الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
لا شك أن للغة حضورها الكبير في التفسير، وهي من الدعائم الرئيسة في ذلك، فلا يمكن فهم النص القرآني فهما سليما وتذوقه تذوقا صحيحا إلا من خلال الإلمام بحلته اللغوية التي نزل بها كون القرآن نص لغوي بالمقام الأول - دون إغفال المصادر الرئيسة التي لابد للمفسر من تفعيلها في بيان كلام الله- و رغم ذلك فلا يترك أمر اللغة دون ضوابط وحدود معينة، بل يجب أن يتم الاستعانة بها وفق ضوابط تحد من استغلال سعتها ودلالاتها المتنوعة، وحتى لا يأتي الجاهل بأسرارها، وتنوع أساليبها، ويتصرف فيها بجهله أو مكره، ومن ثم فقد وضع العلماء حدودا وقواعد ضابطة، تُبقي اللغة على معهود العرب في الاستخدام وقت تنزل القرآن. وقد كان من الصعوبة بمكان التحديد الدقيق لهذه الضوابط، كون(" الإشكال الحقيقي في عملية التفسير:هو في تحديد الضوابط التي تحكم توظيف جوانب المعنى المختلفة..(إعمالا وإهمالا) ونظمها في قواعد متسقة" تكون ميزانا نميز به بين التفسير الصحيح لكتاب الله، والتفسير الباطل.." )كما قال شيخنا الدكتور فريد الأنصاري، ولكنها محاولة لجمع ما لقيته مشتتا، وما اصطلح عليه بضوابط التفسير اللغوي والذي استفدت في جمعها من عدة مصادر ومراجع منها : الرسالة للشافعي، و جامع البيان للطبري، و الإتقان للسيوطي، والبرهان للزركشي، والموافقات للشاطبي، و كيف نتعامل مع القرآن للغزالي، والاختلاف في التفسير حقيقته وأسبابه لوسيم فتح الله، والتفسير اللغوي للدكتورالطيار، والشاهد الشعري للدكتور الشهري، ومدخل إلى علوم القرآن لفاروق حماده، و تفسير النصوص لمحمد أديب صالح، ودراسة الطبري للمعنى للمالكي، وبعض محاضرات السنة الثانية في وحدة الدرس القرآني بمكناس ، للأستاذين/ محمد السيسي، وعبد الرحمن حسي، ". ، موجزا إياها في النقاط الآتية:
· أن تُفَسَرَ الآيات بالمعاني التي كانت معروفة عند العرب وقت نزول القرآن، حقائق كانت أو مجازات .
· كل تفسير ليس له أصل في لغة العرب فهو مردود .
· كل تفسير لغوي وارد عن السلف يُحكم بعربيته، وهو مقدم على قول اللغويين.
· وجوب حَمْلِ كلام الله على الأشهر والأفصح من كلام العرب .
· الالتزام بفهم القرآن من خلال معهود العرب في الخطاب .
· كل كلام نُطِقَ به، مَفهومٌ به ما أُرِيدَ، ففيه الكفاية عن غيره .
· وجوب مراعاة أصل الوضع في التركيب، ولا يخرج من ذلك إلا بحجة واضحة.
· وجوب مراعاة السياق .
· أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أنَّ العرب إنَّما كانت عنايتها بالمعاني وإنَّما أصلحت الألفاظ من أجلها .
· لا يُعبأ بالمعنى الإفرادي إذا كان المعنى التركيبى مفهوما.
· عدم القول بالزيادة في القرآن، فغير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له.
· عدم اعتقاد معنى ما وحمل ألفاظ القرآن الكريم عليه .
· إذا وَرَدَ أكثر من معنى لغوي صحيح تحتمله الآية بلا تضاد، جاز تفسير الآية به.
· جواز حذف ما دل عليه ظاهر الكلام .
· ليس كل ما ورد في اللغة يلزم وجوده في القرآن.
· إذا كان الكلام يحتمل الحقيقة والمجاز، قُدِمَتْ الحقيقة.
· لا يجوز العدول عن الظاهر إلا بقرينة .
· الوقوف على الأغراض البلاغية، وملاحظة التنوع في النظم والتأمل في سرّ تراكيب الجملة القرآنية .
· الكشف عن مفاهيم الصيغ الصرفية وقواعد الاشتقاق وعلاقتها بالمعنى .
· إدراك ارتباط الفاصلة بما قبلها في الآية القرآنية والجزم بكونها مقصودة من حيث لفظها وجرسها.
