د.عبدالرحمن الصالح
New member
كتاب "المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات" لأبي الفتح ابن جني ت 392 مملوء بردوده وتخطئاته لابن مجاهد ت 324 وأكثر هذه الردود كما سيتجلى من الأمثلة الموردة هي في النحو والصرف واللغة مما ليس من صلب تخصص ابن مجاهد، لكن المثال الأخير المورد ههنا هو رد عليه في أمر من صلب "علم القراءات" ومما مداره الرواية، ولذلك حكم أبو الفتح على ابن مجاهد بأنه" يُعتدُّ إماماً في روايته وإن كان مضعوفا في فقاهته" وسنورد مالذي يعنيه أبو الفتح بوصفه لابن مجاهد بأنه "مضعوف في فقاهته" عبر إيرادنا لاستخدامه لها في أكثر من موضع. واعتمدنا في نقل الأمثلة على الطبعة المحققة من قبل الفضلاء علي النجدي ناصف وعبدالحميد النجار وعبدالفتاح اسماعيل شلبي . وسوف أورد ردود أبي الفتح وأعلق عليها ملتمسا العذر لابن مجاهد في الغالب. وسبب كتابتي لهذا الموضوع هو آخر مثال إذ فيه يثبت أبو الفتح خطأ ابن مجاهد في التعبير عن حرف يؤوده بتسهيل الهمز فيذهب ظنه إلى أنه إبدال فيرد عليه بأنه مستحيل لغةً.
قال ابن جني ص95 "ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو {وآيدنه}، قال ابن مجاهد على ما عملناه ممدودة الألف خفيفة الياء وقد روى عن مجاهد في قوله {إذ أيدتك} {آيدتك} قال ابن مجاهد على فاعلتك
قال أبو الفتح . هذا الذي توهمه ابن مجاهد أن آيدتك فاعلتك لا وجه له وإنما آيدتك أفعلتك من الأيد وهو القوة ... ولو كان آيدتك كما ظن ابن مجاهد فاعلتك لكان اسم المفعول منه مؤايد كمقاتل ومضارب (لكنه مُؤْيَد كمكرم ومقتَل ومؤدَم).
(تعليق عبدالرحمن) قول ابن مجاهد آيدتك على فاعلتك لا يعني به الوزن الصرفي بل المثال الصوتي فقط، ويستخدم المثال الصوتي في العروض وفي التصغير حين يكون المراد توضيح الإيقاع الصوتي للكلمة، لا تطبيق الوزن الصرفي على كامل وجهه، ومثل هذا لا تُتوخى فيه الدقة او مما يُغتفر فيه الوهم.
ومن ص 112 "ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف {وإله أبيك } بالتوحيد
قال أبو الفتح قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له، وذلك أن أكثر القراءة وإله آبائك كما ترى فإذا كان أبيك واحدا كان مخالفا لقراءة الجماعة فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعا كقراءة الجماعة ولم يُحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة . وطريق ذلك أن يكون أبيك جمع أب على الصحة[يعني جمع مذكر سالما] على قولك للجماعة هؤلاء أبون أحرار أي آباء أحرار وقد اتسع ذلك عنهم ومن أبيات الكتاب
فلما تبينّ أصواتنا * بكين وفديننا بالأبينا
......ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله إبراهيم وإسماعيل وإسحق فأبدل الجماعة من أبيك فهو جماعة لا محالة لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل. فيصير قوله تعالى وإله أبيك كقوله وإله ذويك هذا هو الوجه وعليه فليكن العمل."
(تعليق عبدالرحمن) قول ابن مجاهد في وصف قراءة من قرأ {وإله أبيك} "بالتوحيد" يعني بها النطق الصوتي لا المعنى الدلالي، ومثل هذا التعبير يجري على سنن القراء وأسلوبهم في الوصف. ولو سئل ابن مجاهد تفسير معناها لنحا نحو صنيع أبي الفتح أو لرواه قولا ولا ريب، فقد كنت أعرفه من (مختار الصحاح) حين كان عمري اثنتي عشرة سنة وهو مما لا نظن يخفى مثله على مثله أن (أبو) قد تُجمع جمع مذكر سالم، وأذكر أن الجوهري قال أي (أبينك) فحدف النون للإضافة.
