بالنسبة للكيل بمكيالين فأنت عرضت كلام (المدعي) على ميزان النقد العلمي، كلامه هو لا كل كلام الناس.
فغرض الناقد نقد آراء المخالف لا كل الآراء (خشية الاتهام بالحيدة).
أما بالنسبة لمدعي الزندقة فاعرض له هذا الفيديو
الذي يثبت أن المفسرين عرفوا كروية الأرض محتجين بأدلة من القرآن الكريم
والمفسرون المذكورون توفاهم الله قبل رحلات ماجلان التي بعدها استقر الرأي على كروية الأرض رغم أنف كنائسهم.
https://youtu.be/gPa1w8uEKv0
أحسنت مولانا الدكتور الشريف.
نعم هو كذلك، وبعيدا عن متزندقة العرب، لا ننفي حقيقة تشكيك بعض الكتابات الغربية في مصداقية فعل شيخ الاسلام ابن تيمية عند اسناده كروية الارض إلى السلف، وان القول بالكروية انما ظهر بظهور الثقافة الفلسفية الفلكية الاغريقية والهندية:
Acquisition of Greek and Indian astronomical knowledge
عنوان فصل من
مقالة ويكي-اسلام، هذه الموسوعة المناهضة للاسلام والتي قامت على أساس فكرة أن الشبهات المثارة حول الاسلام هي فعلا ثغرات حقيقية وليست مجرد شبه.
والمقالة في الحقيقة في أس مبانيها " القيل والقال " لا أثر لمنهج علمي تاريخي نقدي يقيد القراءة والتحليل والاستنتاج، بل سلموا ابتداء بان العرب في الأصل أمة أمية لا تحسب ولا تقرأ ( قراءة واعية ثقافية في كتب ومقالات كانت ولا زالت ذات طبيعة نخبوية ) وبأن القرآن لم يخرج قيد أنملة عما كان معهودا عند العرب، وعليه فإن أي جديد لابد فيه من البحث عن مصادره من البيئة المحيطة. وهذه مصادرة على المطلوب!
إن تلك الفرضية خيال في أذهان أصحابها حتى يقوم الدليل على عكس ذلك، ولا يمكن لهذا الدليل أن يقوم إلا بمنهج علمي تاريخي نقدي. قال أستاذنا الدكتور محمد صالح سليمان في مقاله العلمي "
النقد المنهجي للإسرائيليات عند ابن عطية أنموذج تحليلي لكيفية النقد وإجراءاته ":
إنّ النقد لا يُحْكَم عليه بكونه نقدًا على الحقيقة إلا حينما تمرُّ العملية النقدية بمخاض عسير، وتتجاوز عقبات كؤود: عقبة الفهم الصحيح للأقوال والمسائل والآراء على ضوء أصولها التي قامت عليها، وسياقها الذي سيقت فيه، وزمانها الذي قيلت فيه، وقائلها الذي صدرت عنه، ومكانها الذي انطلقت منه، وعقبة التحليل العميق لتلك الأقوال؛ بدراسة مكوناتها، وتفكيك جزئيّاتها، ومراقبة كيفيات تركيبها، ورَصْد المؤثّرات الداخلية والخارجية المحيطة بها، وعقبة الحكم النقدي القائم على مراعاة كلّ التفاصيل، والمدرك لتفاوت هذا الحكم بل وتضاده أحيانًا بين أجزاء الشيء الواحد بحسب ما يعرض لها من أحوال ومقامات، وعقبة العلل التي تأسّس عليها الحكم النقدي، والمستندات والأدلة التي استند إليها.
عليه نحن نواجه تلك الفرضية بأسئلة معلومة مسطرة مبثوثة في مقدمات البحوث العلمية في كل المراكز العلمية المحترمة حول العالم، ونحن نطرح هذه الأسئلة على الفرضية وأصحابها، وليس على الببغاوات التي تبغبغ وتصدع رؤوسنا بغبغيات لا غبار على غبائها رجما بالغيب في شكل " لكن هذا كان معروفا عند اليونان "، حكاها التلفزيون الايرلندي.
