الحمد لله رب العالمين حمدَ الشاكرين، نحمدُه على عظيمِ نعمائِه، وجميلِ بلائهِ، ونرغبُ إليه في التوفيقِ والعصمةِ، ونبرأُ إليه من الحَولِ والقوة، ونسأله يقيناً يملأُ الصدرَ ويعمرُ القلبَ ويستولي على النَّفس، والصلاة على خيرِ خلقهِ والمصطفى من بريَّته محمدٍ سيد المرسلينَ وعلى أصحابهِ وآلهِ الأخيارِ وسلم، وبعد : فالتفسير والبيان رسالة خير الخلق، قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، وهو خير ما يُتعلَّم ويُعلم، وقد أنزل الله كتابه بيناً واضحاً لأهل اللسان العربي، فقال: (بلسان عربي مبين) والتفسير مردُّه إلى لغة العرب، فيها بيانُه، وجلاؤه. واللسان العربي يتفاوت مِن جيل إلى جيل، وما كُل من تكلم العربية استطاع معرفةَ مقاصد الكتاب، ما لم يقرِن ذلك بفهم الصدر الأول وخير القرون. روى الخطيب البغدادي في "جامع بيان العلم" عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمرُ بن الخطاب ذات يوم، فجعل يحدِّث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس، قال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد، ونبيها واحد وقبلتها واحدة؟ قال ابن عباس: يا أميرَ المؤمنين، إنما أُنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلِمنا فيم نزل، وإنه يكون بعدَنا أقوامٌ يقرؤن القرآن ولا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قومٍ فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا. فزَبَرَه عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ثم دعاه بعدُ، فعرف الذي قال، ثم قال: إيهٍ، أعِدْ عليّ.
أنواع التفسير روى ابن جرير في "تفسيره" عن ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب مِن كلامها، وتفسير لا يعذر أحدٌ بجهالتِه، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. فجعل ابن عباس أنواع التفسير أربعة: الأول وهو الأصل: ما يعرفه أصحاب اللسان العربي الصحيح؛ لأن القرآن بلسانهم نزل، فيُلتمس تفسير القرآن في الشعر العربي الجاهلي، وما بعدَه بقليل قبل دخول العُجْمَة، ويأتي مزيد كلام على هذا النوع. الثاني: ما لا يُعذر أحد بجهله مِن أهل العربية، لظهوره ووضوحه عند أهل السَّليقة، وهذا أصلُ النوع الأول، وذاك فرعٌ منه . الثالث: ما يعلمه العلماء العارفون بالوحي، وكلّما كان العالم بصيراً بالسُّنة ووجوه اللغة، وأسباب النزول، وعمل الصحابة، كان للتفسير أبصرَ، وما لا يعرفه بعد ذلك فهو المتشابه. ويتفاوت العلماء في ذلك؛ فقد يكون الموضع متشابهاً عند عالِمٍ، محكماً بيناً واضحاً عند غيره، ومَن عرف السنة والعربية وعمل السلف وقرائن الحال عند نزول الآي قل المتشابه عنده، وظهر المحكم. الرابع: ما لا يعلمه إلا الله، ونصَّ بعض العلماء أن ثمَّة شيئاً مِن التفسير ما يحرُم الخوض فيه، وهو ما لا يعلمه إلا الله. ومِن أحسن ما يمثَّل لذلك هو الحروفُ المقطَّعة في أوائل السور، ولم يثبُت فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم شيء يعتمد عليه، وقد جاء في ذلك جملةٌ مِن المرويّات عن الصحابة، وجُلُّها ضعيف أو منكر. التفسير وأسانيده من المهمات التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، ويتبصر فيها، ويعرف الصحيح منها والضعيف، ويجهل كثير من طلبة العلم هذا العلم، ولا يعتنون به.
التفسير المرفوع قليل ومسالك العلماء في قبول الأسانيد - في هذا الباب - أو رَدِّهَا، تختلف عن غيرها، وإن كان بالجملة التفسير هو مما يقِلُّ فيه المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك يقول السيوطي رحمه الله في أوائل كتابه " الإتقان ": " والمرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفسير هو فِي غاية القلة " . وساقها في أواخر كتابه " الإتقان " مما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحيح والضعيف . وإذا كان عبد الله بن عباس، وهو من اشتهر بمعرفة التأويل والتفسير والإكثار فيه، يقول فيه الإمام الشافعي كما ذكر البيهقي في " مناقب الشافعي " في (بابٌ ما يدل على معرفته بصحيح الحديث): ليس شيء يصح عن عبد الله بن عباس في التفسير إلا شبيه مائة حديث " . فإذا كان هذا الحال فيما يروى عن عبد الله بن عباس في الموقوف فالمرويُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن تفسير كلام الله ما هو صحيحٌ بأسانيدَ كالشمس، ومنها جاء جملة منها في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما. ومن ذلك: تفسير الظلم بالشرك، وكذلك تفسير الحساب بسؤال الله ومناقشته للعبد يوم القيامة، كما جاء في حديث عائشة في الصحيح وغيره، وغير ذلك مِن التأويل. وما جاء شيء من التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حُجَّة قاطعة، وهو مِن الوحي، وهو أولى ما يُؤْخَذ ويُعمل به، وهو مقدَّم على قول كل أحدٍ؛ لأن الله ما جعل الحُجة في قول أحدٍ إلا في قول نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى )[النجم 3 : 4].
