فلسفة التعدد الزواجي
فلسفة التعدد الزواجي
تعدد الزوجات من المواضيع التي تدخل في باب السهل الممتنع , من جهة المرأة التي تثور ثائرتها منه فلا يبقى فيها معنى على أصله , و من جهة الرجل الذي يجد اريحية في الخوض فيه حتى لا يبقى فيه معنى الا اهتز طربا .
على أن الملفت للنظر أن كثيرا ممن يخوضون في هذا الموضوع لا يعطونه حقه من جهة النظر العقلي و مقتضاه الطبيعي بل من جهة حكم الوهم و جموح الخيال . و لذلك لا تزال الصراعات بين مؤيد و معارض قائمة .
و نحن سنخوض فيه و نلخص جملة الرأي في نقاط معدودة :
1/ فلسفة الزواج :
يبدو أنه للخوض في هذا الموضوع ينبغي تحديد معنى الزواج و مهمته في حياة الإنسان و المجتمع , فهذا حري أن ييسر لنا حسن الفهم للتعدد الزواجي و آثاره النفسية و الإجتماعية .
بصورة مختصرة .. فالزواج و معناه في نظام النفس و الإجتماع وُضع ليستكمل كل طرف فيه ( الرجل و المرأة ) حقيقته النفسية و الإجتماعية عبر تفتيح معاني الإنسانية الكريمة فيه و من ثم الشعور بقيمته الإنسانية و دوره في بناء الحياة الفاضلة .. استكمال الشخصية عبر تثوير دفائنها في فلسفة الزواج هو ما أشار اليه القرآن الكريم بقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿21﴾ } [الروم] ( تأمل معنى ورود هذه الآية بالذات في سورة الروم ) . كما ألمح إليه الرسول صلى الله عليه و سلم حين اعتبر الزواج نصف الدين , فما الدين في أمده السامي إلا مادة النفس الخصبة لاستكمال فضائلها النفسية و السمو بمعانيها الإنسانية .
2/ تفاوت نِسب المواليد :
إذا اضفنا إلى هذه الحقيقة .. حقيقة فلسفة الزواج في معناه النفسي و الإجتماعي .. حدوث اختلال في ميزان المواليد و نسبها في المجتمع , بحيث قد ترتفع نسبة أحد الجنسين و تنخفض الاخرى إما بسبب قضاء الهي مجرد كما قال تعالى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴿49﴾ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿50﴾ } [الشورى] و الأمر في هذا القضاء الإلهي ليس جزافا - سبحانه - بل ينبثق عن حكمة بالغة و لذلك قرن في الاية بين خلق الوجود و القدرة على خلق ما يشاء .. هذا الامر الالهي كما هو خاص بالافراد قد ينسحب على المجتمعات و الأزمان , فقد يقضي الله مثلا ان الأمة الفلانية او في بعض الأزمنة تكون نسبة أحد الطرفين اكثر من الثاني .
و إما بسبب الحروب و ما يستتبعها من الرق و بالتالي ارتفاع نسبة الاناث على نسبة الذكور .
3/ لكل قاعدة حالة شاذة :
فلسفة الزواج من جهة و حدوث اختلال في نسب المواليد من جهة اخرى يحتمان علينا البحث في حلول مثلى تحقق على الأقل أدنى ما هو مقصود في الحكمة الالهية من وجود الرجل و المرأة و هو استمرار النسل البشري في الارض من جهة و استكمال فضائل الانسانية و تنمية الشخصية الكريمة فيهما من جهة اخرى , و بالتالي لو رغبنا في تحقيق هذا المعنى .. استمرارية النسل و استكمال النفس .. بالاقتصار على الاصل الطبيعي في الزواج و هو امرأة لكل رجل و رجل لكل امرأة حسب قانون الزوجية الثنائي الذي يحكم الكون و الحياة , لما وجدنا إلى تحصيل هذه الرغبة و اعطاء الذكور في الرجل و الأنوثة في المرأة حقهما الطبيعي و بالتالي عدم استكمال معنى الإنسانية فيهما معا . و لا شك أن هذا مناقض لمعاني الحكمة و منطق العقل الفطري السليم .
نحن اذن اما خيارات معقدة , و لا عجب , ففي تفاعلات الحياة و تناقضاتها تحدث الإختلالات في شتى المعاني النفسية و الإجتماعية , فتنبثق جملة من الحالات تكون شاذة عن القاعدة الأصل في جهة من جهات المعاني النفسية و الإجتماعية , و من ثم يلزم ايجاد حلول مناسبة لمثل هذه الحالات العارضة و المعقدة حتى تستمر الحياة في مجرى قواعدها الصحيحة و سبيل معانيها الفاضلة .
