سألني سائل:
[هناك حديث مشكل عليّ، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ أَيْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ وَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ). وموضع الإشكال: أن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل أشد ما يحس الناس به من الحر في الصيف بسبب نَفَسْ جهنم، وأشد ما يحس الناس به من البرد في الشتاء بسبب نَفَسْ جهنم الآخر. وسبب الإشكال: أن الأرض يكون فيها أكثر من شتاء واحد وأكثر صيف واحد بحسب اختلاف الأمكنة، والحديث يفهم منه أنه أُذن للنار بنفَسَين خلال السنة الواحدة، فكيف يستقيم ذلك؟ آمل أن يكون .. لديكم حل لهذا الإشكال يريح البال ويُطمئِن النَفْس. ]
فجاءت إجابتي على هذا الرابط، ولعلها تكون إجابة شافية.
في الصيف أو في الشتاء تتفاوت درجة أشد من منطقة إلي اخرى ، فعلمنا السبب وانه بسبب حرارة أو برودة اتية من جهة النار ، والنار هنا هي نار جهنم بغير تاويل لظاهر النص لايقوم عليه دليل ، كيفية خروج هذا الفيح أو الزمهرير من النار واصابته للارض في هذه المواسم هو من عالم الغيب فلا مجال للخوض فيه ، اما التفاوت في درجات اشد الحرارة من منطقة الي أخرى فله جانب عقلي ومن عالم الشهادة يمكن أن نقول يرجع ذلك الي طبيعة الارض من غلاف جوي وزاوية ميل ودوران وجبال وانهار ومحيطات كل هذا يؤثر في اشد الحرارة واشد البرودة من منطقة الي اخرى .
لا يوجد في نص الحديث أي إشارة إلى "جهنم"!
وإذا كان غالب ورود معنى "النار" - في القرآن والحديث النبوي - أنها تؤول إلى جهنم، إلاّ أن هذا ليس بلازم إذا كان كان هناك قرينة تستدعي خلاف ذلك. والقرينة هنا حاصلة، وهي ارتباط نَفَسَي "النار المحكي عنها" بالحر والزمهرير في الدنيا. فالارتباط هنا منفك بين الآخرة والدنيا، وبين الغيب والشهادة. فالحديث يتكلم عن الدنيا فقط، وعن ما فيها من شهادة، من حيث الإشارة إلى أشد ما يشعر به الناس من الحر والزمهرير.
أما كيفية كلام "النار المحكي عنها" لربها، فهذا من أمر الله الذي لم يُعلمنا بكيفيته، والحكم عليه سواء بحقيقة الكلام العيني أو مجازيته خوض في مسألة يكفينا فيها النص بوقوع الكلام، ولا طائل من الخوض في كيفيته. فكيفية كلام "النار المحكي عنها" هو الغيب الوحيد في الحديث. أما "النار" ونَفَسَيْها، وما يشعر به الناس من الحر والزمهرير من أثر هذين النفسين، فهذا كله من الشهادة.
ومن غير المقبول شرعاً وعقلاً أن يشعر الناس جميعاً في الدنيا بلفحة من جهنم، ولا بنسمة من الجنة، أللهم إلا على سبيل التمثيل بالأدنى، للترهيب من الأعظم، والترغيب في الأعلى، لا الحس العياني الذي يكون فيه "الحر" هو من عين حر جهنم، والزمهرير من عين زمهرير جهنم. .. ولا أثر في الحديث لأي ترهيب وترغيب صريح، بل حكاية واقع يعايشه الناس كل الناس، فيعتبر به من يعتبر، ويُعرض عنه من يعرض، ويتعلم منه من يتعلم مما يُخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأرى أن أي محافظة على كون النار هي (نار جهنم) سيُبقي الإشكال في الحديث، مهما نمَّق صاحبها عباراته، وحَسَّن استشهاداته، ونفث من روح الإيمان في تفسيراته. ... لأن العلة منفكة بين أحداث الآخرة الطبيعية (الجنة والنار) وأحداث الدنيا الطبيعية (من أرض وشمس ونجوم) ... قال تعالى "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ" ... وسواء كانت الجنة والنار الآن موجودتان أو لم توجدا بعد، فهما منفكتان العلة الطبيعية عن عالمنا الأرض، وبين العالمين (الدنيا والآخرة) برزخ كما قال تعالى "وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"، فأنّى يعبره الحر والزمهرير؟! .. وليس مرة أو مرتين على سبيل معجزات الأنبياء، بل عادة مطردة صيفاً وشتاءاً، وعاماً وراء العام، وكأن جهنم الآخرة وراء الأرض ببضعة أميال، .. وإن كانت، فهذه ليست جهنم الآخرة، بل إنها جهنم الدنيا، أي الشمس التي نراها بأم أعيننا.
وما يمكن أن يُفهم بلا إشكال من الحديث الذي أتيت به: (أبْرِدوا بالصلاةِ ، فإنَّ شِدَّةَ الحرِّ من فَيْحِ جَهنمَ)، فهو عين ما يُفهم من عبارتي في مداخلتي الأخيرة: [هذه ليست جهنم الآخرة، بل إنها جهنم الدنيا، أي الشمس التي نراها بأم أعيننا.]، أو أن هذا الحر الذي أُمروا أن يتبردوا بالصلاة منه، إنما مثله مثل فيح جهنم، وأن التبرد من حر الدنيا بالصلاة والوضوء لها، مثال حسي - تعليمي/نفسي - يقود إلى القناعة العملية بأن النجاة من جهنم في الآخرة واقع لا محالة بذات الصلاة.
