غانم قدوري الحمد
مستشار
[align=center]أم كلثوم في مرض الموت
السبت 1 شباط 1975م = 20 محرم 1395هـ[/align]
منذ أيام نقلت الصحف والأخبار أن أم كلثوم (المغنية) الشهيرة قد انتكست صحتها انتكاسة شديدة ، وظلت الصحف تطالعنا كل يوم بالجديد عن صحتها ، والناس متعلقون بتلك الأخبار متلهفون ! وتحسنت صحتها ، وقالوا إنها قرأتِ الصحف وشربتِ الشاي ، واستقبلتِ الزوار ، وفجأة في ليلة الخميس الماضي انتكست صحة سيدة الغناء العربي مرة أخرى ، ولكن هذه المرة كانت الانتكاسة أشد ، إغماء تام وانفجارات ! في المخ ونزيف ، وتوقع الناس نهايتها ، وصار الأمر حديث الناس ، أكثر الناس ، ومادة للصحف ونشرات الأخبار ، وفي الليلة الماضية وقبيل الحادية عشرة أُعْلِنَ عن موت أم كلثوم ، وتناقلت ذلك وكالات الأنباء ، وبدأت الإذاعة المصرية بتلاوة القرآن ، وأعلنت إذاعة لندن النبأ نقلاً عن راديو القاهرة ، ولكن قبل الثانية عشرة في نفس الليلة أُعْلِنَ أنها لا تزال على قيد الحياة ، وظهرت الصحف في صباح هذا اليوم وعلى صفحاتها الأولى كثير من الأخبار عنها ، وعلي أمين يطلب من قراء الأخبار (أن يُصَلُّوا من أجل أم كلثوم) . قبل أكثر من شهر مات المشير أحمد إسماعيل علي قائد القوات المسلحة المصرية ووزير الحربية واحتفل الناس بتشييعه ، ولكن لم يكن تعلق المصرين به بمثل هذه الطريقة ولا بهذه الشدة والحماسة ، فقد خُصِّصَ لأم كلثوم لها جناح في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي ويقوم على علاجها لجنة من الأطباء ، والاهتمام بها من أعلى مسؤول في الدولة.
[align=center]تعقيب معاملات
الأحد 2 شباط 1975م = 21 محرم 1395هـ[/align]
خرجت مبكراً هذا الصباح ، كنت أريد الذهاب إلى جامعة عين شمس ، وركبت في (الأوتوبيس) وبعد أكثر من نصف ساعة وصلت العباسية ، ومن هناك سرت بضع دقائق لأجد نفسي عند باب الجامعة ، لم يكن في الجامعة دوام لأن الطلبة يقضون العطلة الربيعية ، ولكن إدارة التسجيل في الكليات مستمرة في الدوام ، ذهبت إلى تسجيل كلية الآداب ، أتابع أوراق أبي مجاهد (جليل رشيد) التي قدمتها يوم 22/12 أو ربما في شهر11 إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة عين شمس للقبول لدراسة الدكتوراه في موضوع البلاغة ، وذهبت منذ ذلك التاريخ أكثر من مرة مستفسراً عن مصير الأوراق ونتيجة ذلك التقديم ، أخيراً طلبوا إحضار رسالة الماجستير ، وأرسلت إلى بغداد في طلبها وجاء الجواب من دون نتيجة ، ذهبت اليوم ووجدت الأوراق قد عادت إلى التسجيل ومؤشر عليها أن القسم يعتذر عن قبوله ، وكانت هذه الرحلة بعد رحلة سابقة في دار العلوم حيث قدمت الأوراق هناك ، ولكن الكلية رفضتها ، فقمت بعمل معاملة جديدة عن طريق السفارة والوافدين وتقديمها إلى جامعة عين شمس ، والنتيجة اليوم قد ظهرت صفراً . والوقت والجهد يذهب ثم يبقى بعد ذلك أن الإخوة الذين يكلفون شخصاً بعمل ما ربما يظنون أنه قد قصر في مساعدتهم ، ولا تزال بعض الوصايا غير منجزة ، ولكني أحاول أن أبذل الجهد وما يسمح به وقتي ، إذ ليس عملي الأول هنا تعقيب المعاملات ، ولكن لا بد من مساعدة من لا سبيل له من الإخوة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
[align=center]مع كتاب الدكتور خليل يحيى نامي
الاثنين 3 شباط 1975م = 22 محرم 1395هـ[/align]
