شبهات المستشرقين في التفسير بالرأي: وقفات مع شبهتين لجولد زيهر في:(مذاهب التفسير الإسلامي)

إنضم
24/04/2003
المشاركات
1,398
مستوى التفاعل
5
النقاط
38
الإقامة
المدينة المنورة
بسم1

الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد ..
فإن القرآن العظيم هو كتاب الله الخالد أنزله هدى للعالمين ، جنِّهم وإنسهم ، عربهم وعجمهم ، من أهل الكتاب ومن غيرهم كما قال جل وعلا : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) [ الفرقان : 1 ] ولقد تعهد الله بحفظه وأخبر عن عظمته حيث قال : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9 ] وقال جل وعلا : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) [ فصلت : 42 ] .
وسيبقى هذا الكتاب العظيم معجزة كبرى تحمل الآيات البينات الهادية إلى الطريق الحق ، إلا أن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأتباعهم لا يزالون يسيرون على طريقة كفار قريش حيث قالوا : ( إنما يعلمه بشر ) [ النحل : 103 ] ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [ النمل:13 ] ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [ الأحقاف:7 ] ( فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر:24] .
وهم بذلك يحاولون النيل من مكانة هذا الكتاب الكريم .. قال المبشر جون تاكلي : ( يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح ضد الإسلام نفسه بأن نعلم المسلمين أن الصحيح في القرآن غير جديد وأن الجديد فيه غير صحيح )([1]) أ . هـ .
وفي سنة 1973م ألقى البابا شنودة خطاباً في الكنيسة المرقصية الكبرى بالإسكندرية جاء فيه : ( فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم ومن ثم يجب عمل كل الطرق واستغلال كل إمكانات الكنيسة للتشكيك في القرآن وإثبات بطلانه ... )([2]) .
ولا شك أن من طرقهم في ذلك بث الشبهات في تفسير كلام الله تعالى والتنقص من التفاسير الصحيحة ورجالها والثناء على التفاسير المنحرفة كما سيأتي .
وفي هذه الورقة المختصرة حاولت التعرف على بعض الشبهات التي أثارها المستشرقون في التفسير بالرأي وذلك بقراءة ما كتبه المستشرق جولد زيهر في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي في فصل عن التفسير بالمأثور وآخر عن التفسير بالرأي ، وسوف أذكر ملخص الشبهة ومن ثم محل فهمها من كلام هذا المستشرق ثم الأدلة التي يستدل بها إن وجدت والجواب عليها .

*********

q الشبهة الأولى:
تحريم التفسير بالرأي ـ مع عدم التفريق بين المحمود والمذموم ـ ونقل ذلك عن السلف رحمهم الله وأنهم حذروا منه وأن المرجع الوحيد في التفسير عندهم هو المأثور والذي يسميه ( العلم ) .

