سورة (النحل) سورة عجيبة ...

إنضم
20/04/2003
المشاركات
566
مستوى التفاعل
24
النقاط
18
سورة (النحل) سورة عجيبة في أسلوبها ،وفي تعاقب مواضيعها ،لها تميز ظاهرعن أخواتها ...ولعل الله ييسر لنا بيان بعض ذلك.

-1-

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [النحل : 65]

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل : 66]

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل : 67]

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل : 68]

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل : 69]

الآيات استقصت نوعيا كل المشروبات:

1-

المشروب الذي لا لون له (الماء المنزل من السماء)

المشروب الوحيد اللون ( اللبن الأبيض)

المشروب المختلف الألوان (العسل)

2-

المشروب الذي مصدره الجماد (الماء)

المشروب الذي مصدره الحيوان (اللبن والعسل)

المشروب الذي مصدره النبات (ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ أي العصير والخمر)

3-

المشروب الذي تصنعه الجمادات (الماء المنزل بفعالية الشمس والريح ...)

المشروب الذي تصنعه الحيوان ( الأنعام والنحل أي اللبن والعسل)

المشروب الذي يصنعه الإنسان (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا.)

4-

المشروب الذي ينشيء الحياة ويزيل الموت (الماء)

المشروب الشافي الذي يزيل المرض (العسل )

المشروب الممتع السائغ (اللبن)

5-

المشروب النازل من أعلى إلى أسفل (الماء)

المشروب المستخرج من الداخل إلى الخارج (اللبن والعسل)

6-

هذه المشروبات نعمة وحجة في وقت واحد : نعمة موجهة إلى جسم الإنسان لعله يشكر، وحجة موجهة لعقل الإنسان لعله يفكر...

الماء النازل من السماء يشربه الإنسان وهو في الوقت ذاته دليل على البعث، دليل حسي مشاهد من لدن جميع الناس فالأرض ميتة لا نبات ولا عشب ،ويمكن أن تبقى كذلك إلى الأبد، لكن بمجرد نزول الماء تهتز بالحياة والحركة ...فكيف ينكر الكافر البعث وهو يشاهد صورة منه !

في اللبن عبرة مثل الماء النازل : الماء يخرج الحياة من الموت أي يخرج النقيض من نقيضه وكذلك اللبن، فهو ناتج من بين فرث ودم ، فمن أين استمد البياض؟ ومن أين استمد النقاء والطهارة؟ إن مرأى الفرث وشمه يثير الغثيان ويدفع المرء إلى التقيؤ فكيف يخرج منه السائغ اللذيذ الذي يشتهيه الشارب...تلك قدرة الله سبحانه عما يشركون!!
 
النقطة الأخيرة (من بين فرث ودم) جميلة، وفي المناظرات كنت أستخدمها أحيانا للرد على المشككين في آية الصلب والترائب:
"خُلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب. إنه على رجعه لقادر"
فالصلب والترائب عظام، وفي عرف العرب العظام شيء ميت جامد، ومع ذلك فإن الجسد الإنساني ككل (الصلب حده الخلفي والصدر حده الأمامي) يخرج منه ماء الحياة (النطفة)
 
-2-

لغز:

أي شيء هو في وقت واحد عملة بنكية ، وسيارة ، وشاحنة ، ومأكل ومشرب وملبس ومسكن وأثاث وفرجة!

الجواب :

للذين لا يعلمون أو يستنكرون وجود شيء بكل هذه الوظائف فليتلوا سورة النحل ...

إنها : الأنعام!

1

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل : 5]

أول آية في السورة ذكرت الأنعام وما فيها من فوائد للإنسان على التفصيل والإجمال... ففي التفصيل أشارت إلى الملبس والمأكل وأجملت الفوائد الأخرى في كلمة (منافع).

والجدير بالملاحظة أن السورة ذكرت خلق الأنعام بعد ذكر خلق الإنسان مباشرة

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل : 4]

فهل الترتيب زمني أم قيمي؟

هل ظهر الإنسان أولا ثم جاءت الأنعام من بعده ، أم أن الأنعام مخلوقة قبل الإنسان وإنما قدم الإنسان في الذكر لقيمته إذ الأنعام مسخرة له؟

ولك في قراءة الآية احتمالان:

أن تعتبر (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا) جملة تامة وجملة (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) جملة مستأنفة...ولك أن تلحق الجار والمجرور( لَكُمْ) بالجملة الأولى وتعلقها بفعل (خلق) وتفصلها عن المستأنفة :

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ.

فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.

ولعل الاحتمال الثاني أبلغ لأنه يفيد أن الأنعام ما خلقت إلا من أجل الإنسان - فيكون تبكيت الكافرأشد- ...في حين أن الاحتمال الأول يشير إلى أن الأنعام خلقت ثم وجد فيها الإنسان منافع له...

سنواصل الكلام عن آيات الأنعام في سورة النعم إن شاء المنعم!
 
-3-

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل : 5]

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل : 6]

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل : 7]

لنتأمل بلاغة الترتيب في الآيات الثلاث...

لقائل أن يقول لعل تقديم حمل الأثقال على" لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ " أولى - جمعا للمنافع- فيعطف" تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ" على "مِنْهَا تَأْكُلُونَ" مباشرة توخيا للتناسب ...

نقول ها هنا مقصد آخر وهو الجمع بين وظيفتين من شأن اجتماعهما في شيء الارتقاء به إلى غاية الكمال :الوظيفة النفعية والوظيفة الجمالية

فذكر الدفء والأكل، إشارة إلى الوظيفة النفعية ،وذكر بعدها الوظيفة الجمالية ، ثم شرع في استقصاء المنافع في الآية الموالية وآيات أخرى ستأتى في السورة...

والوظيفتان معا تستغرقان كل أحوال الإنسان ذلك لأن للإنسان حالتين : حالة جد وعمل وحالة راحة واستجمام ،والأنعام تواكب الحالتين معا فتساعد الإنسان في عمله حتى إذا انتهى منه وأخلد إلى الراحة والدعة انقلبت الأنعام إلى مشهد وفرجة!!
 
-4-

الأنعام ملبس ومأكل:

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل : 5]

ومشرب:

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل : 66]

وبيت وأثاث:

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل : 80]

هذه البيوت المجعولة من جلود الأنعام بيوت متنقلة (خيام) هي مأوى في يوم الإقامة ، وفي يوم الظعن تطوى وتحملها الأنعام نفسها! فانظر إلى النعم الطولية والعمودية التي جعلها الله في الأنعام للناس ...(نعني بالنعم الطولية الشيء الواحد الممتد عبر حالات يكون في كل حالة نعمة مختلفة ، فالبيت مصنوع من جلد الأنعام فهذه نعمة، ومحمول عليها وهذه نعمة أخرى...أما النعم العرضية فهي النعم المتجاورة المستقلة .)
 
هل هناك علاقة خاصة بين سورتي النحل والأنعام؟
لنتأمل:

السورتان اشتركتا في تقديم موضوع الأنعام على نحو كامل متكامل...والضابط عندنا في الكمال هو استيفاء مجالي الربوبية والألوهية..وهكذا تجد في سورة (الأنعام ) أولا تحديدا لمفهوم الأنعام بالعدد والنوع ( ثمانية أزواج وأربعة أصناف):

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 144]

وبعد التحديد تناولت سورة (الأنعام ) موضوع الأنعام من جهة توحيد الألوهية : فالمشركون حرموا وأحلوا تبعا لأهوائهم ،ولما كان التشريع حق الله وحده فمن شرع معه فقد جعل له ندا فينتفى توحيد الألوهية...

وجاءت سورة (النحل) تكمل الموضوع فتناولت الأنعام من جهة توحيد الربوبية فالأنعام ليست هنا مناط تحليل أو تحريم وإنما هي نعم للناس جميعا مشركهم وموحدهم دلائل على وجود رب مدبر حكيم.

ولعلك واجد في سورة (النحل) إشارات مرجعية تحيل على سورة (الأنعام ) مما يؤكد العلاقة الخاصة بين السورتين منها :

قال في(النحل):

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل : 118]

وهذا الذي قصه الله على خاتم رسله وارد بعضه مفصلا في سورة (الأنعام ):

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام : 146]

واضح أن هذا التحريم ليس من باب التشريع الإلهي الذي هو خير كله ، إنما هو من باب العقوبة والجزاء على البغي لذا نعتهم في هذا السياق ب "الَّذِينَ هَادُوا" ولم ينعتهم ب"بني اسرائيل"تلك النسبة التي تتضمن تلطيفا وتشريفا...

ثم إن الأمر يتعلق هنا بالأنعام وهو الموضوع المشترك بين السورتين كما تقدم...

وتجد في سورة النحل إشارة مرجعية أخرى في قوله:

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل : 123]

ولعلها إشارة إلى آية الأنعام:

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام : 161]
 
عودة
أعلى