ص 113
"ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس انه قال لا تقرأ {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} فإن الله ليس له مثل ولكن اقرأ{ بما آمنتم به} قال وروي عنه أيضا أنه كان يقرأ {بالذي آمنتم به}. قال وقال عباس في مصحف أنس وأبي صالح وابن مسعود{ فإن آمنوا بما آمنتم به}
قال ابو الفتح هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة وصحة ذلك أنه إنما يراد فإن آمنوا بما آمنتم به كما أراده ابن عباس وغيره غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدا وتسديدا يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح مثلي لا يفعل هذا أي أنا لا أفعله ومثلك إذا سئل أعطى أي أنت كذاك قال
وفي حديث سيف بن ذي يزن أيها الملك مثلك من سر وبر أي أنت كذاك وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعا.
(تعليق عبدالرحمن) إنما حسُن إيراد "مثل" في هذا الموضع، ورجحت به القراءة المشهورة المستفيضة معنى أيضا [أي بعد رجحانها خطا وسندا ونحواً] على ما روي عن ابن عباس ،مما قد يذهب ظنه إليه،[إنما حسُن ذلكم] أن {بمثل ما آمنتم به} إنما تعني بمثل إيمانكم لا بمثل الله تعالى، فيكون من رجح تلك القراءة بذريعة أن الله ليس له مثل مبعدا للنُّجعة ولو كان ابن عباس. ويكون تعبير أبي الفتح " هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة " فيه مجاملة ظاهرة لما روي عن ابن عباس، أي أن سبب العبارة أخلاقي لا علمي، فإن رجحان القراءة المشهورة لا يُنتصر له وحسب بأن هذا الأسلوب قد ورد عن العرب. ورأيي مخالف لتحسين أبي الفتح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه إن كان محضَ اجتهاد فهو بعيد جدا
ص 121
"ومن ذلك ما رواه هرون عن الحسن وابن أبي إسحق وابن محيصن{ ويهلَكُ} بفتح الياء واللام ورفع الكاف{ الحرثُ والنسلُ} رفعٌ فيهما.
قال ابن مجاهد: وهو غلط
قال أبو الفتح لعمري إن ذلك ترك لما عليه اللغة، ولكن قد جاء له نظير أعني قولنا هلك يهلَك فعل يفعَل وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا ابى يأبى وحكى غيره قنط يقنط وسلا يسلى وجبا الماء يجباه وركن يركن وقلا يقلى وغسا الليل يغسى وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى انها لغات تداخلت وذلك أنه قد يقال قنط وقنِط وركن وركن وسلا وسلي فتداخلت مضارعاتها وأيضا فإن في آخرها ألفا وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبى فضارعت الهمزة نحو قرأ وهدأ.
وبعد فإذا كان الحسن وابن أبي إسحق إمامين في الثقة [كذا في الطبعة المحققة من المحتسب والصواب إمامين في الفقه-عبدالرحمن] وفي اللغة فلا وجه لدفع ما قرآ به لا سيما وله نظير في السماع
وقد يجوز أن يكون يهلَك جاء على هلِك بمنزلة عطب غير أنه استغنى عن ماضيه بهلك وقد ذكرنا نحو هذا في كتابنا المنصف.[1/186]"
ص122
"من ذلك ما روي عن قتادة في قول الله تعالى {في ظِلال من الغمام}
قال ابن مجاهد هو جمع ظِل
قال أبو الفتح الوجه أن يكون جمع ظُلة ، كجلة وجلال وقلة وقلال وذلك أن الظل ليس بالغيم وإنما الظلة الغيم فأما الظل فهو عدم الشمس في أول النهار وهو عرَض والغيم جسم.
(تعليق عبدالرحمن) قول أبي الفتح "الوجه أن يكون جمعَ ظُلة" أي جمعا آخر لظلة لأن القراء المشهورة في ظُلل هو أيضا جمع ظلة على الأصل فإن فُعْلة إذا كان اسماً تُجمع على فُعَل وقد تُجمع على فِعال كقلة وقلال وجلة وجِلال، وكان على أبي الفتح أن يقول "أيضا".
