ذكّرني سؤالك أخي دحمان بموضوع آخر تجده هنا:
http://vb.tafsir.net/tafsir18590/#.WHlU6n3BYqI
وقد كتبت في آخر مشاركة منه ( يتبع في علاقة النص القرآني بالنظريات العلمية ... ) ولكن نسيته تماما، وكنت أفكر في معالجة تلك العلاقة، ثم أتبعها بقراءة نقدية لسلسلة السيد عدنان إبراهيم (هذا
موضوع يعرّف به) وهي سلسلة تكلم فيها مشكورا عن نظرية التطور (أو نظرية داروين تجاوزا)، إلا أن آفة النسيان قد فعلت فعلتها ..
المهم، قولك أستاذنا المحترم (
بالرغم من انهزام نظرية التطور في كل ساحة علميّة) كلام غير صحيح أو قول لا معنى له في الإطار الذي ينتج المعرفة المستحدثة داخل العلوم الطبيعية (التجريبية، والنظرية، والنظرية التجريبية)، لأن قولك هذا يلزم منه وجود
البديل العلمي الطبيعي، فما هو؟ إن أصول العلوم الطبيعية عبارة عن مجموعة من المنطلقات المنطقية (قضايا تسليمية / إيمانية أو مسلمات وبدهيات .. الخ) ومن تلك المسلمات مسلمة "الطبيعة ناطقة" أو الطبيعة تُفَسَّرُ بالطبيعة أي تفسير الظاهرة الطبيعية يكون بالنواميس الطبيعية، وطبعا هذه مسلمة مبنية على مسلّمة أخرى وهي "معرفة الطبيعة ممكنة" وهي أيضا تنطلق من مسلمات أخرى، وبدون الدخول في التفاصيل نقول إن العلوم الحديثة هي علوم غير ممكنة بدون تلك المسلمة، ولذلك لا يمكن بتاتا الحديث عن "إنهزام" فكرة التطور، حتى لو كانت الفكرة هذه مجرد تخمين، أي حتى لو لم تكن فرضية ولا نظرية، فلا يمكن التنازل عنها إلا ببديل = صياغة علمية تفسيرية طبيعية لظاهرة طبيعية هي التطور، فالتطور حقيقة لكن التفسير والتعميم والتجريد تخمين أو فرضية أو نظرية، كذلك الخلية (في الأحياء) حقيقة -أي أيس قابل للرصد والمشاهدة- لكن تفسيرها للتعميم والتجريد تخمين أو فرضية أو نظرية؛ ولهذا عندنا شيء إسمه "نظرية الخلية"، كما عندنا "نظرية الجاذبية".. الخ. أما التطور الذي هو ظاهرة فشيء مُكتَشف، واللفظ من المتشابه الذي يجب أن يُرد إلى المحكمات الطبيعية وعندها سنقول التغيير أو البرء (وبها البارئ: المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة - أنظر الكشاف تفسير الآية 24 سورة الحشر)، بينما التطور الذي هو نظرية فقد إنطلق في البداية من ملاحظة ظواهر أخرى مثل التشابه بين الكائنات والأنواع ومثل تعددها وتنوعها ثم جاء التغيير ثم جاءت البيانات الجديدة من الإحاثة والحفريات والزراعة الخ..
وتلك المسلمة هي كذلك في العلوم الطبيعية، أما في الفكرانيات (الايديولوجيا) وفي
تصور الحياة فهي "عقيدة" أو "دوغما" لذلك وجب التمييز بين المنهج الطبيعي (la methode naturelle) والطبيعانية أو المذهب الطبيعي (le naturalisme)، كما نميّز بين العلم والعلموية والعِلمانية (فصل العلم عن الدين)، وكما نميّز بين التجريبية أو المنهج التجريبي والمذهب التجريبي .. والكثير من العلماء والباحثين في العلوم الحديثة الطبيعية والإجتماعية والإنسانية، لا يميزون عند الكلام في مواضيعهم وأبحاثهم، إما بلا شعور نتيجة التربية والتلقين والبيئة، وإما عن قصد وفي الحالة الأخيرة نحن نتحدّث عن أتباع العقائد العَلمانية والدهرية والوضعانية واللادينية والإلحادية.. وغيرها.
