علم اللغة النفسي ولغة القرآن...وقفات وتأملات

إنضم
13/01/2006
المشاركات
245
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
مــا هي أسرار التراكيب النحوية و التآلفات الصوتية على الحالة النفسية لقاريء القرآن؟

لست بأول من أشار إلى "طرف" من هذه القضية المهمة - في نظري - فممن أشار إلى بعض هذه الآثار ابن جني "الخصائص" في مبحث مناسبة الخصائص الصوتية لدلالة الكلمة. وكأني به يلمح إلى أن العلاقة بين "الصوت" و "المعنى" ليست علاقة "اعتباطية" ، أي علاقة عفوية فرضها القول بأن اللغة في أصلها "اصطلاحية". وهذه معضلة يتوقف عندها من انكر أن اللغة في أصلها "توقيف" ( مع أني أرى في ضوء علم اللغة النفسي بجانب سائر فروع حقل فقه اللغة أنها توقيف واصطلاح ، وهو ما أرجحه في رسالة علمية آمل أن ترى النور قريباً في المكتبات ).

ومما أشير إليه إشارة عابرة هنا هو فرع عن علم اللغة النفسي يقرر أهمية الثراء اللغوي لتوطيد الشكبات العصبية بين أجزاء الدماغ ، أو فصيه الأيمن والأيسر (left and right hemisphere). فالدراسات الحديثة في علم اللغة النفسي تبرز أهمية الفص الأيسر في عملية "إنتاج" و "فهم" اللغة. أي أن لها مكان يعزز الانتاج وهي منطقة "بروكا" و مكان يعزز الفهم وهي منطقة "فرنيك". وحصول عطب لأحدهما يسبب فقدان نوع معين من انواع الكلمة ، وانواع الكلمة كما لا يخفى عليكم ثلاثة : اسم ، فعل ، حرف.

فالعطب في منطقة بروكا ، يسبب فقدان كبير للأحرف ! (والحرف على المشهور في حده هو ما دل على معنى في غيره) فتنعدم العلاقات المنطقية بين كلمات المتحدث.

والعطب في منطقة فرنيك ، يسبب فقدان كبير للأسماء والأفعال ! (والاسم على المشهور في حده مادل على معنى في نفسه مجرداً عن دلالته على زمن من الأزمنة الثلاثة ، وأما الفعل فيشترك مع الاسم ويخالفه في الدلالة على زمن معين من لأزمنة الثلاثة) فيبقى حديث المتحدث مشحونا بأحرف تدل على معان مقدرة لا وجود لها إلا في ذهنه. وهي بالفعل معاناة ، عافانا الله منها.

ولكن الشيء الجميل المتعلق بهذا الموضوع هو أن نوع المادة "المقروءة" ونوع "التركيب" المعبر عن هذه المادة يزيد ويعزز الأعصاب الشعرية بين المنطقتين خاصة ، وسائر المناطق عامة ، فيسبب ذلك جودة عالية في سرعة الاستحضار والفهم. وكما يقول علماء الأصول في مباحثهم عن "العلم" : العلم يتفاوت بتفاوت المعلوم. ولما كان القرآن أشرف العلوم وأبجلها ، على أكثر من مستوى ، كان له أثراً بالغاً في صناعة الوعي المتكامل عند من أدمن قراءته وتدبر معانيه ، وأما على المستوى العضوي ، فإن له أثراً كبيراً في ااختصار زمن الاستحضار وتقليل النسيان ليس فقط لآيات القرآن وإنما لأي معلومة أخرى.وهذا بسبب الأجزاء المخصصة لأنواع الكلمة في الدماغ ، ووصف القرآن بأنه "متشابه" وأنه "مثاني" هو في غاية الأهمية لما يترتب عليه من تكييف الآيات على هيئة لغوية معينة تفي بهاتين الصفتين ومن ثم انسحاب ذلك على أسلوب التفكير والمعالجة في الدماغ (والحديث هنا عن الدماغ لا العقل إذ أن مكانه القلب نصاً ولكن له تعلق بالدماغ كما رجح ذلك ابن القيم وابن تيمية وهو المشهور عن أحمد رحمهم الله ، كما أنه ما بدأت تشير إليه الدراسات الحديثة ولله الحمد والمنة). وللحديث بقية بعون الله.
 
