فهد الوهبي
Member
بسم1
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)﴾
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد..
فإن نظرة المتدبر لآيات القرآن الكريم نظرة دقيقة عميقة؛ ينفذ من خلالها إلى رؤية سنن الله سبحانه وتعالى، ومنهجه في الكون والحياة، وذلك بتأمل الآيات القرآنية وما تدل عليه من منهج عظيم للتدبر يمكن من خلاله استلهام العبر والعظات من آيات القرآن، فالقرآن دل بأسلوبه إلى منهج التدبر وآلياته ووسائله بإشارات بليغة دقيقة.
ويبقى دور القارئ في الوقوف مع تلك الآيات والإبحار في التأمل والوصول لهدايات القرآن الكريم.
وقد وقفت مع سورة عظيمة من سور القرآن الكريم، أتدبر من خلالها ما يشير إليه القرآن الكريم من منهجٍ للتدبر في قضية من القضايا التي عالجها القرآن وأبدأ فيها وأعاد، ألا وهي قضية مآل المجرمين والمكذبين الذين أرادوا طمس الحق، ودغم الحقيقة فأتاهم العذاب من حيث لا يحتسبون، وهذه السورة على قصر آياتها تؤسس منهجاً عظيماً لمجالات تدبر هذا النوع من الآيات، آيات مصير الأمم المكذبة والمعاندة، ويسأل المتدبر نفسه، تمر عليَّ آيات يَذْكُرُ الله تعالى فيها عذابَ عدد من الأمم كعاد وثمود وفرعون وغيرهم، فما الجوانب التي أعيد النظر فيها وأقف معها وأتأملها في مثل هذه القصص؟!.
وعند تأمل هذه السورة التي تتحدث عن عذاب أصحاب الفيل نجد القرآن الكريم قد ذكر الأسس العظيمة للتدبر في مثل هذه القصص والتي يمكن ذكرها في هذه الورقة باختصار.
كيف أتدبر في آيات الأمم المعذَّبة:
عند قراءة آيات يذكر الله فيها عذابه لأمة من الأمم فإن القارئ ينبغي عليه أن يتأمل عدداً من الأمور كمحاور عامة للتدبر، ذكرها الله في هذه السورة العظيمة وهي:
أولاً: تشير هذه السورة إلى ضرورة إعمال الخيال والفكر والرؤية القلبية للأحداث، فعند قراءة آية عذاب، ينبغي للقارئ فتح المجال للعقل لتصور ذلك المصير الذي آل إليه المكذبون والمعاندون، والآية صريحة في هذا حيث يقول جل في علاه:﴿أَلَمْ تَرَ﴾والرؤية هنا رؤية القلب والفكر لا رؤية البصر، فإنَّ انطلاق الخيال في تلك القصة مؤثر ولا شك في فؤاد القارئ ونفسه، خيال يساعده معرفة الصورة القرآنية المرسومة للعذاب والنوع الذي عُذِّبوا به، فتأمل ذلك النوع في جميع قصص الأمم السالفة.
ثانياً: القضية الثانية التي يتفكر فيها ويتأملها القارئ لهذه الآيات، هي تأمل فعل الله تعالى بهم، وكيف بدل الله حالهم، وبذلك تزداد عظمة الله في نفسه، ولذا سلطت الآياتُ الرؤيةَ القلبيةَ على فعل الله، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ﴾ تأمل كيف تَكَوَّنَ ذلك العذابُ بأمره، وكيف حل بهم بعد أن أمنوا مكره تعالى، وكيف ساقهم لذلك المصير المؤلم حيث أصبحوا جثثاً هامدة لا حراك فيها، وكيف سعوا بأنفسهم نحو ذلك المصير، كل آيات تلك الأمم المعذبة بأنواع العذاب، تجتمع في الدلالة على عظمة الرب سبحانه وتعالى القادر على ذلك الفعل، فتأمل ﴿ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ ذلك الفعل في كلِّ قصة للظالمين.
ثالثاً: القضية الثالثة التي تشير إليها هذه السورة العظيمة؛ تحقير جميع القوى المادية التي يتخذها أعداء الله، فهي لا شيءَ أمام قدرة الله تعالى وعظمته وكبرياءه وجبروته وربوبيته، وتشير السورة إلى خسران أولئك باتكالهم المطلق على قواهم المادية في حرب أهل الحق وإبادتهم، تأمل كيف نسبهم الله إلى قواهم فقال: ﴿أَصْحَابِ الْفِيلِ﴾، في مقابل عظمة قول الله تعالى: ﴿رَبُّكَ﴾ ، تلفت السورةُ إلى أمر مهم ينبغي تدبره في جميع آيات المعذبين في القرآن، وهو تفكر القلب في تلك القوى التي يتكل عليها أولئك، كيف تصبح أمام قوة الله ونصره هشيماً ورميماً تذروه الرياح، كيف تصبح تلك البيوت والقرى خاوية على عروشها، وكيف يصبح القوم صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية، حين يحل غضب الله ولعنته ومقته بهم، تأمل تلك القدرة الإلهية العظيمة التي يحاول هؤلاء عبثاً أن يقفوا أمامها كما جاء أولئك بأفيالهم فكانت كعصف مأكول!.