· ضرورة التنبه إلى خلود معاني اللفظ القرآني وتجدد فهم معانيها بتجدد الزمن.
وحبذا لو يتكرم الأساتذة والإخوة الأعضاء في ملتقانا المبارك بالتعليق أو الشرح إن أمكن لهذه الضوابط حتى تعم الفائدة، وجزا الله الجميع خيرا.
جزالك الله خيرًا يا أخي محمد .
وأذكر أمرين :
الأول : لو أنك نقلت مثالاً لكل قاعدة من المراجع التي رجعت لها لاتضحت بعض القواعد التي فيها غموض ، ويا حبذا لو أعدت فعل ذلك ، ورقَّمت القواعد ، ثم من كان عنده إضافة أضاف ، فيحصل بذلك جمع لكثير من القواعد المرتبطة باللغة .
الثاني : إن علم اللغة يُعنى بمتن اللغة ( دلالة المفردة على المعنى ) ، لذا أرى أن يُقتصر هنا عليه ، ولا يُُذكر من القواعد ما هو خارج عنه ، كالقاعدة التي ذكرتها تحت عنوان ( الوقوف على الأغراض البلاغية، وملاحظة التنوع في النظم والتأمل في سرّ تراكيب الجملة القرآنية ) فهي من علم البلاغة ، والعلم البلاغة ـ في الغالب ـ يأتي بعد المعنى ، وله قواعد مستقلة ، لو أُفردت كذلك لكان خيرًا كثيرًا .
ملاحظة : لم أرك ذكرت كتاب قواعد الترجيح عند المفسرين للدكتور حسين الحربي ، ولا قواعد التفسير للدكتور خالد السبت ففيهما كثير من القواعد المتعلقة باللغة .
حفظك الله أستاذي الفاضل دكتور مساعد، وما أحرصك على البيان وتعميم الفوائد العلمية، وأشكر لك التصويب فيما يتعلق بالجانب البلاغي وهو كما قلت -شيخي الفاضل- إلا أن هذا جهد المقل وسأحرص على العمل بملاحظاتك متى ما سنحت لي الفرصة لذلك، ولعله بعد إتمامي ما يشغلني من تسجيل الدكتوراة والبحث عن المخطوط المناسب في ذلك، كون بعث تراثنا المجيد وخاصة فيما يتعلق بالتفسير وعلوم القرآن عموما من أهم ما ينبغي التوجه إليه، فيكفينا خسرانا ما ضاع ولندرك مابقي قبل ضياعه واندثارة بعوامل طبيعية أم بشرية، وهي أمنية وددت لو يحرص جميع طلبة العلم على تحقيقها.
أما ما ذكرت من مرجعين هامين للأستاذين القديرين فقد قرأت عنهما وخاصة قواعد التفسير للدكتور خالد السبت، ولكن للأسف لم يقع في يدي أي منهما، ناهيك عن ضيق الوقت، وسأحرص على الاستفادة منهما بعونه تعالى.
وودت لو يسهم أساتذتنا وإخوتنا كل باختيار ضابط معين والحديث عنه بما يزيد من الفائدة وتعميمها، وهي دعوة أجدد توجيها، وأسال الله أن يوفقنا جميعا لخدمة كتابه العظيم، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وما حكم من قال بقاعدة ثم خالفها مثل [mark=999999]كل تفسير ليس له أصل في لغة العرب فهو مردود .[/mark]
وكثيرا من الكلمات قيل أنها غير عربية
وكذلك · [mark=999999]الالتزام بفهم القرآن من خلال معهود العرب في الخطاب .[/mark]
هل الخطاب القرآني لايخرج عن خطاب العرب !!!فمثلا هل قال العرب لاأقسم للدلالة علي القسم
أتصور أن القواعد تحتاج لجهد أكبر للفصل في: إلي أي مدي يؤخذبها أو ترفض ،فقد أعترض ابتداءا علي مسألة المجاز والترادف ولذلك نريد مجمعا علمياً لبحث هذه القواعد وتأصيلها والله الموفق
بارك الله فيك أخي مصطفى، وما ذكرته بشأن {كل تفسير ليس له أصل في لغة العرب فهو مردود وكثيرا من الكلمات قيل أنها غير عربية } فهذا موضوع طويل وقد أكثر العلماء في الحديث عنه، وخلاصته أنه لا يوجد غير عربي في القرآن، ولعلي أتناول الموضوع في زاوية مستقلة مركزا على ما يترتب عليه.
