بمناسبة ذكر القاضي واشتهار رفضه للتحريرات أوردت جزءا من بحثٍ من أصل 76 بحثا كنت كتبته في هذا الموضوع سنة 2003م. وقد ركزت فيه على صحة أو عدم صحة قراءته من طريق الطيبة، حسب المصادر المتاحة، لأن تحريرات الطيبة علمٌ زائدٌ عليها. وكما يظهر ليس رأيا في البت في ضرورة أو لغْوِ تحريرات الطيبة.
وأعتذر للشيخين المعصراوي وطه محمد عبد الرحمن إذا كان رأيي الشخصي أن التحريرات واجبة وجوب الروايات والقراءات بالتساوي. وقد ناقشت الموضوع مرارا مع شيخ عموم المقارئ المصرية، الشيخ الدكتور/ أحمد المعصراوي، حفظه الله، وآخرها نهاية شوال 1431 هـ
الشيخ الجليل عبد الفتاح القاضي وطريق طيبة النشر
أخبرني الأديب الأريب الصدوق الناظم المحقق الشيخ / هادي العيادي التونسي الشافعي مرات كثيرة وفي مناسبات عديدة
[1] أن الشيخ / أبا عبد الله محمد منير المظفر التونسي(مولود حوالي 1950) قرأ على الشيخ عبد الفتاح القاضي صاحب "الوافي على شرح الشاطبية " القرآن الكريم, من أوله إلى آخره , إفرادا, من طريق "طيبة النشر في القراءات العشر" للمحقق محمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن علي بن الجزري وأجازه بها, وذلك بالمملكة العربية السعودية, صانها الله بما فيها من المشاعر, في زمن لم يحدده لي.
هذا الخبر, بالنسبة لخالي الذهن, لا يثير أية شكوك, فالشيخ عبد الفتاح القاضي غني عن التزكية في مجال القرآن وعلومه, وليس غريبا من عملاق مثله, وهب نفسه للقرآن قراءة وإقراء, أن يضطلع بإقراء شاب تقي ذكي طموح, وفد من بلد, تكاد تكون فرص الحصول على مثل القاضي فيه منعدمة, وبينهما من معقول فارق العمر ما يجعل التردد في قبول ذلك عنادا ومِرَاءً, كما أن الشيخ المظفر نفسه معروف بجمال الصوت وتقوى القراءة وسهولة الأداء وعذوبة النغمة والحرص على توفية الحروف حقوقها ومستحقاتها في لحن عربي أصيل وتحزين يتناغم مع معاني الآيات والمقام الذي يسلكه تناغما يجعل المستمع إليه لا يَمَلُّهُ.
بعض الروايات عن غير "هادي العيادي" تقول بأن المظفر قرأ في الشام وفي مصر. ولا نعرف مدى صحتها, إلا أن واحدة منها لم تذكر شيخا معينا في هذين القطرين القرآنيين.
ولا نشك في أن المظفر قرأ عليه, فطابع "القاضي" يظهر جليا في قراءته, لكن المظفر لا يكاد يقرأ من طريق الشاطبية, التي, لا شك انه أخذها على القاضي في الجامعة الإسلامية. وما قرأ في الأشرطة المتوفرة لدينا إلا برواية قالون من طريق الطيبة بدليل إبدال همزة "المؤتفكات" في التوبة واوا وبطريق الاصبهاني عن ورش.
ومعروف أن المقرر في الجامعة الإسلامية هو الشاطبية والدرة,على الأقل في الوقت الذي تواجد فيه القاضي كشيخ والمظفر كطالب في كلية القرآن الكريم.
وإن كان المظفر قد قرأ القرآن من طريق الطيبة على شيخ آخر فلا أحسن من أن يذكره ولو من باب الاعتراف بالجميل ورد الحق إلى صاحبه. لكن الروايات لا تذكر قراءته للشاطبية والدرة, وهو شيء حاصل فعلا, وإنما تلح على الطيبة وعلى عبد الفتاح القاضي بالذات دون غيره
ما كنا لنثير شكوكا حول هذا الموضوع أصلا, أولا لثقتنا بالذي أخبرنا, وثانيا لكونه والشيخ المظفر من مدينة واحدة وهي صفاقس التونسية, مضافا إلى أن الشيخ المظفر سجل مصحفا مرتلا بطريق الاصبهاني عن ورش عن نافع, رحم الله الجميع . ولنا من هذه القراءة شريطان
[2]: أولهما من موضع في "آل عمران" إلى موضع في "النساء" وهو غير واضح, وثانيهما من أول سورة الطور إلى آخر سورة الحديد, وهو واضح جدا. لا يمد فيه المنفصل, ولا يقلل رؤوس الآي, ويبدل الهمزة ألفا في "المأوى" وياء في "فبأي" في "النجم" و"الرحمن", وإذا أضيف هذا كله إلى نقل حركات الهمزات إلى السواكن الصحيحة قبلها, وضم ميم الجمع وصلتها بالواو قبل همزات القطع فقط, ونقل "عادا الأولى" وإدغام تنوينها في اللام علمنا أن هذه طريق الاصبهاني عن ورش عن نافع قطعا ومن طريق طيبة النشر أو أصلها في أقوى الاحتمالات.