كنت قد تحدثت عن أهمية وصف القرآن بكونه "متشابها" و أنه "مثاني" ، قال الله تعالى (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) الآية.

ثم أشرت على عجل إلى أهمية علاقة ذلك بالمراكز اللغوية في الدماغ وما يستتبع ذلك من أثر على النفس وعمليات التفكير. وفي ذها السياق أود الحديث عن ما يسمى بالمدرسة "الاتصالية" ، وهي غير الاتصال اللغوي ، فالمراد هنا "الاتصال العصبي" وهي من قولهم (connectionist) وليس (cummunicational). هذه المدرسة تركز على أهمية نشوء شبكة ثرية ومتقاطعة من الأعصاب الدماغية ، وترى الدرسات في هذا المجال أنه يمكن أن يحدث ذلك بكثرة القراءة "الواعية" والاستماع "الواعي" للغة من حولنا ، ثم تشير إلى أن هذا يساعد على تقوية الذاكرة بقوة الاسترجاع (recollect) ويساعد على ما نسميه تنمية "البرنامج التشابهي" في العقل (لنسميه العقل ، مؤقتاً لما درجنا عليه) . وهذا البرنامج التشابهي مهم جداً في عملية التدبر العقلي ، فهو مهم في كشف الروابط المنطقية بين المعاني واستظهار الترابط بين المفاهيم العميقة للدلالات المختلفة. فلما كان القرآن "متشابهاً" أي يشهد بعضه لبعض وتأتي آياته متشابهة من موضع لآخر ، ولما كانت آياته "مثاني" أي تثنى فيه المعاني إما بالترادف أو ذكر الأضداد ، من موضع لآخر ، كان هذا من أعظم ما ينمي هذا البرنامج العقلي التشابهي الذي ذكرناه ، وبسببه يحصل خير عظيم في التدبر والاستنتاج ، كما انه مهم جداً في استخراج المواعظ عن طريق "القياس" (dedactic thinking through analogy) ، ولولا اتصاف القرآن بهاتين الصفتين ، لتعذر استفادة هذا الأسلوب من التفكير من آياته. وقد أشار العلماء إلى أن التشابه بين كثير من آيات القرآن ليس عبثاً بل هو من أعظم ما يؤدي إلى حسن التدبر ، لماذا ؟ كيف يكون التشابه مفيداً ونحن نعلم ان التشابه لا يعني شيئا أكثر من التكرار؟ أشار علماء التفسير إلى أن التشابه يغري العقل بالبحث عن الفروقات الدقيقة بين الآيات المتشابهات ، وفي هذا استرعاء قوي لهذه الملكة ، ولذلك كنت قد طرحت سؤالاً عن القيمة العلمية لكتاب "ملاك التأويل" لابن الزبير الغرناطي ، وهو من التفاسير المهمة التي عالجت هذه القضية بأسلوب جميل فذ ، وذلك انه لابد من نسبة فرق بين الآيات المتشابهات تعطي كل آية معنى خاصا تتميز به ، فيظهر بذلك معان مدفونة وأسرار بديعة ، وبهذا النوع من التدبر والتمعن تتضافر الأعصاب الدماغية في اتصال مكثف ، لما يترتب على قراءة آيات القرآن المتصفة بالصفات المذكورة من تحفيز على إدراك التشابه من جهة ووملاحظة الفروقات اللطيفة فيما بينها من جهة أخرى. ولذلك هناك فرضية للتعلم تقول (افضل الناس تعلماً أكثرهم قدرة على ملاحظة الفروق). وتأتي البقية إن بعون الله.
 