بالنسبة للمنهج الطبيعي فهو قائم بمبدأ السببية، والفيزياء الكمومية عكس ما يدعيه المسفسطون لم تنكر هذه السببية، لكن مآل النظرية إلى التشكيك أو حتى إنكار حتمية السببية، كما هو الحال مع "تجويزية" حجة الإسلام الغزالي فقولهم (إن الله يفعل عندها لا بها) لا يفهم منه إنكار السببية، كما أن "سببية" شيخ الإسلام إبن تيمية (إن الله يفعل بها) لا يفهم منها حتمية السببية وإلا كان سينكر المعجزات والخوارق والكرامات.. وفي هذا السياق يمكن أن نقول أن نظرية التطور والنشوء والإرتقاء مرفوضة تماما من منظور "الخلق المستمر"، لكنها مقبولة من منظور "الخلق السنني"، وأقصد هنا النظرية لا التطور، فالتطور مقبول من المنظورين وذلك سيكون بخلق جديد في التجويزية، وبالأسباب في السببية. في الحالة الأولى ممكن تغمض عينيك وتفتحها فإذا أنت طائر أو قطار، ومن المقتضيات الإفتراضية في الكمومية أن تخرج من بيتك في البحرين قاصدا المسجد فإذا أنت على باخرة في سواحل اليابان. ممكن يعني، ومستحيل عادة، لكن هو ممكن، وقد يحار فيها العقل، لكن لا يحيلها. أما الطبيعانية فلا يمكن فصلها عن الحتمية، والخلط بين هذه الأمور يؤدي غالبا إلى التضارب في الفكر وعدم التماسك في بناء الفكرة، وشر البلية ما يضحك؛ نعوذ بالله من الخذلان.
هذا بالنسبة لتلك النظرية من منظور عقلي بحت، وهي نظرية تُنَاقش بلغتها ووجب دراستها والبحث فيها للتجديد والتطوير والنقد بلسانها، لا بلغة غيرها: فلسفة عامة، أو عقيدة دينية/فكرانية، ومن يعرض عليك النظرية بإسم العقيدة ترد عليه في العقيدة ترجع معه إلى الأصل، والعقيدة تُدَافع بالعقيدة. بالتالي لا معنى للسؤال عن بيان أوجه مخالفة هذه النظرية لنصوص القرآن والسنّة، فالنظرية شيء لكن طريقة التعبير والعرض شيء آخر، وقد يدرّسها في كلية الطبيعيات في أقوى الجامعات من لا يقتنع بحرف منها، كما يدرس المستشرق البروفيسور عقائد البوذية وهو غير مقتنع بشيء منها، لكن الممارسة العلمية الأكاديمية تسير بعهود ومواثيق والتزامات أو "بروتوكولات" من أجل التواصل والإبداع والتطوير، ورب ضرة نافعة، ففي العلوم الطبيعية يحصل ما يحصل في العلوم الدينية حيث تقوم بدراسة وتدريس شيء ما لا يعود عليك بنفع (مادي ولا معنوي) لكن قد يقودك إلى ما هو أفضل وأحسن وأظهر، فالخطأ شيء ضروري في تقدّم العلوم. لكن السؤال يفرض نفسه للسبب المذكور إذ ظهر من يدافع على صحة هذه النظريّة أو العكس، فلا مفر من الخوض في علاقة الدين بالعلم، وهو سؤال يستعيد ذكريات.