كان الدكتور خليل يحيى نامي قد كتب سنة 1935 بحثاً جيداً عن تاريخ الخط العربي قيل الإسلام في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ونشره في كتيب منفصل ، ولما كان الحصول على المجلة غير يسير حاولت العثور على نسخة من الكتاب المطبوع ، وهناك نسخة في مكتبة جامعة القاهرة كما في الفهارس ، لكن يأتي الجواب عند طلبه بأنه غير موجود ، ووجدت نسخة في جامعة عين شمس استفدت منها في السنة الماضية في كتابة بحث فصلي عن الكتابة العربية ، وبالأمس ذهبت إلى جامعة عين شمس لتعقيب معاملة الأخ أبي مجاهد ، وبعدها ذهبت إلى مكتبة جامعة عين شمس ، كنت قد خرجت مبكراً ، وقاربت الساعة العاشرة ولما يحضر من يحتفظ بمفاتيح القاعة ، وحين قّدَّمْتُ طلبا للاطلاع على الكتاب كان الجواب أن الموظف المسؤول عن المخزن غير موجود هذا اليوم (في أجازة) ، ودخلت إلى غرفة المدير فسألته المعونة في الوصول إلى الكتاب ، فقال لي أنت طالب ؟ قلت : نعم في جامعة القاهرة ، قال : إذن لا حق لك في الدخول إلى مكتبة جامعة عين شمس ، وبعد أخذ ورد ، وبعد أن أعرب مدير المكتبة أنه ليس من اختصاصه مثل هذه الأمور الصغيرة بل الحقيرة ! بعد كل ذلك أبدى أحد الموظفين استعداده لإحضار الكتاب ربما بعد أن فهم من لهجتي أني (من بَرَّه) وقاربت الساعة الحادية عشرة وحضر الكتاب ، واستغرقتُ كتابةً وقراءةً فيه ، وكنت حريصاً على الدقة في فهم الموضوع ، لأن هذا البحث من أهم ما كتب عن أصل الكتابة العربية ، وقبل أن تصل الساعة الواحدة والنصف صاح الموظف بأن الوقت انتهى ، لأن هناك عطلة نصف السنة ، وخرجت دون أن أكمل الكتاب ، وعدت اليوم لإكمال مراجعة الكتاب ، وبعد انتظار طويل حضر الموظف قريباً من الحادية عشرة ، أمراض متأصلة عند كثير من الموظفين .
[align=center]وتوفيت أم كلثوم!
الثلاثاء 4 شباط 1975م = 23 محرم 1395هـ[/align]
منذ الخميس الماضي وأخبار أم كلثوم تستأثر باهتمام الناس ، يسمعونها من الراديو أو يقرؤونها في الصحف ، بحوث تكتب عن الأمراض التي ألمت بأم كلثوم ، بحوث وكلام فارغ عن الوحدة التي حققتها أم كلثوم بين الشعوب العربية ، قبل أن يفكر الساسة في ذلك ، وعلي أمين يدعو أن صلوا لأم كلثوم ، ليس هذا فقط فالمسؤولون في الدولة من أعلى مستوى إلى أدناه مهتمون بالوقوف على صحتها من رئيس الوزراء ... لا بل إن كثيراً من الناس في البلاد العربية قد تعلقوا بتلك الأخبار ، السيدة زوجة أبو رقييه ترسل أختها وابن شقيق زوجها .. الأمير فلان يتصل من السعودية للاستفسار ، وهناك لجنة على مستوى عال من الأطباء يشرفون على سير العلاج (ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) وكانت تقارير رئيس اللجنة الطبية منذ يوم الخميس تشير إلى تدهور صحتها ، وتعطل كل نشاط في الجسم ماعدا ضربات القلب الذي يضطرب أحيانا ، الأطباء جادون في استخدام وسائل العلم الحديث في عمل شيء لسيدة مصر ، وفي الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم أُعْلِنَ أن أم كلثوم لفظت أنفاسها الأخيرة ، ونعتها الحكومة المصرية من أعلى مستوى في الساعة السادسة من مساء هذا اليوم ، وكان الخبر هذه المرة صادقاً ، وذهبت أم كلثوم التي شغلت الشعب العربي مدة خمسين عاما لتلقى جزاء ما فعلت في هذه الأمة المنكوبة بها وبأمثالها ، ولكن كثيراً منهم لا يفقهون !
