شَمِرُ بنُ حَمْدَويَه وكتابه (الجيم) وعنايته بتفسير السلف[إهداء للدكتور مساعد الطيار]

عبدالرحمن الشهري

المشرف العام
إنضم
29/03/2003
المشاركات
19,318
مستوى التفاعل
127
النقاط
63
الإقامة
الرياض
الموقع الالكتروني
www.amshehri.com
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]

ذكر الإمامُ أبو منصور الأزهري(ت370هـ) في مقدمته لكتابه (تهذيب اللغة) طبقات علماء اللغة الذين أُخذتْ عنهم اللغةُ ، فذكر منهم أبا عمرو شَمِرَ بنَ حَمدَويهِ الهرويَّ(ت255هـ) ، وذَكَرَ أَنَّهُ كانت له عنايةٌ صادقةٌ بعلم اللغة ، ورحلَ من أجل ذلك إلى الأقاليم. إلى أن قال في ترجمتهِ : ( ولَمَّا ألقى عصاه بِهراةَ أَلَّف كتاباً كبيراً في اللغات أَسَّسه على الحروف المعجمةِ ، وابتدأ بحرفِ الجيم ، فيما أخبرني أبو بكر الإيادي وغيره ممن لقيه ، فأَشبعهُ وجَوَّدَهُ ، إِلا أنه طَوَّلَهُ بالشواهدِ والشعرِ والرواياتِ الجَمَّةِ عن أئمةِ اللغة وغيرهم من المُحدثين ، وأَودَعهُ من تفسير القرآنِ بالرواياتِ عن المفسرينَ ، ومن تفسير غريبِ الحديثِ أشياءَ لم يسبقهُ إلى مثلهِ أحدٌ تقدَّمه ، ولا أَدركَ شأوهُ فيه مَن بعدهِ). التهذيب 1/25

غير أَنَّ أبا عمرو شَمرَ بن حَمدَويه كان ضنيناً بكتابهِ هذا ، فلم يأذن لأحد قطُّ بنسخه حرصاً عليه ، وحباً له. قال الأزهري في ذلك:( ولَمَّا أكملَ الكتابَ ضَنَّ به في حياته ولم يُنْسِخْهُ طُلابَهُ ، فلم يُبارَك له فيما فعله حتى مضى لسبيلهِ ، فاختزلَ بعضُ أقاربه ذلك الكتابَ من تركته ، واتصل بيعقوب بن الليث السجزي ، فقلَّدهُ بعضَ أعماله واستصحبه إلى فارس ونواحيها ، وكان لا يفارقه ذلك الكتابُ في سَفرٍ ولا حَضرٍ. ولَمَّا أناخَ يعقوبُ بنُ الليث بسيب بني ماوان من أرض السوادِ وحَطَّ بِها سواده ، وركب في جماعةِ المقاتلة من عسكره مقدراً لقاء الموفق وأصحاب السلطان ، فجر الماء من النهروان إلى معسكره ، فَغَرِقَ ذلك الكتابُ في جُملةِ ما غَرِقَ مِن سواد العسكر !
ورأيت أنا – والكلام للأزهري- من أول ذلك الكتابِ تفاريقَ أَجزاءٍ بِخطِّ محمد بن قسورة ، فتصفحتُ أبوابَها فوجدتُها على غايةِ الكمال ، واللهُ يغفر لأبي عمرو ويتغمد زلته ، والضَّنُّ بالعلم غَيرُ مَحمودٍ ولا مُباركٍ فيهِ)
. أهـ كلام الأزهري.

وقبل أن يترجم الأزهري لأبي عمرو شمر بن حمدويه ، كان قد ذكر من طبقات اللغويين السابقين له أبا عمرو الشيباني إسحاق بن مرار العالم الراوية المشهور المتوفى سنة 213هـ تقريباً. صاحب كتاب (الجيم) في اللغة ، فذكره وصحف اسمه فقال :«إسحاق بن مراد». بالدال ، ولم يذكر له من المصنفات إلا كتاب النوادر ، وأغفل ذكر كتاب الجيم . وقد ذكر ياقوت الحموي أن الأزهري أخطأ في اسم أبيه عندما سماه مراد وإنما هو مِرَار. وقد حاول القفطي أن يطعن في ما ذكره الأزهري في التهذيب من تصنيف أبي عمرو شمر بن حمدويه الهروي لكتاب الجيم ، وزعم أنه لأبي عمرو الشيباني وليس لشمر بن حمدويه ، واستدل بـ :

الأول : أن الأزهري أخطأ في اسم أبي عمرو الشيباني مع شهرته.
الثاني : أنه لم يذكر له من الكتب إلا كتاب النوادر مع شهرة كتاب الجيم.
الثالث : أن الأزهري قد خرج من قولته بزعمه أن الكتاب قد غرق ، ولم يبق منه شيء.

يقول القفطي في ترجمة أبي منصور الأزهري في باب الكنى لشهرته بكنيته . في إنباه الرواة 4/178 . قال : ( وشرع في تصنيف كتابه المسمى بـ(تهذيب اللغة) وأَعانَهُ في جَمعهِ كثرة ما صنف بخراسان من هذا الشأن في ذلك الوقت وقبله بيسير ، كتصنيف أبي تراب وأبي الأزهر ، وغيرهما مما اعتمده الجمع الكثير. وكان رحمه الله مع الرواية ، كثير الأخذ من الصحف ، وعاب هذه العلة على غيره في مقدمة كتابه ، ووقع فيها ، والدليل على ذلك أنه لما ذكر أبا عمرو الشيباني في مقدمة كتابه ، قال : ( هو إسحاق بن مراد ، فصحف مراداً ، وإنما هو مرار ، بإجماع نقلة العلم ، ولم يذكر له إلا كتاب النوادر ، وذكر رجلاً آخر اسمه أبو عمرو الهروي ، ونسب إليه كتاب الجيم ، وإنما الجيم لأبي عمرو إسحاق بن مرار ، وهو كتاب مشهور.