أما ما يتعلق بالشق الثاني وتصورك (أن القواعد تحتاج لجهد أكبر للفصل في: إلي أي مدي يؤخذبها أو ترفض ) فأوافقك في أن الأمر يحتاج إلى جهود أكبر لكن فيما يعين على تقعيد قواعد جامعة متفق عليها بين الجميع وبما يعزز من تجنب الخلاف بين الفرق الإسلامية ويعمل على التقارب في فهم النص القرآني ويسد تلك الهوة الشاسعة في الفهم وشتات التأويل الذي يجانب الصواب في حالات ليست بالقليلة ولعل في علم أصول الفقه وعلم أصول التفسير ما يحقق ذلك ، وأي قاعدة - أخي الكريم - لا تعني بالضرورة انطباقها كلية على كل فروعها، إذا تند في بعض الأحيان حالات قليلة ولا يعني ذلك فساد القاعدة، فلكل قاعدة شواذ كما قيل، والغالب هو الأهم في القاعدة، والله أعلم.
نعم أستاذي الفاضل فهد :وهي رسالة غاية في الإتقان غنية بالفوائد ولا غنى لطالب الدراسات القرآنية من الاستفادة منها في مجالها، وقد استفدت منها كثيرا في بحثي المتواضع، وأنصح كل مهتم بالعلوم الشرعية بالاطلاع عليها. وأسأل الله أن يجزي عني الشيخ عبدالرحمن الشهري خيرا فقد أكرمني بها فور سؤالي عنها، فله كل شكري وتقديري واحترامي وجزاه الله خيرا على كل ما يبذله في نشر العلم وما يضحي به في سبيل ذلك، ووفقنا الله وأياه لكل ما يحب ويرضى، إنه سميع مجيب.
إخوتي الأفاضل سأحاول في هذه السانحة الحديث عن أحد الضوابط المذكورة في بداية المشاركة، ودون إلتزام بالترتيب، وليت كل من بدا له إشباع أحد هذه الضوابط وبيانها بما يثري هذا الموضوع ، أن يتحدث في أيها شاء ، بما يوسع الفائدة ، ويعم الخير .
[align=center]وليكن حديثي هذه المرة عن ضابط ( وجوب مراعاة السياق): [/align]
فمما لاشك فيه أن تفسير الجملة القرآنية بعيدة عن سياقها التي وردت فيه يعد خطأ فادحا يرتكبه المفسر ، وذلك للما للسياق من أهمية في مجال اللغة، وبالتالي قيمته الكبيرة في بيان النص القرآني ،ولعل ما دعاني لتناول هذا الضابط على وجه خاص قراءتي – مصادفة – لما ذكره ابن القيم في (جلاء الأفهام:1/172-173) في قوله: " لما سمع بعض العرب قارئا يقرأ ]والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله [.. (والله غفور رحيم )، قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارئ: أتكذب بكلام الله تعالى، فقال: لا ولكن ليس هذا بكلام الله ؛ فعاد إلى حفظه وقرأ ] والله عزيز حكيم [ فقال الأعرابي : صدقت عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع .لهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم عذاب أو بالعكس ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه " .
إذن للسياق أثر كبير على مقصود دلالة المتكلم، وكما قيل "أحيانا يكون الجهل المطلق خيراً من الفهم الناقص".
والمقصود بـ"السياق": الجو العام الذي يحيط بالكلمة وما يكتنفها من قرائن وعلامات.
وقد أدرك العلماء قوة الترابط بين اللفظ والمعنى ومراعاة السياق ، فقال العز بن عبد السلام (انظر الإشارة إلى الإيجازص220 ):"إذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولى " . وقال الزركشي في برهانه :2/200:" ... من الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهو من أعظم القرائن الدالة علي مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته " .
وعليه فقد يستخدم القرآن صيغة الأمر ويقصد بها مدلولها الظاهر عندما يقول: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} وقد يقصد بها الإباحة عندما يقول:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} عقيب الحظر في قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ{، وقد يقصد التهديد عندما يقول:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}، وقد يقصد التعجيز والتحدي عندما يقول:{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}أو عندما يقول على لسان هود -عليه السلام-{فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}، وهكذا .