أي أن حل الإشكال يشمل الحديثين جميعاً، وما من إشارة ضرورية إلى الآخرة وغيوبها بأي حال، خاصة وأن نار جهنم تفضل نار الدنيا (بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)، كما في الحديث المتفق عليه أيضا. وهذا افتراق في الطبائع يفقد معناه إذا اختلط المُفترِقان. ويظل البرزخ بين أحداث الآخرة من نعيم وعذاب (وطبائع)، حاجزاً إياها عن أهل الدنيا، حتى يعبروه. أما أن يجتازه حرُّ جهنم أو زمهريرها أو فيحها، في اتجاه معاكس، وعلى سبيل العادة والاطراد، فلا سبيل إليه، وإلا ما كان برزخا.
قولك اخي عز الدين مفهوم ، ولكني اراه مرجوح ، فانت رجل رياضيات وتعرف أن لحل اية معادلة لابد من تقدير قيمه للمجهول ،مجهول من جهة لاعلم لنا به إلا بما ورد به الخبر، وهو الغيب فلا نستطيع الاطلاع عليه ، والايمان به ركن من اركان الايمان ، النار اعاذني الله واياكم منها اجمعين مخلوقه موجودة ، وهي تطلق نفسين كيف يؤثر هذا في الشمس أو الكون أو الارض (شعوربشدة الحر ) سوي ذلك ليس لإحد طاقة في معرفة ابعادهما وهو الظاهر من الاحاديث
ختاما ، هداني الله واياكم لما اختلف فيه من الحق بإذنه
لا أدري أي علاقة بين الرياضيات ومعادلاتها ومجهولاتها بحديث (اشتكت النار ..). كما أني لست متخصصا بالرياضيات وأستخدمها فقط إذا اضطررت إلى ذلك تماماً كالفقيه إن أراد أن يحسب نصيب الورثة، فلا يجد إلاّ (الحساب) ليُنجز به فتواه. ولا محل في مسألتنا ولا ضرورة لإدخال الحديث في معادلة لتنتج لنا أن المجهول هو (جهنم الآخرة) أو (الشمس!)!! .. ولو كان .. لكان من قال بأنه النار في الحديث هي جهنم الآخرة، قد طبق نفس المعادلة!!!
وليس الإشكال هنا في غيب لا نعلمه، بل في أفهام تتضارب إذا تمسك أصحابها بما يروه (ظاهراً) واجب الاعتقاد به. وليس كل ظاهر لغوي يقيني في دلالته الظاهرة بالضرورة، وإلا بطل التأويل، وهذا خلاف ما قال به أفاضل العلماء، فضلاً عن الراسخين في العلم. ومن يقل بهذا، يقوله تحكماً من عند نفسه.
ولا يُعد تأويل (النار) في هذين الحديثين بأنها (الشمس) بما يمثل جنوحاً عن الإيمان بالغيب، الذي هو ركن من أركان الإيمان، وإلا كان اتهاماً للمُتأول بسقوط ركن من أركان الإيمان عنده، وهو اتهام ذميم، وخاصة أنه يعم كل متأول، لأن التأويل دائماً جنوح عن الظاهر لقرينة ، أما إن كان لعلّة وجيهة، فعندها يصبح التأويل واجباً، ويصبح رأي تاركه هو المتروك.
أما إذا كانت علة هذا التأويل شديدة الوجاهة؛ وهو تأثير (تلك النار) في أشد ما يشعر به الناس من الحر والزمهرير في الدنيا، بما يجعل (ذلك الظاهر المزعوم بأنها نار جهنم) مرجوحا، بل مُستنكرا. عندها يصبح رفض التأويل مما يُثير الدهشة والاستغراب الشديدين. وخاصة أنه يُبقي على تضارب المعاني على أشده عند أصحاب العلوم الحديثة، الصادقة في أدلتها، وبما تتفاقم به حتى تنفجر بالتشكك في الأحاديث، والتراث، والدين، وعندها نجد مِن الملحدين مَن يلهجون بلهجة قريش [وقد حصل .. وباسم العلم الحديث]... ولا يكون من سبب وراء ذلك إلا الاستقلال عن علوم أخرجها الله تعالى للناس في هذا الزمان، أعرض عنها من أعرض ، كراهة من عند نفسه، أو إيثاراً للسلامة.
ولا أظن أن الإعراض عن علم أخرجه الله تعالى للناس بأدنى في النكارة من الإعراض عن كتاب أنزله الله تعالى للناس. ولو أن المُعرض قال بعدما سمع ما لم يكن يعلم، ولا يدري كيف ينقضه إلا بالنُكران: [الآن أشكل عليّ الأمر، ولا أدري أين الحق في هذه المسألة]، لكان أسلم له. غير أن تمسك بعضنا بأنه يجمع بين جنبيه كل الحق في معاني كلام الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، رغم بقاء الإشكالات الفجَّة، هو الذي يمنع صاحبه أن يقول: لا أدري ... فإذا أفتى بما يظنه الحق بحجة أنه (الظاهر)، حتى مع إشكالاته، فإذ به يُحرج الناس ويفتنهم .. رغم أنه ما على المسلم - فيما لا يعلم - من حرج، لو أنه عمل بقول الله تعالى "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ". غير أنه يُصر على أنه يعلم، حتى ولو كان بأدنى اشتباه من (ظاهر)! فإن انفجرت الإشكالات، وافتتن الناس بعلمه الظاهر هذا، فلا عليه، المهم أنه يعلم، ومن لم يأخذ بهذا الظاهر الفتان، فهو مشكوك الإيمان!