ثم قال : إن أبا عمرو سماه الجيم ، وبدأ فيه بحرف الجيم ، وهذا غلط فاحش وإنما بدأ فيه بالألف على ترتيب حروف المعجم ، وسَمَّاهُ الجيمَ لِسرٍّ خَفِيٍّ تشهدُ عليه مقدمةُ الكتابِ ، ولقد بلغني أَنَّ أولاد الرؤساء بمصر ، سألوا ابنَ القَطَّاعِ اللغويَّ الصقليَّ عند تكرارهم إليه بحلقته عن السبب الموجب لتسمية الكتابِ بالجيم ، وأوله الألف ، فقال : مَنْ أرادَ علمَ ذلك فليعطني مائةَ دينارٍ لأعلمهُ به ، فما في الجماعة مَنْ تَكَلَّمَ بعد ذلك».

ثم قال القفطي :« ولما وَهِمَ أبو منصور رحمه الله في نسبة هذا الكتاب إلى شَمِر ، وغلط في ترتيب حروفهِ ، وأَحسَّ من نفسه أَنَّه ليس على حقيقةٍ مِمَّا ذَكَرَهُ ، فتحمَّل حديثاً طويلاً آخره ، عُدْمُ الكتابِ المذكورِ بالغَرَقِ ، تَجاوزَ الله عنا وعنه».

ولما عوتبَ القفطيُّ في قوله هذا من بعض طلاب العلم ، وقال له : إنه يحتمل أن يكون هذا الاسم قد أطلق على الكتابين ، فقال القفطي :« الذي يبعد الاحتمال أنه لو كان ذكر في ترجمة أبي عمرو إسحاق بن مرار كتابه الجيم ، كان ذَكَرَ ذلك لِشَمِر بن حَمدويه ، وما عَلِمَ أَنَّ لإسحاق كتاباً اسمه الجيم ، فقد وَهِمَ من أبي عمرو إسحاق إلى أبي عمرو شَمِر ، وهذا ظاهرٌ يشهدُ لنفسهِ) . انتهى كلام القفطي .

وكتاب أبي عمرو شَمِر بن حَمدويه يُعَدُّ عند الدارسين - على الرغم من ضياعه - من أول الكتب اللغوية التي عنيت بأقوال المفسرين من السلف ، وأكثرت من الاستشهاد بالشعر على ذلك ، يقول الدكتور مساعد الطيار:«ويظهر أن أبا عمرو – أَي شَمِر بن حَمْدَوَيْه – وأبا إسحاق الحربي من أكثر اللغويين اعتناءً بأقوال المفسرين ، ونقلها في دلالة ألفاظ اللغة ، والله أعلم». التفسير اللغوي 437 الحاشية رقم 2 قال ذلك اعتماداً على ما نقله الأزهري في تهذيب اللغة.

وكتاب الجيم الذي نسبه الأزهري لِشَمِر بن حَمدَويه ، قد دارَ حول نسبتهِ جدل قديم – كما تقدم وسيأتي - حيث نسبه الأزهريُّ لشَمِر بن حَمدويه ، في حين نسبه القفطي لأبي عمرو الشيباني فحسب ، ونفى أن يكون لشمر بن حمدويه كتاب بهذا الاسم.

وقد أفاض الدكتور حازم سعيد يونس في هذا الموضوع في دراسته وجمعه لمرويات شمر بن حمدويه اللغوية.
[align=center]
shamir.jpg
[/align]
فقال عند حديثه عن مؤلفات شَمِر بن حَمدَويه:( الجيم : دار جَدَلٌ في حقيقة هذا الكتاب قديماً وحديثاً ، والأزهري من أوائل اللغويين الذين ذكروه ، وأشاروا إلى قصته في مقدمة التهذيب) ثم نقل كلام الأزهري السابق.

ثم قال :« وكان كلامُ الأزهريِّ هذا أساساً لكلِّ مَن تَرجَموا لِشَمر بعدَهُ ، وذكروا هذا الكتاب ، ولم يزد أحدٌ منهم عليه شيئاً غير اختصاره أو إعادة ترتيبه من جديد ، كابن الأنباري (ت557هـ)([1]) ، وياقوت الحموي (ت622هـ) ([2]) ، والقفطي (ت646هـ) ([3])،والفيروزأبادي(ت817هـ) ([4]) ، والسيوطي(ت911هـ) ([5]) ، وحاجي خليفة (ت1036هـ) ([6]) . قلتُ : والصفدي. ([7])

وقد ذكر القفطي أن الجيم لأبي عمرو الشيباني ، لا لأبي عمرو شمر بن حمدويه ، وأنه قد اشتبه الأمر على الأزهري لاتفاق كنية الرجلين . وقد أيد الدكتور رشيد العبيدي -وهو باحث عراقي درس في رسالته للدكتوراه منهج الأزهري في تهذيب اللغة ، وهو الذي أخرج المستدرك على التهذيب في طبعته المحققه - دعوى القفطي ، ودافع عنها ، ورأى أنها التفاتةٌ بارعةٌ وذكيةٌ منه ، وأنها الحقيقة التي لم ينتبه لها الدارسون ، فلو كان لشمر كتاب باسم الجيم ، لتردد ذكره في كتب اللغة ، فالأزهري لم يورد منه شيئاً في أي مادة لغوية فسرها خلال التهذيب ، بل ذكره في كتب أخرى ، وهذا مما يدل على أنَّ نِسبتَه إلى شَمِر من قبيل الوهم. ([8])

ومع هذ فقد نسب بعض المحدثين الكتاب إلى شمر ، ومنهم :
بروكلمان([9]) ، والزركلي([10]) ، وعمر رضا كحالة([11]) ، وفرنرديم ، الذي ذكر أن شمراً تأثر بعنوان كتابه ، وربما بمادته أيضاً بالشيباني وابن شميل ، لأنه درس على أساتذة كانوا من طبقتهم ، وأنه كان مرتباً ترتيباً أبجدياً ، ومنهم الدكتور عبدالحميد الشلقاني ، الذي ذهب إلى أبعد من المتابعة ، فدافع عن حقيقة الكتاب بقوله :(لولا شهادة العيان هذه لساورنا شك في هذا الكتاب الذي يتشابه اسمه مع كتاب آخر لأبي عمرو الشيباني). ([12])

انظر : مرويات شمر بن حمدويه اللغوية (المتوفى 255هـ) للدكتور حازم سعيد يونس البياتي ، نشر مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي ، الطبعة الأولى من صفحة 25- 27

