رأي الطبري في قوله تعالى : ( وما لكم أن لا تأكلوا )

إنضم
24/06/2007
المشاركات
90
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله:(وما لكم أن لا تأكلوا).
فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله:( وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ )، [سورة البقرة: 246]. يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت"لا"، زائدة لا يقع الفعل. (1) ولو كانت في معنى:"وما لنا وكذا"، لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل .
* * *
وقال غيره: إنما دخلت"لا" للمنع، لأن تأويل"ما لك"، و"ما منعك" واحد."ما منعك لا تفعل ذلك"، و"ما لك لا تفعل"، واحد. فلذلك دخلت"لا" . قال: وهذا الموضع تكون فيه"لا"، وتكون فيه"أنْ"، مثل قوله:( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا )، [سورة النساء: 176]، و"أن لا تضلوا"، يمنعكم من الضلال بالبيان . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله:(وما لكم)، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه عروفة، وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان= وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية، وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته، وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون، وبينته لكم بقولي: (1) ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) ، إلى قوله:( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ )، [سورة المائدة: 3]، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله، فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه .
فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك:"وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا"، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله، وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك، واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا )
وقد قال قبل في قوله تعالى : ( هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا )
(قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (1) "إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (2) ="ألا تقاتلوا"، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟="قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله:( وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ )؟ [سورة الحديد: 8]
قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (3) "ما لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر: (4)
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * ...
ذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.
= وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره:( مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) [سورة الأعراف: 12]، ثم قال في سورة أخرى في نظيره :( مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) [سورة الحجر: 32]، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"، و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر: (1)
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت:... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم? (2)
أدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (1)
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول: (2) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في" مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت".
* * *
وقال آخرون منهم: (3) " أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما تزاد بعد" لما" و" لو"، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي زائدة، وقال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها... إذن للام ذوو أحسابها عمرا (5)
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا" زائدة فأعملها. (1)
= وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله: فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس يقوم"، بمعنى: هو يقوم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم.
* * *
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى :"رأيتك وإيانا تريد". (1) لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو" مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (2) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها... إياك في غيرهم أن تبوحا (3)
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * ...= وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو" مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (1))

ما الرأي الذي رجحه في إعراب ( ألا تأكلوا ) ؟
هل المصدر المؤول عنده في محل نصب مفعول ثان لـ"مالكم" ، لأنه يرى بتضمين " مالكم " معنى " يمنعكم ؟
وهل يفسد المعنى على جعله منصوبا على نزع الخافض بتقدير " في ألا تأكلوا " وهو قول جمهور المفسرين وكذلك في قوله تعالى : ( أن لا نقاتل ) ؟؟؟
 
أيها الإخوة لا ننسى فضل هذه الأيام وعظم العمل الصالح فيها
وإن من العمل الصالح طلب العلم ومدارسته .....
فأرجو من الإخوة إفادتي فيما كتبته عن الطبري رحمني الله وإياكم فإن ذلك من العمل الصالح والله أعلم
 