يأتي واحد منهم ليقول لي أنها معلومات فلكية يونانية! هكذا بجرة قلم قياسا على " قال الجمهور "، فأقول:
طيب! لنفترض .. لـكـن: دعوى كهذه لا نأخذها إلا من متخصص في الدراسات اليونانية القديمة (Hellenic Studies)، ومباحثتنا معهم في أصل ما يستنتجون من استنتاجات، في مصادرهم بداية من مصداقية تحقيق التراث اليوناني بعد التأكد من موثوقيته طبعا، وفي مناهج التحقيق والتوثيق، وهذا ميدان واسع لا يستقل فيه الدارس في حقل الدراسات اليونانية القديمة عن المؤرخين والمستشرقين وأهل دراسات القرون الوسطى (Medieval studies).
يأتي مثلا المستشرق الايطالى كارلو نلينو في كتابه " علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى " ويبدأ يحكي لي حكاية :
ان الأقدمين كلهم كانوا على الظن بان الارض بسيطة مستوية السطح الى ان قام فيتاغورس واثبت كروية الارض قائلا انه لا يوجد شكل هندسي اكمل من الكرة لكمال انتظام جميع اجزائها بالنسبة الى المركز وان الاجرام السماوية - والارض منها - لكونها في غاية الكمال لا تتصور الا ذات ذلك الشكل الاكمل. ومن المحتمل ان فيتاغورس لم يصل الى قوله بكروية الارض معتمدا على ذلك الاستدلال الوحيد الضعيف في بعض اجزائه بل انه قد لاحظ ايضا بعض الظواهر الاتي بيانها واصاب في تفسيرها واليها ايضا ركن في اثبات ذلك التعليم المهم. ص 260
ها نحن سألناك {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} لكن {فتبينوا} {فتثبتوا} و {قل هاتوا برهانكم} و {قل هل عندكم من علم} الى اخره، فأجبت ولنا مع جوابك وقفات منها:
- قوله (
ان الأقدمين)، فنسأل: قدماء اليونان أم قدماء آخرون؟
- وقوله (
كلهم)، فنسأل: هل هذا وحي نزل عليك ام استقراء لاقوالهم أم ماذا؟
- وقوله (
كانوا على الظن بان الارض)، فنسأل: ما معاني الارض في لغة من تقصد من القدماء لنتابع معك ونفهم هل تكلم قدماؤك في المعنى الذي سيتكلم عنه فيتاغورس - حسب ما تفترض وتردد- ام في شيء آخر؟
- وقوله (
بسيطة مستوية السطح)، فنسأل: البسط والاستواء والسطح في العربية لوصف جهة الشيء لكن الموضوع هو "شكل هذا الشيء من جميع جهاته" فماذا تقصد؟ افصح! وما معاني تلك الالفاظ عند قدمائك؟
- وقوله (
الى ان قام فيتاغورس)، فنسأل: هل تردد هنا كما العادة ما قيل ام جئت بدليل يثبت هذا؟
- وقوله (
واثبت كروية الارض قائلا)، فنسأل: أين قال هذا؟ ما المصدر؟ ومن حققه؟ وكيف حققه؟
- وقوله (
انه لا يوجد شكل هندسي اكمل من الكرة لكمال انتظام جميع اجزائها بالنسبة الى المركز وان الاجرام السماوية ( والارض منها ))، فنسأل: لماذا وضعت "والارض منها" بين قوسين؟ آفيتاغورس قال ام انت تقوله ما لم يقل؟
- وقوله (
ومن المحتمل)، فنسأل: ما الاحتمالات الواردة لنرى ونفهم كيف تختار أنت وترجح؟
- وقوله (
ان فيتاغورس لم يصل الى قوله بكروية الارض معتمدا على ذلك الاستدلال الوحيد الضعيف)، فنسأل: هل هو استدلال اصلا؟ استنادا الى ماذا؟ ولم ضعفته انت؟.