غير أن الذي يقرأ كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني رحمه الله ، لا يجد فيه ما ذكره الأزهري في كتاب أبي عمرو شمر بن حمدويه من العناية بتفاسير السلف للقرآن الكريم ، وإن كان كثير الاستشهاد بالشعر في معجمه، بل إن مفردات معجمه منتزعة من شواهد الشعر الذي حفظه عن قبائل العرب ، التي جمع أشعار ثمانين قبيلة منها.
ثم إن الدليل الذي استند له ياقوت الحموي ومن بعده القفطي وهو أن الأزهري أخطأ في كتابة اسم أبي عمرو الشيباني ، فكتبه بالدال (مراد) ولم يكتبه (مرار) ، ففي رأيي أنه أمر قد يقع فيه اللبس في الخط ، لتقارب الحرفين في الرسم في خط الكثير من الناس ، وليس دليلاً قاطعاً على أن الأزهري يجهل اسم أبي عمرو الشيباني ، ولو كان الأزهري ضبط الاسم بالحروف لكان يمكن أن يصلح حجة للحموي والقفطي.

ثم إن الأزهريَّ صرَّحَ أَنَّه قدر رأى تفاريق من الكتاب بعينه ، وأنه وجده بالصفة التي ذكرها ، ثم ما هي المصلحة التي يرجوها الأزهري على فضله وسعة علمه باللغة باختلاق مثل هذا الكتاب ، ونسبته لأبي عمرو شَمِر بن حَمْدَويه ، إن لم يكن رآه بعينه.

وقد عجبتُ من تأييد الدكتور العُبيديِّ لرأي القفطي ، لمجرد عدم نقل الأزهري من هذا الكتاب في التهذيب ، فربما يكون قد نقل منه ولم يصرح باسمه أو اسم مؤلفه شمر بن حمدويه ، وهذا كثير في التهذيب وغيره .
وقد أعجبني ما ذهب إليه الأستاذ إبراهيم الأبياري محقق كتاب الجيم لأبي عمرو الشيباني من الاعتذار لشمر بن حمدويه في عدم السماح بانتساخ كتابه حيث قال :« وما نظن شمر بن حمدويه كان ضنيناً به كما يقولون ، ولكن الذي نظنه أن الكتاب لم يكن قد استوى الاستواء الأخير ، من أجل هذا كان حرص شمر على ألا يرويه عنه أحد حتى يتم ، ثم فسر هذا على أنه ضن منه به». الجيم للشيباني 1/42 من التقديم

أهدي هذه اللفتة إلى أخي العزيز الدكتور مساعد الطيار وفقه الله لعنايته بالتفسير اللغوي للقرآن الكريم ، ومعرفته الواسعة بمعاجم اللغة ، وعناية مؤلفيها بتفسير القرآن الكريم ، ومنه استفدنا كثيراً من العلم. وأنتظر تعقيبه وتصويبه لما تقدم .
--الحواشي ---
([1]) نزهة الألباء 151
([2]) معجم الأدباء 11/275
([3]) إنباه الرواة 2/77
([4]) البلغة في تاريخ أئمة اللغة 95
([5]) بغية الوعاة 2/4-5
([6]) كشف الظنون 2/1410
([7]) الوافي بالوفيات 9/125
([8]) انظر: مشكلات في التأليف اللغوي لرشيد العبيدي 100 وما بعدها.
([9]) تاريخ الأدب العربي 2/201-202
([10]) الأعلام 3/253
([11]) معجم المؤلفين 4/306
([12]) دراسة في المعاجم العربية 44
 
أخي الفاضل الدكتور عبد الرحمن
أشكرك كثيرًا على هذا الإهداء اللطيف ، وأرجو أن يشارك الإخوة في إبداء الرأي ، وسأعقب بما تحب ـ إن شاء الله ـ أيها الأخ الحبيب ، فهاأنذا أسطر بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضوع .
 