[align=center]تشييع
الأربعاء 5 شباط 1975م = 24 محرم 1395هـ[/align]
حديث الصحف والناس هذا اليوم عن أم كلثوم ، والعناوين البارزة في الصحف : الشعب يودع أم كلثوم ، في الصباح ذهبتُ إلى مكتبة الجامعة العربية في ميدان التحرير ، ولكن بناية الجامعة كانت مغلقة في وجه الزوار لاجتماع مجلس الدفاع العربي ، ورجعت في نية العودة إلى البيت ، ورأيت ميدان التحرير قد أغلقت الشوارع المؤدية إليه والناس يتدفقون من كل صوب ، وأكاليل الورد تتكدس ، حيث ستشيع أم كلثوم من جامع عمر مكرم إلى جامع (مرسي) ثم تنقل بالسيارة ، وكان إمام جامع الحسين قد صلى عليها في المستشفى فجر هذا اليوم ، ونقلت في الصباح إلى جامع عمر مكرم انتظاراً لبدأ التظاهرة في الحادية عشرة صباحاً ، وقبل ذلك بقليل صُلِّيَ عليها مرة ثانية في جامع عمر مكرم حيث أَمَّ الناس وزير الأوقاف، وبدأت المسيرة يتصدرها رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب والوزراء ، ولكن ما إن تحرك الموكب حتى تدفق الناس واختل برنامج السير ، فلاذ رجال الحكومة بالتنحي جانباً .. وسارت الجموع تحمل الجنازة إلى ميدان طلعت حرب ، ومن هناك تغير اتجاه الجنازة تحت ضغط الجماهير ، وتحولت المسيرة عبر شارع قصر النيل إلى العتبة ، ثم إلى جامع الحسين حيث صُلِّيَ عليها للمرة الثالثة ، ثم نقلت من هناك إلى حيث توارى في مثواها الأخير ، إن الإنسان ليصاب بخيبة شديدة حين يرى كل هذا التعلق بمغنية ، ولتكن ما تكن ، فالاهتمام بالأمر من أعلى رجل في الدولة إلى رجل الشارع الذي لا يجد ما يسد به رمقه .
[align=center]شغالة أخرى
الخميس 6 شباط 1975م = 25 محرم 1395هـ[/align]
من المشاكل التي يعانيها المقيم في القاهرة هي مشكلة أعمال البيت بالنسبة لغير المتزوجين خاصة ، إذ إن وجودهم هنا مرتبط بأعمال وواجبات عليهم أن يسعوا في إنجازها ، ولهذا فهم مضطرون إلى الاستعانة بشغالة تقوم بأمر البيت من طبخ وغسل وتنظيف ، ولكن عالم الشغالات هنا يبدو أنه غير موثوق إلا في النادر ، ونحن لم نعانِ من المشكلة إلا القليل ، منذ السنة الماضية كانت أم محمود تعمل عندنا ، وهي ليست محترفة أصلاً ، وعملت عند بعض العراقيين ، فكنا مطمئنين إلى عملها ووجودها في الشقة وقت خروجنا منها ، لكنها انقطعت عن العمل منذ نهاية الشهر الماضي ، وبدأنا بالعمل على تأجير شغالة جديدة ، ووعد البواب بإحضار شغالة على معرفته وبضمانته ، وحضرت الشغالة مساء أمس ، واتفقنا أن تحضر صباح اليوم للاتفاق على الأجر ، فإذا بها تدعي أنها كانت تعمل بخمسة عشر جنيها ، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون تسعيرة ، وعندما أخبرها الأخ خليل أن الذي ندفعه هو ستة جنيهات ، انهارت وتنازلت إلى الثمانية ، وأخيراً وافقت على الستة ، وبدأت تعمل وحاولنا أن نشعرها بأننا سنزيدها جنيهاً إن هي أحسنت التصرف ، وهي لا تعرف من طبخ العراقيين شيئاً ، فإننا نحتاج إلى طبخ التمن والمرق . ولكن الأهم من ذلك أن تتوافر فيها الأمانة ، التي هي أهم شيء ، وبدونها تفسد كل الأمور.