معنى قول أحمد: ثلاثة لا أصل لها .. ومِن أقل المروياتُ في الأبواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرويات في باب التفسير، وأكثرها معلولٌ، يقول الإمام أحمد رحمه الله: " ثلاثةٌ ليس لهَا إِسْنِاد: التفسير والملاحم والمغازي " . وقد جاء في رواية عنه: " ثلاثةٌ لا أصل لها ..". ومرادُه بذلك: أن الضعيف أكثرُ مِن الصحيح، والصحيحُ عنه مقارنة بما جاء في هذا الباب من المرفوع والموقوف لا يكاد يُذكر، وإنما هو عشرات المواضع فقط. وهكذا فسره المحققون من أصحاب أحمد، كما حكاه الزركشي في "البرهان" بقوله: «قال المحققون من أصحابه : مُراده: أن الغالبَ أنه ليس لها أسانيدُ صِحاحٌ متصلةٌ، وإلا فقد صحّ من ذلك كثيرٌ؛ كتفسير الظلم بالشرك في آية الأنعام، والحساب اليسير بالعرض، والقوة بالرمي، وغيره». وكثير من المرفوع هو في عِدَاد الضعيف، والمنكر، والموضوع، ولذلك قال: "ثلاثة ليس لها إسناد، أو لا أصل لها"، يعني: " ليس لها إسناد يُعتمد عليه، وإن وُجِدَ فوجودُه كعدمه"، بخلاف ما يفهمُه بعضُهم من ظاهر لفظه بأنها تُروى بغير إسناد، وهذا غير صحيح؛ فإن الإمام أحمد قد أخرج جملة مِن الأحاديث في "مسنده". وقال في موضع آخر من "سؤالاته" وغيرها: "إنها ليس لها إسناد أو ليس لها أصل"، وهو أعلمُ الناس بما يروي، والأمثلة على ذلك كثيرة .. من ذلك : ما رواه في "مسنده" مِن حديث ابن عمر مرفوعاً: ((مَنِ اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهمٌ حرامٌ لم تُقْبل له صلاةٌ ما دام عليه))، قال فيه في رواية أبي طالب: (هذا ليس بشيءٍ ليس له إسناد). ومنها: ما رواه عن أبي مِجْلَزٍ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابُه أنه قرأ ( تنزيل ) السجدة، وقد قال أحمد: (ليس له إسناد). ومنها حديث "كنّا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصَنْعَةَ الطعام مِن النياحة". رواه في "مسنده"، ونقل عنه أبو داود في "سؤالاته" قوله فيه: (لا أصل له). وغير ذلك كثير ..
تساهل السلف في التفسير ولما كان الرواة الثقات يعتنون بأمور الديانة، ومسائل الأحكام الظاهرة التي يُخَاطب بها الناس في حياتهم، وحرصوا عليها، ونقلوها، وشدَّدوا بالنقل، تساهلوا- لما كان العمر يضيق بالكل – بغيرها، فاعتَنوا بالأهم. ولَمَّا حُفظت الشريعة وبُدئ بتدوينها، ظهرت العناية بعلوم التفسير والسِّير والتاريخ والفتن والمغازي وغيرها، وهي في التابعين أظهرُ من الصحابة وفي أتباع التابعين أظهرُ من التابعين وفي أتباع أتباع التابعين أظهرُ من أتباع التابعين وهكذا، حتى توسَّعت العلوم. وفي الغالب فالمبرزون في التفسير والسير والمغازي لا يصلون لمتوسطي الثقات من رواة أحاديث الأحكام، ولهذا كثُر في أسانيد التفسير الضعيفُ والواهي والمنكَرُ والموضوع، فلم يحملْه الكبار ولم يعتنوا به؛ كشعبةَ وسفيانَ ومالكٍ وابن مهدي، وغيرهم من الأئمة الحفَّاظ الكبار الأثبات، وإن كانوا قد روَوْا جملةً مِن ذلك. والأئمة يتساهلون في التفسير، ولا يتساهلون في أمور الأحكام. يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال، تساهلنا في الأسانيد، وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام، تشدَّدنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال" . ويقول يحيى بن سعيد: " تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثِّقونهم في الحديث - ثم ذكر ليثَ بن أبي سُلَيْم وجُوَيْبِرَ بن سعيدٍ والضَّحَّاك، ومحمد بن السائب. وقال: - هؤلاء لا يُحْمَدُ أمرُهم، ويكتب التفسيرُ عنهم". رواه الخطيب عنه في "الجامع". والكتابة عنهم في التفسير تُحتمل؛ لأنهم قد اعتَنوا بذلك، فصاروا مِن أئمة التفسير، وكذلك مِن أئمة اللغة. ويُحَّدث عن هؤلاء الضعفاء، وإن كان بعضهم لا يُعْتَمدُ عليه .
