حــق الـــرد : ردَّ الناشر على تعقيبات الدكتور بشار حول كتاب التفسير الكبير للطبراني .
لقد أطلعت على تعقيبات الدكتور بشار عواد معروف الأستاذ في كلية أصول الدين حول كتاب (التفسير الكبير للإمام الطبراني) المنشورة في جريدة الدستور 9 ـ 5 ـ 2008 فكانت لي مع هذه التعقيبات هذه الوقفة. لقد عجبت أيما عجب أن يصدر من الأستاذ الدكتور بشار عواد ، وهو المعروف في فن التحقيق والتدقيق ، والأستاذ في كلية أصول الدين هذه التعقيبات بهذه الصورة النمطية القائمة على أساس الرأي الشائع المظنون والمخطوء من أن الطبراني حنبلي المذهب ، وأن صاحب هذا التفسير الكبير يميل إلى المذهب الحنفي ، إذاً فالنتيجة حتماً أن هذا التفسير ليس للإمام الطبراني الحنبلي المذهب ، وإنما لأحد الحنفية المتأخرين. واتبنى بحثه الذي وصفه بالدراسة المستقصية والمتأنية على هذا الأساس ، فكان هيكلاً قائماً على أساس نمطي مظنون ، وخطأ شائع ، من أن الطبراني حنبلي المذهب. ولو لم يَمُنَّ الله علينا بالكشف عن تفسير عبد الصمد الغزنوي ، لرأينا الدكتور بشار عواد كغيره( ) سيقول بنمطية شائعة ، بأن التفسير لعبد الصمد الغزنوي الحنفي لا كما ذكر بقوله (وهو تفسير لأحد الحنفية المتأخرين) ، دون تعيين لمن هو؟، وقوله (بأن هذا التفسير لا يمكن أن يكون لأبي القاسم الطبراني ، وهو تفسير لأحد الحنفية المتأخرين) ، قول غير علمي مطلقاً ، فنفي الإمكان ، يعني الاستحالة فيما هو مظنون ، لأن الأساس الذي استند إليه ، هو أساس مظنون وليس قطعيا ووصف صاحب التفسير الكبير بأنه حنفي متأخر ، يعني أن النفي القطعي لهذه النسبة للإمام الطبراني لم تكن لعدم ثبوت هذه النسبة بقدر كون المصنف حنفي المذهب ، وهل حنبلية الطبراني ثابتة قطعاً حتى يتم النفي القطعي لنسبة المخطوط للإمام الطبراني؟. وما هو المقصود بأن التفسير لأحد الحنفية المتأخرين؟ فأي متأخرين يقصد الباحث؟ متأخرين مطلقاً؟ أو متأخرين على عصر الإمام الطبراني؟ وما هو مدى ذلك التأخير وما قدره؟، وهل الأسباب التي ساقها الباحث المستقصي استقصاء متأنياً قد تمت معالجتها معالجة علمية حقاً.
وخضعت لضرورات علم النقد الموضوعي (بأن يضع الناقد الأشياء في موضعها بعد العلم بها كما هو في الواقع ، وكما يجب أن يكون بقصد تحري الحقيقة كما هي وإظهارها بإنصاف دون تلبيس ، لأن الإنصاف من ضرورات سلامة البحث. وبالرجوع إلى الأسباب التي أوردها الأستاذ الدكتور بشار عواد في التعقيبات فإننا نقول في هذه الأسباب حسب ترقيمها عنده: أولاً: إن الملاحظة التي استشهد بها الباحث بقوله: "فكثير من النسخ الخطية قد نُسبت غلطاً إلى مؤلفين معينين ، ثم تبين بعد البحث والتقصي خطأ تلك النسبة" هذه الملاحظة رغم صحتها عموماً ، إلا أنها لا تصلح للاستشهاد في هذا الموضع ، بأن نسبة التفسير الكبير للإمام الطبراني هي نسبة خاطئة ومغلوطة ، لأنه قياس في غير موضعه من جهة ، ومن جهة أخرى فلا يملك أحد مطلقاً أن ينفي هذه النسبة المذكورة من الناسخ في النسخة الفريدة الموجودة بين أيدينا ، إلا بدليل نفي معقول وممكن. وغير ذلك فهو عمل غير لائق بأهل العلم ، وعلى هذا فإن الراجح نسبة الكتاب للإمام الطبراني كما هو في أصل المخطوط ، حيث إن الآثار تدل على ذاتها وتنسب إلى صفتها ، وهذا المخطوط يعزو نفسه إلى الإمام الطبراني كما هو مدون عليه ، فالأصل أن تبقى هذه النسبة وتعزز بهذا الأثر ، ما لم يأت دليل مقنع يدحضها ، استصحاباً للحال المذكور ، فيبقى الأصل على ما وثق ، والأمور تقوم بشواهدها ، والأخبار تصدق بشهودها ، وما نقل إلينا من هذه المخطوطة عن طريق النسخة الواحدة الفريدة تدل على نسبة الكتاب للإمام الطبراني.