[align=center]زيارة معرض الكتاب
الجمعة 7 شباط 1975م = 26 محرم 1395هـ[/align]
اليوم هو آخر أيام افتتاح معرض الكتاب ، ذهبت منذ افتتاحه ثلاث مرات واشتريت من الكتب بأكثر من ثلاثين جنيهاً ، ولكن ظلت في نفسي رغبة كبيرة في شراء بعض الكتب ، فقلت لا ينبغي أن أضيع آخر فرصة ، وذهبت بعد صلاة الجمعة برفقة الأخ محمد أحمد محمود ، وكنت أتذكر أماكن الكتب التي أرغب في شرائها ، وكذلك كنت أرغب في شراء مصحف كريم بطبعة رائعة ومجلد تجليداً لطيفاً ، أحدث نفسي بإرساله إلى العراق هدية للوالد الذي يقرأ بمصحف ربما كان مطبوعاً في الإستانة منذ زمن بعيد ، وعند الغروب كنا نهم بالخروج ، اشتريت مع المصحف هذه المرة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، وكتاب منهج الفن الإسلامي ، وكتاب الأفكار في العالم الإسلامي ، وكنت أرغب في شراء بعض الكتب الأخرى ، وقد تعاون عاملان على إهمالي شراءها ، أولاً ذكرى نقلها إن شاء الله وأنهيت الدراسة ، وثانياً ارتفاع الثمن ، فالأسعار بصورة عامة مرتفعة ولكن بعضها مرتفع جداً ، فمثلا كتاب اللغة العربية للدكتور محمود فهمي حجازي بأربع جنيهات ربما ونصف ، وهو كتاب عام يتحدث عن اللغة العربية وعلاقاتها ومصادر اللغة والنحو وبعض الظواهر اللغوية ، ليس فيه عمق بل اتساع من غير تركيز ، وراجعت المكتبة التي تعرضه أكثر من مرة وأصروا على السعر ، وقررت ألا أشتريه(1) ، كذلك الحال مع بعض الكتب الأخرى . ومهما يكن من أمر فإن معرض الكتاب كان فرصة لحصولي على بعض الكتب التي كنت أعتبر الحصول عليها حلماً ، والحمد لله أولاً وآخراً.