كل عام وأنتم بخير


أرجو الإجابة ايها الإخوة عما ذكرته ، وله مني جزيل الشكر ، وأسأل الله له الأجر

رجاء رجاء رجاء
 
كنت قرأت ما كتبه أخي أحمد قبل فترة لكني لم أدقق فيه، لقلة الوقت وخصوصاً في أيام العشر، وهجوم العيد بعد ذلك، واليوم وجدت إلحاحاً منه، فأحببت أن أشاركه ما أراد، فأقول مستعيناً بالله: ذكر الطبري رحمه الله هاهنا رأيين اثنين في توجيه قوله تعالى: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه}، أما الأول فعزاه لبعض نحويي البصرة، وأما الثاني فلم ينسبه لأحد على خلاف عادته التي سار عليها في جامعه، ثم رجح الرأي الثاني، وبين ذلك بالتفصيل، وسأقف مع الأمر بإجمال بما يفيد إن شاء الله.
القول الأول: نسب الطبري الرأي الأول لبعض نحويي البصرة والمقصود بهم الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة (ت215) صاحب كتاب معاني القرآن، وهو الذي تلقى كتاب سيبويه من سيبويه قبل ذهابه إلى بلاد فارس وموته فيها كمداً بعد المناظرة التي حصلت بينه وبين تلاميذ الكسائي في بغداد فيما عرف بالمسألة الزنبورية، فهو الوارث الرسمي لعلم سيبويه، فلا غرو أن يكون إماماً من أئمة مدرسة البصرة في النحو، وللفائدة فالأخافيش ثمانية أو يزيد، أشهرهم الأكبر وهو عبد الحميد بن عبد المجيد أبو الخطاب وهو أحد الذين نقل عنهم سيبويه في الكتاب (ت177)، والأوسط والأصغر وهو علي بن سليمان (ت315)، وإذا أُطلق الأخفش عند العلماء فالمراد به الأوسط، فلا ينصرف الذهن إلا إليه، كما أنه إذا أطلق ابن تيمية فلا ينصرف الذهن إلا للحفيد.
وقد حصل تغيير في العبارة الموجودة في تفسير الطبري، لعلها من تصحيف النساخ، ولذا سأنقل العبارة من معاني القرآن للأخفش حيث يقول: "وأي شيء لكم في ألا تأكلوا، وكذلك {وما لنا ألا نقاتل} يقول: "أي شيء لنا في ترك القتال"، ولو كانت {أن} زائدة لارتفع الفعل، ولو كانت في معنى "وما لنا وكذا" لكانت "ومالنا وألا نقاتل".
ومعنى قول الأخفش ولو كانت "أن" زائدة لارتفع الفعل، أي: لكان الفعل: تأكلون، وبالتالي تكون أن غير عاملة، كما قال تعالى: {وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم} [الحديد:8] بحذف أن، فالأمر متعلق بزيادة "أن" لا بزيادة "لا"، وما هو مثبت في تفسير الطبري في النسخة التي حققها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله ففيه تصحيف وتبديل، وهو: "ولو كانت"لا"، زائدة لا يقع الفعل"، التي وضحها الشيخ أحمد شاكر في الهامش بقوله: قوله : "لا يقع الفعل"، أي: لا يتعدى، "الوقوع" التعدي"، وهو كما ترى.
وهذا الرأي الذي صدَّر الطبري به الكلام هو ما جرت به أقلام معظم معربي كلام الله تعالى، وهذا شأن جل المفسرين في متابعة أعيان مدرسة البصرة فيما قالوه وذهبوا إليه.
القول الثاني: عندما وقف الطبري مع القول الثاني لم ينسبه لأحد وإنما اكتفى بقوله: وقال غيره، والمقصود بغيره الفراء أبو زكريا يحيى بن زياد صاحب كتاب معاني القرآن (ت207)، تلميذ الكسائي، وصاحب الاجتهاد في اللغة والنحو، وفي ظني أن الفراء صاحب مدرسة مستقلة في العربية، وهو إمام من أئمتها، وعادة الطبري أن يشير إلى الفراء بقوله: وقال بعض أهل العربية، أو وقال بعض نحويي الكوفة، لكنه هنا آثر الغيرية، وهو المناسب للمقابلة بين نحويي البصرة ونحويي الكوفة، فيفهم القارئ أن المقصود بغيره أهل الكوفة، وإمامهم الذي أكثر الطبري النقل عنه وهو الفراء.
ومعظم ما ذكره الطبري في هذه المسألة منقول عن الفراء عند قوله تعالى في سورة البقرة: {وما لنا ألا نقاتل}، وقد خالف الفراء شيخه الكسائي في هذه المسألة، وبين أن قول من قال: "ما لكم في ألا تقاتلوا" غير جائز، لأن المنع يدل على أمر مستقبل لا على أمر مضارع أو ماض، وبالتالي فالمعنى عند الفراء الذي تابعه عليه الطبري هو المنع، إذ دخول "أن" على "ما لكم" أفاد معنى المنع، فأصبح المعنى المراد: أي شيء يمنعكم من الأكل، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وبقوله: {ما لك ألا تكون مع الساجدين}، ثم قال: "وقصة إبليس واحدة، فقال فيها بلفظين ومعناهما واحد وإن اختلفا".
والرأي الراجح في إعراب {ألا تأكلوا} لم يفصح عنه الطبري، إذ ليس من غرضه رحمه الله تعالى أن يعرب على طريقة المتأخرين، وإنما الذي كان يعنيه بالدرجة الأولى المعاني المترتبة على الإعراب، ووقوفه مع المعاني أولى من وقوفه مع إعرابها لأن المقصد مقدم على الوسيلة كما لا يخفى على ذي لب، وبلا ريب أن المعنى عنده يفسد على إعراب الجمهور، بأن يقال: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا، وقد بين علة ذلك بقوله: "لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله، وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه، ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك، واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه"، فقد بين الإعراب المرفوض، ولم يفصح عن الإعراب المقبول وتركه لأهل العلم ممن يأتي بعده.
وقد جاء أهل العلم بعد الطبري فبينوا الإعراب الذي يتناسب مع المعنى الذي ذهب إليه رحمه الله تعالى، يقول ابن عطية رحمه الله تعالى: "ويصح أن تكون في موضع نصب على أن لا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله: {ما لكم} تقديره: ما يجعلكم"، ونحن نقدر يمنعكم لا يجعلكم، كما أراده الطبري، وما قلته أخي أحمد صحيح في الإعراب، وإخالك تقصد بالتضمين أن معنى ما لكم: يمنعكم، لا التضمين الذي اصطلح عليه البيانيون وهو إشراب لفظ فعل معنى فعل آخر بقرينة لفظية، فالأمر هنا ليس كذلك، فكون معنى ما لكم: أي شيء يمنعكم؟ لا يساوي التضمين البياني فتنبه، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
 
عودة
أعلى