ثانياً: لا أحد ينكر أن الإمام أبي القاسم الطبراني معروف أنه من كبار المحدثين الملتزمين بذكر الأحاديث والأخبار بأسانيدها. وهو أمر ظاهر في معاجمه الثلاثة ومسانيده المعروفة وهي كثيرة ، ولكن المعروف أيضاً أن هذه الكتب المذكورة كلها تبحث في علم الحديث ، وعلم الحديث منهجه الإسناد كما هو معروف ، فلا يجوز لأي محدث أن يغفل عن الأسانيد كونها منهج أساس في هذا العلم ، (وكتاب التفسير الكبير) ليس كتاب (حديث) وإنما هو كتاب (تفسير للقرآن العظيم) ومنهجه البيان لا الأسانيد . فمنهج العلوم كل حسب أصوله: فمنهج الحديث غير منهج الفقه ، وغير منهج التفسير ، فمنهج الحديث يقوم على أساس الإسناد والمتن ، فيدخل فيه علم الرواية ، وعلم الرجال وشروط الراوية والراوي ومراتبهم ، والمتون وخصائصها ، فكل ذلك يقوم على أساس الإسناد.
وأما منهج الفقه فإنه يقوم على أساس الاستدلال وأوجه الدلالة للنص ، فيدخل فيه علم اللغة ، وأساليب العربية ، وأوجه الدلالة واحتمالاتها ومطابقتها للواقع بعد تحقيق مناطها. وأما منهج التفسير فإنه يقوم على أساس البيان ، لأن التفسير من فسر وهو البيان ، والتفسير هو بيان المراد باللفظ ، وقد اختصت كلمة التفسير عند الإطلاق ببيان آيات القرآن. وما يقرب المعنى إلى الأذهان بإظهار المعنى المعقول على قصد مراد الشارع ، بما يزيل الإبهام الذي ربما يعلق في الأذهان عند سماع الخطاب ، فيرتبط التفسير بتكوين المعنى في الذهن بما يخدم في فهم النص والوعي عليه. وقد يكون البيان بواسطة المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الطيبين والتابعين لهم بإحسان.
وقد يحصل التأثر للفقيه أو المفسر أو المحدث ، وتتداخل المناهج عند البحث الشرعي ، فنرى الفقيه مثلاً يورد الأسانيد كاملة للحديث ، ومن ثم يستدل بالحديث على المسألة الفقيه من حيث وجه الدلالة ، ومطابقتها للمسألة ، فسلسلة الأسانيد لهذا الحديث ليس لها علاقة من حيث أوجه الدلالة وإنما علاقتها توثيق الصلة بالوحي بحسب درجة هذه الصلة من حيث الصحة والحسن والضعف ، وكذلك المفسر فإنه قد يأتي بالأسانيد لتوثيق الصلة بالمأثور فقط وليس له علاقة بالبيان من حيث هو إسناد ولأن البيان يكون أحياناً باللغة أو بقول مفسر آخر ، أو بقول المفسر نفسه ، فمنهج التفسير هو البيان والإفصاح عن المعنى والدلالة ، وحين يتحقق البيان للخطاب المسموع تتحقق الغاية المقصودة من مراد الشارع. فلذلك قد يتداخل عند البحث الفقهي ويتواصل مع الحديث أو التفسير ولكن هذا لا يعني عدم إمكان الفقيه بالاستقلال في منهج النظر في الموضوع بحسب أصوله في العلم الشرعي تفسيراً أو حديثاً أو فقهاً ، فمثلاً: نجد الإمام ابن حجر في شرح صحيح البخاري يسلك منهجاً فكرياً فقهياً على غير منهجه في كتبه الأخرى الحديثية والتراجم ، فإمكان إفراد المؤلف في كتبه بمنهج يتفق والعلم الشرعي في الموضوع المعين حسب أصوله وارد وممكن ، والوقوف على محاولة