سبب عدم عناية الأوائل بالتفسير وسبب عدم عناية الحفاظ الأوائل بالتفسير يرجع إلى أمور: أولاً: الانشغال بالأحكام والمسائل الأصول وفروع الأحكام التعبُّديِّة كما تقدم بيانه. ثانياً: وهو الأهم، ومبيِّن للسبب الأول: أن القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، يفهمه عامَّة الناس في الصدر الأول، وتفسير ألفاظه وبيانه مِن فضول العلم عند كثيرٍ منهم، بل إن فهم الأعرابي منهم لألفاظه ومقاصده يفوق فهم كثيرٍ مِن كبار المفسرين مِن المتأخِّرين، وما نزل القرآن إلا ليفهمه الناس بلا تكلُّفٍ وبيانٍ، وهذا مقتضى التكليف بمجرد السماع وبلوغ الحُجَجِ للأسماع، كما قال تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)، لأن الأصل أن القرآن مفهوم بمجرد سماعه عند جمهور الخلْق، ولكن لمَّا توسَّعت بلدان المسلمين، وكثُرت الفتوحات، واختلط العرب بالعجم، دخلت العُجْمة على اللسان العربي، فاحتاج للتفسير، وهذا سبب قلَّة التفسير المرفوع؛ لأنه لا حاجةَ إليه عندهم، فلو فسَّروا القرآن لفسَّروه بما يرادِفه فهماً، واستوى المفسَّر والمفسَّر به من جميع الوجوه أو أكثرها، ولأصبَحَ التفسير حَشْواً، يزهد الناس في النظر فيه، مع استحالة حصول ذلك منهم؛ فالعرب تكره الحَشْوَ والتِّكرار وتُنَزِه نفسَها عنه، والنفوس تأبى أن تفسَّر لها الواضحاتُ، ولذلك كلِّه يعرفُ قلَّة التفسير للقرآن عندهم، بل إذا كان العربي يُنَزِه نفسَه والمخاطَبَ عن سماع المترادفات في كلامهم، فذلك في كلام الله أولى؛ لأن جُلَّ كلامه واضحٌ بيِّنٌ لا يُحتاجُ معه إِلى قَلبٍ ولا تَعَسُّفٍ . مع أنهم عربٌ يُعربون الكلام سليقةً، ولا يحتاجون إلى قواعدَ وضوابطَ نحويَّةٍ، بل لا يعرفونها، لذا يقول الشاعر: ولَستُ بِنَحْويٍّ يَلُوكُ لِسَانَهُ ** ولكن سَلِيْقيٌّ أَقولُ فأُعْرِبُ قال الشافعي: كان مالكُ بن أنسٍ يقرأ بالسَّليقية. لهذا امتاز لسان البصريين عن لسان الكوفيين؛ لأنهم أخذوه من منبعِه الأصلي، وهو لسان الأعراب الأقحاح، يقول الرِّياشي أبو الفضل البصري، وهو يلمز الكوفيين: إنما أخذنا اللغة من حَرَشَةَ الضِّباب وأكَلَة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكَلَة الكواميخ والشَّواريز . ويقول أبو محمد اليزيدي البصري : كنَّا نَقِيسُ النحوَ فيما مَضى ** على لسانِ العَرَبِ الأوَّلِ فجاءَ أقوامٌ يقيسُونَهُ ** على لُغَى أشياخ قُطْرُبُلِ
الاحتراز في تأويل القرآن ثم إنه يجب الاحترازُ في تأويل القرآن ما لا يجب في غيره؛ لأن تأويل كلام المتكلم مما يُنسب إليه معنىً، وإن لم ينسب إليه لفظاً، ولهذا جوّز جماعةٌ من المحدِّثين روايةَ الحديث بالمعنى بشروطه. والعرب وغيرُهم قديماً وحديثاً يعتنون بنقل نصوص العظماء والملوك كما قالوها مِن غير زيادة أو تأويلٍ لمن يفهمُها، كما أنهم يحترزون عند الحديث معهم؛ لأن التَّبعَة في ذلك أكبرُ من غيرهم، وهذا في حقِّ الله وكلامه أعظم وأجلُّ.