لكن بالنظر إلى ما أورده عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ في العدد الأول من مجلة كلية القرآن الكريم ص 297-320 في ترجمة عبد الفتاح القاضي, شيخه, الذي – وهذا مهم جدا – "شارك في إعداد المجلة [يريد العدد الأول] وتوفي قبل إخراجها" نجد شكوكا في صحة رواية "هادي العيادي", إذ وصف "القارئ" كتاب "أبحاث في قراءات القرآن الكريم""للقاضي" بأنه "خلاصة آراء الشيخ" القاضي وأن التحريرات في رأي القاضي في هذا الكتاب "اختيارات لا تلزم إلا مصنفيها" وهذا يعني فقط أن القاضي على فرض أنه قرأ القرآن من طريق الطيبة, لا يرى ضرورة الالتزام بتفصيل الطرق خوفا من التركيب وأن ما صح سنده وتحققت قرآنيته تجوز القراءة به, لأنه إما أن يكون قرآنا صحيحا فتجوز القراءة به بغض النظر عن نسبته إلى طريق من طرق الورود أو يكون غير صحيح فلا تجوز القراءة به أصلا , ولا توجد قراءة صحيحة في بعض الأحوال على غرار جدلية "المحلى بالآثار" لابن حزم في مناقشة المالكيين حول ما يجوز أو يمنع للمتيمم فعلُه.
في علمنا أن القاضي لا يؤول "الأحرف السبعة" على أنها القراءات السبع المنظومة, مثلا, في "حرز الأماني" لأن له أولا كتاب "البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة", ولأنه ثانيا سجل بصوته مصحفا أو أشرطة برواية ابن وردان عن أبي جعفر في بداية الستينات من القرن الميلادي المنصرم في جهود "جمعية المحافظة على القرآن الكريم" برئاسة الدكتور/ لبيب سعيد, في قطاع ما سُمِّيَ وقته بـ"الجمع الصوتي للقرآن الكريم" ولأنه أخيرا شرح منظومة "منحة مولي البر..." وهي – إن صح التعبير - "تكبير" للشاطبية والدرة.
في كتابه "إمتاع الفضلاء بتراجم القراء" ذكر السيد الهمام/ إلياس بن أحمد بن حسين بن سليمان البرماوي, المقرئ بالمدينة النبوية, في معرض تعداده لتلاميذ الشيخ القاضي رحمه الله
[3] أن الشيخ منيرا التونسي "قرأ عليه [أي على القاضي] ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة" وهذا يؤيد رواية هادي العيادي, إلا أن سيد لاشين أبو الفرح, في هامش الكتاب, كأنما بلغته هذه الرواية و- لأمر ما - شك فيها, يسأل القاضي من قرأ عليه "قبله" فيجيب القاضي "بأنه لا أحد" ولسَدِّ كل احتمال أن يكون قرأ عليه أحد آخر "بعده" يضيف الشيخ أبو الفرح :"وبعد فترة وجيزة توفي الشيخ القاضي".هذا ينفي إقراء القاضي القرآن من طريق الطيبة لغير سيد لاشين لكن لا ينفي قراءته هو من طريقها بل يؤكد ذلك.
"الإمام المتولي وجهوده في علم القراءات" كتاب جليل حول شخصية محورية في مجال القراءات, ذكر مؤلفه البحاثة الموفق الشيخ الدكتور/ إبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري أن الذي ساعد على عدم تقرير التحريرات في معهد القراءات بالأزهر مساعدة حصلت للطلاب من "بعض العلماء الذين لم يتلقَّوْا القراءات من طريق الطيبة" ومنهم, كما في الهامش, الشيخ القاضي
[4] ويخبره الشيخ أحمد مصطفى وآخرون :"أن القاضي رجع عما كتبه في آخر حياته", مع العلم بأن الشيخ عبد العزيز القارئ وصف الذي قالوا بأنه رجع عنه, بأنه, كما أسلفنا, "خلاصة آراء الشيخ". هذا وإن كانت التحريرات التي, هي, محل المطارحة هنا ليست إلا أمارة في موضوعنا.
ورواية أخرى للدوسري عن شيخه العلامة الزيات تقول بأنه رجع فعلا عن ذلك وبدأ القراءة على الزيات من طريق الطيبة إفرادا وبتحريرات المتولي, ولم يتم. ولكنها تضيف – وهنا تكمن المشكلة- "ثم توفي
[5] ولم يقرأ القراءات العشر من طريق الطيبة"
- العيادي يقول: إن منيرا التونسي قرأ على القاضي ختمة كاملة بالقراءات العشر من طريق الطيبة.
- سيد لا شين يقول : لم يقرأ على القاضي القراءات العشر من طريق الطيبة غيري.
- الدوسري ينقل عن شيخه الزيات "ثم توفي[الشيخ القاضي رحمه الله] ولم يقرأ القراءات العشر من طريق الطيبة"
[1] كلها في السنغال ما بين 1994 و2003.
[2] ثم حصلنا على مصحفه المرتل كاملا بطريق الاصبهاني عن ورش عن نافع.
[3] ص 198 الرقم الثاني وفي الهامش.
[4] – ص 358.
[5] أي القاضي.