إلزام كل إمام أو شيخ بمنهج واحد في كافة العلوم على تنوعها هو نوع من التمحك يضيق واسعاً ويمنع ممكناً. فكيف الحال في اعتبار التفسير من غير إسناد هو شذوذ عن منهج المفسرين ، وأما ورود بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات فلم ينج مفسر منها حسب من نعلم. ثالثاً: إن ما ذكره الباحث المستقصي بتأني في هذا السبب الثالث من أن هناك أحاديث كثيرة جداً لا تعرف من رواية الطبراني ولم يشر أحد ممن جاء بعده أن الطبراني رواها فهذا السبب باطل بشاهدين: الشاهد الأول: فقد روى ابن حجر العسقلاني 773( - 852 هجرية) في فتح الباري شرح صحيح البخاري : كتاب النكاح : باب الوليمة ولو بشاه: شرح الحديث (5167) قال الإمام ابن حجر: وأخرج الطبراني في التفسير قصة مجيء امرأة سعد بن الربيع بابنتي سعد لما استشهد ، فقالت: إن عمها أخذ ميراثهما ، فنزلت آية المواريث. ثم إن القصة ذكرها الإمام الطبراني في التفسير الذي بين أيدينا وهو ما يؤكد ما أراده ابن حجر رحمه الله.
فقد أخرج القصة بتمامها الإمام الطبراني "التفسير الكبير تفسير الآية (7) من سورة النساء". قال ابنُ عبَّاس: (تُوُفًّيَ أَوْسُ بْنُ ثَابتْ الأَنْصَارًيُّ وَتَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتْ لَهُ ، وَتَرَكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُجَّةَ وَهًيَ أُمُّهُنَّ ، فَقَامَ رَجُلاَنً مًنْ بَنًي عَمًّهً قَتَادَةُ وَعَرْفَطَةُ وَكَانَا وَصًيَّيْنً لَهُ فَأَخَذا مَالَهُ ، وَلَمْ يُعْطًيَا امْرَأَتَهُ وَلاَ بَنَاتَهُ شَيْئاً مًنَ الْمَالً ، فَجَاءَتْ أُمُّ كُجَّةَ إلَى رَسُولً اللهً r فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهً: إنَّ أَوْسَ بْنَ ثَابتْ تُوُفًّيَ وَتَرَكَ ثَلاَثَ بَنَاتْ ، وَلَيْسَ عًنْدًي مَا أُنْفًقُ عَلَيْهًنَّ ، وَقَدْ تَرَكَ أَبُوهُنَّ مَالاً حَسَناً وَهُوَ عًنْدَ قَتَادَةَ وَعَرْفَطَةَ وَلَمْ يُعْطًيَانًي وَلاَ لًبَنَاتًي شَيْئاً ، هُنَّ فًي حًجْرًي لاَ يَطْعَمْنَ وَلاَ يَسْقًيْنَ وَلاَ يُرْفَعُ لَهُنَّ رَأْسّ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم ارْجًعًي إلَى بَيْتًكً حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدًثُ اللهُ فًيْهًنَّ ، فَرَجَعَتْ إلَى بَيْتًهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذًهً لآيَةَ). ومعناه: للرجالً حظّّ مًمَّا تركَ الوالدانً والأقربونَ ، وللنساءْ كذلكَ أيضاً ، مما قَلَّ مًن المالً أو كَثُرَ ، (نَصًيبًا مَفْرُوضًا) أي مَعْلُوماً مقدَّراً ، فأرسلَ النبيُّ صلي الله عليه وسلم إلى قتادةَ وعَرْفَطَةَ: أنْ لا تَقْرَبَا من مالً أَوْسْ شَيْئاً ، فَإنَّ اللهَ قَدْ أَنْزَلَ لًبَنَاتًهً نَصًيْباً ، وَلَمْ يُبَيًّنْ كَمْ هُوَ ، أَنْظُرُكُمْ يُبَيًّنُ اللهُ تَعَالَى لَهُنَّ » فأنزلَ اللهُ بعد ذلكَ (يُوصًيكُمُ اللهُ فًي أَوْلادًكُمْ) إلى