ص125
"ومن ذلك ما رواه أبو عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام {والذين يَتوفون} منكم بفتح الياء.
قال ابن مجاهد ولا يُقرأ بها
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز وذلك أنه على حذف المفعول أي والذين يَتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم. كما قال سبحانه "فلما توفيتني" "والذين تتوفاهم الملئكة" وحذف المفعول كثير في القرآن وفصيح الكلام إذا كان هناك دليل عليه، قال الله تعالى "وأوتيت من كل شيء" أي شيئاً .
(تعليق عبدالرحمن) فعلى ذلك يكون تخطئة أصحاب "قل ولا تقل" و"الأخطاء اللغوية المعاصرة" للناس في قولهم المتوفي مبالغا فيه فإن المتوفي لها وجه في اللغة أي المتوفي أجلَه ، وقد قرئ بها وأجازها أبو الفتح، وهذه حجة أخرى وإن كانت ضعيفة لقول الأخفش الأكبر عبدالحميد بن عبدالمجيد "أنحى الناس من لم يُلحن أحدا". وقول ابن مجاهد ولا يُقرأ بها لا يعني ردها لغةً فقط فإن مراد قبول القراءات أخص من مراد اللغة، كما أن مراد الشرع أخص من مراد اللغة، كما هو مقرر.
ص125
"ومن ذلك قراءة الحسن{ أو يعفُو الذي} ساكنة الواو
قال أبو الفتح سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف لأنها لا تحرك أبدا ...
ثم شبهت الياء بالألف لقربها فجاء عنهم مجيئا كالمستمر...وكان أبو العباس يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات وذلك لأن الألف ساكنة في الأحوال كلها فكذلك جعلت هذه ثم شبهت الواو في ذلك بالياء...
فعلى ذلك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن أو يعفو الذي فقال ابن مجاهد وهذا إنما يكون في الوقف فأما في الوصل فلا يكون وقد ذكرنا ما فيه وعلى كل حال فالفتح أعرب أو يعفوَ الذي
ص 130
"ومن ذلك ما روي عن الزهري والأعرج وأبي جعفر بخلاف عنهم ولا يووده حفظهما بلا همز ولم يقل كيف قالوا
قال ابن مجاهد من لم يهمز قال يووده فخلف الهمزة بواو ساكنة فجمع بينها وبين الواو فيجتمع ساكنان فإن شاء ضمها فقال يووده ومن ترك الهمز أصلا قال يؤده.
قال ابو الفتح خلط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطا ظاهرا غير لائق بمن يُعتد إماما في روايته وإن كان مضعوفا في فقاهته وذلك أن قوله تعالى يئوده لك فيه التحقيق والتخفيف فمن حقق أخلصها همزة قال يئوده كيعوده ومن خفف جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو لأنها مضمومة فجرى مجرى قولك في تخفيف لؤم لوم [لَ ؤُ(همزة مخففة )مـَ] وفي مؤونة موونة ولا يُخلصها واوا لأنها مضمومة فقوله بلا همز أي يخففها كذا أُحْسِنُ الظن بهؤلاء المشيخة . فأما ترك الهمزة أصلا فشاذّ وينبغي لمن هو دونهم أن يصان عن أن يُظن ذلك به. فقول ابن مجاهد إنه يخلف من الهمزة واو ساكنة فيجتمع ساكنان شديدُ الاضطراب وذلك أنه قد سبق أن سبيل هذا أن يُخفف ولا يبدَل ، وإذا كان مخففاً، فالواو متحركة لا ساكنة، فلا ساكنين هناك أصلاً. نعم ثم لما قال: إنه يجتمع ساكنان لم يذكر ماذا يعمل فيهما؟ قال: وإن شاء ضمها فقال: "يووده". وهذا هو الذي ينبغي أن يعمل عليه، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يضم الواو ، بل الضمة على الهمزة، إلا أنها مخففة فقربت بذلك من الواو لضعفها مع ضمها. وقوله فيما بعد : ومن ترك الهمز أصلاً قال :"يَوْدُه" يؤكد ما كنا قدمناه من أن قوله: لا يهمز إنما يريد به التخفيف لا البدل والحذف، ولولا ذلك لم يقل: ومن ترك الهمز أصلا، فقوله:"أصلاً" يدل على أنه لا يريد التخفيف الذي كان قدمه.