أشكر أخي المفضال أبا عبد الله على هذه التحفة اللطيفة ، والهدية المنيفة ، ولقد كتبت هذا التعليق إثر كتابته لهذا المقال ، ثم تركته لعلي أزيد فيه ، وطال علي الأمد فنسيته ، ولما وجدته رأيت أن أعرضه على ما هو عليه خشية فوته ونسيانه مرة أخرى .
ولقد كنت أزوِّر في نفسي تعليقًا ينطلق من أن من رأى حجة على من لم ير ، فوجدته قد أشار في مقاله إلى هذا فقال : (ثم إن الأزهريَّ صرَّحَ أَنَّه قد رأى تفاريق من الكتاب بعينه ، وأنه وجده بالصفة التي ذكرها ، ثم ما هي المصلحة التي يرجوها الأزهري على فضله وسعة علمه باللغة باختلاق مثل هذا الكتاب ، ونسبته لأبي عمرو شَمِر بن حَمْدَويه ، إن لم يكن رآه بعينه ) .
ومن ثَمَّ ، فإني أقول معلقًا على ما أتحفنا به أخي عبد الرحمن ، ومضيفًا إليه ما له علاقة بهذا المقام :
أولاً : هذا يدخل في قول العلماء : من علم حجة على من لم يعلم ، وأنت ترى الحال أن الأزهريَّ يحكي ما رأى ، فإن كان وقع الكذب ، فإنه لا يكون من عنده ، بل لعله من عند من أخبره زاعمًا أن شمرًا كتب كتابًا سمَّاه ( الجيم ) ، وأن ما أُريه فإنه من هذا الكتاب ، وهذا التخريج للظنِّ الحسن بالأزهري الثقة ، فإنه من المستبعد ـ على من عرف حاله ـ أن يكون صنع هذا الخبر .
ووصف الأزهري لكتاب شمرٍ لا يتناسب مع كتاب ( الجيم ) لأبي عمرو الشيباني ، فليس مليئًا بالشواهد ، ولا هو مليء بتفسير السلف ولا غريب الحديث .
وهذا الانفراد ـ أي : انفراد الأزهري بنقل خبر هذا الكتاب ـ كان مدعاة للطعن على الأزهري في نقله ، وليس الأمر كذلك ، إذ وجود كتاب لشمر بهذا العنوان ليس بمحال ، كما أنه ليس محالاً أن يطلع عليه النادر من الناس ، وذلك معروف عند من يتتبع أخبار الكتب ، إذ لا زال الباحثون يذكرون كتبًا لأعلام من العلماء لم يرها غيرهم ، ولم تُعرف إلا من طريقهم ، ونقد الأزهري من هذه الجهة يحتاج إلى إعادة نظر .
ثانيًا : إن هذه القضية تعطينا التدريب العملي للتعامل مع الأخبار في كتب التراجم ، فنحن بين إسناد ومتن ، وغالبًا ما تكون أخبار كتب التراجم مرسلة ، وكثيرٌ منها يكون من قبيل تحديث معاصرٍ للحدث ، وتختلف الكتب الناقلة للخبر ، فهناك من بنى كتابه على التراجم ، واستفاد من كتبها ، وهناك من استند إلى النقل الشفاهي ، وهناك من ينقل عن كتب الأدب ... الخ من مصادر الترجمة .
ولا شكَّ أنه يُتسامح في نقل هذه الأخبار ما لا يُتسامح في نقل الآثار ، فضلاً عن أحاديث النبي المختار صلى الله عليه وسلم .
لكن لا يعني هذا عدم الدخول إلى نقد تلك الأخبار الواردة في كتب التراجم ، التي غالبُ ما يأتيها النقد من جهة المتن ؛ إذ ليس كل الأخبار ينطبق عليها اتصال السند وصحته ، وليس السند هو الوحيد في إسقاط خبرٍ ما من أخبار كتب التراجم .
ويمكن أن نفترع تقسيمًا للأخبار الواردة في أحوال الرجال ـ من حيث الجملة ـ إلى أقسام :
القسم الأول : ما ورد في تراجم علماء الحديث النبوي لنَقَلَةِ الآثار النبوية .
القسم الثاني : ما ورد في كتب التاريخ والتراجم .
القسم الثالث : ما ورد في كتب الأدب .
القسم الرابع : ما ورد من الإخبار في غير مظانه من الكتب .
وكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى استقراء وتفصيل في مجال تحليل الأقوال ونقلها ونقدها ، ويمكن الإشارة إلى بعضها بما يأتي :
القسم الأول : ما ورد في تراجم علماء الحديث النبوي لنَقَلَةِ الآثار النبوية .
وهؤلاء النقاد قد بلغوا من الأمانة والدقة في النظر مبلغًا عظيمًا ، ولا يدركه إلا من قرأ في سيرهم ، ونظر في أخبارهم ، وتعلَّم طرقهم في نقد الرجال ، وها أنت تقرأ في موضوع ( علل الأحاديث ) ما يذهب بِلُبِّك من دِقِّة كشفهم عن علله .
والحديث عن هؤلاء وطرائقهم في نقد الرجال ليس هذا محلُّ تفصيله ، وله رجاله الذين قاموا ببيانه .
وإن من أكبر أسباب قوة هؤلاء ـ في نسب الأخبار إلى أصحابها أو نقدها ـ أنهم يقومون على حفظ الشريعة والدين ، فتراهم يتحرَّون في المعلومة أيَّما تحري ، ويتمهلون في الحكم ؛ لأن حكمهم يُبنى عليه حكم شرعي ، وقبول أثر نبوي أو رفضه ، فحينما ينسبون خبرًا إلى رجل ، ويقوم على هذا الخبر تعديل أو جرح ، فإنهم يتحرون في الحالين ، ولا يكاد رجالاتهم المشهود لهم بالعلم بالرجال ـ جيلا بعد جيل ـ يخطئون في هذا .
القسم الثاني : ما ورد في كتب التاريخ وكتب تراجم العلماء من نحاة ولغويين وأدباء وغيرهم .
وهذه الكتب لا تلتزم صحة الأخبار ، وقد يقع فيها ما هو مكذوب ، مع ملاحظة عدم شمولها لجميع أخبار الناس وتراجمهم ، بل يغلب على كتب التاريخ الحديث عن الأحوال السياسية وما يدور في فلكها ، وعلى كتب التراجم الترجمة للملوك والأمراء والوزراء والكبراء والعلماء .
وقد يكون في هذه الكتب غمط للمخالفين ، وغضُّ الطرف عن الموافقين ، خصوصًا إذا كان صاحب الكتاب يتمذهب بمذهب فقهي أو عقدي أو نحوي أو غير ذلك .
القسم الثالث : ما ورد في كتب الأدب .
وهذه الكتب تحمل جملة من الأخبار والأشعار ، بل هي قوام كتب الأدب ، وهي تعتمد على ذكر نوادر الأخبار عن من هو معروف من الأعلام ، وعن من هو غير معروف .
والأخبار في هذه الكتب من أقل درجات الأخبار المقبولة ، بل يمكن القول بأنها ليست عمدة ؛ لأنه يدخلها الوضع والتندر بالناس من المخالفين وغيرهم ، وكم من خبر تجده في كتب الأدب المتقدمة معزوًا لفلان ، ثم تراه قد تحول في روايات المتأخرين إلى غيرهم ، بل قد تجد الخبر فيه قضية من القضايا ، وإذا انتقل إلى أهل مذهبِ مخالفٍ ادخلوا فيه اعتقاداتهم ، كما ورد في بعض كتب الأدب خبر عن مزبد المدني ، وفحواه أنه صار على المدينة النبوية ريح شديدة وريح حمراء ، فخرج الناس في الصباح الباكر يصيحون : القيامة ، القيامة ، فأطل عليهم وقال: يا جماعة ، قيامة بلا مسيح دجال ولا مهدي ؟!
وقد نقل بعض الرافضة في كتبهم الأدبية هذه الرواية ، وجاء فيها : (( فقال مزبد: هذه قيامةٌ على الريق بلا دابة الأرض والدجال ولا القائم )) .
ولعل القارئ الكريم لا يخفى الفرقة التي تؤمن بالقائم ( المهدي المنتظر عند الرافضة الإمامية الإثني عشرية ) .
القسم الرابع : ما ورد من الإخبار في غير مظانه من الكتب .
