18. العلم في القرآن يقتصر على العلوم الدينية (1)
دعوى يراد بها اثبات القطرية لأن المتلقى الأول ((أمي)) لا يخاطب بشيء "غير معهود" في محيطه وبيئته. وهذه دعوى باطلة لأن كلمة علم في القرآن في الأكثر عامة غير مخصصة، وهذا دليل لغوي على الشمولية، كذلك مشتقات العلم وما يدور في فلكه كالعقل وتصاريفه، الفكر، التفكر، التدبر، النظر، السؤال، التثبّت/التبيّن، .. الخ.
لكن للأسف هناك من يتفوه باسم العلم الشرعي ويقول ما لا يقبله نقل ولا عقل، فيقترن كلامه بكلام اصحاب دعوى القطرية، ويؤول الآيات طبقا لعرفه الفكري المعرفي، فينطبق عليه ما قاله الامام القرافي: "
".
وقد كتب بعض إخواننا الشرعيين فى بعض البلاد –عفا الله عنهم- كلاما أثبتوا فيه أن العلم الذى جاء ذكره ومدحه فى نصوص القرآن والسنة النبوية، كله فى العلم الشرعى والدينى وحده، ولا مجال فيه لمدح علم من علوم الدنيا والحياة. قالوا: ولا يجوز لنا نحن علماء المسلمين ودعاتهم أن نأخذ ما جاء فى القرآن والسنة من آيات وأحاديث، لعلوم العقيدة والشريعة، إلى مجالات أخرى، لأن هذا يعتبر نوعا من التحريف المتعمَّد لكتاب الله تعالى، ولكلام رسوله!
نشر هذا الكلام فى بعض الصحف، فأزعج إخواننا المهتمين بأمر العلم وأصوله فى (المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية) بالكويت، وعلى رأسها رئيسها القوى الدكتور عبد الرحمن العوضى، وأمينها العام المساعد، الدكتور أحمد رجائى الجندى، والدكتور خالد المدكور، وغيرهم، ممن اتصلوا بى، وحدثونى فى الأمر، وقلت لهم: إن كلامهم خاطئ
مائة فى المائة، ولى ردود علمية عليه، من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا. فقالوا لي: إننا نرجوك ونلح عليك أن تسارع بكتابة هذا الرد، وترسله إلينا بغاية السرعة، لننشره، ونعمم نشره، لنوحد ثقافة المسلمين، ونصححها، فميزة الأمة المسلمة أنها أمة ينصح بعضها لبعض، ولا يستكبر بعضها عن السماع لبعض.
وقد أرسلت ردى إلى الإخوة فى الكويت، ونشروه فى الحال بوسائلهم الميسورة والموفورة، ولهم فى ذلك أجرهم ونيتهم.
وها أنذا أضع ردِّى هنا فى هذه الرسالة الثقافية للمسلمين.
شمول العلم وتنوعه فى لسان القرآن:
دعوة الإسلام إلى العلم والتعلّم، وتنويهه بفضل العلم، ومنزلة العلماء، مما لايختلف فيه اثنان، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية فى ذلك غزيرة مستفيضة، ولا يوجد دين من الأديان أفاض فى الثناء، على العلم وأهله كالإسلام، وحسبنا أن أوّل آيات نزلت من القرآن نوّهتْ بشأن العلم والتعليم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].
والعلم الذى نوّه به القرآن، وحفلتْ به آياته، ونوَّه به الرسول الكريم، وأحاديثه الشريفة، يشمل كلَّ معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء، وتزول بها غشاوة الجهل والشك عن عقل الإنسان، سواء أكان موضوعه الإنسان، أم موضوعه العالم، أم موضوعه الوجود والغيب، وسواء أكانت وسيلة معرفته الحسّ والتجربة، أم وسيلته العقل والبُرهان، أم وسيلته الوحى والنبوة.
فليس صحيحا ما شاع عند الغربيين ومن دار فى فلكهم: (أن العلم مقصور على ما قام على الملاحظة والتجربة)، وليس صحيحا أيضًا ما يتصوره بعض المسلمين المتدينين أو يصورونه من أن "العلم" فى القرآن والسنة، يعنى "العلم الديني" ولا شىء غيره، وحاول بعض أهل العلم الدفاع عن هذه الدعوى!
ففى القرآن الكريم آيات أثنت على العلم وأهله، من حيث هو (علم) أي: معرفة تنكشف بها حقائق الأشياء، دون النظر إلى كونه علمًا دينيًّا أو دنيويا، مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. فهنا لم يذكر مفعول (يعلمون) أى لم يقل: الذين يعلمون علم الدين أو الشريعة أو الطبيعة أو غيرها، بل نزّل الفعل المتعدى - وهو (يعلم)- منزل الفعل اللازم، فكأنّ المعنى: هل يستوى العالم والجاهل؟ والاستفهام إنكاريّ، على معنى أنهما لا يستويان.
ومثل ذلك قوله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فالمفهوم من هذه الآية: أن (أولى العلم) الذين عطفهم الله تعالى على الملائكة فى الشهادة لله بالوحدانيةـ، هم الذين استنارت بصائرهم بالعلم والمعرفة، سواء كان علمهم دينيًّا أم طبيعيا، وكم رأينا فى علماء الكون من شهد لله تعالى بالوحدانية والتفرّد بالقدرة والجلال والكمال، كما فى كتاب (أ. كريسى موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، الذى يتُرجم إلى العربية بعنوان (العلم يدعو إلى الإيمان) ومثله كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم) بأقلام ثلاثين عالما متخصصا فى العلوم الكونية و الإنسانية.
ولكن الذى عجبتُ له أن بعض علماء الدين فى عصرنا جنحوا إلى هذا الرأى الغريب، وذهبوا إلى أن كل النصوص التى وردت فى آيات القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الكريم، فى فضل العلم والعلماء، إنما يُقصد بها العلم الدينى وحده، وعلماء الدين دون غيرهم.
وقد يكون هذا صحيحا فى قليل من النصوص الواردة فى الأصلين العظيمين فى الإسلام: (القرآن والسنة)، ولكن أغلب نصوصهما وردت عامة ومطلقة، تشمل كل علم دينى أو دنيوى، وبعضها لا يمكن أن يفهم منه إلا أنه العلم الدنيوى: العلم بالكون والحياة والإنسان، وما يجرى عليها من سنن.
وهذا ما نحاول أن نلقى عليه بعض الأشعة الكاشفة لما قد يلتبس على بعض الباحثين فى هذا الميدان.
...
تكوين العقلية العلمية فى القرآن
1- رفض الظن فى موضع اليقين.
2- عدم اتباع الأهواء والعواطف فى مجال العلم.
3- رفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف.
4- رفض التبعية للسادة والكبراء.
5- التعبد بالنظر العقلى.
6- لاتقبل دعوى بغير برهان.
...
إن المسلمين فى العصور الأولى رعوا هذه السنن، واحترموا شبكة الأسباب والمسببات، فأقاموا حضارة مُثْلى، نشأت فى رحابها علوم كونية ورياضية واجتماعية، بجوار العلوم الدينية، امتدت جذوعها، وبسقت فروعها، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
المزيد..
العلم المذكور فى القرآن والسنة يشمل علم الدين وعلم الدنيا