في آية قتل الخطأ في سورة النساء في حق المؤمن قال ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) وفي حق المعاهد والذمي قدّم الدية على تحرير الرقبة فقال ( فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ) وأكيد أن ذلك لحكمة , أرجو إفادتي وفقكم الله.
أخر الدية عند ذكر المؤمن لقوله بعدها ( إلا أن يصدقوا ) . وأخر ذكر تحرير الرقبة عند ذكر الذميين والمعاهدين حتى يكون قوله تعالى ( فمن لم يجد ) راجعا للرقبة فقط وليس للدية معها . كما أنه لم يذكر الصدقة في حق الذميين والمعاهدين لأن في ذلك إذلالا للمؤمن في تعامله مع هؤلاء فلم يذكر الصدقة منهم مع أنها تصح لو تنازلوا ، ولكنها لاتسمى صدقة في حقهم . بينما لا توجد هذه الذلة بين المؤمنين فشأن المؤمنين بعضهم مع بعض هو التراحم وتذلل بعضهم مع بعض ( أذلة على المؤمنين ) .
والله تعالى أعلم . وأستغفر الله العظيم .
1. هذا نص الآية 92 من سورة النساء:"وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا":
واضح في سياق الآية الكريمة أن الكلام عن القتيل المؤمن. أما ما ورد عند البعض من أن القتيل المعاهد غير المؤمن تجب فيه الكفارة فضعيف لا يؤخذ به وإن قاله فقيه مجتهد. فهو في رأينا من شذوذ الفقهاء.
2. عندما يكون القتيل المؤمن من قوم بيننا وبينهم ميثاق فتجب الدية، والكفارة لأنه مؤمن. وتقديم الدية فيه إشارة إلى المسارعة بدفع الدية حتى لا يبدو الأمر نقضاً للميثاق.
3. إذا كان القتيل المؤمن من قوم عدو لنا فتجب الكفارة لكونه مؤمناً، ولا تجب الدية لأن العداوة تمنع ذلك.
الآية - كما قال أخونا أبو عمرو - تتحدث عن القتيل المؤمن .
إلا أنّ فيها دلالة على المعاهد والذمي في قوله تعالى : ((وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فديةٌ مسلّمة إلى أهله)) .
وجه الدلالة : أنّ الدية استحقها أهل القتيل المؤمن ؛ لقتله لا لدينه .
فحُكم القتيل المعاهد والذمي إذاً مثلُه ، دون الكفارة .
من وقف مع آية النساء المتحدثة عن القتل الخطأ وأحكامه يجد فيها شيئاً عجباً من روعة التشريع الإسلامي في إعطاء الآخرين حقوقهم والمحافظة عليها، بل إن التشريع الإسلامي ليُعنى بالآخر مثلما يعنى بالمسلم من حيث أداء الحقوق، وذلك سر من أسرار التقدم الحضاري الذي يمتاز به دين الإسلام على بقية الأديان، فدقة التشريع وعدالته لتحفظ لهذا الدين جدته وديمومته، وتألقه وحاكميته على نفوس الناس فيما يجدون فيه من قيم تستظل بالأسلوب القرآني المعجز، فإعجاز الأسلوب القرآني وعدالة التشريع الإلهي لتأخذ بالعاقل الأريب إلى قمة من قمم الشموخ الفكري، والسمو النفسي؛ ليتعالى على كل دني رخيص، ولنقف مع الآية وقفة تدبر وتمعن لعلنا نستجلي هذه الحقيقة القرآنية، يقول تعالى في سورة النساء: {وَمَا كان لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إِلَّا خَطأً وَمَنْ قتَل مُؤْمِنًا خَطأً فتَحْرِيرُ رَقبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقوا فإِنْ كان مِنْ قوْمٍ عَدو لكُمْ وَهوَ مُؤْمِنٌ فتَحْرِيرُ رَقبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كان مِنْ قوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فمَنْ لمْ يَجِدْ فصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكان اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)} تبين الآية بوضوح أن المؤمن لا يقع منه قتل وإن حصل فلا يكون إلا على سبيل الخطأ، فإن حصل ذلك فالمقتول له ثلاث حالات وهي: مؤمن من المجتمع المسلم. مؤمن من قوم عدو. مؤمن من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وذهب بعض المفسرين والفقهاء إلى أن الآية تتحدث عن مقتول ذمي، والراجح أن الآية تتحدث عن مقتول مؤمن من قوم بيننا وبينهم ميثاق. فهؤلاء الثلاثة شُرِعَ لهم ثلاثة أحكام: الحكم الأول: للمؤمن من المجتمع المؤمن {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}، ويُلاحظ أن الآية فرضت على القاتل تحرير رقبة مؤمنة والدية لأهل المقتول، ثم احترزت وأعطت مجالاً لأهل المقتول بأنهم إن