في هذا القسم قد نجد المعلومة في ترجمة علمٍ في كتب رجال الحديث ، وهي أخص به في كتب طبقات النحويين أو اللغويين أو الأدباء ، فتدخل في هذا القسم ؛ إذ المفترض ـ مثلاً ـ أن نجد في ترجمة علمٍ من الأعلام بأن له كتابًا في النحو في تراجم النحويين ، فإذا وجدناها في كتاب تاريخ ـ مثلاً ـ ، وكذا الأصل أن نجد في أعلام الحديث النبوي ما يتعلق بتوثقيهم وتجريحهم أو ما يتعلق بذلك في كتب التراجم الخاصة بهم ، كتهذيب الكمال وأمثاله .
ومن أمثلة ما ورد في غير مظانه مما هو متعلق بالجرح والتعديل في الرجال ؛ ما ورد كتاب البدء والتاريخ المنسوب لمطهر بن طاهر المقدسي ( ت : 507 ) ، فقد ورد فيه معلومة نفيسة تتعلق بمقاتل بن سليمان ( ت : 150 ) وعلاقته بالضحاك بن مزاحم ( ت : 105 ) ، حيث نفى بعض علماء الحديث أن يكون قد سمع الضحاك ،ويشهد بهذا ما ورد في كتاب البدء والتاريخ ، قال المؤلف : (( ذكر ما جاء في خراب البلدان : في كتاب أبي حذيفة عن مقاتل أنه قال : قرأت في كتب الضحاك بعد موته ـ وهي الكتب المخزونة عنده ـ في قوله عز وجل .... )) . وهذا يفيد بأن رواية مقاتل عن الضحاك كانت من طريق الوجادة ، ولم يسمع من الضحاك .
وكان من المتوقع في هذه المعلومة أن تكون في كتب تراجم رجال الحديث ، وليس في مثل كتاب البدء والتاريخ .
وبعد هذا التقسيم ، فإن المقصود من ذلك أننا نحتاج إلى ضوابط للتعامل مع الأخبار في هذه الكتب ، فهل يقال :
الأصل في ذلك قبولها إلا إذا ورد في ذلك أمارات تدلُّ على عدم قبولها ؟
أو يقال : إنها لا تقبل ولا تردُّ إلا بدلائل ؟
إن الأصل الذي سار عليه العلماء هو الأول ، وهو (قبولها إلا إذا ورد في ذلك أمارات تدلُّ على عدم قبولها ) .
وهذا يعني أننا لا نمتنع من نقد مثل هذه الأخبار ـ كما هو الحال في خبر كتاب الجيم لشمر ـ ، لكن ما هي مقومات نقد الأخبار ؟
1 ـ إذا ورد الخبر عن ثقة ، فإن الأصل قبوله ، كما هو الحال في نقل الأزهري لخبر كتاب شمر ، فليس هناك من الدواعي ما يدعو إلى الكذب في هذا الخبر .
2 ـ إذا ورد الخبر عن من عُرِف بالكذب فإنه لا تُقبل روايته له ، بل تُعدُّ ساقطة ، وأحوال هؤلاء معروفة في كتب التراجم ، ومنه من يكون له باع في العلم والمفاكهة والمسامرة ، كما هو الحال في عيسى بن يزيد بن دأب ، فقد ورد في ترجمته في ( مراتب النحويين ) : ((كان يضح الشعر وأحاديث السمر كلاً ما ينسبه للعرب فسقط علمه وخفيت روايته وكان شاعراً وعلمه بالأخبار أكثر )) .
وخبر مثله لا شكَّ أنه يسقط ، حتى إنه من شدة معرفة الناس له صار مضربًا للمثل ، فقد أورد الفراء في تفسير قوله تعالى : ( إلا اماني ) : (( ... والأماني أيضًا : أن يفتعل الرجل الأحاديث المفتعلة ، قال بعض العرب لابن دأب ـ وهو يحدث الناس ـ : أهذا شيءٌ رويته أم تمنَّيته ؟ يريد : افتعلته ... )) (معاني الفراء : 1 : 50 ) .
3 ـ إذا ورد الخبر في نقد أحد الأقران ، مع وجود نزاع بينهما ، فإن الأصل عدم قبوله ، كما هو الحال في نقل الأزهري عن شيخه ابن عرفة ( المعروف بنفطوية ) في حقِّ ابن دريد ، قال الأزهري في كتابه ( تهذيب اللغة 1 : 31 ) : (( وممن ألَّف في عصرنا الكتب ، فوُسِم بافتعال العربية وتوليد الالفاظ التي ليس لها أصول ، وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم = أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي صاحب كتاب الجمهرة ، وكتاب اشتقاق الأسماء ، وكتاب الملاحن .
وحَضَرْتُه في داره ببغداد غير مرة ، فرأيته يروي عن أبي حاتم والرياشي وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي . فسألت إبراهيم بن محمد بن عرفه الملقب بنفطوية عنه ، فاستخفَّ به ، ولم يوثقه في روايته )) .
وكلام نفطويه فيه من قبيل كلام الأقران ، وكان بينهما من التنازع ما يجعل قول نفطوية لا يُقبل فيه ، ويتبعه الأزهري الذي كان تلميذًا بارًّا لنفطويه ، فإنه لم يستطع أن يتغلب على نفسه في التغلب لشيخه ، وابن دريد من العلماء الثقات ، فقد وثقه آخرون ، وكتاب ( جمهرة اللغة ) مما ارتضاه اللاحقون ، واعتمدوا عليه ، فضلا عما كان يتَّسِم به ابن دريد من التورع في نقل اللغة ونقل معاني القرآن ، وهذا المنهج في التورع موجود بكثرة في كتاب الجمهرة ، فتجده يكثر من قوله :( والله اعلم ) ، ويقول : ولا أتحقق صحته ... الخ من مثل هذه الأساليب . ينظر في ذلك ( مقدمة البعلبكي حقق كتاب الجمهرة )
4 ـ إذا خالف الأحوال المعروفة للعالم ، فإنه لا يقبل .
ومن ذلك ما حكاه ابن بطوطة في رحلته الماتعة المشهورة ، حكى عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال : (( وكان دخولي لبعلبك عشية النهار وخرجت منها بالغدو لفرط اشتياقي إلى دمشق وصلت يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ست وعشرين وسبعمائة غلى مدينة دمشق الشام فنزلت فيها بمدرسة المالكية المعروفة بـ(الشرابيشية ) )) إلى أن قال : (( وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلى أن قال فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من المنبر فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ... )) .
وهذا فيه مخالفتان :
الأولى : ما عُرف من حال شيخ الإسلام من نفي التجسيم عن الرب سبحانه ، وإنما يقع من مخالفيه هذا الزعم لإثباته للصفات .
الثانية : التاريخ ، فقد ذكر ابن بطوطة أنه دخل دمشق في ( 9 رمضان سنة 726 )، وشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك الوقت كان محبوسًا في القلعة كما ذكر ذلك العلماء الثقات كتلميذه الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي والحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في طبقات الحنابلة قال في ترجمة الشيخ من طبقاته المذكورة مكث الشيخ في القلعة من ( شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين ) ، وزاد ابن عبد الهادي أنه دخلها في سادس شعبان .
5 ـ إذا خالف التاريخ المعروف للعالم ، فإنه لا يقبل ، كخبر أخذ حنين بن إسحاق عن الخليل بن احمد ، قال ابن جلجل في كتابه ( طبقات الأطباء والحكماء : ص : 68 ـ 78 ) : (( حنين بن إسحاق تلميذ يوحنا بن ماسويه ، عالمًا بلسان العرب ، فصيحًا باللسان اليوناني جدًّا ، بارعًا في اللسانين بلاغة بلغ بها تمييز علل اللسانين ، ونهض من بغداد إلى أرض فارس ، وكان الخليل بن أحمد النحوي رحمه الله بأرض فارس ، فلزمه حنين حتى برع في لسان العرب ، وأدخل كتاب العين بغداد )) .