ميل العرب إلى الاختصار وكذلك الأولى في كلِّ معنى أن يُبَلَّغ بأقصرِ عبارة، ولهذا كان كلام السلف فيه من الاختصار مَعَ كمال المعنى ما ليس في كلام المتأخرين مَعَ كثرة عباراتِهِم. وهذا كما أنه في الألفاظ، كذلك في المعاني؛ فالقرآن لا يذكُر فيه مخاطبة كلِّ مُبْطِل بكل طريق وكل حجة، ولا ذكر كل الشُّبهات الواردة على الأذهان وجوابَها، فإن هذا لا حدَّ له ولا نهايةَ، بل ولا يَنضبط بضابطٍ، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفِطَرِ السليمة؛ لأن هذا هو الأصلُ في الخلق، ثم إذا اتفق مُعَاندٌ ومكابرٌ أو جاهل، كان مَنْ يخاطبه مخاطباً ومحاججاً له بحسب ما تقتضيه المصلحة، وقد يكون مقامهُ كمقام المترجِم لمعاني القرآن. وما يُعرف بالمشاهدة، أو ما يُسلَّم دخوله تحت لفظ عام يشمل جملة من الأفراد؛ كالكواكب مثلاً معروفة بالمشاهدة ويدخل تحتَها ما لا يحصى من الأفراد، بيانُه حَشْوٌ، فببيان أن الشمس موجودةٌ والقمر موجود والكواكب موجودة، والإنسان يعلم هذا بالمشاهدة، هذا مما يُسْتقبَح ذكره، ويستثقلُهُ جمهورُ العقلاء، فضلاً عن البُلغاء؛ لأن هذا عندهم معلومٌ مستقرٌّ في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطابٍ وتفسيرِ عالمٍ من العلماء فضلاً عن كتاب مُنَزلٍ من السماء.
الأصل في القرآن أنه واضح عند السلف لا يحتاج إلى تفسير وكثيرٌ من تفاسير المتأخرين التي يحفَلُ بها الخاصة، لو عُرِضتْ على العرب عند نزول القرآن لزَهدوا فيه، فكثيرٌ مما فيها يعدُّونه لُكْنةًَ وعَيَّاً لا يحتاج إليه، ويروْنه من باب إيضاح الواضحات. وإذا قُدر أن بعض الناس فيهم احتاج إلى بيان وتوضيح ما عُرض عليه من القرآن، كان هذا من الأعراض النادرة التي لا تعرِض لجمهورهم، ولعُدَّ هذا مِن العَيِّ والقصور، وما تزال مثل هذه الأعراض تزداد حتى غلبت في الناس، فاستثقلوا القرآن بلا تفسيرٍ لألفاظه، كما استثقله الأوائل بالتفسير. والتفسير ليس مقصوداً لذاته .. وأساليب القرآن معلومةٌ لدى العرب الفصحاء غير خافيةٍ، وإن كان قد يخفى على بعضهم شيء منها؛ وذلك لغرابتها على مسمعه، وعدم اعتياده عليها في لغة قومه، ومن حولهم، كما خفي على ابن عباس بعض معاني مفرداته؛ كلفظ "فاطر"؛ فقد روى الطبري في "تفسيره"، وأبو عبيد عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما (فاطر السموات والأرض)؛ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: لصاحبه: أنا فطرتها ؛ يقول: أنا ابتدأتها. ومثل ذلك أيضاً: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جُبير أنه سئل عن قوله: (وحنانا من لدنا) فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يُجِب فيها شيئاً. وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما (وحناناً). وهذا نادر فيهم، وإن جَهِلَه فردٌ منهم عَلِمَه جمهورهم.