قولهً (ذلًكَ الْفَوْزُ الْعَظًيمُ) فأرسلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قتادةَ وعرفطةَ:«أَنً ادْفَعَا إلَى أُمًّ كُجَّةَ ثـُمْنَ جَمًيْعً الْمَالً إدْفَعَا إلَيْهَا لًبَنَاتًهَا الثُّلُثَيْنً وَلَكُمُ بَاقًي الْمَالً » الشاهد الثاني: فقد روى الإمام محمود بدر الدين العيني الحنفي 761( - 855 هجرية) في عمده القارئ ـ كتاب العلم ـ باب ما يذكر في المناولة ـ ج1 ، ص 26 - 27 طبعة دار إحياء التراث. "فإنه احتج في المناولة أي في صحة المناولة.....النص" أخرجه الطبراني من حديث البجلي بإسناد حسن وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الطبراني في تفسيره) وعند الرجوع إلى المعجم الكبير وجدنا الحديث كما ذكر عند جندب ابن عبدالله ابن سفيان البجلي برقم (1670) باب الجيم جندب بن عبدالله ، وعند الرجوع إلى (التفسير الكبير) وجدنا الحديث كما ذكر عن ابن عباس (تفسير الطبراني ج1 ـ ص 369). وهناك الكثير من هذه الشواهد الدالة على أن تفسير الطبراني معروف إلى وقت متأخر وعصور متباعدة.
رابعاً: إن هذا السبب هو قاصمة الظهر لبحث الدكتور بشار المعروف ، فإنه أخذ بما هو شائع مظنون خطأً ، وهو اعتبار الإمام الطبراني حنبلي المذهب وليس حنفياً ، وهذا التسليم بما هو معروف وشائع دون بحث ونظر لما يوجب النظر والبحث ، يدل على أن الباحث يخالف منهج البحث العلمي ، ولا يستقصي الحقيقة ، وهذا بالمجمل منهج غير المنصفين.
فالنظر إلى كل مًّحدث على أنه حنبلي المذهب ، هو قياس للأمور قياساً عاماً خاطئاً. والتسليم بما هو شائع خطأً دون نظرْ وتمحيص لما يُوجبُ النظر والتمحيص ، كما هو حال صاحبنا الإمام الطبراني يُعدّّ كسل ذهني وعجز عقلي ، أو هو تحيز وعدم إنصاف لا يليق بالباحث والدارس. فقد ذكر المحقق في (مقدمة التفسير الكبير) تحت عنوان: ( مذهب الإمام الطبراني وعقيدته) ما نصه: ربما يقع البعض في الخطأ عندما يقيسون الأمور قياساً عاماً ، وينظرون إلى كل محدًّث على أنه حنبلي المذهب ، ومن ذلك نظرتهم لمذهب الإمام الطبراني رحمه الله ، حيث نجد أن البعض يدرجه في تراجم الحنابلة وطبقاتهم ، فنقف عند هذا الملحظ لنصحح الرأي فيه ، مع أن الأمر سيان ، حيث إنه لا يؤثر مذهب الفقيه أو المفسر أو المحدًّث في التعامل مع فكره في الرأي والفقه ، ولكن للضرورة العلمية ومن خلال دراستنا لكتابه التفسير الكبير ، نجد أن الإمام الطبراني حنفي المذهب ، متوازن الرأي منصف للآخر ، بل إن الإمام الطبراني فضلاً عن وضوح آرائه في الاتجاه الحنفي ، فإنه من الناحية التاريخية لم يكن حنبلياً أيضاً كما تشير الدراسات إلى ذلك وكما يأتي:
1.أن الإمام الطبراني قضى أكثر من نصف حياته المباركة في أصفهان بلد العلم والعرفان. ومدينة أصفهان (كانت من القرون الأولى الإسلامية مهاجرة العلماء لطلب الحديث ، ومحط رحالهم ، حتى كانت تضاهي بغداد في العلو والكثرة كما قال السخاوي)( ).