تنبيه : الذي يظهر لي أنه أراد من بيان تحذير السلف من التفسير بالرأي فقدان الثقة به ، وأن السلف قد حاربوه ، وعزز ذلك أنه وصف المعتزلة بالمدرسة العقلية وأنهم بعملهم هذا كانوا حرباً على التفسير بالمأثور كما سيأتي ، فإذا فُقِدت الثقة بالتفسير بالرأي كله والذي يشمل المحمود أوقَفَنَا بعد ذلك على عدم الثقة بالتفسير بالمأثور لاضطرابه ـ على حد زعمه ـ وعدم وجود تفسير بالمأثور موحد للقرآن وبذلك يكون قد أتى على نوعي التفسير الثابت عن السلف.
توضيح الشبهة من كلامه :
· أما بالنسبة لتحذير السلف فإنه يقول : ( إذا نظرنا إلى أدب التفسير الذي بلغ نموَّه ثروة عظيمة الخصب ، عسر علينا بادئ ذي بدء أن نفهم أننا نقف تجاه نوع من الأدب لم تلق أوائلُه في الدوائر الدينية من صدر الإسلام عدمَ التشجيع فحسب ، بل وضع الممثلون الأتقياءُ للمصالح الدينية ([3]) أمام هذه الأوائل علامات الإنذار والتحذير . حتى عهد متقدم من القرن الثاني للهجرة نجد شواهد على أن الاشتغال بالتفسير كان منظوراً إليه بعين الارتياب وأن الوعي الجاد كان يتراجع دون مزاولة ذلك في مهابة ونفور )([4]).
· وأما في كون المصدر الوحيد في التفسير هو التفسير المنقول المأثور فإنه يقول :( فإن القرآن لا يجوز تفسيره بالرأي ـ أي التفكير الذاتي([5]) ـ ولا بالهوى ـ أي الميل الاختياري ـ وإنما الطريقة الصائبة الفذة في تفسير الكتاب الحكيم هي التفسير بعلم([6])). ثم يفسر معنى العلم المراد في هذه الطريقة فيقول : ( ولكن تحت لفظ " علم " لا يفهم عالمُ الدين الإسلامي([7]) أصلاً نتاج التفكير الخاص([8]) ، ولا حتى الخبر المتُلَقَّى من مصدر غير مختص ، وإنما يفهم التعاليم المسندة إلى مصادر العلم المعتد بها وحدها ـ أي : المسندة بالرواية إلى الرسول نفسه أو إلى صحابته ـ فمن يستطيعُ أن يسند قوله إلى هذه المصادر فهو وحده الذي عنده العلم وكل ما عدا ذلك فهو رأي أو هوى أو حدس وتخمين ولاحق له أن يسمى علماً ... وإذاً فالذي يعد في نطاق علوم الدين في الإسلام علماً حقيقياً هو ما يرجع إلى أقدم الثقات الذين هم أهل للعلم عن طريق سند الرواية الشفوية الصحيح فحسب )([9]). ويؤكد أن التفسير المشهور بصوابه أي المؤسس على العلم هو ما يمكن إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته([10]).
· ثم إنه يبين عدم الحاجة إلى التفسير بالرأي مع وجود المأثور فيقول : ( ولا يكاد يُحصى عدد الصحابة الذين يرجع إلى روايتهم " العلم " بتفسير مواضع القرآن وإذاً فلا يكاد الباحث الورع في القرآن يحس مرة بالحاجة إلى تدريب فكره الخاص في سبيل المخاطرة بالتفسير بالرأي ، فإنه إذا اجتهد في تحصيل المأثور سيجد عن طرق الروايات التي قبلها النقد الإسلامي على أنها جديرة بالتصديق تفسيراً منقولاً ينتهي إلى زمن الصحابة )([11]).
· ولا يُظن أنه أراد بكلامه السابق الحث على الاعتناء بالتفسير بالمأثور ـ الذي هو أعلى نوعي التفسير ـ بل مراده فيما يظهر نزع الثقة من هذا النوع ـ التفسير بالرأي ـ وبيان عدم عناية السلف به ومن ثم هو سيطعن في التفسير بالمأثور مما يفقدنا النوع الثاني من أنواع التفسير حيث يقول : ( على أن المجموعة الكبيرة من المادة المأثورة تسهل مهمة اتخاذ موقف ناقد منها ، ولا نستطيع ـ على الرغم من كثرة الزيف القليل الفائدة ـ أن نقدر حق القدر ذلك النشاط الذي حفظ به الرواة المعلومات الهائلة الفياضة بالأقوال المتعارضة دون مبالاة ولا اكتراث )([12]).
ثم يخرج بنتيجة فيقول : ( من الظواهر التي لاحظناها حتى الآن : يمكن استخلاص أنه لا يوجد تفسير مأثور موحد للقرآن )([13]).
وبعد ذلك كله يلمح إلى أن هذا هو المأثور الذي يعول عليه السلف حيث يقول : ( وعلى هذا يمكن عد وجوه من التفسير مختلفة بعضها مع بعض ومتعارضة بعضها مع بعض تفسيراً بالعلم ، مع التسوية بينها جميعاً في ذلك الحق([14]) )([15]).

الجواب على هذه الشبهة([16]) :

= أولاً : تحريم التفسير بالرأي :
ذكر عدداً من الأدلة وملخصها :
1- قوله تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) [ الأنعام : 68 ] .
2- نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التفسير بالرأي : كقوله صلى الله عليه وسلم : " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "([17]) ، وكالحديث الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخشى على أمته من ثلاث وذكر منهم : " رجال يتأولون القرآن على غير تأويله"([18]).
3- نهي الصحابة رضي الله عنهم وامتناعهم من تفسير القرآن بمجرد الرأي :
كما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه قوله : " أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم "([19]) . وكوقوف عمر رضي الله عنه عن تفسير الأب في قوله تعالى : ( وفاكهة وأبّاً ) حيث قال : " عرفنا الفاكهة فما الأب ؟ فقال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف "([20]).
4- تحذير السلف من التفسير بالرأي : كقول سعيد بن جبير ـ رحمه الله ـ (ت:95هـ) قال لرجل طلب إليه تفسير بعض آيات القرآن فقال : " لأن تقع جوانبي خير لك من ذلك".


