سرعة الضوء في القرآن، وكيف أفسدها الإعجازيون، وتورّط معهم أكاديميون

أود التنبه إلى أن المقادير الواردة في الوحيَين لا تعدو أن تكون تقريبا للسامع بشيء من المحسوسات، وأن المقصد منها هو زرع العبرة من المثل المضروب بها، ترغيبا أو ترهيبا أو غير ذلك من المقاصد، فكل محاولة إلى تحديد هذه المقادير على وجه الدقة هو ضرب من البحث فيما لم يقصده الشرع أولا، ثم هو محاولة فيما يصعب تصوره وحدّه بمعارف البشر، فيظل باب الخطأ فيه مفتوحا.
 
كما يتنبه إلى أمر آخر هو أشد خطرا من الأول، وهو أن بعض البحوث يقع فيها ربطٌ بين المصطلح الشرعي والمصطلح العلمي الحديث، ويفسر به، وهو خطأ، والمتقرر عند العلماء أن المصطلحات الشرعية لا تفسر بالمصطلحات الحادثة، بل بما كان معهودا وقت تنزل القرآن، لأن القرآن عربي، وفهمه بمصطلح متأخر يعني تجهيل جميع الأمة بمعنى الآية قبل حدوث المعنى الجديد.
 
أخي الكريم الأستاذ عزالدين:
سأدخل معك من نافذة في فقه التأويل، لكن أحبابنا هنا من المتخصصين في التفسير، سيتدخلون للتوجيه والنقد والتصويب والمراجعة، إن شاء الله.

ما يشير إليه هنا فضيلة الأستاذ العبادي مهم جدا وضروري في كل عملية تفسيرية لا يراد منها تجهيل المتقدمين، ولا تحريف المعاني بشكل من الأشكال، سواء المعنى المراد أو تلك المعاني التي توصل إليها الأئمة. وإلا أدى الجديد إلى سؤال معروف، وموضوعي في نفس الوقت، لأن "المعهود" في إطار زمني معين شرط من شروط التحليل الأولي لأي خطاب في أي حقل من الحقول المعرفية، والممارسات العملية الأخرى التي تتحول إلى منقولات سمعية أو تقليدية من السلف إلى الخلف، وهذا السؤال هو: "من سلفك من الأئمة في كذا وكذا؟". ويظهر من أول وهلة أن هذا السؤال بلا معنى في سياق البحث عن المعرفة إلا عند حدوث التضارب بين التفاسير مثلا، وهو سؤال غريب في إطار الحديث الشريف الذي نقرأه في فضائل القرآن: لا يشبع منه العلماء .. لا تنقضي عجائبه. والسؤال من ناحية أخرى يعيد طرح نفسه عند نقله إلى نقطة معينة في المرحلة الزمنية السلفية المباركة: من سلف القرن الثاني الهجري في كذا وكذا؟ إلى آخره، حتى نصل إلى الصحابة رضي الله عنهم، ونسأل: أي تفسير نبوي إعتمدوا عليه في كذا وكذا؟

عندما نفترض: صحابي يروي تفسيرا نبويا، وصحابي آخر يفسر نفس الآية بالسنة النبوية، وصحابي ثالث يفسر نفس الآية بالإجتهاد، فإن إحتمال التعارض بين هذه التفاسير في حالة ثبوت الروايات الثلاثة يقترب من المحال. وفي هذه الصورة الإفتراضية تتجلى قيمة "المعهود".