وقد علق المحقق فؤاد سيد على كلام ابن جلجل هذا بكلام ردَّ فيه هذا الخبرالغريب ، واعتمد في ذلك على التاريخ ، فالخليل مات سنة 175 على الأكثر ، وحنين ولد 194 ، فانظر كيف يتهاوى هذا الخبر أمام التاريخ ؟!
وليس العجب هنا فقط ، بل الأعجب أن يأتي معاصرون ، ويزعمون أن الخليل بن أحمد قد أخذ ترتيب معجم ( العين ) من اليونانية ، وقد استفادها من حنين بن إسحاق !
( انظر في نقد هذه المعلومة : أصالة علم الأصوات عند الخليل بن أحمد من خلال مقدمة كتاب العين ، للدكتور أحمد محمد قدُّور ص : 16 ، وانظر المراجع التي أعاد إليها أيضًا ) .
6 ـ إذا ورد في الخبر مبالغات مخالفة لما اعتاده الناس من أحوالهم ، ولا تكاد تصدق ، فإنه يتوقف في قبولها ، وهذا يكثر في أخبار المتصوفة .
7 ـ إذا ورد في الأخبار ما يخالف ما اتفقت عليه الشرائع ؛ ككشف الغيب لبعض الناس ، وهو مما اختص الله به ، وذلك يكثر في تراجم المتصوفة .
ومن ذلك ما ذكره العيدروس في كتابه النور السافر ، قال : ((... وحكى لي حفظه الله وأبقاه والإشارة بذلك إلى المجد المذكور . إنه دخل في بعض السنين مدينة قم فسمعت بأن كتبا تعرض للبيع فذهبت إلى بيت صاحبها فأدخلني وأحضر الكتب بين يدي ومددت يدي إلى كتاب منها وفتحته فإذا هو بخط أبي فقلت هذا خط والدي فقال : ما أسم والدك ؟ فقلت يعقوب بن إبراهيم الفيروز أبادي . قال فقام الرجل إلي وقبل راسي وقال : صدقت كأن جاءني والدك في بعض السنين إلى غار من مغارات هذا الجبل وأنا من قطع إلى الله فيه للعبادة فأقام عندي أياما ونسخ لي هذا الكتاب فيه وكان يخدمني ويتعبد معي فاتفق في بعض الأيام أن قلت له : يا شيخ يعقوب ما ترى ننزل إلى المدينة فندخل الحمام ونتنظف فقال : الأمر إليك في ذلك فنزلنا فلما دخلنا الحمام قلت له هات ظهرك لأحكه فامتنع علي وقال : أنا أولى بخدمتك فلازمته على ذلك وهو يتمنع فرأيت الحيلة في ذلك إن قلت له لتصل بركة يدي إلى ظهرك فهنالك أعطاني ظهره فسمعت حسك في ظهره فقلت له : يا يعقوب في ظهرك أولاد فقال ما يدريك قلت أحسست بهم قال كم هم قلت أربعة قال : سمهم فقلت على الفور محمد ويوسف وعلي وحسن قال ثم : فارقني وفارقته فمن أنت منهم ؟ قال شيخنا مجد الدين أنا محمد قال : هل لك أخوة فقلت نعم كما ذكرت يوسف وعلي وحسن قال وكلهم في الحياة قلت لا توفي علي وحسن فقال : الحمد لله فتعجبت من كشفه ومن غريب الاتفاق قال : واسم هذا الرجل أيضا مجد الدين وهو من عباد الله الصالحين أنتهى . قلت : وقريب من هذا أن ابن شيخ ابن الشيخ عبد الله العيدروس تمن . فقال : ما أريد إلى البركة والدعاء لي بذرية صالحة فقال له : يا عبد الله سيلد لك من الأولاد الذكور فلان وفلان وفلان وسماهم أبو بكر وشيخ وحسين وكان إذ ذاك جدي لم يتزوج بعد ثم خرج إلى حضرموت بعد وفاة عمه المشار إليه وتزوج بها أمرأة فولدت له أولادا كما ذكر وسماهم بتلك الأسماء التي سماهم بها الشيخ ثم ولد له بعد الثلاثة ولد سماه محمدا . أخبرني بهذه الحكاية الثقة سالم بن علي باموجه رحمه الله وقد سمعها من سيدي الوالد قدس الله روحه بلفظ قريب من هذا )) . كتاب (النور السافر في إخبار القرن العاشر ) ،لعبد القادر العيدروس ، وهو مليئ بمثل هذه الأخبار .
8 ـ كل ما لا يقوم به علم يجوز نقله وحكايته ، وإن كان القارئ يجزم بأن هذه الحادثة لم تقع لفلان ؛ لأن المراد معنى الخبر وحكايته ، وليس نسبة الحدث لمن ذُكِرُوا في الخبر ، ويكثر هذا في كتب الأدب ، وهي تتفاوت في ضبط الأخبار ، فكلما كان الكتاب متقدمًا كان أكثر ضبطًا من المتأخر ؛ لقربه من الحدث ، وكثيرًا ما يقع ذكر قصة واحده لرجلين مختلفين ، وتكاد تجزم بوقوع اللبس في نقل أحد الكتابين .
ومن ذلك ما رواه الطبري في التاريخ بسنده ، قال : ((حدثني الحارث قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا أبو عبيدة عن أبي يعقوب الثقفي عن عبدالملك بن عمير ، قال :
لما ثَقُلَ معاوية ، وحدَّث الناس أنه الموت ، قال لأهله : احشوا عيني إثمداً ، وأوسعوا رأسي دهنًا ، ففعلوا ، وبرقوا وجهه بالدهن ، ثم مُهِّدَ له ، فجلس ، وقال : أسدوني ، ثم قال : ائذنوا للناس ، فليسلموا قياما ، ولا يجلس أحد . فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما ، فيراه مكتحلاً مدهنًا ، فيقول : يقول الناس هو لمآبه ، وهو أصح الناس .
فلما خرجوا من عنده قال معاوية :
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
قال : وكان به النفاثات ، فمات من يومه ذلك )).
ثم تجد هذه الرواية في ( مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، أبي محمد عبدالله بن أسعد بن علي اليمني المعروف باليافعي‏) بهذا النص : (( ... ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان لما اشتد مرض موته وحصل اليأس منه = دخل عليه بعض ذرية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعوده ، فوجده قد استند جالساً متجلداً ، ثم ضعف عن القعود فاضطجع ، وأنشد‏:‏
وتجلدي للشامتين أريهم ** * أني لريب الدهر لا أتضعضع
فأنشد العلوي عند ذلك‏:‏
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
فتعجب الحاضرون من جوابه‏ )) .‏
تامل الفرق بين النصين ، وانظر كيف انحرف الثاني عن الأول ، وصارت فيه زيادات لا يخفى على لبيب كيف دخلت !
وإذا أردت أن تستفيد من هذه الرواية في موعظة أو حكمة أو غير ذلك ، فإنك لو لم تذكر معاوية ، وجعلت بدلاً عنه عبارة (أحد الملوك ) لكفى في إيصال ما تريد .
لكن لو كنت تترجم لمعاوية ، وتريد أن تذكر هذا الخبر ، فلا شكَّ أن ما رواه الطبري هو المقدَّم ، بخلاف رواية من جاء بعده لما فيها من الزيادات التي لا تخفى ، وهي تحمل تحت طياتها إشارة إلى خلاف تاريخي لا يحسن ذكره بمثل هذه الأخبار المرسلة ، بل لا بد من صحة الخبر في ذلك .
وبعد ، فهذه بعض اللفتات في قضية قبول الأخبار أو ردها ، وهي تحتاج إلى بحث متوسع ، لكني اكتفي بذكر هذه القضايا مع أمثلتها لعل غيري يتحفنا بمزيد بحث ونقد لهذه الفكرة .
 