2.أن مذهب أهل أصفهان بين الشافعية والحنفية ، فبعد فتحها سنة (21) للهجرة وانتشار الإسلام في أهلها ، استقام أمرهم على السُّنة ، ويغلب عليهم المذهب الشافعي والحنفي ، ويتولى زعامة الشافعية فيها أسرة الخجنديين ، وزعامة الأحناف أسرة الصاعديين ، وعلى هذا فإن الرأي العام في أصفهان مستقر بتفاهم الشافعية والأحناف ما لم يكدر عليهم أحد كما حصل في فتنة المغول حين استغلوا الخلاف بين المذهبين وأضعفوهما( ).
3.لم يغير أهل أصفهان مذهبهم حتى زمن الشاه إسماعيل سنة (906) هجرية وعلى هذا كان الإمام الطبراني يعيش أجواء طلب العلم والانفتاح على الرأي الآخر من مذاهب أهل السنة ، ويدور فقهياً كغيره في دائرة الشافعية أو الأحناف ، ولولا موقفه في التفسير بنسبة الرأي الذي يتبناه إلى الأحناف لَما علم مذهبه.
4.انسجم الإمام الطبراني مع مناخ أصفهان الفكري والفقهي ، فنجد عامل أصفهان أبو علي بن أحمد بن محمد بن رستم الذي شغفه حب العلماء يستقبل الطبراني عند قدومه المرة الثانية سنة (310) هجرية (ويسهل له البقاء بأصبهان ، فيكرمه بتعيين معونة معلومة يقبضها من دار الخراج ، وتستمر حتى حين وفاته بها)( ).
5.لم يصرح الإمام الطبراني بمذهبه الفقهي كغيره من علماء زمانه ، إلا للضرورة البحثية كما في التفسير ، فمذهب أصفهان السائد في ذاك الوقت بل في إيران مذهب الشافعية والأحناف من أهل السنة( ) ، فتبنى مذهب الأحناف على ما يترجح عنده بالدليل ، حيث لا نجده يتعصب لرأي ، بل يسلك منهج العلماء في تبنيه المذهب والجواب على مسائل الشافعية ، وهو ما نجده واضحاً في تفسيره عند التعامل مع الرأي الآخر بهدوء وموضوعية.
يُعدُّ الإمام الطبراني من كبار علماء أصفهان ، وإليه ينتهي العلم في الحديث ، وأنه يسير على منهج أهل زمانه فقهاً وعلماً ولا يبتدع. وعلى هذا فإن الإمام الطبراني حنفي المذهب من أهل السنة والجماعة محدًّث بارع ومفسر ، بارك الله له في عمره وجعل خاتمة أعماله على ما يبدو لنا هذا السفر الكبير في تفسير القرآن العظيم .
(انتهى قول المحقق باختصار). وحين الرجوع إلى معجم مصنفات الحنابلة للإستاذ الدكتور عبدالله بن محمد بن أحمد الطريقي الجزء الأول والطبعة الأولى م2001 في ترجمة (ابي القاسم الطبراني 260 - 360هـ) وذكر مصنفاته ومنها ص ( )356 التفسير - مخطوط. في ستراسبورغ بفرنسا تحت رقم (4174) في (532) ورقة.
والمقصود بهذا المخطوط هو (التفسير الكبير) الذي بين أيدينا والذي قمنا بتحقيقه وطباعته. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل اطلع الاستاذ الدكتور عبدالله الطريقي على هذا المخطوط الذي ذكره في مصنفات الإمام الطبراني؟... أم لا ؟،... الجواب بالتأكيد بالنفي لأنه لو اطلع عليه لفعل كما فعل الدكتور بشار المعروف.
وذلك لأنه لا يمكن حسب قول الدكتور بشار المعروف أن يكون الإمام الطبراني حنبلي المذهب ويكون في ذات الوقت صاحب (التفسير الكبير) الحنفي المذهب ، وهذا التعارض حسمه الدكتور المعروف بأن أبقى على حنبلية الطبراني ونفى نفياً قاطعاً أن يكون التفسير الكبير له وإنما هو لأحد الأحناف والمتأخرين دون تعيين.