شكر الله لكم أخي عبدالله هذه الوقفات والتأملات ، وليتك تستمر في إبرازها ، فمع أن أصول ما تفضلت بطرحه مطروقة في كتب اللغة المتقدمة كالخصائص الذي أشرتم إليه ، إلا أن طريقة طرحكم وإضافاتكم التي تفضلتم بها تسترعي الانتباه الدقيق ، وتستوقف الباحث المتدبر ، وأرجو أن نرى في مشاركاتكم ووقفاتكم القادمة ما يزيد الأمر وضوحاً عندنا معشر القراء الذين لم يطلعوا على تفاصيل هذا الفرع الدقيق من فروع علم اللغة.
وبخصوص كتابكم في الموضوع : ما عنوانه إن أمكن ؟ وهل تراه يدرك معرض الكتاب القادم (23/1/1427هـ) حتى نضعه في الحسبان ؟ ولكم جزيل الشكر .
 
جزاكم الله خيرا على حسن ظنكم ، وجعلني الله وإياكم من عباده النافعين. نعم أخي ، إن أصول "جزئية" معينة من حديثي قد تطرق لها علماءنا الأوائل (فالدماغ ومناطق اللغة فيه والشبكات العصبية اللغوية مستجدات لم يعرفوها) ، وهم بدورهم عالة على القرآن الكريم لمّا تبينت لي دلالة مهمة في القرآن ، يمكن أن تحسم خلافاً طويلاً حول حقيقة اللغة وأصلها (ولم يتفطن لها الأوائل - حسب علمي - من مفسرين ولغويين ، وسأضمنها كتابي إن شاء الله تعالى لأنها من أهم ما وقفت عليه ، فاسمحوا لي أن أميط اللثام عنها في أجلها المؤقت لها إن شاء الله). أما خروج الكتاب قبل معرض الكتاب فمستبعد ، ولكني سأعلن عنه في هذا الملتقى عندما يخرج ، سائلين المولى أن يجعله علما نافعا وعملا صالحا ، و شكر الله لكم جهودكم المباركة في هذا الملتقى.
 
الإعجاز النفسي أو التأثيري للقرآن الكريم ؟

الإعجاز النفسي أو التأثيري للقرآن الكريم ؟

لعل ذلك مما أطلق عليه " الإعجاز النفسي أو التأثيري للقرآن الكريم " ،

و فيه نظر ، إذ هو خاص - على وجه الحقيقة - بالذين يخشون ربهم من الذين آمنوا - بنص كلام الله - و ليس عاما في الناس كافة ، و هو بهذا يخرج عن ضابط " الإعجاز " إلا بتكلف ،
نعم له تأثير على ذوي العقول السليمة من غير المسلمين ، و لكن في كونه إعجازا نظر
.

* * *

و قريب من موضوع تلك المشاركة : مقالة للدكتور محمد عطا أحمد يوسف بعنوان : " نشأة الإعجاز التأثيري للقرآن وتطوره " ، نشرتها مجلة الشريعة والدراسات الاسلامية /العدد 36/1998 م ، جاء فيها ما يلي :


.........

.........
(( ـ المرحلة الثانية: مرحلة التأصيل العلمي للإعجاز التأثيري:
سنقف في هذه المرحلة مع عدد من العلماء القدامى والمحدثين، ممن تحدثوا عن الإعجاز التأثيري: فمن العلماء القدامى: (الخطابي، والجرجاني، وابن القيم).
ومن العلماء المحدثين: (د. عبدالكريم الخطيب الإمام/ محمد الغزالي).
1 ـ الخطابي: (أبو سيلمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي ـ ت 388هـ ).
يبدأ الخطابي رسالته (بيان إعجاز القرآن) بالاعتراف بتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته، ثم بدأ في ذكر وجوه الإعجاز فحددها. وفي نهاية رسالته عاد الخطابي إلى تأكيد رأيه في الإعجاز القرآني، وذلك باختياره الإعجاز التأثيري كأهم وجه من وجوه الإعجاز. فقال: (قلت: في إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن ـ منظوماً ولا منثوراً ـ إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه، عادت إليه مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول (ص) من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عدواتهم موالاة، وكفرهم إيماناً.
خرج عمر بن الخطاب (رض) يريد رسول الله (ص) ويعمد إلى قتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ (سورة طه)، فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن.
وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله (ص) ليوقفوه على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليه رسول الله (ص) آيات من (حم السجدة) فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. ولما قرأ رسول الله (ص) القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا، وعادوا إلى المدينة فأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن. وقد روي عن بعضهم أنه قال: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن.
ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: (إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنّا به)، ومصداق ما وصفناه في أمر القرآن في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)، وقوله تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)، وغير ذلك في آي ذوات عدد منه، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو من عظيم آياته، ودلائل معجزاته. )) انتهى الاقتباس