بلاغة السلف سليقةً وأساليب القرآن لما كانت على طريقتهم في كلامهم في يومهم وليلتهم، لم يَخْفَ عليهم المراد بها، فيعلمون من قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أنّ هذا الخطابَ خطابُ امتهان وتهكَّم، وإن كانت ألفاظُه مما يُستعمل في المدح، عرفوا ذلك من السياق لا من اختصاص اللفظ. ونظير هذه الآية وصف شعيب عليه الصلاة والسلام بالحلم والرشد من قومه المعاندين: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ )[ هود : 87 ] قد يتبادر إلى ذهن القارىء أن المراد بذلك: إنك حليم رشيد؛ والصواب لست بحليم ولا برشيد. قاله ابن عباس وغيره. وهذا ونظائره لم يكن منهم بجُهدٍ ولا تكلُّفٍ؛ فهي لغتُهم التي يتحدثون بها، ولأنها كذلك لم ينصُّوا في كلِّ موضع على المقصود منه في القرآن، ولو قيل لأعجمي يعرف معاني الألفاظ: فسر الآية، لفسَّرها على غير وجهها؛ لأن الأمر مُتعلِّق بالسياق لا بذاتِ اللفظ . ولما تقادم العهد، ودخلت العُجْمَة على العرب بالاختلاط بالعجم، ظهر لهذه الأساليب الفنُّ المدوَّنُ بعدُ باسم (علم البلاغة) لمعرفة طرائق العرب وتفنُّنها في أساليب خطابها، فوضعوا المصطلحات والقواعد لتقريب هذا العلم، لا لإتقانه؛ إذ لا يتقنُه إلا من تحدث بلغتهم وحَفِظ أشعارهم ومنثورهم، وهذا يعز وجوده في المتأخرين.
نشأة علم البلاغة وعُرفت البلاغة في عصر متأخري التابعين، ثم اشتهرت بعد ذلك، وحُكي الإجماع على أن البلاغة ما نشأت إلا تحت تفسير القرآن، وقد اعتنى بها كثير مِن الأئمة باستخراج البديع والإعجاز من كلام الله. وصنف معمر بن المثنى كتابه فيها، وقيل: إنه قد أخذ من نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس. ويحتمل أنه أخذه من غيره؛ وهو إمامٌ في لغة العرب، ونافع عرض ألفاظاً من غريب القرآن أشكلت عليه على عبدالله بن عباس؛ إذ جاءه بمكة يسأله عنها، واشترط على ابن عباس؛ أن يأتيه على كل مسألة وتفسير بشواهد من أشعار العرب، وذلك حينما خرج ونَجْدَة بنُ عويمر وآخرون من الخوارج إلى مكه فلقوا ابن عباس، فسأله نافع عن مسائل من القرآن . ومسائل ابن الأزرق أخرجها أبو بكر بن الأنباري في (الوقف والابتداء)، وهي منثورةٌ في عدة من كتب التفسير، رواها محمد بن زياد اليشكُري عن ميمون بن مهران، واليشكري هذا كذاب، وروى جملة منها الطبراني في "معجمه الكبير" عن جُويبر - وهو ضعيف جداً - عن الضحاك. ورويت من وجوه أخرى لا تخلو من ضعف .
نص القرآن قطعي الثبوت وتأويله في اللغة والأئمة النقاد جوزوا الرواية في التفسير عن بعض من لا تُقبل روايته في الأحكام؛ لأن مَرَدَّ التفسير إلى اللغة، ومرد الأحكام إلى النص، والنص لا يثبت إلا بصحة الإسناد، واللغة تثبت بوجوه عدَّةٍ، ونص القرآن قطعي الثبوت. يقول يحيى بن معين: " اكتبوا عن أبي مَعْشَرٍ حديث محمد بن كعب خاصَّة "، وذلك أن رواية أبي معشر عن محمد بن كعب هي في التفسير خاصة، لا يكاد يكون له حديث في غيره . والمنكر في باب التفسير بيِّن واضحٌ أظهَرُ من غيره، للاشتراك في مخالفته لوجوه اللغة مَعَ أصول الشرع، أو لا يكون له نظائرُ في القرآن.
الإجماع في التفسير ومن ثمرة ذلك ونتيجته: قلةُ حكاية الإجماع في التفسير، فهو من أقلِّ أبواب العلم، ولا يلزم من ذلك كثرة الخلاف وغَلَبَتُه، بل لأن القرآن جاء ليُحمَلَ على وجوه تتَّفق في الأصل والمقصد، تختلف في اللفظ، فاختلاف ألفاظ المفسرين للقرآن هي من اختلاف التنوُّع، لا من اختلاف التَّضَادِّ على الأغلب. وأكثر القرآن مجمع على تفسيره بمعاني منصوصة، لكن لا ينصون على الإجماع في الواضح البين متمحض الوضوح . وإذا علم أن في المسألة إجماعاً في تأويلِ آيةٍ، أو الاتفاق على أنها نزلت في كذا ونحو ذلك، فلا يُعتمَدُ على ما يخالفها. وقد أكثر بعض الأئمة مِنْ حِكَايَات الإجماع؛ كابن جرير الطبري، وكذلك ابن عطية. وهو يعتمد على ابن جرير كثيراً، والقرطبي، ويعتمد كثيراً على ابن عطية، والواحدي له إجماعات في تفسيره، وفي بعضها نظر فهو من المتساهلين في هذا الباب. والإجماع المنصوص عليه عندهم في التفسير دون المائتين، ولا يزيد عليها قطعاً، وأكثرها عند ابن جرير الطبري. ومنهج ابن جرير الطبري في حكاية الإجماع أنه لا يعتدُّ بمخالفة الواحد ولا الاثنين، مع علمه ومعرفته بخلافهم؛ لذلك قد روى في كثيرٍ من المواضع ما يخالِف ما يحكيه من الإجماع. ومن أكثر الأئمة نقلاً من المفسرين المتأخرين: الإمام القرطبي، وقد اعتمد على غيره في حكاية الإجماع - سواء في مسائل الأحكام أو غيرها - كابن جرير الطبري وابن المنذر، وابن عبد البر، وابن العربي، وابن عطية، ممن كان معروفاً بالعناية بحكاية الإجماع، وإن كان هو ممن لا يحكي الإجماعَ جُزافاً؛ فإنه يُمَحِّصُه في كثيرٍ من المواضع، ولا يسلَّم له في كثير من المواضع؛ فإنَّ أقلَّ من ربعها لا يثبت فيه إجماع، والخلاف فيها مُعْتَبَرٌ.