ومنها أن حكاية كارلو نلينو هذه مخالفة لما يذهب اليه متخصص في مبحث الفلكيات اليونانية القديمة السيد D. R. Dicks
في بحثه المنشور بتفصيل في كتاب له "Early Greek Astronomy to Aristotle" الذي يعد مرجعا لكثير من الابحاث في مبحث تاريخ علم الفلك، حيث يؤكد الباحث أن كلام فيتاغورس في كروية الأرض كلام متشابه (N.Y.: Cornell University Press. p. 68). ومنها أيضا أن للسيد Dirk Couprie المتخصص في المجال ذاته بحوثات في الكلاسيكيات منها قراءة نقدية للحجج التي تسند الى ارسطو في اثبات كروية الارض حيث جاء فيها ما يخالف حكايات السيد كارلو نلينو، وله بحث آخر الذي انطلقت منه هنا "شكل الارض عند طاليس الملطي" (يمكن قراءة فاتحته
هنا)، وبحوث أخرى في نفس الخط، خلاصتها فيما له علاقة بموضوعنا هو أن السيد D. R. Dicks وأمثاله عند الكلاسيكي Couprie هم ضحايا مغالطة الانطواء على المفارقة التاريخية (anachronistic fallacy)، وان ما ينسب الى الاغريق من حجج "فلكية" عند النقد هي في الحقيقة استدلالات ميتافيزيقية، وان البحث الفيلولوجي يفرض علينا التمسك بقرصية الارض لا كرويتها، فالارض قرص دائري بسيط مستوي السطح.
اكتفي بهؤلاء الثلاثة، لنسأل: بأي مذهب سنتمذهب الآن؟
الى جانب هذا وذاك، لا نغفل عما ينسب للاغريق في تصورهم للارض آمربعة مسطحة هي، ام قرص دائري مسطح، ام كرة مسطحة، ام في شكل آلهتهم الوثنية فتتعدد الاشكال بتعدد تجسيداتهم للآلهة، ام ماذا؟ واي تصور كان هو الغالب عند الكتاب الاغريق ؟ ما الدليل؟ ان الناس تسمع قول قائل منهم ( كروية الارض كانت معروفة عند القدماء وان فيتاغورس اول من قال فقال وقال ) ثم ياتي قائل يردد نفس القول، حتى تتحول المقولة إلى ( قال الجمهور ) !!
إن حقيقة اجماع علماء الحضارة الاسلامية على كروية الارض، وان الكروية كانت التصور الغالب في هذه الحضارة عند اهل الهيئة والفلاسفة والمثقفين وعلماء الشرع من الائمة اهل التحقيق والتوثيق الذين ان قلت لهم كرة لا سطح قالوا لك كرة وسطح، هذه حقيقة اسلامية نعم، لكن هل هي حقيقة اغريقية؟ هنا يجب ان تضع الآلاف من علامات الاستفهام، لأن التفكير الرغبوي ومغالطة الانطواء على المفارقة التاريخية و ( قال الجمهور ) لا نقيم بها قولا علميا يحترم، و "المسلمون اجمعوا على كروية الارض اذن لابد ان يكون الاغريق كذلك " مصادرة على المطلوب، ولعلها أكبر خدعة في مبحث تاريخ علم الفلك، ولا استبعد التلاعب بالاسانيد في اسناد قول اسلامي نبت في البيئة الاسلامية للاغريق.
والفكرة لقيت ترحابا واسعا و
مهيمنا في البيئة الاسلامية، وذلك نفسره بصحة قول ابن تيمية ومن معه من أهل الشرع من جهة، وبقطيعة اسلامية قامت على المشاهدة والرصد والتجربة عند اهل الهيئة الاسلاميون حدثت مع التفكير الصوري الميتافيزيقي الاغريقي. وقول ابن تيمية ومن معه له شواهده فهم اولا وقبل اي شيء اهل اسناد وتراثهم يثبت انهم لا يتلاعبون ولا يخجلون في اسناد ما ينسب للاغريق وكذلك كانوا يفعلون في أمور أكثر أهمية وخطورة من "شكل كوكب الارض"، والتحليل الفيلولوجي للفظ السطح، مع التحليل ذاته لعبارات لغوية كقولهم "منه كور العمامة" وغيرها، كل ذلك يدل دلالة واضحة على الأصالة الاسلامية.