- و المقالة منشورة في موقع " بلاغ " : الموسوعة الإسلامية

http://www.balagh.com/mosoa/ejaz/as0vo20e.htm
 
جزاكم الله خيرا ، وكما ذكرتم الموضوع ليس له تعلق بالإعجاز كما هو معلوم ، وإنما بالتأثير العضوي المترتب على الـتأثير النفسي ، بعيداً عن الإعجاز وما شابهه. فالمقصود أن كون القرآن متشابه و مثاني على المعنى الذي قصدناه له ارتباط وثيق بتحفيز التفكير المنطقي الكامن في الفص الأيسر من الدماغ بشكل خاص ، لما يترتب عليه من مقارنة الأضداد وكشف الفروقات اللطيفة بين الآيات المتشابهات. ولغة القرآن في هذا الجانب لا يدانيها شيء البتة ، وهذه النتيجة لابد أن تحصل لأي شخص ، فإذا حصلت وتجلت قامت الحجة على العبد ، فإما أن يخضع للحق أو يعرض ويتولى فيطبع الله على قلبه.
 
أكرمكم الله ، و وفقكم للصواب ،
فقد أردت الاستيثاق من مدى ذهابكم إلى القول بذلك الوجه غير المسلَم من وجوه الإعجاز ، لفقده العموم في ذلك التأثير النفسي على كل البشر .
و محاولة ربط المعارف الحديثة - المكتسبة - بالقرآن الكريم مسألة دقيقة و عميقة ينبغي الخوض فيها بحذر و روية ، لكيلا نحمّل الآيات ما لا تحتمله إلا بتعسف و تكلف ،
و لكي نصون القرآن عن تقلبات النظريات التي تتغير من آن لآن
 
قبل الاستمرار في تفاريع الموضوع أود من القاريء الكريم أن يفرق بين نوعين من التأثر بالقرآن ، الأول :