بارك الله فيك يا أبا عبدالملك على هذه الفوائد العلمية حول منهجية تلقي أخبار كتب التراجم ، وهو موضوع علمي ذو شجون ، والتعامل معه يحتاج إلى بصيرة وخبرة من طالب العلم ، حتى يضع كل ترجمة وكل خبر في مكانه الصحيح . ورحم الله شمر بن حمدويه والإمام الأزهريَّ فما علمنا عليهم إلا خيراً ، وكم انتفعنا بكتاب (تهذيب اللغة) للأزهري ، وكم له عند طلاب العلم من يد .
 
أحسن الله إليكم وجزاكم خير الجزاء

وهناك مسألة مهمة جدا في معرفة صحة الأخبار وقبولها من عدمه، وتقديم قول على قول

وذلك بمعرفة مقادير أهل العلم واختلافها، ومن عرف بالتبحر منهم ممن لم يعرف به، ومن عرف بالتدقيق والتحقيق ممن لم يعرف.

وإذا نظرنا إلى هذا الأمر في هذه المسألة وجدنا التفاوت كبيرا بين الأزهري والقفطي، فالأزهري عالم متبحر جهبذ حافظ محقق مدقق لا يقبل إلا ما صح، ومن يتأمل في كتابه ( تهذيب اللغة ) يجده أفضل الكتب بلا نزاع من ناحية التحقيق اللغوي، بخلاف القفطي الذي كان يضمن كتابه من الأخبار التي سمعها من هنا وهناك بغير أن يتحقق منها.

وهذا يذكرني بقول ابن حبان في بعض المواضع من صحيحه عند ترجيحه رواية على أخرى: ( وفلان يساوي مائتين من فلان !! )

فهذا وجه مهم جدا ينبغي أخذه في الاعتبار عند ترجيح قول على قول، فقول الطبري مثلا في التفسير لا يعادله قول الثعلبي أو الزمخشري.

وقول البخاري ومسلم لا يعادله قول ابن ماجه

وقول أبي حاتم وأبي زرعة لا يعادله قول الطبراني والعجلي

وهكذا في كل علم من العلوم

فإذا لم يكن طالب العلم متنبها لهذه المسألة من تفاوت مراتب أهل العلم وتقديم بعضهم على بعض، أصابه خلل عظيم

والله تعالى أعلم
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خير الجزاء على هذا البحث القيم ،وهذا ما يحتاجه أمثالي ممن يرتاد هذا الملتقى .
وأنتما كالغيث ، وكأني بكما وقد أراد كل منكما أن يهدي للآخر هذه الثمار الطيبة ، ولكن أبى طبعكما إلا أن يعم النفع للجميع وليت كل سر تجاوز صاحبيه أن يكون كهذا .
 