وبعدُ فمن ترك الهمزة أصلاً، أي حذفها البتة كما يحذفها من قولهم : لاب لك، أي لا أبا لك، ومن قولهم: ويلُمِّه، وأصلها: ويلٌ لأمه، ومن قولهم : ناس، وأصلُها أناس، و"الله" في أحد قولي سيبويه الذي أصلُه فيه "إله" وغير ذلك. فإنه إذا هو حذفها بقيت بعدها الواو التي هي عين الفعل ساكنةً فصارت :"يَوْدُه". ومثاله على هذا اللفظ : يعلُه، وأصل هذا كله يأْوُده كيعوده، يفعُلُه كيقتُلُه ونعبُدُ، ثم نقلت الضمة من الواو التي هي عين الفعل إلى الهمزة التي هي فاء فعله، كما نقلت في يعود من الواو إلى العين فصارت "يئودُه" كيعوده ، ووزنه الآن يفعُلُه. هكذا محصول لفظه ، فإذا هو حذف الهمزة البتة - وهي فاء الفعل - بقي يَوْده في وزن يعله، والفاء على ما مضى محذوفة. وعلى أن هذا الحذف لا يُقْدم أحد عليه قياسا لنكارته وضيق العذر في اقتباسه، اللهم أن يسمع شيء منه فيودى على ما فيه، ويشرح حديثه بواجب مثله، ولا يحمل سواه على مثل حاله."
تعليق عبدالرحمن : فعلى ذلك يكون ابن مجاهد تكلَّم على قراءة لم يروها رواية وإنما قرأها قراءة في كتاب فلو كان رواها لما خلط هذا الخلط الذي يشير إليه أبو الفتح، أو يكون قد حصل تغيُّرٌ في روايتها من التسهيل إلى الإبدال، ومعنى" مضعوفا في فقاهته" أي ما بيّنه أبو الفتح ص 40 "ومن لم يخلد مع ثقته إلى نظر يُعصم به ويتساند إليه بأمانته أتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته". والحق هنا ظاهر مع أبي الفتح. فإن قلت كيف يخطئ قارئ كبير كابن مجاهد مثل هذا الغلط قيل إن القراء إنما يُركن إلى ما روَوه وتلقَّوه مشافهة فأما ما اجتهدوا فيه كوقفهم على مرسوم الخط وكهذا ونحوه فإنما هي اجتهادات في الأداء حين انعدم النص ولم تثبت الرواية للحرف نفسه ، والرواية والنص عليها غير ممكنة حرفا حرفا، فليس من المعقول ولا من الممكن أن يوقف تالٍ شيخه مثلاً على كل كلمة. وسوف نبين نحو هذا في موضعه إن شاء الله
قال ابن جني ص95 "ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو {وآيدنه}، قال ابن مجاهد على ما عملناه ممدودة الألف خفيفة الياء وقد روى عن مجاهد في قوله {إذ أيدتك} {آيدتك} قال ابن مجاهد على فاعلتك
قال أبو الفتح . هذا الذي توهمه ابن مجاهد أن آيدتك فاعلتك لا وجه له وإنما آيدتك أفعلتك من الأيد وهو القوة ... ولو كان آيدتك كما ظن ابن مجاهد فاعلتك لكان اسم المفعول منه مؤايد كمقاتل ومضارب (لكنه مُؤْيَد كمكرم ومقتَل ومؤدَم).
(تعليق عبدالرحمن) قول ابن مجاهد آيدتك على فاعلتك لا يعني به الوزن الصرفي بل المثال الصوتي فقط، ويستخدم المثال الصوتي في العروض وفي التصغير حين يكون المراد توضيح الإيقاع الصوتي للكلمة، لا تطبيق الوزن الصرفي على كامل وجهه، ومثل هذا لا تُتوخى فيه الدقة او مما يُغتفر فيه الوهم.