لقد استخدمت هذه الآيات جميعا في صيغة الأمر: "أقم"، "فاصطادوا"، "فاعبدوا"، "فأتوا"، "فكيدوني" فما الذي جعلها تعطي مدلولات مختلفة بل ومتناقضة أيضا؟ إنه السياق القرآني والقرائن الخارجية.
ومن ثم فقد اعتنى المفسرون بالسياق عناية ظاهرة، ورعوه حق رعايته، وأنزلوه منزلته العالية في التفسير من لدن الإمام ابن جرير الطبري الذي أجاد وأفاد في مجال التأصيل والتطبيق، وانتهاء بالتفاسير الحديثة التي نورد منها نموذجا يوضح ذلك :-
يقول الشيخ سعيد حوى في تفسير قوله تعالى{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَة} :"وأما النهي عن إهلاك النفس ، فإذا نظرنا إلي النص مجردا كان له معنى ، وإذا نظرنا إليه من خلال الآية التي هو فيها أعطانا معنى آخر، وإذا نظرنا إليه أنه جزء من السياق أعطانا معنى جديدا، وكل هذه المعاني مرادة وكلها قد ذكرها أئمة التفسير عند شرح الآية ؛ فإذا نظرنا إلي النص مجردا فهمنا منه أنه نهي عن قتل أنفسنا ، أي لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال أهلك فلان نفسه بيده إذا تسبب في هلاكها ، وهل يدخل في ذلك ما لو أمر إنسان بمعروف أو نهي عن منكر فقتل ؟ الجواب لا ؛ بل هو مأجور ، ويدخل في ذلك ما إذا هاجم الكفارَ وألقى بنفسه عليهم فقتل ؟ قالت الحنفية إذا كان بفعله هذا ينكي فيهم ويلقي الرعب في قلوبهم . "
وإذا نظرنا إلي هذا الأمر ووروده بعد الأمر بالإنفاق فهمنا منه أنه نهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله ، لأنه سبب للإهلاك ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن حذيفة في الآية قال نزلت في الإنفاق " (انظر الجامع الصحيح:كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة، أو فتح الباري: 8/33). .
وأورد الشيخ سعيد أقوالا أخرى عن ابن عباس وعن الضحاك وعن سعيد بن جبير وعن الحسن البصري تؤيد ذلك ، ثم أتبعها بقوله :" وإذا نظرنا إلي هذا النهي من خلال وروده بعد آيات القتال فهمنا منه أنه نهي عن ترك الجهاد .
وأورد الشيخ سعيد قصة أبي أيوب الأنصاري ، وعقب ذلك بقوله :" وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص ، سببها ملاحظة النص مجردا ، أو السياق القريب ،أو السياق العام وهذا من أبرز الأمثلة الدالة علي أن القرآن لا تتناهى معانيه " .
إخوتي الأفاضل سأحاول في هذه السانحة الحديث عن أحد الضوابط المذكورة في بداية المشاركة، ودون إلتزام بالترتيب، وليت كل من بدا له إشباع أحد هذه الضوابط وبيانها بما يثري هذا الموضوع ، أن يتحدث في أيها شاء ، بما يوسع الفائدة ، ويعم الخير . وليكن حديثي هذه المرة عن ضابط (جوب مراعاة السياق):
فمما لاشك فيه أن تفسير الجملة القرآنية بعيدة عن سياقها التي وردت فيه يعد خطأ فادحا يرتكبه المفسر ، وذلك لما للسياق من أهمية في مجال اللغة، وبالتالي قيمته الكبيرة في بيان النص القرآني ،ولعل ما دعاني لتناول هذا الضابط على وجه خاص قراءتي – مصادفة – لما ذكره ابن القيم في (جلاء الأفهام:1/172-173) في قوله: " لما سمع بعض العرب قارئا يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله}[.. (والله غفور رحيم )، قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارئ: أتكذب بكلام الله تعالى، فقال: لا ولكن ليس هذا بكلام الله ؛ فعاد إلى حفظه وقرأ { والله عزيز حكيم } فقال الأعرابي : (صدقت: عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم، لما قطع) .لهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم عذاب أو بالعكس ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه " .
إذن للسياق أثر كبير على مقصود دلالة المتكلم، وكما قيل "أحيانا يكون الجهل المطلق خيراً من الفهم الناقص". والمقصود بـ"السياق":]الجو العام الذي يحيط بالكلمة وما يكتنفها من قرائن وعلامات.