ولو سأل سائل: بأي شيء أخطأ الدكتور عبدالله الطريقي في معجمه مصنفات الحنابلة؟ أفي اعتبار الإمام الطبراني من الحنابلة؟... أم بنسبة مخطوط التفسير الكبير للإمام الطبراني؟،. بالطبع فإن الجواب على هذا السؤال سيكون من السهولة بمكان كما فعل الدكتور بشار المعروف وهو اعتبار الطبراني حنبلي المذهب على ما هو شائع ظناً وعلى أساس القياس العام لكل محدث ، وهذا السبيل هو أسهل الطرق ، وقليل الكلفة ، وسبيل الراحة التي حذر منها الإمام أحمد بن حنبل حينما ابْتُلي (بمسألة خلق القرآن الكريم) حيث كان يجيب من كان يدعوه إلى الأخذ بالتقية للتخلص من الفتنة بقوله لهم: (اذهبوا فاستريحوا). ولكن لو سلمنا جدلاً بأن الإمام الطبراني حنبلي المذهب ، وأن هذا التفسير حكماً ليس له فكيف نجيب على السؤال التالي: بما أن الطبراني قد عاش أكثر من ستين عاماً من حياته المباركة في أصفهان بلد العلم والعرفان ، وكان مذهب أهل أصفهان بين الشافعية والحنفية طيلة العصور إلى بداية القرن العاشر الهجري (910) (والذي يهمنا هنا عصر الطبراني وهو القرن الثالث والرابع الهجري منذ بدايته 260هـ وحتى وفاته 360هجري). ومعلوم أن الإمام الطبراني كان من كبار علماء أصفهان ، وإليه ينتهي العلم في الحديث: فكيف يكون هذا حاله وتلك مكانته العلمية حيث كان يُسمى (قطب الزمان وعصره) ، ويكون مخالفاً لمذهب أهل العلم في أصفهان دون أن يكون لذلك الخلاف الأثر الواضح المبين. أم كان يخفى ذلك المذهب تقية وهو من كبار العلماء في المدينة وعاش ، في رعاية أميرها طيلة حياته حتى وفاته ، أم ما هو المخرج لذلك التساؤل ؟، لقد اطلع الدكتور بشار المعروف بكل تلك التفاصيل التي ذكرها المحقق في مقدمة تحقيقه (للتفسير الكبير) ولم نرَ أي تعقيب أو تعليق على تلك الملاحظات الجديرة بالنظر والتحقيق ، أم أن الدكتور بشار المعروف قد آثر طريق السلامة والسهولة والراحة. أليس كل تلك المعطيات تحتاج إلى تحقيق وإعادة النظر في كل ما هو شائع ، وهل يليق بمثل الدكتور بشار أن يسيء الظن بالمحقق ويتهمه في دينه بقوله: (فكيف يقلب المحقق الحقائق ظهراً لبطن ويزعم أن الطبراني حنفياً ليتوافق قوله مع ما وجده في الكتاب من كون المؤلف حنفياً ، وهو صنيع لا يقول به من عنده أدنى علم بسير العلماء). وسؤالنا للدكتور بشار المعروف: هل عندك أدنى علم بسيرة الإمام الطبراني؟... وأين عاش؟... وما هي مرتبته بين علماء عصره؟... وما هو مذهب أهل زمانه في مدينة العلماء التي كان هو من كبار علمائها وكيف يكون مذهب الإمام الطبراني والذي يُعدُّ من كبار علماء المدينة الثانية في العالم بعد مدينة بغداد آنذاك مخالفاً لمذهب أهلها وعلمائها دون أن يكون لذلك الخلاف من آثار واضحة بينة؟؟،،.