1- التأثر اللغوي بالقرآن ، ويمكنه أن يؤثر في كل شخص : المسلم والكافر ، الموحد والملحد ، المبتدع والسالك لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. والمراد بالتأثر اللغوي ، اكتساب بعضاً من أسلوب من القرآن في إعراب الكلام وإخراجه على وجهه الذي عرفته العرب ، وتحصيل الملكة اللغوية الأصيلة ، المقومة "للتأتأة" وغيرها من عيوب الكلام ، والتي يعتني بها علم تقويم العيوب النطقية (pathology). ونحو هذا المعنى جاء الحديث (أخوف ما اخاف عليكم كل منافق عليم اللسان) ، مما يدل أنه قد يكون الرجل مؤمنا إيماناً جازماً ولكنه يقرأ القرآن وهو عليه شاق ، بل يتحدث مفتقراً إلى البلاغة والبيان ، كما حصل مع نبي الله موسى عليه السلام ، (واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي) الآية. وهذه المشقة هو صورة من صور العيوب الكلامية التي يعتني بعلاجها علم اللغة النفسي بالتظافر مع علم "الصوتيات" و علم "تقويم الكلام" (ولست أقصد تقويم مجرد النطق الظاهر والتلفظ بالحركات وإعطاء كل حرف حقه ومستحقه ، الذي هو من اختصاص "التجويد" وإن كان داخلاً فيه ، بل هو أبعد لأنه يتعلق بالحالة النفسية والعضوية التي تحجز المتكلم عن إعراب الكلام على وجهه السليم).
2- التأثر النفسي بالقرآن ، وهو على ضربين: التأثر النفسي الفكري ، والتأثر النفسي العاطفي. فهذا النوع من التأثر يعد مشروطاً بحصول الشرط وزيادة. والشرط هنا هو "الفقه اللغوي" أي فقه لغة القرآن وسنن العرب في الكلام ، واما الزيادة هنا ، فهو أمر زائد عن مجرد فهم دلالات الكلام ، ألا وهو تجاوز العلم بدلالات الألفاظ إلى المعرفة بمعانيها ، مما يدفع المحصّل لذلك إلى الوقوف عند حدوده واستشعار قبح إتيان ما نهى عنه وحسن الإقبال على ما أمر به ، ولذلك فلربما وجدت البارع في لغته ، تأثراً بلغة القرآن ، ولكنه غير مستفيد منه ، ممنوع من التأثر بمفهومه المنطوق وغير المنطوق ، وهذا لن ينتفع بأكثر من الفصاحة الظاهرة والبلاغة الساطعة.
ويمكن لعلم اللغة النفسي أن يساهم في تفسير شيء من هذه العملية. ومن هذه التفاسير ، انعدام الدافعية الجاذبة (motivation) وانعدمها يسمى اللادافعية (amotivation) . وهذا متعلق بما يسمى المرشحات الشعورية (affective filters). وصاحب المفهوم الأخير عالم اللغويات "كراشن". والفرضية الأخير تشير إلى أن مجموع إرادات الأنسان ونواياه وكذلك مجموع خبراته الماضية يساهم مساهمة عظيمة في فهم الدلالات اللغوية على صورة معينة ، بسبب ما يصنعه ذلك من "حُجُب" مترادفة ، منها ما يسمح بالمعنى الصحيح بالنفاذ إلى النفس ومنها ما يشوّه المعنى الصحيح فيدخل مشوهاً ومنها ما يصُد المعنى الصحيح فلا يدخل البتة ومنها – وهو أسوأها – ما لا يسمح إلا للمعاني الخاطئة بالدخول ، ولذلك تختلف "الدوافع" كما أشرنا نحو الاستفادة من دلالات ألفاظ القرآن على مستويين: مستوى الاستفادة اللغوية والنفسية ، مستوى الاستفادة اللغوية فحسب (مثل ، كما أشرنا ، جزالة ألفاظ المتحدث مع خلو قلبه من التفاعل مع معاني هذه الألفاظ). وكل هذا بدوره وثيق الصلة بما نسميه "الفقه السمعي" أو (auditory comprehension). وهو جانب الاستفادة الشعورية والفكرية من دلالات اللغة ، وفقه المعاني.

قال الله تعالى (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بعزيز)

وقال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

قال ابن كثير : وقوله تعالى" ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.
فهذا ومثله دليل على وجود "الحجب (المرشحات) الشعورية" التي تحجب الدلالات العميقة للألفاظ من مباشرة القلوب.
في المرة القادمة ، سوف أتعرض للوسائل التي يقترحقها علم اللغة النفسي ، لإصلاح هذه المرشحات الشعورية وتهيئتها ، بما يساعد في الاستفادة من فهم دلالات الألفاظ قدر الإمكان.
 
ما شاء الله . معلومات قيمة تدل على دقة فهم . ونرجو الاستمرار ، وفي مداخلة الدكتور أبو بكر خليل بعد عن الموضوع في رأيي . والعناية بهذا الموضوع عند أهل اللغة ليست كبيرة ، فلعل بحث الأستاذ عبدالله الشهري يعد إضافة جيدة للموضوع ، نتمنى له التوفيق .
 