وقد أدرك العلماء قوة الترابط بين اللفظ والمعنى ومراعاة السياق ، فقال العز بن عبد السلام (انظر الإشارة إلى الإيجازص220 ):"إذا احتمل الكلام معنيين وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولى " . وقال الزركشي في برهانه :2/200:" ... من الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته " .
وعليه فقد يستخدم القرآن صيغة الأمر ويقصد بها مدلولها الظاهر عندما يقول: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} وقد يقصد بها الإباحة عندما يقول:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ} عقيب الحظر في قوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ{، وقد يقصد التهديد عندما يقول:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}، وقد يقصد التعجيز والتحدي عندما يقول:{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}أو عندما يقول على لسان هود -عليه السلام-{فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}، وهكذا .
لقد استخدمت هذه الآيات جميعا في صيغة الأمر: "أقم"، "فاصطادوا"، "فاعبدوا"، "فأتوا"، "فكيدوني" فما الذي جعلها تعطي مدلولات مختلفة بل ومتناقضة أيضا؟ إنه السياق القرآني والقرائن الخارجية.
ومن ثم فقد اعتنى المفسرون بالسياق عناية ظاهرة، ورعوه حق رعايته، وأنزلوه منزلته العالية في التفسير من لدن الإمام ابن جرير الطبري الذي أجاد وأفاد في مجال التأصيل والتطبيق، وانتهاء بالتفاسير الحديثة التي نورد منها نموذجا يوضح ذلك :-
يقول الشيخ سعيد حوى في تفسير قوله تعالى{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَي التَّهْلُكَة} :"وأما النهي عن إهلاك النفس ، فإذا نظرنا إلي النص مجردا كان له معنى ، وإذا نظرنا إليه من خلال الآية التي هو فيها أعطانا معنى آخر، وإذا نظرنا إليه أنه جزء من السياق أعطانا معنى جديدا، وكل هذه المعاني مرادة وكلها قد ذكرها أئمة التفسير عند شرح الآية ؛ فإذا نظرنا إلي النص مجردا فهمنا منه أنه نهي عن قتل أنفسنا ، أي لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال أهلك فلان نفسه بيده إذا تسبب في هلاكها ، وهل يدخل في ذلك ما لو أمر إنسان بمعروف أو نهي عن منكر فقتل ؟ الجواب لا ؛ بل هو مأجور ، ويدخل في ذلك ما إذا هاجم الكفارَ وألقى بنفسه عليهم فقتل ؟ قالت الحنفية إذا كان بفعله هذا ينكي فيهم ويلقي الرعب في قلوبهم . "
وإذا نظرنا إلي هذا الأمر ووروده بعد الأمر بالإنفاق فهمنا منه أنه نهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله ، لأنه سبب للإهلاك ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن حذيفة في الآية قال نزلت في الإنفاق " (انظر الجامع الصحيح:كتاب التفسير، باب تفسير سورة البقرة، أو فتح الباري: 8/33). .
وأورد الشيخ سعيد أقوالا أخرى عن ابن عباس وعن الضحاك وعن سعيد بن جبير وعن الحسن البصري تؤيد ذلك ، ثم أتبعها بقوله :" وإذا نظرنا إلي هذا النهي من خلال وروده بعد آيات القتال فهمنا منه أنه نهي عن ترك الجهاد .
وأورد الشيخ سعيد قصة أبي أيوب الأنصاري ، وعقب ذلك بقوله :" وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص ، سببها ملاحظة النص مجردا ، أو السياق القريب ،أو السياق العام وهذا من أبرز الأمثلة الدالة علي أن القرآن لا تتناهى معانيه " .
وعليه فإن للسياق أهميته الكبرى في تحديد المعنى السليم، ويعين على الفهم الدقيق من قبل المفسر لهذه الآية أو تلك، وقد أكثر العلماء في بيان ذلك بما يجنبنا الوقوع في مثل قول أبي العلاء: ما أرانا نقول إلا معارا *** أو معادا من قولنا مكررُ
شاكرا من جميع الفضلاء الإسهام الفاعل في تناول باقي الضوابط ، ووفق الله الجميع لكل خير.
بارك الله فيك
ولكن - رغم صحة ما نقلت للوهلة الأولي =إلا أنه هناك قول واحد صحيح دقيق ،يحدده السياق كما ذكرت ،فهل نعتمد الآراء الثلاثة أم نبحث عن الدقة .