لنفترض أئمة معتبرين في التفسير فسروا آيات ملكوتية وقالوا بسطحية الأرض، هل سنقوم بالرد عليهم بناء على ما توصلت إليه عدسات آلة التصوير من الفضاء عن بعد؟ لا، لأن الأرض مسطحة بالفعل أو بمراد النص، وهي بالفعل مسطحة عندما نتحدث عن الأرض لا عن كوكب الأرض، أو عندما نتحدث عن كوكب الأرض من الناحية الهندسية بإعتبار محيط الشكل الدائري. كيف ستساعد قاعدة "المعهود" في إزالة الإشكال؟ سنتحول إلى معنى الأرض، متى يراد بها اليابسة، وطبقة التراب، والسهول، والمستقر المسكن .. إلى آخره. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: يجب أن تثبت أولا أن المفسر فسّر الآية بالحس والمشاهدة، وإلا لا معنى للتعليق على تفسيره بتفسير قام على الحس والمشاهدة، أي والحالة هذه ليس هناك ما يبرر إعادة النظر في التفاسير المعتبرة، بله تفسير السلف ناهيك عن تفسير السلف الصالح. وهذا لن يمنع من تفسير جديد - يستنتج تكورية الأرض - يقوم على النظر الحسي متى إلتزمت بقواعد التفسير، وهي قواعد فيها قدر كبير من الموضوعية لم أجدها حتى في أحدث النظريات التأويلية، وهذا ما سيؤدي إلى توسيع ما أسميه بدائرة الأفهام، أي إضافة أبعاد معرفية أخرى للآية في حدود المراد العام، وهذا يتم من خلال التفسير بالرأي (المحمود طبعا).

أنا لن أدخل معك في مناقشة سرعة الضوء ولا أي تفسير إعجازي، لسببين: أتمنى أنك أخذت المنطلق العلمي الموضوعي الذي أشار إليه الأستاذ العبادي بعين الإعتبار. ثم أنا أتفق مع وظيفة وقيمة التفسير الإعجازي لأن قناعتي الشخصية هي الآيديولوجيا لا تُحارب إلا بالآيديولوجيا وأصحاب التاريخانية يريدون إبعاد الناس عن هدى القرآن تحت شعار تاريخانيته حتى لا يبقى منه إلا تلاوات تصلح في الصلوات والجنازات، وهنا تظهر قيمة التفسير الإعجازي، ووظيفته الرد على الدعوى بدعوى أخرى وهي أن في القرآن إشارات إلى ملكوتيات توصل الإنسان إلى الكشف عنها بمناهج وآليات العلوم الحديثة.

والله تعالى أعلى وأعلم.
 
أود التنبه إلى أن المقادير الواردة في الوحيَين لا تعدو أن تكون تقريبا للسامع بشيء من المحسوسات، وأن المقصد منها هو زرع العبرة من المثل المضروب بها، ترغيبا أو ترهيبا أو غير ذلك من المقاصد، فكل محاولة إلى تحديد هذه المقادير على وجه الدقة هو ضرب من البحث فيما لم يقصده الشرع أولا، ثم هو محاولة فيما يصعب تصوره وحدّه بمعارف البشر، فيظل باب الخطأ فيه مفتوحا.

أخي العزيز/ محمد العبادي
مع كامل احترامي لرأيك، وما يُزكيه من أقوال بعض المفسرين، إلا أن أحكامنا على ما ينبغي أن يقصده الشرع وما لا ينبغي أن يقصده، أمر شديد الحرج في الجزم به، أللهم إلا في المقاصد العامة، كالمقاصد الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال).
وكثيراً ما يكون فهم الناظر في القرآن وحدوده المعرفية قيداً مسيطراً على تعيينه لمقاصد القرآن. فيقبل من المعاني ويجعلها من المقاصد إذا أحاط بها، ويرفض من المعاني ويجعلها من غير المقاصد إذا استعصت عليه، أو لم تتفق مع منظومته الفكرية.

والأمثلة على ذلك كثيرة، فنجد مثلاً عبدالوهاب المسيري يرفض التفسير الحرفي للقرآن (دراسة منشورة)– وهو رفض شبيه برفضك لحرفية المقادير في الوحيين – ويجعل التفسير المجازي هو مقصد الشرع، ولا يخفى على ذوي الأفهام ما وراء ذلك من إسقاط أحكام القرآن وتعييناته في معانيه، وخاصة في صفات الله عز وجل، ومعاني الجنة والنار والشيطان ... إلخ.

