من المفيد أن نعود بهذه المسألة إلى مسألة أخرى وهي , القراءات الشاذة , فهي كانت هي الأخرى قرآنا – يوما ما – بلا شك , إذا صح سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن من غير تواتر ولا شهرة , وهي فقدت قرآنيتها , سندا بعدم التواتر , ورسما بمخالفة المصحف الإمام " مصحف عثمان".ولذلك نقول أنها مما نسخ من القرآن بحكم " العرضة الأخيرة " التي بني عليها الجمعين الكريمين " الجمع البكري" و "الجمع العثماني " , الذي نسخ صحفه.
- فماهي الحكمة العملية من ذهاب قرآنية " القراءات الشاذة " , مع بقاء ما تدل عليه من أحكام شرعية , ومرادات تفسيرية ؟؟؟
-إذا نحن أجبنا عن هذا السؤال, فسوف يقودنا ذلك إلى إجابة سليمة عن التساؤل المطروح حول آية [ الشيخ والشيخة إذا زنيا ], إذ المسألتان في نفس السياق !!
هل القراءات الشاذة هي مثل الآيات المنسوخة تلاوة , هي في مقام الشاهد , على الحكم الذي يقوم دليله من صريح القرآن أو من صحيح السنة أو منهما معا ؟؟
يبدو أن الأمر يكاد يكون كذلك , فحكم الرجم مثلا ,يقوم دليله اليوم من السنة القولية , والفعلية , ومن إجماع الصحابة الذي هو إجماع الأمة , وله شاهد مما نسخ من القرآن وهو [ والشيخ والشيخة إذا زنيا ...]., وإن كان ذلك الأثر لايقوم دليلا عاما على عموم
حكم الرجم , إذ هو لامفهوم له, كما قال الشيخ الألباني , بإعتبار مفهومه يتعارض مع نصوص أخرى من الكتاب والسنة , وكأن دلالته على الرجم , هي دلالة خاصة .
ومن هنا يتبين أن رفع تلاوة مثل هذه الآية وبقاء دلالتها على حكمها , هو في نفس حكمة الحكم بشذوذ " القراءات الشاذة ", وهو من باب التخفيف عن الأمة , وتحديد القرآن فيما علم الله أن الأمة قادرة على حفظه وإستظهاره , وقد أشار الإمام الزرقاني في " مناهل العرفان " 2/218-219 فقال : " أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا بل فيه فائدة أي فائدة وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص لأن الكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف وشد ما يقابل بالإنكار وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال تيسيرا لحفظه وضمانا لصونه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .إنتهى كلامه رحمه الله.
- وهناك فائدة عملية إعتقادية , وهي أن العلم بالحكمة في أفعال الله عز وجل ليست شرطا في كل أفعاله , باعتبار أفعاله هي الوجه الظاهر من أقداره عز وجل !! فهناك " قضايا" دينية " كثيرة , حكمية , واعتقادية , لايسأل فيها أحد – مهما كان دينه – عن الحكمة , لأن الحكمة متحققة في أفعاله عز وجل بإعتباره حكيم خبير , ولكن ربما كان ادراك كنه الحكمة فوق عقول البشر , ومدركاتهم.
قال الإمام الزرقاني في مناهله 2/219 :" ثانيهما أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم ثم إن الشان في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها وإن كنا لا نعلمها على التعيين وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه والمحبوبين لديه {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} , {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} .
ولا بدع في هذا فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم على حين أنه في الواقع مفيد وهم يأتمرون بأمره وإن كانوا لا يدركون فائدته والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته.
كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .إنتهي كلامه نفع الله به.
والله أعلم بمراده مما أنزل وشرع لعباده . وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.