ولكن - رغم صحة ما نقلت للوهلة الأولي =إلا أنه هناك قول واحد صحيح دقيق ،يحدده السياق كما ذكرت ،فهل نعتمد الآراء الثلاثة أم نبحث عن الدقة .
أشكر لك تفاعلك أخي مصطفى وبارك الله فيك.
وإذا تأملت عبارة المفسر في قوله:" وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص ، سببها ملاحظة النص مجردا ، أو السياق القريب ،أو السياق العام وهذا من أبرز الأمثلة الدالة علي أن القرآن لا تتناهى معانيه " .
لتبين لك أن القول المعتمد متوقف على الفهم المحدد للسياق. ولا شك أن المطلوب هو الدقة، ولكن ما مصدر هذه الدقة، وما مدى فهم المفسر هذا أو ذاك للغة النص الكريم؟
شكر الله لكم حسن هذا الصنيع
وهناك كتاب للدكتور خلـيل الكبيـسي(علـم التفسير أصولـه وقواعده) ذكر فيه كلاماً طيبا عن اعتماد اللغة كأصل من أصول التفسير، وضوابط ذلك.
باركم الله فيكم وسدد خطاكم لكل خير،،،
لما قرأت كلامكم على الضوابط اللغوية، أحببت أن أشارككم بذكر أسلوب من أساليب العرب في الخطاب عند الإمام الطبري مع توضيحه وتقريره وذكر مثال عليه من تفسيره. الأسلوب اللغوي: (توحيدُ الفعلِ وتذكيرُه مع (مَنْ) لِلَفْظِهِ، وجمعُه وتأنيثُه أُخرى لمعناه): انظر جامع البيان: (2/39)، (19/93) ط، التركي. توضيــح الأسلوب: من أساليب العرب في كلامهم أنهم يَذكرون فِعْلَ (مَنْ) أحياناً بالإفراد والتذكير مراعاة لِلَفْظِه؛ لأنه مفردٌ مذكرٌ، وأحياناً بالجمع والتأنيث مراعاة لمعناه إذا كان بمعنى الجمع والتأنيث، ومِن ذلك حديث النبي r في صفة الجنة: (...مَنْ يَدخلُها يَنعمُ ولا يَبأس، ويخلُد ولا يموت، لا تَبلى ثيابُهم ولا يفنى شبابُهم).روه الترمذي وصححه الألباني. فالإفراد في قوله: (يَنعمُ ولا يَبأس، ويخلُد ولا يموت) مراعاة لِلَفظ (مَن)، والجمع في قوله: ( لا تَبلى ثيابُهم، ولا يفنى شبابُهم) مراعاة لمعناه؛ لأنه في معنى جمع. وكذلك حديث: (مَن كانت له أرضٌ فليزرعْها أو لِيمْنحْها أخاه فإن أبى فليُمسك أرضَه). رواه البخاري ومسلم. أُلحق تاء التأنيث التي في (كانت) مراعاة للمعنى، لـمَّا عُني مؤنثاً وهي (الأرض)، وهذا واردٌ ومشهور على ألسنة العرب. تقرير هذا الأسلوب: لقد قرر علماء اللغة والتفسير هذا الأسلوب وأشاروا إليه في كتبهم فمنهم: 1-سيبويه(ت 180ه): انظر الكتاب لسيبويه: (2/415، 416). 2-أبو عبيدة(ت210ه):انظر مجاز القرآن: (2/41). 3-الأخفش(ت215ه): انظر معاني القرآن للأخفش: (1/36). مثال تطبيقي لهذا الأسلوب:
قال الله تعالى: (بَلَى مَن أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112]
قال الطبري -بعد ذكره لمعنى الآية وأن مَن أسلم واستسلم لله وأطاعه، وأذعن لأمره، وهو في حال إحسانه، فله الأجر والثواب عند الله في معاده- :(وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وَقَدْ قَالَ قَبْلُ: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} لِأَنَّ مَنْ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَعْنَى جَمعٍ، فَالتَّوْحِيدُ فِي قَوْلِهِ: {فَلَهُ أَجْرُهُ} لِلَّفْظِ، وَالْجَمْيعُ فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} لِلْمَعْنَى).جامع البيان: (2/434).
بمناسبة الحديث عن السياق والضوابط اللغوية أشير إلى هذه الدراسة
نظرية السياق القرآني دراسة تأصيلية دلالية نقدية إسم المؤلف : الدكتور مثنى عبد الفتاح محمود
وهو من أعضاء الملتقى