ونجد الشيخ محمد عبده (في تفسير المنار) يجعل التمثيل والتصوير من مقاصد النص في تقريب الغائب (دراسة قيد النشر) ويؤول به هذا المقصد الموهوم إلى رفض تعيينات القرآن – والتي هي شبيهة برفضك لتعيينات المقادير في القرآن أيضاً – فيقول الشيخ محمد عبده كلاماً يجب أن نستهجنه جميعاً، يقول: [تقرير التمثيل في القصة (يقصد قصة خلق آدم) ..: إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض، وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض؛ لأنه يعمل باختياره ويعطي استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما، هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض، وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه به في استعمارها، وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته، وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله - تعالى - في ذلك، وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض، ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن يكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.](تفسير المنار/الشاملة/ 1/ 234)

لذلك - أخي العزيز العبادي - أخشى أن يأتي قولك:
المقادير الواردة في الوحيَين لا تعدو أن تكون تقريبا للسامع بشيء من المحسوسات، وأن المقصد منها هو زرع العبرة من المثل المضروب بها، ترغيبا أو ترهيبا أو غير ذلك من المقاصد، فكل محاولة إلى تحديد هذه المقادير على وجه الدقة هو ضرب من البحث فيما لم يقصده الشرع
في نفس الخط الذي أتى به الشيخ محمد عبده، وعبدالوهاب المسيري - مع الفارق - في تعطيل المعاني، بحجة عدم التقيد بمقاصد، رغم أنها مقاصد اجتهادية غير شاملة بالضرورة.

وأما عن قولك:
ثم هو محاولة فيما يصعب تصوره وحدّه بمعارف البشر، فيظل باب الخطأ فيه مفتوحا
..
فأقول لا بأس أن يخطئ المجتهد فيُصوّبه مثيله في الاجتهاد، إذ لو كان الخوف من الخطأ مانع من العمل، لما كان هناك عمل. ولهذا جعلنا الله تعالى مختلفين، حتى ترى خطئي فتُصوبه لي، وأرى خطأك فأصوبه لك. فتتهذب أعمالنا جميعا. ولو ذهبنا نُحرِّم تدبر معاني القرآن بحجة أن منه (ما يصعب تصوره وحدّه بمعارف البشر) فقد عطلناه، أو على الأقل، منعنا تدبره بعلة قصورنا عن فهمه. ولا أراها علة مقبولة، إذ أنها تُسقط فريضة الاجتهاد من أصلها؛ إذ لو تيسر للمجتهد وصوله إلى الحق دائما، لما كان فعله اجتهادا.

كما أرى أخي العزيز أنك قد وافقتني في مداخلتك #3 حين قلت [المصطلحات الشرعية لا تفسر بالمصطلحات الحادثة] لأني رفضت - في الدراسة المشار إليها - تفسير الإعجازيين للفظ (اليوم) على أنه اليوم الفلكي (24 ساعة). فالعبارات الشرعية إذا أرادت هذا المدة من الزمن قالت (يوماً وليلة)، أما (اليوم) إذا انفرد، فمعناه (طول النهار). فهذا التحكم منهم بالاصطلاح الحادث أفسد علاجهم للمسألة، وكذلك استخدامهم للفظ (حَدْ) وزعمهم أنه يعني (حد أقصى للسرعة)، رغم أنهم اقتبسوها ممن قصد بها (تعريفاً جامعاً مانعا). فكان ما كان، وذهبوا بهذه التحريفات بعيدا عن الحق، من حيث ظنوا أنهم اقتربوا.

وأخيراً أود التأكيد - لعموم القراء - على أن أخطاء بعض الإعجازيين لا يعني فساد مبدأ التفسير والإعجاز العلمي. وإلا كانت أخطاء بعض المفسرين والفقهاء والأطباء أدلة على فساد علومهم، وهو استدلال لا يقول به عاقل. وأقصد من ذلك ألا يرتكن أحدٌ ممن يتربص بالتفسير والإعجاز العلمي، إلى تلك الأخطاء - التي نستخرجها لإخواننا المخطئين - لغرض النيل مما يتربص.

هذا والله تعالى أعلم.
 
عودة
أعلى