رابعاً: القضية الرابعة التي تبرزها السورة أمام أنظار المتدبرين، التفكر كيف تركهم الله يخططون ويدبرون ويتآمرون وينفقون من أموالهم وأوقاتهم، ليكون ذلك كله حسرة ووبالاً عليهم، كيف جعل الله ذلك كله وبالاً عليهم، وجعل عاقبة ذلك الكيد منهم ضلالاً عما أرادوا الوصول إليه، فهم يخططون لقهر أولياء الله؛ فتكون تلك الخطط موصلة لقهرهم هم ووبالاً عليهم، إنهم يكيدون بمن!، تأمل قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)﴾، كيف والله سبحانه يقول: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ 30)﴾ [الأنفال]، إن هذه القضية تتجلى في كل قصة من قصصهم، فتأمل كيف جمع فرعون السحرة فكانوا حجة عليه، وسبب فضيحته على الملأ، وتأمل كيف أوقد قوم إبراهيم النار فكانت معجزة عظيمة باهرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، إنه خط دقيق يسير مع جميع تلك القصص القرآنية، أشارت إليه هذه السورة كقاعدة لما ينبغي تدبره في كل قصة عذاب لأمة ظالمة، فتأمل!.
خامساً: القضة الخامسة التي تبرزها الآيات في هذه السورة لتكون منهجاً للتدبر في جميع القصص من هذا النوع، تَأَمُّلُ آلة العذاب التي قهر الله أولئك الأقوام وعذبهم بها، وتقليب الذهن تفكراً وتأملاً في الطريقة التي أحال الله حالهم من العزة الظاهرة على مسرح الحياة بين أقوامهم وأتباعهم، إلى منظر بئيس يشفي صدور قومٍ مؤمنين، منظرٍ أرادوا هم أن يكون للمؤمنين المتقين، فكان من نصيبهم وكان مآلهم.
والمقصود هنا تأمل ما هو الأسلوب والطريقة التي عذبوا بها، وانطلاق الذهن من ذلك ليعلم أن جنود الله لا حصر لها، كما قال الله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (31)﴾ [المدثر]، إنها جنود يمحق الله بها الباطل وأهله فلا يفجأ القوم إلا الريح العاصف أو الصيحة أو الخسف أو الغرق أو الداوب المهكلة، أو الآلام الجسمية والنفسية المبرحة، أو ما شاء مدبر الأفلاك إرساله من جنوده القادرة بإذنه على تدمير كل شيء بأمر ربهم سبحانه. إنه لا سبيل لتوقع طريقة مكر الله بمن أراد المكر بأولياءه وجنده، انظر هنا إلى ضخامة تلك الأجساد التي جاءوا على ظهورها، كيف دمرها الله بطير جاءتهم من علوٍّ تقذفهم بحجارة خُلقتْ لعذابهم وإهلاكهم: ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) ﴾، تأمل كيف جاء الأمر إلى تلك الطيور فانطلقت جماعات متتابعة لإهلاكهم وفناءهم، فذهبوا كأمس الذاهب. قف هنا وتأمل في كل قصة في القرآن قدرة الله في ذلك سبحانه وتعالى.
سادساً: القضية الأخيرة في هذه السورة التي تحدد مجالاً للتدبر في مثل هذه القصص، هي تأمل النهاية التي تُختم بها كل تلك القصص من مصير الظالمين ونجاة المؤمنين بفضل الله سبحانه وتعالى، في كل تلك المشاهد ترى في الختام نجاة المؤمنين وفلاحهم في الدنيا أو الآخرة، وهلاك الكافرين والمنافقين، وتأمل هنا في هذه السورة كيف أصبح الحال بعد الكِبْر والفخر والخيلاء، إلى ما يشبه روث الدوابِّ التي تأكله فتلقيه، تقطعت أوصالهم كما تقطع هذا الزرع بعد أكله وتفرقه، ﴿ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ﴾ ، أيُّ نهاية ظنها أولئك القوم حين خرجوا أشرين بطرين محاصرين أهل الحق، لم تكن هذه الصورة المرسومة الآن أمام المؤمنين، ولكنه الله سبحانه الذي يدافع عن المؤمنين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)﴾.
وهكذا تتسع مجالات التدبر في كل قصة من قصص القرآن التي تحكي مصير تلك الأمم ليقف المؤمن فيزداد إيماناً بعظمة الله وقوته القاضية بخسران أعداءه، ورحمة الله ورأفته القاضية بنجاة أولياءه.
وترسم هذه السورة منهجاً قرآنياً في التدبر، وتفتح آفاقاً عظيمة ينبغي أن يقف معها المؤمن، أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم ويهدي به قلوبنا..
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..