ابن أبي داود إمام كبير، من أقران الإمام الكبير ابن جرير الطبري رحمهما الله تعالى، وهو كذلك من المصنفين الكبار الذين كان لهم أثر على المدرسة القرآنية، وعندي قصاصة فيها إشارات لجهوده في هذا الجانب، ولكن قبل أن أعرج عليها تستوقفني بعض الأمور في سيرته العطرة.
-هو عبدالله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، مولده (سنة 230-وتوفي سنة316). اعتنى به والده فبكر به للسماع على طريقة الحفاظ.
أوتي عبدالله همة عالية وحفظا باهرا .
- من علو همته: قال رحمه الله: دخلت الكوفة ومعي درهم واحد فاشتريت به ثلاثين مدا باقلاء فكنت آكل منه واكتب عن الأشج فما فرغ الباقلاء حتى كتبت عنه ثلاثين ألف حديث ما بين مقطوع ومرسل .
- ومن قوة حفظه: قصة إملائه آلاف الأحاديث عن ظهر قلب. قال أبو بكر بن شاذان: قدم ابن أبي داود أصبهان - وفي نسخة سجستان - فسألوه ان يحدثهم فقال ما معي أصل، فقالوا: ابن أبي داود وأصل! قال: فأثاروني فأمليت عليهم من حفظي ثلاثين ألف حديث فلما قدمت بغداد، قال البغداديون:مضى إلى سجستان ولعب بهم، ثم فيجوا فيجا اكتروه بستة دنانير إلى سجستان ليكتب لهم النسخة، فكتبت وجىء بها، وعرضت على الحفاظ فخطأوني في ستة أحاديث منها ثلاثة حدثت بها كما حدثت وثلاثة أخطأت فيها . قال الذهبي: هكذا رواها أبو القاسم الأزهري عن ابن شاذان، ورواها غيره فذكر أن ذلك كان بأصبهان ، وكذا روى أبو علي النيسابوري عن ابن أبي داود فكأن الأزهري وهم . قال الحاكم: سمعت أبا علي الحافظ يقول: سمعت أبا بكر يقول حدثت من حفظي بأصبهان بستة وثلاثين الفا ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلما انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به . ولذلك قال الحافظ أبو محمد الخلال: كان ابن أبي داود احفظ من أبيه .
- وتستوقفني كذلك محنته التي تعرض لها: وذلك أنه رمي بالنصب، ويظهر من الترجمة أن سبب قذفه بالنصب يرجع لأمرين رئيسين:
الأول: تضعيفه حديث غدير خم.
ولما سمع بذلك الطبري كتب جزءا في طرق هذا الحديث. وأصح طرقه ما رواه الإمام مسلم من طريق إسماعيل بن إبراهيم حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وسمعت حديثه وغزوت معه، وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه، الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي . فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال نعم أهـ.
الثاني: تضعيفه حديث الطير.
وما أدراك ما حديث الطير فإنه لا ينقضي منه العجب، كم ابتلي به من عالم، ان رواه وصححه اتهم بالرفض كما حصل للحاكم ابي عبدالله، وإن ضعفه وابطله اتهم بالنصب كما حصل لابن ابي داود. لكن كان في عبارة ابن ابي داود بعض الجفاء فقد قال: إن صح حديث الطير فنبوة النبي صلى الله عليه وسلم باطلة، لأنه حكى عن حاجب النبي صلى الله عليه وسلم خيانة ، يعني: أنسا وحاجب النبي لا يكون خائنا. قال الذهبي: هذه عبارة رديئة، وكلام نحس، بل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حق قطعي، إن صح خبر الطير، وإن لم يصح، وما وجه الارتباط؟ هذا أنس قد خدم النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحتلم، وقبل جريان القلم، فيجوز أن تكون قصة الطائر في تلك المدة. فرضنا أنه كان محتلما، ما هو بمعصوم من الخيانة، بل فعل هذه الجناية الخفيفة متأولا، ثم إنه حبس عليا عن الدخول كما قيل، فكان ماذا؟ والدعوة النبوية قد نفذت واستجيبت، فلو حبسه، أو رده مرات، ما بقي يتصور أن يدخل ويأكل مع المصطفى سواه وقال الذهبي: وحديث الطير - على ضعفه - فله طرق جمة، وقد أفردتها في جزء، ولم يثبت، ولا أنا بالمعتقد بطلانه، وقد أخطأ ابن أبي داود في عبارته وقوله، وله على خطئه أجر واحد، وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو. والرجل فمن كبار علماء الإسلام، ومن أوثق الحفاظ - رحمه الله تعالى -. قلت: إن ربنا سبحانه وتعالى قد حكى عن زوجتي نبيين كريمين خيانة فقال في كتابه الكريم: (فخانتاهما) فهل يؤثر هذا في نبوة نوح ولوط عليهما السلام، كلا وحاشا.