4/ خيارات الحفاظ على مقصد وجود الرجل و المرأة :
الحلول التي يجب بحثها لابد – كما قلنا – أن توفر لنا و تحقق أدنى معاني الحكمة الإلهية في الوجود و هي :
• الاول : أن نسمح للرجل بجمع أكثر من امرأة حتى لا تهدر طاقات النساء سدى . و هذا هو مقتضى الراي السديد سواء في معناه النفسي أم معناه الإجتماعي . لان هذا الإطار هو الوحيد لتفادي مشكلة اختلال المواليد و بالتالي هو الاطار الكريم الذي يستشعر فيه الطرفان معناهما الانساني و قيمتهما الشخصية و لو مع شئ من النقص خاصة بالنسبة للزوجة , الا ان الامر في معناه الحقيقي يدخل في باب " ما لا يدرك كله لا يترك جله " فحتى في منطق الأنوثة الصرف ما لا يمكن الحصول عليه كاملا لتثوير معاني الأنوثة في المرأة فليس يحسن التخلي عنه جملة واحدة لان الخسارة حينها تكون مضاعفة اضعافا شتى بسبب آثار هذا التخلي على نفسية المرأة بشكل خاص . ذلك لأن المرأة ليس يغتال فيها معناها الإنساني و يشوه فيها جمال الأنوثة ما تغتاله العنوسة و يشوهه الإستمرار في الحياة بدون زوج , فإنك مهما قلبت وجوه النظر في الرجل و المرأة وجدت أن المرأة بحكم فطرتها المتسمة بالضعف في كل شئ , أعظم من الرجل من ناحية الإحساس بمعاني الموت و مشاعر المعاناة جراء العنوسة , لانها في قانون الحكمة الألهية خلقت للرجل : " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا " [الروم:21] و لهذا لا تشعر المرأة بمعناها و قيمتها إلا مع الرجل .
• الثاني : ان نمنع الرجل من هذا الجمع لتواجه المرأة التي لم تحظ بزوج أحد خيارين : إما البقاء عانس مدى عمرها و هذا يعني الحكم عليها بالموت البطئ , و إما أن نسمح لها بأن تكون عشيقة لمن هب و دب من التافهين من الرجال , و هذا حكم عليها بالموت السريع و العنيف لانها و ان كانت قد وجدت رجلا يملء بعض فراغاتها الأنثوية فيها الا انها في حكم قلبها و راي المجتمع تكون مخلوقا مشوها و مادة من مواد الفساد و الهدم في نظامه . فهي منبوذة مدى الحياة .
5/ دواعي التعدد الزواجي :
تسأل بعض الأخوات : ما داعية الرجل في الزواج من امرأة ثانية اذا كانت زوجته توفر له كل ما يريد و تحقق له كل ما يرغب فلا تدع شيئا مما يثور فيه معنى الرجولة و يشعره بحقيقة الأنسانية ألا و سعت اليه و أجهدت نفسها في تحصيله .. فنقول : بنية الرجل سواء النفسية أم الجسمية ليست كبنية المرأة , و هذه حقيقة مشهودة , و لهذا هناك اعتبار واحد يرضخ له الرجل للزواج من ثانية و ثالثة و رابعة و هو المعنى : الجنسي ( و لا نتحدث هنا عمن يريد اعفاف انسانة اخرى من بني عائلته او ما شابه لأجل البر بها و الشفقة عليها ) , فمعلوم ان قوة الرجل الجنسية اقوى من قوة المرأة و بالتالي يكون مستوى الرغبة الجنسية فيه اعظم منه في المرأة , و بالتالي هناك اصناف من الرجال زوجة واحدة لا تشبع جوعتهم الجنسية ( و لا نتحدث هنا عن برودة بعض الزوجات أو جهلهن بفنون الاشباع الجنسي للرجل ) فلا يجدون ضرورة عن البحث عن اخرى و هي : اما في الحلال و اما في الحرام , و حتى الذين لا يجدون الحلال و ينفرون من الحرام يقاسون الألم الفظيع .. و ليس من العدل ان نأمر الرجل بكبت رغبته الجنسية مهما لم تستطع الزوجة تلبية رغباته و وجد هو قدرة المادية و المعنوية على الزواج من ثانية و ثالثة و رابعة ..
الرغبة الجنسبة العارمة في بعض الرجال حقيقة فطرية لا يمكن الجدال فيها و لهذا اذن فيها الإسلام و لكن بشرط العدل المادي أعني القدرة على النفقة و القدرة على الاعفاف و الاشباع الجنسي اما العدل النفسي اعني الميل القلبي فليس شرطا لانه لا دخل للرجل فيه , كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم : " اللهم هذا قسمي فيما أملك (القدرة المادية : النفقة و الاعفاف ) فلا تلمني فيما تملك و لا أملك (الميل القلبي )" و مهما انتفى العدل المادي بصورتيه : النفقة و الاعفاف , حرم على الرجل الزواج باكثر من واحدة , بل يحق للزوجة طلب الطلاق مهما قصر الزوج خاصة في جانب اعفافها .
