آدم فالله يحفظ هذا الملك و يتحكم فيه رغم سعة هذا الملك وعظمته قال سبحانه : ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أَيْ لَا يُثْقِلُهُ وَلَا يُكْرِثُهُ حِفْظُ السموات والأرض، وما فِيهِمَا، وَمَنْ بَيْنَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يَسِيرٌ لَدَيْهِ، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ [1] .


و يدل قوله : ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ على كمال قدرة الله وكمال قوته إذ لا يثقله حفظ السموات والأرض رغم سعتهن وكبرهن .

وقوله : ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ يدل على أن كل شيء في الكون في حفظ الله وحياطته؛ فالسماء بأفلاكها وطبقاتها وكواكبها، وكل ما فيها يسير على نظام محكم محفوظ بعناية بديع السماوات والأرض، والأرض وما عليها ومن عليها، وما فيها ظاهرًا وباطنًا، كل ذلك في حفظ الله خاضع لقوانينه التي سنها في خلقه، ولا شيء يكون فيها أو منها إلا بإرادته سبحانه[2] .

وإذا كان الله تعالى لايثقله حفظ السموات والأرض رغم سعتهن وكبرهن فلا يثقله حفظك أيها الإنسان فثق في حفظ الله لك .

و يدل قوله : ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ أن السموات والأرض يحتجن إلى من يحفظهن

وَجُمْلَة : ﴿ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ﴾ لِأَنَّهَا مِنْ تَكْمِلَتِهَا[3].

و لما بين الله عز وجل كمال قدرته وكمال قوته على حفظ السموات و الأرض اتبع ذلك بذكر علوه وعظمته نفيا لما قد يتوهمه البعض أن حفظ السموات والأرض يحتاج إلى نزول الله بنفسه من فوق عرشه ليحفظهن فحفظ الله للسموات والأرض لا يحتاج أن ينزل الله بنفسه ليحفظهن ؛ لأنه كامل القدرة كامل القوة عظيم الذات و الصفات والأفعال قال سبحانه : ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾.

وقوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ أي الله عز وجل له العلو المطلق و العظمة المطلقة ، و العلو عند الإطلاق يشمل علو الذات و علو الصفات و علو الذات فمعناه أن الله بذاته فوق جميع خلقه . وأما علو الصفات فمعناه أنه ما من صفة كمال إلا ولله تعالى أعلاها وأكملها فالله متصف بالعلو المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله فذاته أعلى الذوات فالله فوق العالم ولا شيء فوقه، وصفاته وأفعاله أعلى الصفات والأفعال وأرفعها جمالا وحسنا وكمالاً .

والعظمة عند الإطلاق تشمل عظمة الذات والصفات و الأفعال .

و في قوله تعالى : ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ الرد على من يدعي أن الله معنا بنفسه فالله وصف نفسه بالعلو ،والعلو يشمل علو المكان والمكانة ، وعلو المكان يستلزم أن يكون الله فوق جميع خلقه ، وليس معهم بذاته ، والله عز وجل مع خلقه بسمعه وبصره وعلمه وقدرته لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .


هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات







[1] - تفسير ابن كثير 1/519

[2] - زهرة التفاسير 2/941


[3] - التحرير والتنوير لابن عاشور 3/24
 
عودة
أعلى