وسبب ثالث، رمي من أجله بالنصب، فقد ذكر أبو نعيم حكاية محنته وأنه روى شيئا أخطأ بنقله من قول النواصب لا بارك الله فيهم – تركت ذكره عمدا- . قال احمد بن يوسف الأزرق: سمعت أبا بكر بن أبي داود غير مرة يقول: كل من بيني وبينه شيء فهو في حل الا من رمانى ببغض على رضي الله عنه
- ويستوقفني في ترجمته: تضعيف أبيه له
ولذلك أورده ابن عدي في الكامل، وقال: : لولا انا شرطنا ان كل من تكلم فيه ذكرناه لما ذكرت بن أبي داود وقد تكلم فيه أبوه وإبراهيم بن أورمة ونسب في الابتداء الى شيء من النصب ونفاه بن الفرات من بغداد الى واسط ثم رده علي بن عيسى فحدث وأظهر فضائل علي ثم تحنبل فصار شيخا فيهم وهو مقبول عند أصحاب الحديث واما كلام أبيه فيه فلا أدري أيش تبين له منه. وسمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود يقول: ومن البلاء ان عبد الله يطلب القضاء . وسمعت علي بن عبد الله الداهري سمعت محمد بن احمد بن عمرو سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت أبا داود يقول: ابنى عبد الله كذاب. ثم قال ابن عدى: وكان ابن صاعد يقول: كفانا أبوه بما قال فيه. وقال محمد بن عبد الله القطان كنت عند ابن جرير فقال رجل: ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي! فقال: تكبيره من حارس أهـ يعني أن الحارس إذا غفا ونام وخشي شيئا، يكبر بصوت عال ليوهم منكان هناك أنه يقظ، يعني أنه يتصنع ذلك... قال الذهبي: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه كما لم نعتد بتكذيبه لابن صاعد وكذا لا يسمع قول ابن جرير فيه فان هؤلاء بينهم عداوة بينة فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض . وأما قول أبيه فيه فالظاهر انه ان صح عنه فقد عنى انه كذاب في كلامه لا في الحديث النبوي، وكأنه قال هذا وعبد الله شاب طرى ثم كبر وساد . وقال في السير: لعل قول أبيه فيه - إن صح - أراد الكذب في لهجته، لا في الحديث، فإنه حجة فيما ينقله، أو كان يكذب ويوري في كلامه، ومن زعم أنه لا يكذب أبدا، فهو أرعن، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب، ثم إنه شاخ وارعوى، ولزم الصدق والتقى.
قال محمد بن عبيد الله بن الشخير: كان ابن أبي داود زاهدا ناسكا صلى عليه يوم مات نحو من ثلاث مائة ألف انسان أو أكثر.. رحمه الله تعالى..
لابن أبي داود كتب قيمة في علوم القرآن: فقد ذكر له ابن النديم من الكتب:
1-كتاب التفسير ، وقال: عمله لما عمل أبو جعفر الطبري كتابه أهـ. وقال الذهبي في السير: وروى الإمام أبو بكر النقاش المفسر - وليس بمعتمد - أنه سمع أبا بكر ابن أبي داود يقول: إن في تفسيره مائة ألف وعشرين ألف حديث أهـ. قلت: ولم يذكره من صنف في طبقات المفسرين، فهو ممن يستدرك عليهم.
