سؤال عن آية

إنضم
20 مارس 2006
المشاركات
14
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
قال تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) سورة البقرة{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (174)
في الآية الأولى قال- أنزلنا- ولم يأتي يقل –الله- فما هي الحكمة من هذا التعبير من حيث البلاغة والمعنى وميزة الإسلوب
 
قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى، الظاهر و الله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإلهي من المعارف و الأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، و بالبينات الآيات و الحجج التي هي بينات و أدلة و شواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، و على هذا يكون المراد بالكتمان و هو الإخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، و عدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، و ما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم).
قوله تعالى: من بعد ما بيناه للناس، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان و التبين للناس، لا لهم فقط، و ذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي و تبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة و إلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، و العالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ و أدواته، كاللسان و الكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم و هو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين و تفرقهم في سبل الهداية و الضلالة، و إلا فالدين فطري تقبله الفطرة و تخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الروم - 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، و لا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول فافهم ذلك.

و لذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة و بين عدم العلم به فقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، و قال: لكن أكثر الناس لا يعلمون، و قال تعالى: «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم»: البقرة - 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية و الانحراف عن جادة الصواب معلول بغي العلماء بالإخفاء و التأويل و التحريف، و ظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا»: الأعراف - 44، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم الآية، و مشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها و هو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.

قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات و الهدى، و هو اللعن من الله، و اللعن من كل لاعن، و قد كرر اللعن لأن اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة و السعادة و من اللاعنين سؤاله من الله، و قد أطلق اللعن منه و من اللاعنين و أطلق اللاعنين، و هو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم و الاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، و لا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، و هذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد و الجحود، و كل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها و جحدها عن علم دون من لا يعلم بها و لم تبين له، و قد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم و ينشروا ما عندهم من الآيات و الهدى، فإذا كتموه و كفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، و يشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار - إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: إن للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها و معناها و هو قوله: الذين كفروا و ماتوا و هم كفار.



قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شيء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبراؤهم و رؤساؤهم في العبادات و غيرها - و عندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - و لم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة و أبهة المقام و الجاه و المال.

و في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال و تحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان و أخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: فما أصبرهم على النار، و الذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان و البقاء عليها فافهم.


هذا والله أعلم..
 
عودة
أعلى