تفسير الضعفاء موافق لوجوه اللغة في الغالب وبالسبر لمرويات الضعفاء في التفسير؛ فإنها - في الغالب - لا تخالف وجهًا من وجوه العربية؛ فإن خالفت وجهًا فإنها تُحْمَل على الوجه الآخر، الذي لا يخالف نصاً ولا حكماً ولا أصلاً، والنبي ? كلامه مبيِّن للقرآن موضِّح له، ومع ذلك فهو يجمع المعاني الكثيرة باللفظ القليل، وهو ما يُسَمَّى بجوامعِ الكلمِ؛ قال النبي ?: ?? إِنَّمَا بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ?? رواه البخاري. وجَوامِعُ الكَلِم - كما فسرها الزهري عند البخاري في "الصحيح" - قال : " هي جمع المعاني لأمورٍ كثيرة بألفاظٍ قليلة "؛ فإذا كان هذا لكلام النبي ? المبيِّنِ الموضِّحِ للقرآن؛ فهو لكلام الله جل وعلا من باب أَوْلَى، فكلام الله له وجوهٌ عدةٌ، كما أخرج ابن سعد من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج، فقال: "اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجَّهم بالقرآن؛ فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة". وأخرج من وجه آخر أن ابن عباس قال له: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلَمُ بكتاب الله منهم؛ في بيوتنا نزل. قال: صدقت، ولكن القرآن حَمَّال ذو وجوهٍ، تقول ويقولون، ولكن خاصمهم بالسُّنن؛ فإنهم لن يجدوا عنها مَحِيصاً. فخرج إليهم فخاصمهم بالسنن، فلم تبق بأيديهم حجَّة". وقد جعل بعضُ العلماء ذلك من أنواع معجزات القرآن، حيث كانت الكلمةُ الواحدةُ تنصرف إلى عشرة أوجه وأكثر وأقلَّ، ولا يوجد ذلك في كلام البشر؛ فقد يشتبه على الإنسان اختلافُ بعض الصحابة بحَمْلِ بعض الألفاظ على تأويل آيةٍ ويخالفه الآخر ونحو ذلك، وهذا كلُّه يُحْمَل على باب التنوُّع، ولا يُحْمَل على المخالفة.
اختلاف المفسرين والخلاف في التفسير على نوعين : خلاف تنوُّع – و – خلاف تضاد والخلاف المروي عن المفسرين جُلُّه هو من خلاف التنوع، لا من خلاف التَّضادَّ، كما نصَّ عليه سفيان الثوري، وابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" والشاطبي في "الموافقات"، وابن تيمية في مواضع. والخلاف في التفسير قليل جداً في الصحابة، كثيرٌ في التابعين، وفي أتباعهم أكثرُ؛ لأنه كُلَّما قلَّ التمكُّن من لغة القرآن وفهم معنى ألفاظه المنزَّل بها، احتيج لتفسيره بالمرادف أو القريب منه، وكلَّما توسع المفسِّر في هذا، ظهر معه الخطأ . واختلاف التنوع هو أن يكون لفظ الآية محتمِلاً لجميع المعاني المفسِّرة، والاختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى . وخلاف التنوُّع ينبغي ألا يحكى خلافاً هكذا؛ بل يقال: إن هذا من اختلاف التنوُّع والوجوه التي جاء المعنى فيها بكلام الله، ولذلك يَسْهُل على الإنسان إِنْ تَبَصَّر بهِذا الأصل أن يجمع ويُوَفِّق، وألا يُضَعِّف بعض الوجوه من النوع الواحد، أو يرجح بعضها على بعض؛ لأن كلها تحمل على الحق المقصود من كلام الله. ولما كان كثير من التفسير من اختلاف التنوع، تساهل العلماءُ بالرواية عَنْ الضعفاء؛ لأن الأصل الأصيل والمقصِدَ العليَّ من النقد والتعليل خَوْفَ ورود شيءٍ من المعاني المنكرة، والتي تخالف الأصول الثابتة، ولأنَّ تفاسيرهم لا تخرج عن الوجوه المشروعة، واعتمادهم كلَّه على لغة العرب. وإعمال منهج النُقَّاد في أحاديث الأحكام بقواعده وأصوله وتشدده، على أحاديث التفسير قصورٌ، إذ إن المقصود من نقد الحديث سلامته من الدخيل فيه، والقرآن ليس كذلك، فهو محفوظ لقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) .