ومن ص 112 "ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف {وإله أبيك } بالتوحيد
قال أبو الفتح قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له، وذلك أن أكثر القراءة وإله آبائك كما ترى فإذا كان أبيك واحدا كان مخالفا لقراءة الجماعة فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعا كقراءة الجماعة ولم يُحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة . وطريق ذلك أن يكون أبيك جمع أب على الصحة[يعني جمع مذكر سالما] على قولك للجماعة هؤلاء أبون أحرار أي آباء أحرار وقد اتسع ذلك عنهم ومن أبيات الكتاب
فلما تبينّ أصواتنا * بكين وفديننا بالأبينا
......
(تعليق عبدالرحمن) قول ابن مجاهد في وصف قراءة من قرأ {وإله أبيك} "بالتوحيد" يعني بها النطق الصوتي لا المعنى الدلالي، ومثل هذا التعبير يجري على سنن القراء وأسلوبهم في الوصف. ولو سئل ابن مجاهد تفسير معناها لنحا نحو صنيع أبي الفتح أو لرواه قولا ولا ريب، فقد كنت أعرفه من (مختار الصحاح) حين كان عمري اثنتي عشرة سنة وهو مما لا نظن يخفى مثله على مثله أن (أبو) قد تُجمع جمع مذكر سالم، وأذكر أن الجوهري قال أي (أبينك) فحدف النون للإضافة.
ص 113
"ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس انه قال لا تقرأ {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} فإن الله ليس له مثل ولكن اقرأ{ بما آمنتم به} قال وروي عنه أيضا أنه كان يقرأ {بالذي آمنتم به}. قال وقال عباس في مصحف أنس وأبي صالح وابن مسعود{ فإن آمنوا بما آمنتم به}
قال ابو الفتح هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة وصحة ذلك أنه إنما يراد فإن آمنوا بما آمنتم به كما أراده ابن عباس وغيره غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدا وتسديدا يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح مثلي لا يفعل هذا أي أنا لا أفعله ومثلك إذا سئل أعطى أي أنت كذاك قال
وفي حديث سيف بن ذي يزن أيها الملك مثلك من سر وبر أي أنت كذاك وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعا.
(تعليق عبدالرحمن) إنما حسُن إيراد "مثل" في هذا الموضع، ورجحت به القراءة المشهورة المستفيضة معنى أيضا [أي بعد رجحانها خطا وسندا ونحواً] على ما روي عن ابن عباس ،مما قد يذهب ظنه إليه،[إنما حسُن ذلكم] أن {بمثل ما آمنتم به} إنما تعني بمثل إيمانكم لا بمثل الله تعالى، فيكون من رجح تلك القراءة بذريعة أن الله ليس له مثل مبعدا للنُّجعة ولو كان ابن عباس. ويكون تعبير أبي الفتح " هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة " فيه مجاملة ظاهرة لما روي عن ابن عباس، أي أن سبب العبارة أخلاقي لا علمي، فإن رجحان القراءة المشهورة لا يُنتصر له وحسب بأن هذا الأسلوب قد ورد عن العرب. ورأيي مخالف لتحسين أبي الفتح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه إن كان محضَ اجتهاد فهو بعيد جدا
ص 121
"ومن ذلك ما رواه هرون عن الحسن وابن أبي إسحق وابن محيصن{ ويهلَكُ} بفتح الياء واللام ورفع الكاف{ الحرثُ والنسلُ} رفعٌ فيهما.
قال ابن مجاهد: وهو غلط
قال أبو الفتح لعمري إن ذلك ترك لما عليه اللغة، ولكن قد جاء له نظير أعني قولنا هلك يهلَك فعل يفعَل وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا ابى يأبى وحكى غيره قنط يقنط وسلا يسلى وجبا الماء يجباه وركن يركن وقلا يقلى وغسا الليل يغسى وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى انها لغات تداخلت وذلك أنه قد يقال قنط وقنِط وركن وركن وسلا وسلي فتداخلت مضارعاتها وأيضا فإن في آخرها ألفا وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبى فضارعت الهمزة نحو قرأ وهدأ.