الجواب عن هذه الأدلة :
يمكن الجواب عن هذه الأدلة التي ذكرها جولد زيهر بجواب عام وهو : أن العلماء قد قسموا التفسير بالرأي إلى قسمين :
أ ـ تفسير بالرأي المذموم : وهو تفسير القرآن تفسيراً غير جارٍ على قوانين العربية ولا موافقاً للأدلة الشرعية([21])، وهو التفسير بمجرد الهوى وبلا استكمال لأدوات التفسير وشروطه . وجميع ما ورد من الأحاديث والآثار التي فيها النهي عن التفسير بالرأي إنما قصد بها هذا النوع من التفسير . وإنما قلنا بحملها على هذا النوع من الرأي لوجود أدلة أخرى تدل على جواز التفسير بالرأي المحمود وعلى وقوعه عند السلف رحمهم الله تعالى وعلى رأسهم الصحابة الكرام كما سيأتي .
ب ـ تفسير بالرأي المحمود : وهو تفسير القرآن بموافقة كلام العرب مع موافقة الكتاب والسنة ومراعاة شروط التفسير([22]). وهذا النوع من التفسير لا يمكن إنكاره عن السلف بل إن السلف رحمهم الله تعالى قد وضحوا معاني كلام الله تعالى بأقوال لم يسندوها إلى من سبقهم وإنما فهموها من كلام الله تعالى ومما يدل على ذلك اختلافهم رحمهم الله تعالى في تفسير كثير من الآيات .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به ، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه ، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير و لا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه ، وهذا هو الواجب على كل أحد ، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى : ( لتبيينه للناس ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] .ولما جاء في الحديث المروي من طرق : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار "([23]) )([24]) أ.هـ.
ومما يدل على جواز هذا النوع من التفسير :
أ ـ الأدلة الكثيرة الواردة في كتاب الله تعالى والتي تحث على الاعتبار والاتعاظ بالقرآن الكريم : من مثل قوله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ محمد : 24 ] وقوله : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ) [ ص : 29 ] وقوله : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) [ النساء : 83 ] . وقد دلت الآية الأخيرة على أن في القرآن ما يستنبطه أولوا الألباب باجتهادهم .
ب ـ اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في تفسير القرآن على وجوه ومعلوم أنهم لم يسمعوا كل ما قالوه من النبي صلى الله عليه وسلم .
ج ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما بقوله : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )[25] فلو كان التفسير مقصوراً على السماع ، لما كان هناك فائدة من تخصيصه رضي الله عنه بهذا الدعاء([26]).
د ـ أن من نُقل عنهم التحرج من التفسير فقد نقل عنهم تفسير آيات من كتاب الله تعالى برأيهم ـ المحمود ـ فقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه فسر " الكلالة " برأيه ووافقه عليها عمر رضي الله عنه حيث قال : " أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان ... )([27]) فيحمل توقفهم في بعض الآيات على أنه من باب الورع أو لوجود من يكفي في الجواب عنهم أو لعدم اتضاح المعنى لديهم .

= ثانياً : تفسيره للعلم بأنه ما كان منقولاً فقط عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن الذي يعد في نطاق علوم الدين في الإسلام علماً حقيقياً هو ما يرجع إلى أقدم الثقات :
لم يذكر لهذا الكلام مستنداً غير ما ذكر من تحذير السلف من الخوض في التفسير كما سبق بيانه والجواب على هذا الزعم :
هو أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يعدون من العلم المقبول في تفسير كلام الله تعالى ما كان عن طريق الاجتهاد بآلته الصحيحة حتى ولو لم يكن منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين . ودليل ذلك ما يلي :
1- عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال : " قلت لعلي بن أبي طالب : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ... "([28]) الأثر .

