شايب زاوشثتي
New member
يطرح الموضوع للتدبر والمناقشة
فكرت أن أضع هنا الرابط إلى فيديو الشبهة ورأيت الإمتناع عن ذلك لتضمن تلك المادة المرئية لعبارات الإستهزاء والسخرية مع صور تحاول تصوير المشهد في الآية؛ وصاحب الفيديو من المسيحيين الحاقدين المغرضين.
تدور الشبهة، أو بالأحرى الشبهات، حول الآية الكريمة 72 من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}. وملخص الشبهة: أولا؛ مقدمة اصطديادية هي أن القرآن قال عن نفسه جُعل وأُنزل قرآنا عربيا لعلنا نعقل، وبالتالي سنستخدم العقل، كما قال عن نفسه أنه لو لم يكن من عند الله لوجدنا فيه إختلافا كثيرا، وعليه سنختبر تحقق هذا الإختلاف. ثانيا؛ قام بتقسيم الآية إلى مقدمتين ونتيجة فالأولى عرض الأمانة على الجمادات فأبين حملها، والثانية عرض الأمانة على الإنسان فوافق عليها، والنتيجة الجمادات عادلة عالمة بينما الإنسان ظلوم جهول. ثالثا؛ بطلان المقدمة الأولى سيبطل النتيجة فرجع إلى التفاسير (الطبري، إبن كثير، والرازي) يبحث فيها عن معنى الأمانة والعرض والإختيار، ويذكر الإختلاف الذي نص عليه الطبري (واختلف أهل التأويل) معقبا أن ذكر الإختلاف مشهور عنهم، ويتساءل: كيف تحتج علي بآية أنت لا تَعرف معناها ولا نعرف هل عُرضت حقا على آدم، ولا نعرف كيف تُعرض على الجمادات وهي غير مدركة، وكيف تغتسل الجبال من الجنابة، وهل في حالة قبول الجبال (وهي جزء من الأرض) دون الأرض والسماوات لهذه الأمانة ستُحاسب إما عقاب أو ثواب .. ثم ينتهي بأسئلة الموضوع:
- كيف يكون الله هكذا يدور على مخلوقاته: "من يحمل الأمانة؟" ؟
- كيف عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال ؟
- هل هذه الجمادات لها عقل تفكر به وتختار وترفض ؟
- هل هذا يعني أنها أعقل من البشر ؟
- لماذا نتحمل ذنب قبول آدم للأمانة؟ هل نتحمل وزره؟
- بما أن الإنسان ظلوم جهول، فلماذا تعرض عليه الأمانة أصلا؟
توطئة
السؤال قبل الأخير هو السؤال الوحيد المناسب لما ذكره من إختبار لتحقق الإختلاف في القرآن لوجود هذا الإختلاف بين فهمه المعوج لحمل الإنسان للأمانة من جانب والآية {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} من جانب آخر، أما ما يتوهمه من إستحالة تحقق التعقّل (لعلكم تعقلون) فلا تنطبق عليه عملية إختبار الإختلاف. وبهذه المناسبة سنخرج قليلا في إطار الإختلاف إلى شبهة أخرى: توهم الإختلاف بين هذه الآية من سورة الأحزاب وقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}.
والمضحك في الأمر أن صاحب الشبهة من المسيحيين، ونحن لا نناقشه لأن مجادلة المغرضين من الجدال المنهي عنه، والهدف سيكون المناقشة والتدبر ثم نشر الرابط هناك حيث الإختلاط بين المغرضين والعوام من المسلمين والباحثين عن الصواب والجدية، أما هو وأمثاله فنذكّرهم بنص من متى ((ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟)) فقبل أن تقيم الشبهة على فهمك للتفاسير وهي غير مقدسة بقطع النظر عن صحة فهمك، وجب عليك النظر لما في نصوصك المقدسة؛ ثم عن أي شيء تتكلم إذا كان أهل التأويل لا يعرفون معنى {الأمانة}؟ لا هم عرفوا الأمانة، ولا أنت عرّفتها، وهذا يبيّن أنك مغرض فبطل ما أشرت إليه في المقدمة من ادعاء البحث عن الحقيقة!!
بالنسبة للذي ذكره أهل التأويل من القدامى فقد تحتار فيه العقول لكن لا تحيله، والأمثلة من الواقع واضحة فهل ستعترض عندما أخبرك أني سألت جوجل؟ أو أن الجماد (الحاسوب) يبحث في التفاسير ويحسب عدد الكلمات؟ هل له عقل ليبحث ويحسب؟ ومع ذلك لابد من مراعاة العرف وقاعدة مخاطبة الناس على قدر عقولهم، ولا نستند على نهج البلكفة (المصطلح الذي نحته الإمام الزمخشري رحمه الله) في كل صغيرة وكبيرة، فنقيل العقل بمناسبة وبغير مناسبة، لأن القرآن كريم غني بالتنوع الخطابي الحجاجي القصصي الأسلوبي الأدبي المعرفي لأنه بيان للناس كافة والناس معادن في قدراتهم الذهنية والعقلية والتخيلية والمعرفية.