وبعد فإذا كان الحسن وابن أبي إسحق إمامين في الثقة [كذا في الطبعة المحققة من المحتسب والصواب إمامين في الفقه-عبدالرحمن] وفي اللغة فلا وجه لدفع ما قرآ به لا سيما وله نظير في السماع
وقد يجوز أن يكون يهلَك جاء على هلِك بمنزلة عطب غير أنه استغنى عن ماضيه بهلك وقد ذكرنا نحو هذا في كتابنا المنصف.[1/186]"
ص122
"من ذلك ما روي عن قتادة في قول الله تعالى {في ظِلال من الغمام}
قال ابن مجاهد هو جمع ظِل
قال أبو الفتح الوجه أن يكون جمع ظُلة ، كجلة وجلال وقلة وقلال وذلك أن الظل ليس بالغيم وإنما الظلة الغيم فأما الظل فهو عدم الشمس في أول النهار وهو عرَض والغيم جسم.
(تعليق عبدالرحمن) قول أبي الفتح "الوجه أن يكون جمعَ ظُلة" أي جمعا آخر لظلة لأن القراء المشهورة في ظُلل هو أيضا جمع ظلة على الأصل فإن فُعْلة إذا كان اسماً تُجمع على فُعَل وقد تُجمع على فِعال كقلة وقلال وجلة وجِلال، وكان على أبي الفتح أن يقول "أيضا".
ص125
"ومن ذلك ما رواه أبو عبدالرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام {والذين يَتوفون} منكم بفتح الياء.
قال ابن مجاهد ولا يُقرأ بها
قال أبو الفتح هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز وذلك أنه على حذف المفعول أي والذين يَتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم. كما قال سبحانه "فلما توفيتني" "والذين تتوفاهم الملئكة" وحذف المفعول كثير في القرآن وفصيح الكلام إذا كان هناك دليل عليه، قال الله تعالى "وأوتيت من كل شيء" أي شيئاً .
(تعليق عبدالرحمن) فعلى ذلك يكون تخطئة أصحاب "قل ولا تقل" و"الأخطاء اللغوية المعاصرة" للناس في قولهم المتوفي مبالغا فيه فإن المتوفي لها وجه في اللغة أي المتوفي أجلَه ، وقد قرئ بها وأجازها أبو الفتح، وهذه حجة أخرى وإن كانت ضعيفة لقول الأخفش الأكبر عبدالحميد بن عبدالمجيد "أنحى الناس من لم يُلحن أحدا". وقول ابن مجاهد ولا يُقرأ بها لا يعني ردها لغةً فقط فإن مراد قبول القراءات أخص من مراد اللغة، كما أن مراد الشرع أخص من مراد اللغة، كما هو مقرر.
ص125
"ومن ذلك قراءة الحسن{ أو يعفُو الذي} ساكنة الواو
قال أبو الفتح سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف لأنها لا تحرك أبدا ...
ثم شبهت الياء بالألف لقربها فجاء عنهم مجيئا كالمستمر...وكان أبو العباس يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات وذلك لأن الألف ساكنة في الأحوال كلها فكذلك جعلت هذه ثم شبهت الواو في ذلك بالياء...
فعلى ذلك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن أو يعفو الذي فقال ابن مجاهد وهذا إنما يكون في الوقف فأما في الوصل فلا يكون وقد ذكرنا ما فيه وعلى كل حال فالفتح أعرب أو يعفوَ الذي
ص 130
"ومن ذلك ما روي عن الزهري والأعرج وأبي جعفر بخلاف عنهم ولا يووده حفظهما بلا همز ولم يقل كيف قالوا
قال ابن مجاهد من لم يهمز قال يووده فخلف الهمزة بواو ساكنة فجمع بينها وبين الواو فيجتمع ساكنان فإن شاء ضمها فقال يووده ومن ترك الهمز أصلا قال يؤده.