6/ حكمة التعدد :
سؤال اخر متعلق بهذا المعنى و هو : لماذا اذن الاسلام بالتعدد خاصة باربع نساء .. فنقول اولا : الاسلام لم يبدع فكرة التعدد من حيث الاصل لان المجتمع الانساني ما زال يعدد فيه الرجال النساء خاصة في اطار الحرام , اما الاسلام فالشئ الوحيد فيه هو تقنينه التعدد و وضع حدود له حتى لا يُظلم احد من الطرفين .. اما حكمة التحديد في اربع , فتصوري – و الله اعلم - ان الامر راجع الى معنى الاعفاف الجنسي فقط باعتبار ان اذن التعدد انبثق اساسا عن رغبة الاسلام في اعفاف الرجل و المرأة و طهارة المجتمع من الفساد و الرذيلة .. فكما قلنا انفا قوة الرجل الجنسية اقوى من قوة المرأة فهذه طبيعة فطرية مبنية على طبيعة الرجل النفسية و الجسمية و دوره في الحياة و طبيعة المرأة ايضا في هذه المعاني .. و في الحالات الطارئة و الاعراض الشاذة من الحكمة ان يكون التشريع مقتصرا على ادنى ما يمكن تحقيق الغاية منه , و لان الزواج الغاية منه هو الاعفاف و لان المرأة اقل قوة جنسية من الرجل فالحد الادنى بالنسبة لاي انثى هو تحقيق رغبتها الجنسية مرتين اسبوعيا و عدة الاسبوع تساوي - بتجاوز يوم واحد - عدة تحقيق الرغبة الجنسية لاربع نساء , و انما كن اربعا بالنسبة للرجل نظرا للحد الأقصى الذي يبلغه مستوى الرغبة الجنسية في الرجل و قدرته علي ممارسته , فكما أن الحد الأدنى لأي امرأة هو ممارسة الجنس مرتين اسبوعين فإن الحد الأقصى للرجل العظيم الشهوة هو ممارسته يوميا , و كما انا لو طلبنا من هذا الرجل العظيم الشهوة – و ليس له فيها دخل بل حكمة الله اقتضت ان يكون كذلك و قد يتسبب فيها بعض الرجال ببعض الاسباب – ان يقتصر على مرتين او ثلاث اسبوعيا نكون ظالمين له و متسببين له في الشعور بالنقص و الألم , كذلك لو طلبنا من الزوجة الطبيعية ان تستجيب لزوجها لممارسة الجنس يوميا لانه فيه ارهاق لها ثم بعد فترة قصيرة تكون النتيجة هي نفورها من هذا الزوج ما يمكن معه يحدث الطلاق .
7/ سياق آية التعدد الزواجي في القرآن :
عندما تقرأ الاية و السياق العام الذي ورد فيه الاذن بالتعدد تجد معنى عجيبا .. يقول الحق تعالى : " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا " [النساء:3]
فالجو العام لهذه الاية و اللتين قبلها يوحي برغبة الاسلام في العدل في كل شئ و توفير أدنى ما يمكن تحقيقه في النفس و المجتمع , فقد كانوا سابقا يقومون برعاية اليتامى و اخذ اموالهم الى اموالهم الشخصية و هذا فيه ظلم عظيم لهؤلاء اليتامى فلما نزلت الاية تأمرهم بالحفاظ على اموال اليتامى و عدم اكلها بالباطل تحرج المسلمون من الامر و خافوا عاقبة ذلك و من ثم راحوا يعزلون حتى طعامهم عن طعام اليتامى امعانا في التحرج من ظلمهم , فجاءت هذه الاية تنبه بالقول : اذا كنتم فعلا تتحرجون من ظلم اليتامى فتحرجوا ايضا مما تفعلون في الجانب الضعيف الاخر و هو زواجكم باكثر من اربع نساء لان فيه ظلم عظيم لهن جميعا , لانه كان بعضهم قديما ربما تزوج بعشر او ما شابه , فأمرت الاية بالاقتصار على اربع زوجات رعاية لما قلت لك انفا في القدرة الجنسية للمرأة و للرجل حتى يكون الامر قائما مقام العدل في أدنى معانيه في جانب المرأة و أقصاه في جهة الرجل , و أنت ترى العلاقة بين اليتامى و النساء و هي : الضعف , فلهذا وجب الاهتمام بهؤلاء و هؤلاء و تحقيق الرعاية لهم جميعا , فلا معنى ان تحافظ على الطفولة اليتيمة في الطفل و لا تحافظ على الانوثة الضعيفة في المرأة .. فمن اجل هذا انما شرع الاسلام التعدد لظروف خاصة و لحالات خاصة .
و الله تعالى أعلم بالصواب .