وعجباً لك يا دكتور بشار ، كيف تزعم أن المحقق بنى فكرةَ (مذهب الإمام الطبراني) على كتاب التفسير الكبير وحده دون سواه ، هل تتغافل وتتجاهل ما ذكره المحقق في مقدمة التحقيق حول (مذهب الإمام الطبراني وعقيدته) والتي استمدها من سيرته وحياته في مدينة العلم أصفهان ، وأن مذهب الإمام الطبراني ثبت عند المحقق من غير كتاب (التفسير الكبير) لا كما تزعم زعماً تعلم أنه غير صحيح. خامساً: إن هذا السبب لا ينهض ، خصوصاً وإنك تعلم يا دكتور بشار أن هذا التفسير هو كبير وكبير جداً خصوصاً وإنك من أهل هذا الفن ، وتعلم أن كثيراً من الكتب كان حجمها ثلاثة مجلدات في الأصل ونفشها الناشرون والمحققون إلى عشرة مجلدات ، وكتب أخرى كان حجمها خمسة عشر مجلداً وضغطت إلى ثلاثة مجلدات ، فهذه مسألة فنية يعلمها أهل الاختصاص وأنت لا شك منهم . وأنا كناشر أستطيع أن أجعل من هذا التفسير عشرة مجلدات بسهولة دون عناء وكذلك أستطيع أن أجعله عشرين مجلداً ، ولذلك لا ينهض هذا السبب ولا يصلح للنظر ، فكيف يساق إلى اعتباره سبباً لنفي نسبة الكتاب إلى الإمام الطبراني .
سادساً: إن هذا السبب السادس والذي ساقه الباحث المستقصي والمتأني يثبت فيه أن (تفسير الطبراني الكبير جداً ) لم يصرح أحد من العلماء الذين جاءوا بعده بالنقل منه ، ودلل بذلك على أن تفسير الطبراني فُقًدَ منذ مدة مبكرة ، ولقد كان هذا السبب السادس قاصمة الظهر للبحث الخالي من التقصي والعلمية ، فقد ثبت أن ابن حجر العسقلاني قد ذكره في الفتح ، وأن الإمام محمود بدر الدين العيني الحنفي 761( - 855 هـ) قد ذكره في عمدة القارئ . وهناك الكثير الكثير من العلماء الذين ذكروا تفسير الطبراني في عصور متفاوتة ومتباعدة لا مجال لذكرهم الآن. سابعاً: أن النقل المزعوم الذي ذكرته يا دكتور بشار المعروف من مصادر توفي أصحابها بعد الإمام الطبراني مثل الإمام أبي إسحاق الثعلبي غير صحيحة ، فقد وقفت على هذه النصوص في المخطوط ولم أرَ رأياً أصوب من رأي المحقق فيما ذكره حول هذه الإضافات من الناسخ ، ولو اطلعت عليها بإنصاف ودون رأي سابق يا دكتور بشار لما أضفت على ما قاله المحقق شيئاً ، وذلك لأن العبارة المزعومة أنها نقل من مصادر تفسيرية والقائلة "كذا في تفسير الثعلبي" هي نفسها مكررة في أكثر من خمسة مواقع في المخطوط ولم تتغير مطلقاً لا من حيث النص ولا من حيث موقعها: وهذا التكرار جاء في نهاية العبارة التفسيرية للمصنف وبعد تمام الفكرة والانتهاء منها ، ولا تضيف عبارة "كذا في تفسير الثعلبي" أي معنى بياني إلى معنى الآية ، وورودها دائماً على سبيل الحكاية لا على سبيل الرواية ، فلا يروى المصنف أي شيء من تفسير الثعلبي وإنما العبارة تأكيد على أن هذا المعنى موجود عند الثعلبي ليس إلا ، فالعبارة ليست نقلاً ولا تصلح أن تكون نقلاً وتكرارها مراراً دون تغيير في مبناها يدل على أنها ليست نقلاً وإنما هي مقابلة بين تفسيرين ، ولا يصح عقلاً أن يضعها المصنف ، وإنما واضعها أحد اثنين إما الناسخ أو المالك للمخطوط . وهي قطعاً ليست من عبارات المصنف ولا بأي حال من الأحوال.