قال ابو الفتح خلط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطا ظاهرا غير لائق بمن يُعتد إماما في روايته وإن كان مضعوفا في فقاهته وذلك أن قوله تعالى يئوده لك فيه التحقيق والتخفيف فمن حقق أخلصها همزة قال يئوده كيعوده ومن خفف جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو لأنها مضمومة فجرى مجرى قولك في تخفيف لؤم لوم [لَ ؤُ(همزة مخففة )مـَ] وفي مؤونة موونة ولا يُخلصها واوا لأنها مضمومة فقوله بلا همز أي يخففها كذا أُحْسِنُ الظن بهؤلاء المشيخة . فأما ترك الهمزة أصلا فشاذّ وينبغي لمن هو دونهم أن يصان عن أن يُظن ذلك به. فقول ابن مجاهد إنه يخلف من الهمزة واو ساكنة فيجتمع ساكنان شديدُ الاضطراب وذلك أنه قد سبق أن سبيل هذا أن يُخفف ولا يبدَل ، وإذا كان مخففاً، فالواو متحركة لا ساكنة، فلا ساكنين هناك أصلاً. نعم ثم لما قال: إنه يجتمع ساكنان لم يذكر ماذا يعمل فيهما؟ قال: وإن شاء ضمها فقال: "يووده". وهذا هو الذي ينبغي أن يعمل عليه، ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يضم الواو ، بل الضمة على الهمزة، إلا أنها مخففة فقربت بذلك من الواو لضعفها مع ضمها. وقوله فيما بعد : ومن ترك الهمز أصلاً قال :"يَوْدُه" يؤكد ما كنا قدمناه من أن قوله: لا يهمز إنما يريد به التخفيف لا البدل والحذف، ولولا ذلك لم يقل: ومن ترك الهمز أصلا، فقوله:"أصلاً" يدل على أنه لا يريد التخفيف الذي كان قدمه.
وبعدُ فمن ترك الهمزة أصلاً، أي حذفها البتة كما يحذفها من قولهم : لاب لك، أي لا أبا لك، ومن قولهم: ويلُمِّه، وأصلها: ويلٌ لأمه، ومن قولهم : ناس، وأصلُها أناس، و"الله" في أحد قولي سيبويه الذي أصلُه فيه "إله" وغير ذلك. فإنه إذا هو حذفها بقيت بعدها الواو التي هي عين الفعل ساكنةً فصارت :"يَوْدُه". ومثاله على هذا اللفظ : يعلُه، وأصل هذا كله يأْوُده كيعوده، يفعُلُه كيقتُلُه ونعبُدُ، ثم نقلت الضمة من الواو التي هي عين الفعل إلى الهمزة التي هي فاء فعله، كما نقلت في يعود من الواو إلى العين فصارت "يئودُه" كيعوده ، ووزنه الآن يفعُلُه. هكذا محصول لفظه ، فإذا هو حذف الهمزة البتة - وهي فاء الفعل - بقي يَوْده في وزن يعله، والفاء على ما مضى محذوفة. وعلى أن هذا الحذف لا يُقْدم أحد عليه قياسا لنكارته وضيق العذر في اقتباسه، اللهم أن يسمع شيء منه فيودى على ما فيه، ويشرح حديثه بواجب مثله، ولا يحمل سواه على مثل حاله."
تعليق عبدالرحمن : فعلى ذلك يكون ابن مجاهد تكلَّم على قراءة لم يروها رواية وإنما قرأها قراءة في كتاب فلو كان رواها لما خلط هذا الخلط الذي يشير إليه أبو الفتح، أو يكون قد حصل تغيُّرٌ في روايتها من التسهيل إلى الإبدال، ومعنى" مضعوفا في فقاهته" أي ما بيّنه أبو الفتح ص 40 "ومن لم يخلد مع ثقته إلى نظر يُعصم به ويتساند إليه بأمانته أتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته". والحق هنا ظاهر مع أبي الفتح. فإن قلت كيف يخطئ قارئ كبير كابن مجاهد مثل هذا الغلط قيل إن القراء إنما يُركن إلى ما روَوه وتلقَّوه مشافهة فأما ما اجتهدوا فيه كوقفهم على مرسوم الخط وكهذا ونحوه فإنما هي اجتهادات في الأداء حين انعدم النص ولم تثبت الرواية للحرف نفسه ، والرواية والنص عليها غير ممكنة حرفا حرفا، فليس من المعقول ولا من الممكن أن يوقف تالٍ شيخه مثلاً على كل كلمة. وسوف نبين نحو هذا في موضعه إن شاء الله
والله الموفق