[align=center]فائــدة عابــرة : يتحدث النحويون عن قاعدة "زيادة المبنى تورث زيادة المعنى" ، واعترض بعضهم - كابن هشام - وقال أنها ليست مطردة. فمثلاً: يقول البصريون "سوف" أوسع تنفيساً من "السين" ، كقولنا "سوف تعلمون" وقولنا "ستعلمون" ، فالأول "أوسع تنفيساً" من الثاني ، أي أوسع في إخراج الفعل من زمن الحاضر إلى الزمن المستقبل. واعتراض ابن هشام وغيره صحيح ، لوجود الأمثلة الكثيرة على خلاف القاعدة ، ولكني أجد لها تفسيراً نفسياً مفيداً ، وهو أن علم اللغة النفسي يبرر صحة هذه القاعدة من جانب آخر ، وذلك من حيث أن أي خبرة إنسانية عبارة عن مجموعة من المعلومات "المركبة" من مفردات خبراتية ، وحسب علم النفس "الجشتالي" فإن العقل بطبيعته يحب أن يعطي لكل خبرة مفردة مهما بدت صغيرة معنى خاصا وتفسيرا معينا ، فزيادة المبنى في "سوف" وما ماثلها يصلح مثالاً هنا ، إذ أن العقل ينجر لإسباغ المعنى على "حروف المباني" الزائدة ، متوقعاً زيادة في المعنى لأنه يستبعد حصول زيادة اعتباطية لا معنى لها على الإطلاق ، وهذا أيضاً يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي تنأى عن المفاهيم الفارغة من المعاني. [/align]
 
أرى أن نتوقف عن قولنا: "لغة" القرآن..

فهذا "الوصف" وإن سمعناه ممن سمعناه, إلا أننا لم نسمعه لا من ربنا ولا من حديث نبينا عليه الصلاة ولاسلام...

وأرى -بما يملؤني من الجهل- أرى أن الجذر "لغو" لا يعين على استعماله بجنب كلمات الله القرآن..

والحق والأولى أن ننزل على قول الله الأصدق الأحق, فنقول: "لسان القرآن"!.
 
أرى أن نتوقف عن قولنا: "لغة" القرآن..

فهذا "الوصف" وإن سمعناه ممن سمعناه, إلا أننا لم نسمعه لا من ربنا ولا من حديث نبينا عليه الصلاة ولاسلام...

وأرى -بما يملؤني من الجهل- أرى أن الجذر "لغو" لا يعين على استعماله بجنب كلمات الله القرآن..

والحق والأولى أن ننزل على قول الله الأصدق الأحق, فنقول: "لسان القرآن"!.


جزاك الله خيرا على هذا التنبيه ، ولكن لا أدري إن كان له حظ من النظر.
 
... إضاءة جانبية
رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد حسن أنه قال:" من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن"، والمفهوم الجوهري هنا هو هذا "التثوير"، وهو قريب من تعبير بعض المعاصرين عندما يقولون "تفجير المعاني أو النص"، ومهارة التثوير هذه كل يستطيعها ولكن بنسب أو مراتب متفاوتة لها أسباب كثيرة. الشاهد هنا أن عملية التثوير هذه تتم بطرق مختلفة: فبعضهم يثوّر- بتشديد الواو - القرآن كيفما اتفق ! وبعضهم يثوره في ضوء النقل، وبعضهم يثوره في ضوء العقل، وآخرون يثورونه لغوياً، أو أسلوبياً، والبعض يثوره في ضوء المدارس الوافدة، كأن يتعامل مع القرآن "كنص تاريخي" أو "منتج أدبي" ! ومع أهمية وبلاغة المقولة المسعودية، إلا أن هذ التثوير لابد أن يكون له هويته المنسجمة مع كليات القرآن ومقاصده، وإلا آل إلى فوضى، مع أن بعض المدارس ما بعد الحداثية ترى أن الفوضى نتيجة مشروعة لا مبرر لمصادرتها إذا أدّى إليها النظر!.
 
عودة
أعلى