من صفات السعداء
يتصف السعداء بالقلب السليم ، والعقل العامل ، والفكر الصحيح ، والخلق الكريم ، ولكن هناك صفات مميزة لهم نوجزها فيما يلي :
1 - أول صفاتهم عبادة الله وحده لا شريك له ، واتباع مرضاته واجتناب مساخطه ، فالنفس لا سعادة لها ولا فلاح إلا بذلك. وقد علق الله تعالى سعادة السعداء على ذلك فقال : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [النساء:13-14] ، وقال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [النساء:69]، فقد بين الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدًا في الآخرة ، ومن عصى الله ورسوله وتعدى حدوده كان معذبًا ، فهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء .
2 – تلاوة القرآن مع التدبر والعمل ، ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة : طعمها طيب وريحها طيب؛ ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة : طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة : ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة : طعمها مر ولا ريح لها " ( 1 ) .
فجعل الناس أربعة أقسام : أهل الإيمان والقرآن ، وهم خيار الناس ؛ الثاني : أهل الإيمان الذين لا يقرءون القرآن ، وهم دونهم ، فهؤلاء هم السعداء .
والأشقياء قسمان : أحدهما : من أوتى قرءانًا بلا إيمان ، فهو منافق . والثاني : من لم يؤت قرءانًا ولا إيمانًا .
والمقصود أن القرآن والإيمان هما نور يجعله الله في قلب من يشاء من عباده ، وأنهما أصل كل خير في الدنيا والآخرة ، وعلمهما أجل العلوم وأفضلها ، بل لا علم في الحقيقة ينفع صاحبه إلا علمهما ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم( 2 ) .
3 – الصدق مع الله تعالى ، قال ابن القيم - رحمه الله : ومنها عظم مقدار الصدق وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به ، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق ، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب ، وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين } [التوبة: 119] ، وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين سعداء وأشقياء ، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق ؛ والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب ، وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس ، فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق ، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب ، وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم ، وجعل علم المنافقين الذي تميزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم ، فجميع ما نعاه عليهم أصله الكذب في القول والفعل ، فالصدق بريد الإيمان ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ، بل هو لبه وروحه ؛ والكذب بريد الكفر والنفاق ودليله ومركبه وسائقه وقائده وحليته ولباسه ولبه ، فمضادة الكذب للإيمان كمضادة الشرك للتوحيد ، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه ويستقر موضعه ، والله سبحانه أنجى الثلاثة بصدقهم( 3 ) وأهلك غيرهم من المخلفين بكذبهم ، فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته ، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده. والله المستعان( 4 ) .
4 – الرحمة ، روى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلا مِنْ شَقِيٍّ " ، ورواه ابن حبان وبوب له ( ذكر الخبر الدال على أن الرحمة لا تكون إلا في السعداء )( 5 ) .
5 – العلم الموجب للعمل ، إذ هو سبب السعادة على الحقيقة ، فلا يعرف الإيمان إلا بالعلم ، ولا يعرف الصدق إلا بالعلم ، ولا تعرف الرحمة إلا بالعلم ، ولا يعرف عمل إلا ويسبقه علم ، فالعلم قبل القول والعمل ، وروى أحمد والترمذي والحاكم عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقا ؛ فهذا بأحسن المنازل . ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، وهما في الأجر سواء ، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما ، فهو يخبط في ماله ولا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأسوأ المنازل عند الله ؛ ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما في الوزر سواء " ( 6 ).
يقول ابن القيم - رحمه الله : فقسم النبي أهل الدنيا أربعة أقسام : خيرهم من أوتي علمًا ومالا ، فهو محسن إلى الناس وإلى نفسه بعلمه وماله ، ويليه في المرتبة من أوتي علمًا ولم يؤت مالا ، وإن كان أجرهما سواء ، فذلك إنما كان بالنية وإلا فالمنفق المتصدق فوقه بدرجة الإنفاق والصدقة ، والعالم الذي لا مال له إنما ساواه في الأجر بالنية الجازمة المقترن بها مقدورها ، وهو القول المجرد. الثالث : من أوتي مالا ولم يؤت علمًا ، فهذا أسوأ الناس منزلة عند الله ، لأن ماله طريق إلى هلاكه ، فلو عدمه لكان خيرًا له ، فإنه أعطى ما يتزود به إلى الجنة ، فجعله زادا له إلى النار .
الرابع : من لم يؤت مالا ولا علمًا ، ومن نيته أنه لو كان لـه مال لعمل فيه بمعصية الله ، فهذا يلي الغني الجاهل في المرتبة ، ويساويه في الوزر بنيته الجازمة المقترن بها مقدورها ، وهو القول الذي لم يقدر على غيره .
فقسَّم السعداء قسمين ، وجعل العلم والعمل بموجبه سبب سعادتهما ؛ وقسَّم الأشقياء قسمين ، وجعل الجهل وما يترتب عليه سبب شقاوتهما ، فعادت السعادة بجملتها إلى العلم وموجبه ، والشقاوة بجملتها إلى الجهل وثمرته( 7 ) .
هذه ألزم صفات السعداء ، فليبحث من يريد السعادة عن ذلك في نفسه ، والله المستعان .
________
1 - البخاري (5111)، ومسلم (243).
2 - انظر مفتاح دار السعادة: 1 / 55.
3 - والثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وهم الذين أنزل الله فيهم: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 118].
4 - زاد المعاد: 3 / 590، 591.
5 - روى أحمد: 2 / 442، 461، وأبو داود (4942) والترمذي (1923) وحسنه، وصححه ابن حبان (462) والحاكم (7632).
6 - أحمد: 4/231، والترمذي (2427)، وهو حديث صحيح صححه الترمذي والحاكم وغيرهما.
7 - انظر مفتاح دار السعادة: 1 / 179، 180.