أول ما طُرح علي السؤال في المدرسة الثانوية والقسم مختلط تنوع عقائدي وثقافي فكري والتلاميذ يرد بعضهم على بعض تلميذ عنده الدين خرافة يصفق له آخرون، والآخر فكر قليلا وقال الدين روح وإنسان أما العلم فمادة وطبيعة، وكاثوليكية من هناك ترفع صوتها وسط الضجيج قائلة لكن العلم لا يفسر لنا الأحلام ومغزى الحياة، ومسلم يعلق نعم نعم الأحلام ما تفسير الأحلام، وأخرى تقول أنا لا أؤمن لكن لابد من وجود ما هو أعظم وأكبر من كل هذا والعلم محدود لأنه يتطور ولا يحل لنا مشاكل يومية وإلا لبحثت عن جرعة بيوكيميائية ما أقدمها لأبي ليحب أمي من جديد بعد إنفصالهما لسنوات.. ثم هدأ الموج، والأستاذ يخاطبني: أنت لم تقل شيئا ولم تضحك ولم تتحرك يمينا ولا شمالا ولم تفعل شيئا، فقلت له: السؤال (ما رأيكم في العلاقة بين الدين والعلم) سؤال غلط، فما العلم وما الدين، ونحن هنا مختلفون فلم لا نختلف في التعريفات ولماذا لا نسأل عن العلاقة بين التكنولوجيا والدين، أو الحياة والدين، أو الرياضة أو كرة القدم والدين؟ فرد: همم كلامك مهم، فهب أني أسمح لك بأن تجيب وفق تعريفك أنت للعلم والدين، فما جوابك؟ قلت له: شكرا، لكن هناك إشكاليات أخرى تجعلني أتمسك بإعتقادي أن السؤال غلط؛ فقال: ما هي؟ قلت له: بعد التعريف، لازم نحدد العلم هل علم الطبيعة أم علوم أخرى مثل العلوم الدينية، ثم نحدد هذا الدين، أي دين؟ الأديان مختلفة ومتنوعة، مثل النظريات العلمية، وهل يمكن أن نحاكم العلم بسبب الأخطاء العلمية؟ فقال: هذا مهم ووقت الحصة سينتهي بعد لحظات، بإختصار قل ما شئت. فقلت: الإسلام يدعو إلى العلم الطبيعي وكلمة العلم بالعربية جاءت في القرآن مرارا وتكرارا، لكن الإسلام لا يسمح بعلم مهما كان، فإن كان خيرا فهو خير وإن كان شرا للإنسان مثل القنبلة النووية فهو شر وحرام. فقال لي: مثير للأهمية، لكن الذي ذكرته في الأخير مسألة أخلاقية .. فقاطعته قائلا: الإسلام دين وأخلاق وعلم، لذلك قلت في الأول يجب أن نحدد الدين والعلم، ثم لماذا لم تسأل عن العلاقة بين الأخلاق والعلم؟ فنظر إلى التلاميذ، ورجع فتبسّم وقال الى الحصة المقبلة.
تلك قصة، وما أختاره غير بعيد عن مضمونها. نحن لا نقوم بتقزيم العلم في ظواهر الحياة، وبالتالي العلاقة بين العلم والدين هي علاقة المادة بموضوعها، فموضوع العلوم الشرعية هو الشرع، وموضوع علم الأحياء؟ الأحياء. هو سؤال لا معنى له، لكن في الواقع هو سؤال فيه إضمار: العلاقة بين العلوم الحديثة والدين. أيضا مشكل، فالدين هو كذلك موضوع في علوم حديثة إجتماعية وأدبية (إنسانية)، فما معنى السؤال: ما العلاقة بين العلم والمحيطات؟ المحيطات موضوع دراسة وعلم في دراسة وعلم المحيطات. عليه لا أعترف بمشروعية السؤال، ولا يمكن أن نتخيل تناقضا ما بين الكون والوحي لأن المصدر واحد، فالأصل هو الإتحاد والتناغم. ولكن أين يمكن التنوع والإختلاف والتضاد؟ بين تفسير الكون وتفسير الوحي، بين فهم الآية الكونية والآية القرآنية، أو بين فهم الآية الكونية في الكون والآية الكونية في القرآن، وبإختصار: بين تفسير الآيات وتفسير الظوهر وطبعا عندما يكون الموضوع واحد. وفي هذه الحالة نقدّم التفسير الأحسن، أو التفسير الظاهر على التفسير البعيد.
إن كانت آيات خلق الإنسان في القرآن
آيات ملكية فنحن نقدم فهمنا لتلك الآيات على النظرية، لأن تفسير الآية القرآنية في هذه الحالة ثابت أو شبه ثابت، وطبعا بعد إستبعاد الإسرائيليات والروايات المضطربة سندا ومتنا. لكن إن كانت تلك الآيات
آيات ملكوتية، فالكلام حينها يهتم بمحاور أخرى لا علاقة لها بالإتفاق أو الإختلاف بين تفسير الآية وتفسير الظاهرة.