2-أن من المعلوم أن القرآن الكريم قد تضمن كليات الشريعة وقد استدل به السلف على مسائل لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ولا يمكن أن يكون هذا الاستدلال إلا بطريق الاجتهاد والأمثلة في ذلك كثيرة مما يدل على عدم توقفهم على المأثور فقط([29]) .
3-أن عدداً من السلف رحمهم الله كان يرد تفسير معاني القرآن إلى اللغة العربية ويستشهد على ذلك منها وهذا ليس من التفسير بالمأثور . قال ابن الأنباري : "وجاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم رضوان الله عليهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بين صحة مذهب النحويين في ذلك وأوضح فساد مذهب من أنكر ذلك عليهم .من ذلك ... أن ابن عباس قال : إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب"([30]) .
قال القرطبي رحمه الله : " وقال بعض العلماء إن التفسير موقوف على السماع ، لقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) [ النساء : 59 ] . وهذا فاسد ، لأن النهي عن تفسير القرآن لا يخلو : إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمراً آخر . وباطل أن يكون المراد به ألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما سمعه ، فإن الصحابة رضي الله عنهم قد قرؤوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه ، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس وقال : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك ؟! وهذا بيّن لا إشكال فيه "([31]) .


= ثالثاً : ما ذكره من أن أوائل من تكلموا في التفسير لم يلقوا عدم التشجيع فحسب وإنما وضعت أمامهم علامات التحذير وأنه كان يُنظر للمشتغل بالتفسير بعين الارتياب وأن الوعي الجاد كان يتراجع دون مزاولة ذلك في مهابة ونفور .
فالجواب على ذلك إضافة لما سبق من أن التحذير والنهي كان من التفسير بالرأي المذموم فإننا نجد من أقوال السلف رحمهم الله ما يدل على التشجيع والحث على تفسير كتاب الله تعالى :
من ذلك ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير رحمه الله قال : " من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى أو كالأعرابي"([32]) .
وما جاء عن ابن أبي مليكة قال : رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول له ابن عباس : " اكتب " قال : حتى سأله عن التفسير كله([33]) .
وقد ورد الثناء ممَنْ أسماهم " الممثلون الأتقياءُ للمصالح الدينية " ولعله يقصد الخلفاء كأبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ورد عنهم الثناء والتشجيع لمن فسر القرآن :
قال علي رضي الله عنه : "ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق"([34]). قال القرطبي : وكان علي رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحض على الأخذ عنه([35]).
وجاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم فقال له رجل : جُعلت فداءك تصف جابراً بالعلم وأنت من أنت ؟! فقال : " إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى : " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " [ القصص : 85 ].([36]).
وقال عبد الله بن مسعود وهو من كبار الصحابة رضي الله عنهم : ( نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس "([37]) . وقال الحسن رحمه الله : " والله ما أنزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيما أنزلت وما يعني بها([38]). فهذه الآثار وغيرها تدل على عدم صحة ما أراد تصويره من أن السلف كانوا يضعون أمام أوائل المفسرين علامات التحذير والمنع من الخوض في التفسير بل فيها الحث والمدح والثناء مما لا يخفى أنه دافع لفهم واستشراح كتاب الله تعالى من غير تقييد منهم بالأثر .



q الشبهة الثانية:
أن التفسير بالرأي إنما هو انشقاق عن التفسير بالمأثور وحرب عليه والدافع لهذا التفسير إنما هو الورع والتقوى وتنزيه الله تعالى عن التصورات السائدة عن طريق النقل .

