الالتفات ويسميه السيوطي خطاب التلْوين من وجوه مُخاطبات القرآن وهو باب من ابواب بلاغته وسأتناوله من خلال المحاور التالية :
1-تعريفه : عرفه الزركشيِّ ، والسيوطيِّ أنه : تحويلُ أسلوب الكلام من وجْهٍ إلى آخر .
2-فوائده : قسَّم العلماء وعلى رأسهم الزركشي والسيوطي فوائد الالتفات إلى قسْمين :
القسم الأول : الفوائد العامّة ، ومنها :
أ – حمْلُ المخاطب على الانتباه ، لتغيُّرِ وجْه الأسلوب .
ب – حمْلُه على التفكير في المعنى ، لأنّ تغيُّرَ وجْه الأسلوب ،يؤدّي إلى التفكير في السبب.
ج – دفْعُ السآمة والملَلِ عنه ، لأنّ بقاء الأسلوب على وجْه واحد يؤدّي إلى الملَلِ غالبًا .
القسم الثاني : الفوائد الخاصّة
قالَوا :" أمّا الفوائد الخاصّة فتتعيَّنُ في كلِّ صورة ، حسب ما يقْتضيه المقام .
ولذا فباب الالتفات باب من ابواب التدبر لمعرفة الفوائد الخاصة الكامنة في كل آية استعمل فيها هذا الاسلوب .
3 – صُوَرُه :
للالتفاتِ صُوَرٌ متعدِّدة :
الصورة الأولى : الالتفاتُ مِن الغيْبَةِ إلى الخطاب
مثاله :
- في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ
وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} (البقرة:83)
فقوله تعالى :{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ }فيه التفاتٌ مِن الغيْبَةِ إلى الخطاب ؛ وفائدته : إدْخالُ الموجودينَ في عَهْدِ النبيِّ في هذا الحكْمِ– أعْني التَّوَلِّي – ".
الصورة الثانية : الالتفاتُ مِن الخطابِ إلى الغيْبَة
مثاله :
- في قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ}(التوبة: الآية 128 - 129)
فقوله تعالى : {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أيْ أعْرضوا مع هذا البيان الواضح بوصْف الرسول ، وهذا التفاتٌ مِن الخطابِ إلى الغيْبَةِ ؛لأنّ التَّولِّي مع هذا البيانِ مَكْروه ، ولِهذا لمْ يُخاطَبوا بهِ فَلَمْ يَقُلْ : فإنْ تولَّيتم ".
الصورة الثالثة : الالتفاتُ مِن الغيْبَةِ إلى التَّكَلُّم
مثاله :
- في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}(البقرة: من الآية285)
فقوله تعالى:{ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ }، هنا التفات من الغيْبَةِ إلى التكلّم ؛ ومُقْتضَى السياقِ لو كانَ على نَهْجٍ واحد لقالَ : " لا يُفرِّقونَ بين أحدٍ مِن رُسُلِه " ؛ ولكنه تعالى قالَ :{لا نُفَرِّقُ}، وفائدةُ الالتفاتِ هي التنبيه ؛ لأنّ الكلام إذا كان على نسَقٍ واحد فإنّ الإنسان ينسجم معه ، وربّما يغيب فِكْره ؛ وأمّا إذا جاء الالتفات فكأنّه يقْرَع الذهن يقول : انتبه !
الصورة الرابعة : الالتفاتُ مِن التَّكَلُّمِ إلى الغيْبَة
مثاله :
- في قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) وفي هذه الآية التفات من التكلّم إلى الغيْبَة في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } وقولـه تعالى : { أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ }ولمْ يقل : " ونلعنهم " ؛ وللالتفاتِ فائدتان :
الأولى : تنبيهُ المخاطَبِ ، لأنّه إذا تغيّر نسَقُ الكلام أوْجَدَ أنْ ينتبهَ المخاطَبُ لما حَصَلَ مِن التغيير .
الفائدة الثانية : تكونُ بحسب السياق : ففي هذه الآية{ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ }الفائدةُ التعظيم ؛ لأنّ قوله{ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ }أبْلغُ في التعظيمِ مِن : " أولئك نلعنهم " ؛ لأنّ المتكلِّم إذا تحدّث عن نفسهِ بصيغةِ الغائبِ صَارَ أشَدَّ هيبةً ، مثل قَولِ الملِك : إنّ الملِك يأْمركم بكذا ، وكذا ؛ وأمَرَ الملِكُ بكذا ، وكذا - يعني نفْسه .
الصورة الخامسة : الالتفاتُ مِن التكلّمِ إلى الخطاب ) انظر مثالها في : الإتقان في علوم القرآن ( 2 / 902 ) .
الصورة السادسة : الالتفاتُ مِن الخطابِ إلى التكلّم , قال السيوطيُّ :" الالتفاتُ مِن الخطابِ إلى التكلّمِ لمْ يقعْ في القرآن .
الصورة السابعة : الالتفاتُ مِن الإضْمار إلى الإظْهار
مثاله :
في قوله تعالى {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:98)
هنا أَظْهَرَ في مَوْضِعِ الإضْمَارِ أي قالَ : {عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} ولمْ يقل : عدوٌّ لهم : لِفائدتين ؛إحداهما : لفْظيّة ، والثانية : معنويّة؛ أمّا الفائدةُ اللفظيّة : فمناسبةُ رؤوسِ الآي ؛ وأمّا الفائدةُ المعنويّة فهي تَتَضَمَّنُ ثلاثةَ أمور :
الأول : الحكْم على أنّ مَنْ كانَ عدوًا للهِ ومَنْ ذُكر ، بأنّه يكونُ كافرًا ؛ يعني : الحكمُ على هؤلاءِ بالكُفْر .
الثاني : أنّ كُلَّ كافرٍ سواء كانَ سببُ كُفْرِه مُعَادَاةَ الله ، أوْ لا ، فاللهُ عَدُوٌّ له .
الثالث : بيانُ العِلَّةِ وهي في هذهِ الآيةِ الكُفْر .