وقولك يا دكتور بشار المعروف "بأن المحقق بدلاً من أن يستدل بهذه النصوص الصرحية في النقل عن هذين المؤلفين ، فإنه حذف من النص جميع التصريحات بالنقل عنهما ليستقيم له الأمر ، وبحجة واهية مفادها أن هذا ليس من النص وأن الناسخ أدرجه فيه". إن هذا القول يدل دلالة قطعية بأنك لم تطلع على المخطوط أصلاً ، وهذا القول لا يدل على علمية في البحث أو موضوعية ، بل يدل على عقلية اتهامية وغير منصفة وهو قول يُبهم الحقيقة ولا يبينها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما وصفت عبارة (كذا في تفسير الثعلبي) "بالنصوص الصريحة في النقل" فأين النص المنقول يا سعادة الدكتور؟؟،، وعلى ما تقدم فإن الأسباب السبعة التي أوردها الدكتور بشار المعروف وجعلها أعمدة بحثه القائم على الاستقصاء المتأني وركائز مقولته التي بدأ وختم مقاله بها والتي تنص على "أن هذا التفسير لا يمكن أن يكون لأبي القاسم الطبراني ، وهو تفسير لأحد الحنفية المتأخرين" فهذه الأسباب وتلك الأعمدة واهية لا تنهض بنفسها فكيف تنهض بغيرها.
وبعد هذا البيان الواضح حول تعقيبات الدكتور بشار نسأل: لماذا كل هذه الضجة التي أثيرت حول نسبة التفسير الكبير للإمام الطبراني ؟؟ وما علاقة مذهبه الحنفي فيما أثير بخصوص هذه النسبة؟؟ وهل يثار ما أثير فيما إذا كان مصنف التفسير حنبلي المذهب؟ وهل يقف كل هؤلاء المثيري الجدل والضجيج عند حدود إثبات النسبة دون الغوص في موضوع التفسير ومادته العلمية ، وما فيهما من كنوز معرفية وحيوية متدفقة ، تحرك الإحساس والشعور والفكر ، والعقيدة النقية الباعثة على التفكير الجاد والعملي.
فقد كنا نأمل ولا زلنا أن يكون هذا التفسير رغم أي اختلاف حول نسبته لمصنفه الإمام الطبراني ، أن ينبري الباحثون والدارسون إلى مادة الكتاب العلمية ، ولإثراء الثقافة الإسلامية بهذا الكنز الكبير ، والاستفادة من دقة الأفكار الموجودة فيه ، وحسن الأسلوب في التعبير عنها ، والانتفاع بخبرة المصنف رحمه الله وغزارة علمه وثراء فكره في البيان القرآني بالحديث والأثر ومعاني اللغة ، ودلائل أساليب العرب في التعبير عن المراد ، وعلاقته بالنص ، أو بالمعاني الجديدة في الواقع ، فهو يتعامل مع النص القرآني بحيوية تقربه من القارئ ، حتى أن القارئ يستشعر قرب العهد منه وكأنه مفسر معاصر حديث ، رغم البعد التاريخي الفاصل بين عصرنا وعصر المصنف رحمه الله. ولقد كنا قبل الشروع في تحقيق وطباعة الكتاب وبعد أن عُرًضَتْ علينا الإشكالات والملابسات حول موضوع النسبة ، قد توقعنا أن يكون هناك نقد موضوعي على هذا العمل الفريد بما يزيد هذا العمل ثراءً علمياً ، إلا أننا لم نكن نتوقع أن يكون مستوى النقد بهذا الهبوط الفكري والحسي. وعزاؤنا أننا في عصر انحطاط هذه الأمة ، لا في عصر نهضتها وعزتها. فالذين ينبرون للنقد السطحي هم من جنس هذا الواقع الذي نعيش ، ونأمل أن نجد فيمن يتقدمون بالنقد أن يكون نقدهم نقداً موضوعياً منصفاً وخالياً من التحيز "لأن المتحيز لا يميز" ، وأن يبحث في مادة الكتاب العلمية ويظهر قيمة الكتاب بموضوعيةوإنصاف ، ويبين لنا بصدق العالم المخلص إخلاصاً خالصاً لوجه الله تعالى ، مستوى الكتاب من الناحية العلمية والفكرية والعقائدية والفقهية والبيانية" ، ويكشف لنا حالة الضمور الحسي عند الذين يقفون عند حدود النسبة ولا يتعدونها إلى جوهر القضية وأساس المسألة وغاية التفسير ومقصده.
الناشر
بلال إبراهيم الشلول
المدير العام لدار الكتاب الثقافي
Date : 01-06-2008
المصدر