وطبعا هذا لا يعني أن هذا المغرض المسيحي، المجادل بالباطل، قد فهم التفاسير. أما الإختلاف الذي ذكره مستهزئا فمنه الإختلاف على ظاهره، والإختلاف المجازي الذي اصطلح عليه بإختلاف تنوع؛ وأكثر الإختلافات بين القدامى هي من الإختلاف المجازي، وهذا الإختلاف ظاهرة صحية بل هو من عجائب القرآن ومدهشاته إذ تتحقق في الواقع وعلى المستوى المعرفي صفة من صفات القرآن أنه بيان للناس كافة والإنسانية عرفت ولا زالت تعرف التنوع من جميع الوجوه، لكن لن ينتفع بالقرآن إلا أهل التقوى الذين يعملون العقل بشكل صريح، أما العقلانية المغرضة فينطبق عليها ما حكي عن فولتير: "أعطني جملة واحدة وأنا أضمن تعليق صاحبها على حبل المشنقة" أي يمكن التلاعب بالجملة من خلال الإنتقاء والبتر وحمل التنوع على التضاد والإسقاط وغيرها فتؤدي الجملة البريئة بالمفكر العبقري إلى حبل المشنقة.
فلنقل مثلا: قام زيد بحساب متوسط درجة الحرارة الأدنى بالقاهرة في الشهر الفائت فكتب 14 درجة مئوية، وقام الحاسوب بحسابها فكتب 13 درجة مئوية. والأفضل أن نقول طلب عمرو من زيد القيام بالحساب وطلب من الحاسوب نفس الشيء. إن كنت لا تعلم كيف يُطالب بشيء من الحاسوب فمن غير المعقول أن تسأل كيف طلب عمرو هذا، ومن غير المعقول أن تسأل وهل لهذا الجماد عقل ليحسب، أو هل يتصف بالحواس ليرى ويقرأ، أو تسأل وهل له يد يمسك بقلم ليكتب؟ هذه أسئلة لا يطرحها من يعمل عقله بشكل صريح. أما إن كنت تعرف أن هذا الجماد فعلا يحسب ويقرأ ويكتب، فلا يحق لك حمل المراد بالحساب عند زيد بمعنى الحساب عند الجهاز. إذا شرحنا الطلب بقولنا أنه يعني: خذ سيارة أجرة و اذهب إلى مصلحة الارصاد الجوية وفي يدك الورق والقلم لتكتب ما يمليه عليك الموظف في تلك المصلحة، ثم اكتب الأرقام في الجدول حسب التقويم .. فوجب حمل هذا المعنى على عمل زيد لا الجهاز، فكذلك ما قيل في التفاسير عن الأمانة عندما تقرأ الحج والإغتسال من الجنابة وحفظ الفرج وغيرها فسوف تحملها على المراد من أفعال الإنسان لا الجمادات، كذلك عملية عرض هذه الأمانة. والأمانة هنا بمثابة المهمة في المثال الذي نعلق به على التفاسير، بينما يُمثل للعرض بالطلب. إذا أخطأ زيد في الدرجة المتوسطة وأصاب الحاسوب، لا يعقل أن نصف الجهاز بالعلم أو الجهل، فهو جماد وذكرنا للخطأ والصواب فشي يتعلق بزيد حصرا، فبطل السؤال هل الحاسوب أعقل من زيد.
وفيما يتعلق بالإختلاف فإنه تنوع فالحساب نقصد به تفاصيل أو عمليات المهمة وهي متعددة متنوعة، كذلك الأمانة والعرض في التفاسير. وما قيل فيها يدخل في عموم الأمانة لا الأمانة المخصصة، ولسنا مُلزَمين بالدفاع عن التفاسير، خاصة الإسرائيليات فيها إذ هي من أساطير آبائكم والقرآن العظيم منزه عنها، لكن المراد أن نبيّن أن أهل التفسير لم يكونوا أغبياء فهم كانوا يعلمون أن الجمادات لا عقل لها ولا حرية اختيار، كما كانوا يعلمون أنها خاضعة لله بالإستسلام الكوني، وما ذكروه من إسرائيليات وتفاصيل تأويلية فهي للإغناء المعرفي وهذا كان دور الثقافة الإسلامية في أوج عطائها أن تدفع بالبحث والسؤال والتنقيب إلى الأمام، ولا واحد منهم ادعى أن تأويله هو المراد المطابق لكلام الله، وحاشاهم ولذلك نحن نقول الإمام الطبري لا القدّيس الطبري.
هذا فيما يتعلق بالتفاسير، وتلك الإقتباسات الإنتقائية منها، عند من يحمل الآية على ظاهرها دون العودة إلى السياق والدلائل الدالة على وجوب حملها على المجاز، خاصة وأن تلك الجمادات من هذا العالم نعرفها وقابلة للدراسة والاستنطاق، وليست من الغيب بله الغيب المكنون .. وهذا هو مذهب أهل التحقيق مثل الإمام محمد الطاهر بن عاشور.
أترك الباقي للمناقشة والتدبر..