2-كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه.
3-كتاب نظم القرآن.
4-كتاب شريعة التفسير.
5-كتاب شريعة المقاري . ذكرها كلها ابن النديم وغيره.
6- ومما زاده يوسف ابن عبدالهادي في معجم الكتب : كتاب القراءات أهـ.
ولا أدري إن كان هذا صحيحا، فقد ترجمه ابن الجزري في غاية النهاية فلم يذكر له إلا كتاب المصاحف، لم يذكر القراءات، ثم ذكر وهما في ترجمته. وايضا لم يذكر الذهبي هذا الكتاب ضمن الكتب القديمة – التسعة والأربعين - التي زعم الشريشي أنه قرأ بها وهي:
التيسير والكافي وتبصرة مكي والمحبر لابن أشتة والمفيد في الشواذ له والهادي لابن سفيان وكتاب القراءات لأبي عبيد والجامع لابن مجاهد والتذكرة لابن غلبون والهداية للمهدوي والقراءات للأذفوي واختلاف السبعة للمظفر بن أحمد النحوي وكتاب القراءات لابن عبد البر وكتاب القراءات لأبي عبد الله محمد بن السيد البطليوسي والسبعة ليوسف بن خليف بن سفيان الغساني الوراق والقراءات لأبي بكر يحيى بن سعيد بن يحيى والقراءات لخلف بن جعفر والقراءات لأبي بكر ابن الأنباري والقراءات لابن جرير الطبري وكتاب مختصر الروايات لأبي جعفر النحاس وكتاب القراءات للطلمنكي وكتاب القراءات لابن قتيبة وكتاب الموجز وكتاب الوجيز وكتاب الإيضاح وكتاب الإفصاح لأبي علي الأهوازي وكتاب البيان لابن أبي هاشم وكتاب القراءات لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السيد والمؤيد في القراءات الثمانية لمحمد بن علي بن أبي القاسم وكتاب القراءات لمعمر بن المثنى وكتاب القراءات لأبي القاسم عبدالرحمن بن محمد اللبيدي وكتاب القراءات لعبد الله بن ابي زمنين وكتاب القراءات لأبي الحكم العاص بن خلف الإشبيلي والقراءات لقاسم بن إبراهيم والقراءات لحاتم بن محمد الطرابلسي والقراءات للنقاش وكتاب المنظم في القراءات للمظفي بن أحمد الدينوري وبكتاب القاصد لعبد الرحمن بن حسن الخزرجي وبكتاب نهاية الإختصار لأبي الحسن القنطري وبكتاب عبد الملك بن حبيب في القراءات وبكتاب مختصر القراءات لأبي حفص الهوزني وبكتاب التنبيه والإرشاد الى معرفة اختلاف القراء لابن شفيع وبكتاب القراءات وبكتاب الهداية في قراءة نافع لعبد الله بن شهدة بن يوسف وبكتاب القراءات لأبي حاتم السجستاني وبكتاب القراءات لمقاتل بن سليمان وبكتاب القراءات لابن فورك وبكتاب القراءات لأبي مروان عبيد الله بن مالك القرطبي .
وعيسى بن عبدالعزيز الشريشي – عفا الله عنه – أحد الضعفاء المتهمين .
[لكن هذا النص مفيد جدا في معرفة الكتب المصنفة في هذا الفن ولذلك نقلته، فإنه قل من تنبه له من الباحثين].
7- كتاب فضائل القرآن: وهذا الكتاب ألفه لما ألف ابن جرير كتاب الفضائل المسمى بالآداب.. وقد جرى في هذا الكتاب على عادة المحدثين من التحديث بالطم والرم، فروى كل ما اتفقت له روايته، دون تمحيص. والكتاب روى منه ابن الجوزي بعض الأحاديث، نقلها عنه الزيلعي في تخريج الكشاف، وقد روى منه الحديث الطويل في فضائل سور القرآن سورة سورة، وهو حديث موضوع.