الأخوين الفاضلين أبا مالك وأبا صالح رعاهما الله : شكر الله لكما تعقيبكما الكريم.

وأما ما ذكره أخي أبو مالك حول أهمية معرفة مبلغ العلماء من العلم ، وطبقاتهم ، للاستئناس بذلك في التحقق من نسبة الكلام لهم أو نحو ذلك فلا شك في أهميته ، وأنه قرينة قوية في هذا الأمر . ومع أن الموازنة بين أبي منصور الأزهري (ت370هـ) ، بالقفطي (ت646هـ) فيها شيء من التجوز لا ختلاف ميدان جمع اللغة عن ميدان تراجم الرجال ، فالأول ميدان الأزهري اللغوي ، والثاني ميدان القفطي المؤرخ . وفي الحق إن كلاً منهما مجيد في بابه ، فكتاب القفطي في تراجم النحويين والشعراء من أجود الكتب ، ولا يخلو من الأوهام التي لا يكاد يسلم منها مؤلف لا الأزهري ولا غيره .
 
لقد صدر للشيخ الشريف حاتم بن عارف العوني كتاب ( إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية وبعض المسائل الشرعية ) فيه سلسلة من مقالاته العلمية بعناية تلميذه هاني السويهري ، وفيه بحث بعنوان ( نقد أسانيد الأخبار التاريخية / ضوابطه وأحواله ) وقد نشره في ( 9 : 1 : 1423 ) ، وهو يصبُّ في الفكرة التي تطارحناها في هذه المشاركة ، وقد أخذ أخي عبد الرحمن من الشيخ الشريف ـ أثناء لقائنا به ليلة البارحة ( 27 :3 : 1428 ) وعدًا بأن يرسل له البحث على هيئة إلكترونية ليضيفه هنا لتعم الفائدة في ذلك .
 
طلبتُ اليوم -الثلاثاء 13/5/1431هـ - مرةً أخرى من الدكتور حاتم الشريف نسخةً إلكترونيةً من بحثه الذي أشار إليه الدكتور مساعد الطيار لنشره لكم هنا وقد كلَّف - مشكوراً - تلميذه الذي أشرف على إخراج كتابه الأخ الكريم هاني السويهري وفقه الله بإرساله ، فأرسله لي مشكوراً على هيئة PDF وهو مرفق لكم مع هذه المشاركة أرجو أن ينفعكم الله بقراءته وتأمله .
وأشكر الدكتور حاتم الشريف والأخ هاني السويهري على استجابتهم جزاهما الله خيراً .
 
[FONT=&quot]مذاكرة علمية ماتعة، ومن تتمة القول في كتاب "الجيم" ومعناه، ما ذكره الفيروزآبادي في بصائر ذوي التمييز،فإنه قال: قال أبو عمرو الشيباني: الجيم في لغة العرب الديباج، ثم عقب الفيروز آبادي بقوله: وله كتاب في اللغة سماه الجيم، كأنه شبهه بالديباج لحسنه.اهـ [/FONT]
[FONT=&quot]انظر كتاب: معجم المعاجم للأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال. ص243 طبعة دار الغرب الإسلامي. [/FONT]
 
[FONT=&quot]مذاكرة علمية ماتعة، ومن تتمة القول في كتاب "الجيم" ومعناه، ما ذكره الفيروزآبادي في بصائر ذوي التمييز،فإنه قال: قال أبو عمرو الشيباني: الجيم في لغة العرب الديباج، ثم عقب الفيروز آبادي بقوله: وله كتاب في اللغة سماه الجيم، كأنه شبهه بالديباج لحسنه.اهـ [/FONT]
[FONT=&quot]انظر كتاب: معجم المعاجم للأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال. ص243 طبعة دار الغرب الإسلامي. [/FONT]

بارك الله فيكم أخي عدنان على هذه الإضافة القيمة . وقد انقطعت عنا فلم نر لك مشاركة منذ لقائي بك في مدينة فاس قبل سنة تقريباً، أسأل الله لك التوفيق .
 
[FONT=&quot]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[/FONT]
[FONT=&quot] شكر الله لكم –حضرة الدكتور الفاضل عبد الرحمن الشهري- ما كان من حسن العهد والذكرى، وما كان من مروركم الكريم وتفقدكم اللطيف، وقد حال الحول على ذلكم اللقاء المبارك بكم وبالشيخ الدكتور مساعد الطيار، بمدينة فاس أبقاها الله كنفا لأهل الفضيلة، وزكى ما بها من المعارف الجليلة، ولا زالت ساعات اللقاء، ماثلة في الذهن، حاضرة في البال.[/FONT]
[FONT=&quot] ولم يكن لانقطاعي عن هذا المنتدى المبارك من سبب ظاهر، سوى التسويف وتأميل الظنون، على أني ما زلت متتبعا لما يكتب في الملتقى، ناظرا لما فيه من كريم الفوائد، مستفيدا مما يثار فيه من المناقشات والمذاكرات. [/FONT]
[FONT=&quot] وأذكر أني كنت تعللت لك ببعض العلة حين لقيتكم على هامش المؤتمر بفاس، فكان من جوابكم أن الانشغال بالبحث مدعاة لكثرة العطاء لا قلته، وأن وقت إعداد بحث الدكتوراه هو مظنة لكثرة المشاركات لِمَا تكون عليه نفس الباحث من التحفز والنظر المتكرر ومعالجة المسائل، وأَحْرِ بمن كانت هذه سبيله أن يزداد عطاؤه، ويكثر غَنَاؤُه. [/FONT]
[FONT=&quot] وما زلتُ لهذه الكلمة ذاكرا، وبها معتبرا، وعسى إن كنتُ أسأتُ بهذا الانقطاع المخل، أن تشفع لي بعض المشاركات المستأنفة إن شاء الله. [/FONT]
[FONT=&quot]ودمتم بألف خير. [/FONT]
 
فتح الله عليكم فتوح العارفين العالمين... وبارك في أقلامكم .. وفياحُسن الهدية - ماشاء الله- وياحُسن الرد.. أصبح نفع الهدية متعدي !!.
الرفع للفائدة ..
 
عودة
أعلى