· يقول جولد زيهر : "حدث انشقاق على التفسير بالمأثور ، دون أن يحس أو يقصد ممثلو هذا الانشقاق من القدماء أن يكون تفسيرهم حرباً على الرواية والنقل ، وصدر ذلك لأول مرة عن مذهب أهل الرأي الإسلاميين ، عن أولئك الذين يذهبون مذهباً دينياً أراد أن ينفي عن الصورة التي يحملها المؤمن في قرارة نفسه للألوهية وحقيقتها وتدبيرها كل ما يتجافى عن العقل ، ويتنزل بها على نحو لا يليق إلى دائرة الماديات "([39]). وأصحاب هذا المذهب هم المعتزلة والذي يصفهم بصفات المدح في أكثر من موطن حيث يقول : " الناس الأتقياء " وَ " الأتقياء المدققين "([40]) ويصف تفسيرهم بقوله : " التفسير السوي "([41]) ويقول : " ومن النادر أن يتخلف حذق المعتزلة في التفسير ولا توجد وسيلة للتفسير تراها هذه المدرسة شديدة الجرأة ، في سبيل الاحتجاج بآيات القرآن لمبدأ من مبادئهم الأساسية ، جنوا به أكثر ثمرات النصر في دائرة علم الكلام الإسلامي ذلك هو مبدأ أولية العقل في معرفة الحقائق الدينية "([42]).ويقول : " وأشرف انتفاع يستفيده المعتزلة من اشتراطهم فيما يتصل بتفسير الكتاب مطابقة العقل في الحقائق الدينية ، هو محاربتهم للتصورات الخرافية المناقضة للطبيعة ، التي رسخت قَدَمُها في الدين "([43]).

الجواب على هذه الشبهة :
1-أن الواقع لا يصدق أن التفسير بالرأي انشقاق عن التفسير بالمأثور بل هو يدل على أنه كان مصاحباً للمأثور منذ عصر مبكر حيث نجد اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم في التفسير وعلى رأسهم أبو بكر رضي الله عنه كما في تفسير آية الكلالة .
2-أن أصحاب الرأي المحمود لم يحاربوا التفسير بالمأثور ـ كما سبق ـ بل هم يحثون على الاعتناء به ، وإنما حصلت المحاربة لبعض الآثار من قبل المعتزلة حيث حكموا العقل ونفوا كل ما لم يتوافق معه ، والمعتزلة لا يمثلون المنهج الصحيح في تفسير القرآن لذا فمن الخطأ أن يعمم ما فعلوه على جميع المفسرين بالرأي ، كما أن من الخطأ أن يعتبروا هم أوائل من فسر القرآن بالرأي عموماً .
3-أما كون الدافع لفعلهم هذا هو الورع والتقوى : فيقول الدكتور عمر رضوان : " وليس غريباً أن يكيل جولد تسيهر خاصة والمستشرقين عامة الكثير من الثناء لتفسير المعتزلة لما فيه من خدمة لأغراضهم وهي محاربة أهل السنة والجماعة وتفاسيرهم المعتبرة وعلى رأسها ( التفسير بالمأثور ) كما أن هناك دافعاً آخر لهؤلاء المستشرقين وهو أن هذا المذهب يلائم ما عليه الغرب اليوم من تقديس للعقل وإعطائه حرية أكثر مما يستحق " ثم يقول : "فلا أدري أين هذه التقوى وأين الورع ، وقد خرجوا في تفسيرهم عن جادة الصواب ولم يلتزموا به الشرع ولا ظاهر النصوص ولا روح الشريعة السمحاء زيادة على تأويلهم كل نص يخالف مذهبهم وقسرهم الآيات على نصرته بشكل غير مقبول إطلاقاً ، والمعتزلة لم ينفكوا في مهاجمة أهل السنة والتشنيع عليهم والتنفير من طريقتهم "([44]) .
والدافع الذي حملهم على تأويل القرآن والآثار المعارضة لهم أنهم "اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم"([45]) .
وأخيراً أنقل كلاماً للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله حيث يقول :
( الإسرائيليات الجديدة:
احذر الإسرائيليات الجديدة في نفثات المستشرقين؛ من يهود ونصارى؛ فهي أشد نكاية وأعظم خطراً من الإسرائيليات القديمة؛ فإن هذه قد وضح أمرها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الموقف منها، ونشر العلماء القول فيها، أما الجديدة المتسربة إلى الفكر الإسلامي في أعقاب الثورة الحضارية واتصال العالم بعضه ببعض، وكبح المد الإسلامي؛ فهي شر محض، وبلاء متدفق، وقد أخذت بعض المسلمين عنها سنة، وخفض الجناح لها آخرون، فاحذر أن تقع فيها. وقى الله المسلمين شرها )([46]).

والحمد لله رب العالمين ..