وقد انتقده الزيلعي لأجل ذلك فقال في آخر كتابه العجاب تخريج أحاديث الكشاف : (وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره فذكر عند كل سورة منها ما يخصها وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك ولم اعجب منهما لانهما ليسا من اصحاب الحديث وإنما عجبت من الامام أبي بكر بن أبي داود كيف فرقه على كتابه الذي صنفه في فضائل القرآن وهو من أهل هذا الشأن ويعلم أنه حديث محال ولكن بعض المحدثين يرى تنفيق حديثه ولو بالبواطيل وهذا قبيح منهم فإنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني حديثا يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين، وهذا حديث فضائل السور مصنوع بلا شك أهـ.
8-كتاب المصاحف. وهو مطبوع في مجلدين. وقد كُتبت عنه بعض المقالات، ولنا عودة له إن شاء الله تعالى..
أستسمحكم لأضيف هذه النقاط في ترجمة الحافظ ابن أبي داود رحمه الله. (وليست استدراكات وإنما هي للفائدة)
كنيته : أبو بكر.
سافر في طلب العلم إلى خراسان، والعراق (البصرة بغداد الكوفة) والحرمين ومصر والشام والجزيرة وأصبهان وفارس والثغور.
من تلامذته: الحفاظ أبو الحسن الدارقطني وأبو بكر الآجري وأبو حفص ابن شاهين...
ومما يدل على حفظه -إضافة إلى ما ذكر أعلاه في أول مشاركة-، ما رواه تلميذه ابن شاهين رحمه الله قال: أملى علينا ابن أبي داود سنين ، وما رأيت بيده كتابا، إنما كان يملي حفظا، فكان يقعد على المنبر بعدما عمي، ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو معمر -بيده كتاب- فيقول له: حديث كذا، فيسرده من حفظه، حتى يأتي على المجلس. قرأ علينا يوما حديث " الفتون " من حفظه، فقام أبو تمام الزينبي، وقال: لله درك ! ما رأيت مثلك إلا أن يكون إبراهيم الحربي.(حديث الفتون هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى (وفتناك فتونا) وهو طويل جدا في صفحات).
جزاك الله خيراً أخي الفاضل أحمد السلوم على هذه المعلومات القيمة، وليتك وضعتها في مشاركة واحدة حتى يسهل قراءتها بلا فاصل بالتعليقات، وفقك الله وبارك فيك...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف لأبي داود عبدالله بن سليمان بن الأشعث السجستاني( 230- 316)، أن يقرأ كتاب التبصرة في القراءات السبع لمكي بن أبي طالب القيسي القيرواني(ت437هـ)، أو كتاب التيسير في القراءات السبع لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني(ت444هـ)؟ وأبو داود السجستاني متقدم في الوفاة عن من ذكرتهما وغيرهما. قد يكون قصد الشريسي الأندلسي أب داود، سليمان بن نجاح الداني(413 - 496 هـ)
جزاك الله خيرا على هذه التتمة، وسيرة ابن ابي داود طويلة، وهو إمام غير مدافع لكن في آخر هذه القصة قول ابن ابي داود: وأنا اعرف بالنجوم وهو لا يعرفها، ولذلك ضربت صفحا عنها، فإن معرفة النجوم لا خير فيها.
وشكرا لك أخي فهد على اطلاعك وان شاء الله نستفيد من ملاحظاتك في مقالات قادمة.
أخي مصطفى ، بارك الله فيك، لم يقل أحد ان ابن أبي داود السجستاني قرأ بكتاب مكي او الداني..
الذي ذكرته في قصة الشريشي - ونقلته - أن الشريشي زعم انه قرأ بمجموعة من الكتب القديمة النادرة، ولم يذكر بينها كتاب القراءات لابن أبي داود ، فلو كان لابن ابي داود كتاب لكان ذكره الشريشي في ثبت مسموعاته المزعوم،،
وهذا النقل كما قلت مفيد جدا في دراسة تاريخ التدوين في هذا الفن..
فأرجو منك أخي مصطفى إعادة قراءة الفقرة مرة أخرى..
والله يحفظك ويرعاك