أسباب التسامح بالرواية عن الضعفاء في التفسير وفي أبواب التفسير ثمة قرائنُ عِدَّة تسامحوا لأجلها في رواية التفسير وكتابته: القرينة الأولى: أن المصنفات أو المرويات عن الصحابة والتابعين إنما هي كتبٌ يروونها عن بعض، وليست محفوظات تُحْفَظ في الصدور، ولذلك فإن أقلَّ المحفوظات في الأبواب في الشرع هي في التفسير، فكان ثمة نُسَخٌ تُروى، واشتهرت؛ كتفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وتفسير عطيةَ العوفي عنه، وتفسير السُّدي عن أشياخه، وتفسير قتادة الذي يرويه عنه معمر بن راشد وسعيد بن أبي عروبة، وتفسير الضَّحاك بن مُزاحم، وكذلك تفسير مجاهد بن جَبْر الذي يرويه عنه القاسم بن أبي بَزَّة وغيرهم. وهذه الصحف تُروى وتُحْمل إن كان الراوي لها ليس متهمًا بالكذب؛ لأنه يحمل على أنه يُحدِّث من هذه الصحف؛ فالأئمة يُطلقون القول بتضعيف الراوي، ويريدون بذلك - غالباً - رواياتِه في الأحكام في الحلال والحرام، وعند العمل والاحتجاج يفرِّقون؛ لأن الأحكام هي المقصودة من الجرح والتعديل، لذا روى الخطيب في "الجامع" عن يحيى بن سعيد قال: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثِّقونهم في الحديث، ثم ذكر ليثَ بن أبي سُلَيْم وجُوَيبِر بن سعيد والضَّحاك ومحمد بن السائب، وقال: هؤلاء لا يُحْمَد أمرُهم، ويكتب التفسيرُ عنهم . وقد يَلْتَبِس على الناظر هذا الأمر، ويختلط عليه من وجهين: الوجه الأول: أن الأئمة يُطلقون ألفاظ الجرح على الراوي كالتضعيف، فيُشْكِل على الناظر في كتب الرجال والجرح والتعديل والعِلَل كيف تُصَحَّحُ له روايةٌ وقد ضعَّفه الأئمة. ومن المشكل أيضاً حينما يقف على تضعيف إمامٍ ناقدٍ لحديثٍ في الأحكام بسبب راوٍ من رواة التفسير وينصُّ عليه. وبيان ذلك: أن كلام العلماء على هذا الراوي بعينه كلام مُجْمَل، يفصِّله طريقةُ العلماء مَعَ أسانيد التفسير عملاً، وكذلك نصاً في بعض الأحيان؛ لأنها من صُحفٍ ونُسَخ تُروى. وتفسير مجاهد بن جبر المشهور - الذي هو من أصحِّ روايات التفسير- لو أعمل النقاد منهجهم المتشدِّد في نقد الأحكام، لَضُعِّف جُل تفسيره، وذلك أنها منقطعة بكتاب يرويه القاسم بن أبي بَزَّة عن مجاهد بن جبر، سواء كان عن عبد الله بن عباس، أو من قول مجاهد بن جبر نفسه. ومثله رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس المشهورة التي لم يسمعْها منه. الوجه الآخر مما يلتبس فيه على الناظر: أن هؤلاء الذين يروون التفسير يقع لهم من المرويات في باب الأحكام مما يشترك مع التفسير، أو تكون تلك الرواية تتضمن حكمًا شرعيًا بنفسها. وجواب ذلك: أنه إذا تضمَّنت حكمًا شرعيًا في الحلال والحرام؛ فإنه يُشَدَّدُ في ذلك، وإلا فالأصل أنَّها لا تتضمَّن، وإنما طريقُها هو تفسير ذلك المعنى الواردِ في كلام الله. وفي الغالب فإن مرويات الأحكام في التفسير إذا كانت مرفوعةً لا تخلو كتبُ الأحكام منها وبيان حكمها، وكذلك الموقوفات والمقطوعات إذا كانت فرداً في الباب. القرينة الثانية: التي يتساهل لأجلها العلماء في مرويات المفسرين: أن المتخصص في فنٍّ من الفنون يُقدَّمُ على غيره، وإن كان من كبار الثقات أو الحفاظ الأثبات يُقدم من هو دونه عليه في الغالب، إذا كان مختصًّا بما يرويه، ولذلك قد اشتهر