أرادوا التصدق والعفو فلهم ذلك، وفيه من قرع أبواب التسامح ما يجعل المجتمع يعيش حالة من الأمن النفسي. الحكم الثاني: للمؤمن من قوم عدو للمسلمين { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، والملاحظ أن الآية شرعت تحرير رقبة مؤمنة فقط دون أن تشرع الدية لأهل المقتول؛ وذلك أن تحرير رقبة مؤمنة هي بدل عن قتل المؤمن، وأما الدية فحكمتها قائمة على إيناس أهل المقتول وتخفيف حجم المأساة عنهم، وبالتالي إشاعة الأمن في المجتمع كي لا تنشأ أخلاق الثأر والانتقام، وهذا غير مراد مع الأعداء، فالعداوة قائمة أصلاً، وتحقيق هذا المقصد التشريعي غير ممكن، فانتفى وجوده. الحكم الثالث: للمؤمن من قوم بيننا وبينهم ميثاق {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، والذي يدقق النظر في هذا الحكم يجد أن الآية شرعت لهذا المقتول الدية وتحرير رقبة مؤمنة، وقد شرعت الآية حكماً زائداً على ما شرعته للمجتمع المسلم، ويكمن ذلك في تدبر الأسلوب القرآني الذي يثري جانباً من جوانب إعجازه التشريعي، بتقديم ذكر الدية على ذكر تحرير رقبة مؤمنة {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وهذا يختلف عن الأسلوب المتقدم فيما يتعلق بالمجتمع المسلم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أي: أن حق المجتمع الذي بيننا وبينهم ميثاق مقدم على حقوق المجتمع المسلم نفسه، وفي ذلك محافظة على العلاقات القائمة بيننا وبين الآخر بنص قرآني تشريعي قانوني لا يقبل التلاعب أو التنازل، فحقوق أهل الميثاق مقدمة على حقوق المجتمع المسلم فيما يخص هذه المسألة وما يشابهها من مسائل تحددها طبيعة النظر التشريعية وملابسات الأحوال. والهدف من ذلك يكمن في أمور منها: المحافظة على المواثيق بيننا وبين الآخر، وهذا يدل على مدى مصداقية المجتمع المسلم. المسارعة في تقديم حقوق الآخرين، كي لا يُظن نقض العهد، وهذا يدل على أن الله عز وجل لا يريد من أمتنا المسلمة نقض العهود والمواثيق مع الأمم الأخرى، بل المحافظة عليها وذلك أدعى لدخول الأمم الأخرى في دين الله تعالى. رسم منهج التعامل مع الآخر بتصور حضاري حقيقي، لا بخيال وسلوك همجي بدائي. ترسيخ القيم النبيلة العالية التي تدل على تمكن الأمة المسلمة من المحافظة على عهود ومواثيق الآخر، وهذا يدل على الاستمرارية الحضارية، وقدرة التشريع الإسلامي على المضي قدماً في طريق الرسوخ والثبات. طرد الأخلاق الدنيئة من النفوس بتربيتها على مائدة القرآن. ثم انظر أخي القارئ إلى عدم تحميل المؤمنين فوق طاقتهم بقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، وهذا ينطبق على الجميع، فالتكليف فيما يطاق، وبهذا التشريع العادل الناشئ عن عليم حكيم، تتضح لنا روعة الإسلام في تشريعاته المبنية على دقة ملاحظة الفروق في الأحكام المتشابهة، ويظهر لنا كذلك جمعه بين القدرة التشريعية الداخلية، والقدرة التشريعية في العلاقات الخارجية بما يحفظ للأمة كينونتها وتقدمها الحضاري، ولتُبشر هذه الأمة بتقدم عزيز إذا ما وعت كتاب ربها، وأيقنت أن العلاقة بيننا وبين الآخر ليست علاقة حرب وقتل ودمار، بقدر ما هي علاقة خير وعلم وهداية، وتواصل حضاري لتحقيق مقصد القرآن في إنزاله على خير الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هل الرقاب موجودة الآن ؟
الجواب : العبيد تقريباً غير موجودين ، إلا أن الأسرى المظلومين موجودون -كما في سجون النظام السوري- .
فمن استطاع أن يحرر رقبة فليفعل .
قال البقاعي -رحمه الله- في نظم الدرر 5 / 362 - 363 :
( وقدم التحرير هنا -يعني في أول الآية- حثَّاً على رتق ما خرق من حجاب العبد ...
وكأنه قدم الدية هنا -يعني في آخر الآية- إشارةً إلى المبادرة بها حفظاً للعهد ، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به ، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله . وقال الأصبهاني : إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية ، وبالعكس ها هنا - انتهى .
وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن ، وإلى حفظ العهد في الكافر )