ــــــــ
[1]- رد افتراءات المبشرين للدكتور محمد جمعه : ( 5 ) .
[2]- السابق : ( 8 ) .
[3]- الظاهر أنه يقصد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ذكر قصته مع صبيغ بعد ذلك .
[4]- مذاهب التفسير الإسلامي : ( 73 ) .
[5]- يلحظ عدم التفريق بين المحمود والمذموم .
[6]- لعله استفاد اشتراط " العلم " الذي يقصده مما روي عن أبي بكر : ( أي أرض تقلني ... ) وفي آخره : ( ما لم أعلم ) .
[7]- في نسبته هذا الفهم للعالِم الإسلامي يُلحظ أنه ينسب للسلف رحمهم الله ما دل الدليل على خلافه كما سيأتي النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
[8]- يعني بذلك التفسير بالرأي كما فسره قبل قليل .
[9]- مذاهب التفسير الإسلامي : ( 80 ) .
[10]- السابق : ( 82 ) .
[11]- السابق : ( 83 ) .
[12]- السابق : ( 99 ) .
[13]- السابق : ( 104 ) .
[14]- أي : في حق كونها من التفسير بالعلم أي يسوى بين هذه الروايات المتعارضة في كونها تفسيراً بالعلم مع اختلافها .
[15]- مذاهب التفسير الإسلامي : ( 104 ) .
[16]- انظر آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره : 2 / 518 – 524 .
[17]- ضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم: ( 571 ) وفي ضعيف الجامع الصغير برقم ( 5736 ) .كما ضعف حديث : " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار " .
[18]-انظر السلسلة الصحيحة برقم : ( 2778 ) .
[19]- انظر هذا الأثر في تفسير الطبري : 1 / 58 برقم : ( 78 ) و ( 79 ) .
[20]- انظر هذا الأثر في تفسير ابن كثير : ( 1962 ) قال ابن كثير : إسناد صحيح . ثم قال : وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه نبات من نبات الأرض .
[21]- انظر في تعريف التفسير بالرأي المذموم : التفسير والمفسرون : ( 1 / 175 ) .
[22]- السابق : الجزء والصفحة . بتصرف .
[23]- رواه أبو داود ( 3658 ) والترمذي ( 2649 ) وابن ماجة ( 261 ) وغيرهم وقال الترمذي : حسن صحيح . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب : 1 / 124 برقم ( 115 ) .
[24]- انظر مقدمة التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية : ( 149 – 150 ) .
[25]- رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي وصححه الألباني وهو في مسلم بلفظ مختصر ( اللهم فقه ) وعند البخاري : ( اللهم علمه الحكمة ) وفي لفظ له : ( الكتاب ) بدل الحكمة . انظر تخريج شرح الطحاوية ص : 214 رقم ( 180 ) .
[26]- انظر هذا الأدلة الثلاثة وغيرها في : التفسير والمفسرون : ( 1 / 174 ) . ولابن جرير كلام مهم في ذلك انظره في مقدمة تفسيره : ( 1 / 58 – 66 ) .
[27]- تفسير ابن كثير : ( 449 ) .
[28]- رواه البخاري كتاب الجهاد باب فكاك الأسير برقم ( 3046 ) .
[29]- ولا يعني ذلك إهمال المأثور بل كما قال الشاطبي : ( فعلى هذا لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه وهو السنة ... وبعد ذلك ينظر في تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة فإنهم أعرف به من غيرهم . ) [ تهذيب الموافقات : 290 ] .
[30]- تفسير القرطبي : 1 / 20 .
[31]- تفسير القرطبي : 1 / 26 .
[32]- تفسير ابن جرير : 1 / 60 .
[33]- السابق : 1 / 65 .
[34]- تفسير القرطبي : 1 / 27 .
[35]- تفسير القرطبي : 1 / 27 .
[36]- تفسير القرطبي : 1 / 21 .
[37]- تفسير ابن جرير : 1 / 65 .
[38]- تفسير القرطبي : 1 / 21 .
[39]- مذاهب التفسير الإسلامي : 121 .
[40]- السابق : 121 .
[41]- السابق : 187 .
[42]- السابق : 193 .
[43]- السابق : 160 .
[44]- آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره : 2 / 526 .
[45]- مقدمة التفسير لشيخ الإسلام : 110 .
[46]- حلية طالب العلم : 43 .
ملحوظة : البحث أعد في عام 1422 هـ.
 
هل ترجم كتاب المستشرق جولد تسيهر ( مذاهب التفسير الاسلامي ) الى الانجليزية؟
 
عودة
أعلى