وعُرف عن كثيرً من الأئمة والرواة أنه قد اختصَّ بباب من الأبواب، وامتاز به، وقُدِّم على من هو أثبتُ منه بالحفظ والرواية، وأظهر في باب الديانة والصلاح؛ فعِلْم القراءات الأئمةُ فيه من الكبار، ومنهم من لا تُقْبَل روايتُه في أحاديث الأحكام، وإن كان هو من الأئمة الثقات في غير هذا الباب، كعاصم بن أبي النَّجود، وحفصِ بن عمر، وحفص بن سليمان. يقول الحافظ ابن حجر في حفص بن سليمان: "متروك الحديث، وهو إمام في القراءات". وكذلك نافع بن أبي نُعيم المدني، وعيسى بن ميناء المدني المعروف بقالون، وهو أحد الرواة عن نافع، روايته ضعيفة. والاختصاص معروف، وعناية بعض الرواة بعلمٍ دون غيره مشهورةٌ، بل قد يُعرف بعض الرواة في باب ولا يعرف بآخر مطلقاً، كعثمانَ بن سعيدٍ المعروف بوَرْشٍ، وهو أحد الرُّواة عن نافع في القراءات، ليس بمعروف برواية الحديث مطلقاً. وقد يختص بعضهم في باب من الأبواب، ويعتني به، ويستفرغ وُسْعه، فيقدَّم على غيره فيه، وإن كان أوسع علماً وأكبر فضلاً منه؛ فمجاهد بن جبر يُقدَّم في التفسير على غيره من كبار التابعين، وليس هو بأجلِّهم ولا بأعلَمِهم في الدين؛ لأنه مختصٌّ بالتفسير، ولذلك يقول عن نفسه: " القرآن قد استفرغَ علمي "؛ أي كلَّ علمي قد وضعتُه في القرآن. ولتخصُّصه قدَّمه الأئمة على غيره؛ فهذا ابن جرير الطبري قد اعتمد في التفسير على مرويات مجاهد، بل لو قيل: إن المرويات عن التابعين في تفسير ابن جرير الطبري ثلثاها عن مجاهد بن جبر ما كان ذلك بعيدًا، ولذلك قد حوى تفسير ابن جرير الطبري عِلْم مجاهدِ بن جبر بالجملة، ولا يكاد يَنِدُّ عنه إلا القليلُ؛ ولأجل هذا الاختصاص فاق غيره وقُدِّم عليه . يقول يحيى بن سعيد: " تساهلوا بالرواية عن بعض الضعفاء كليث بن أبي سُليم، وجُويبر، والضحاك، والكلبي وقال : " ولا يحمد مذهبك ويكتب عنهم التفسير " ؛ لأنهم أئمة اختصوا بذلك. ومن يطبق مناهج الأئمة النقاد في الأحكام على روايات التفسير قد أخطأ في ذلك، وقد اشتهر عند من لا عناية له من المتأخرين تطبيق تلك القواعد الحديثية التي نصَّ عليها العلماءُ فيما يسمى بعلوم الحديث ومصطلح الحديث على أسانيد التفسير، وهذا مخالف لمناهج الأئمة، وقد بلغ ببعضهم التشدد في هذا الباب، فردَّ مروياتِ كثيرٍ من المفسرين مطلقاً؛ كمرويات السُّدي إسماعيل بن عبد الرحمن، ومرويات محمد بن كعب، ومرويات ليث بن أبي سليم في روايته عن مجاهد بن جبر، وغيرها باعتبار أن الأسانيد ضعيفة، وهذا إفراط. وينبغي أن يُعلم أن النقل والحكاية شيءٌ، والاعتماد شيء آخر، ولا يلزم من الأول الآخر. القرينة الثالثة : أن أصل الاحتجاج والاعتماد في التفسير هو على لغة العرب، وإليها يجب أن يُرجع، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وقال: (بلسان عربي مبين). وأكثر المفسرين ورواة التفسير هم من العرب، وقد نص البيهقي على هذا فقال : ( وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم، لأنَّ ما فسَّروا به؛ ألفاظُه تشهد لهم به لغاتُ العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمعُ والتقريبُ فقط) القرينة الرابعة: أنَّ جُلَّ مرويات التفسير هي من الموقوفات والمقطوعات، والنُّقاد يتساهلون في الموقوف والمقطوع ما لا يتساهلون في المرفوع.