[align=center]مشاغل جانبية
السبت 8 شباط 1975م = 27 محرم 1395هـ[/align]
أشعر الآن أن عملي ليس بالمرضي ، خاصة بعد أن أنهيت الاطلاع على أكثر مخطوطات دار الكتب المصرية ، أحياناً يكون العذر الانشغال بمتابعة معاملة صديق ، وأحيانا طلب مصدر قد لا أجده إلا بصعوبة ، فاليوم خرجت من الصباح لأقرأ ساعة واحدة في مكتبة معهد الدراسات العربية في كشف الظنون ، ثم ذهبت إلى الكلية في متابعة بعض القضايا ، وأهمها تكليف السيد رشيد نعمان التكريتي بأن أقدم أوراقه إلى قسم الأدب لتسجيله بقسم الدكتوراه ، وكذلك الحصول على الرسالة المناقشة في دار العلوم (الواقعية في الشعر المصري) وأنجزت بعضها وظل الكثير ، وكذلك كنت أحاول مقابلة الأستاذ المشرف للحصول منه على ورقة إلى المسجل لتزويدي بكتاب إلى بعض المكتبات : الأزهر ، والجامعة الأمريكية ، ولم أحقق من ذلك شيئاً ، وقبل نهاية الدوام ذهبت من الكلية إلى جامعة القاهرة لأقف على نتيجة تقديم أوراق الأخ منذر كمال إلى كلية الحقوق لدراسة الماجستير ، وكنت قد راجعت أكثر من مرة حول الموضوع ، وفي هذه المرة كان جواب جهات الأمن قد وصل ، وحاولت أن أنجز له شهادة لأبعثها إليه ، ولم يبق إلا تصديق دائرة الوافدين والسفارة ، وهذا ما سأفعله غداً، إن شاء الله ، وعدت إلى البيت وأنا أشعر بتعب ليس بالقليل ، وربما كان يرافق ذلك إحساس بحزن وأسى في الداخل من غير وضوح السبب ، وجاء المساء وحاولت أن أقتنص ساعات أراجع فيها بعض الموضوعات ، لأبدأ في الصباح من جديد ، إن شاء الله .
[align=center]سرقة
الأحد 9 شباط 1975م = 28 محرم 1395هـ[/align]
الشغالة الجديدة كانت تبدو مسكينة جداً ، وقد اطمأننا إلى ذلك حتى نسينا أنا في مصر ، حضرتْ للعمل يوم الخميس وعملت يومين فقط ، ولكنها قد أبدت جملة من التصرفات كنا في غفلة منها ، فقد طلبتْ من أول يوم عملت فيه أجرها ، ورأفة بحالها ونتيجة إلحاحها أعطيناها جنيهين ، وبدأت تلعب لعبتها ، كنا في حاجة إلى سمن وسكر ، وراحت إلى الجمعية القريبة ، وعادت تدعي أنها ليس فيها شيء ، وقالت إنها ستجلب هذه المواد من منطقة سكناها في إمبابة ، ولهذا أخذت بعض الفلوس ، وكانت تحاول إقناعنا أن تجلب كميات كبيرة ، ولم نحس مع كل ذلك بأدنى شك في نياتها ، وأخذت جنيها وعشرة قروش ، ولم تعد منذ صباح اليوم الماضي ، وفي مساء هذا اليوم خرجت مع الأخ خليل للبحث عنها ، أخذنا عنوانها من البواب الذي يزعم أن عنوانها هو 65 شارع المسجد الأقصى في الكيت كات في إمبابة ، خرجنا مع صلاة المغرب وصلينا في جامع خالد بن الوليد في إمبابة ، وسألنا هنا وهناك والكل لا يعرفون شيئاً عنها ، وأخيراً ذهبنا للقسم (الشرطة) وإذا بهم لا يقلون فوضى عن غيرهم ، ولم نعثر عندهم على شيء ، وسألنا في دائرة بريد إمبابة ، فعرف أحد الموظفين العنوان ، ويبدو أنه موزع رسائل ، عرف اسم الشارع ودلنا عليه ، ولكنه استغرب من الرقم لأن الشارع ليس فيه أكثر من عشرة أرقام ، وركبنا إلى مدينة المهندسين ، وأخيراً وجدنا الشارع وإذا به كما وصفه موزع البريد ، ثم هو في منطقة راقية وقصور جميلة مشيدة ليس لأم عماد موطئ قدم فيها ، وبعد ثلاث ساعات من البحث أيقنا أننا خدعنا ، وأن أم عماد لا سامحها الله قد سرقتنا ، والمشكلة ليست في سرقة ثلاثة جنيهات ، وإنما في العثور على شغالة أخرى !
[align=center]مناقشة رسالة في رسم المصحف
الخميس 13 شباط 1975م = 2 صفر 195هـ[/align]
مضى أسبوعان قبل اليوم ، ولكني لم أستفد منهما إلا القليل ، كان الأسبوع الأول أيام افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب ، فإني ذهبت مرات عديدة ، وهذا الأسبوع تخلله قلق وبحث عن شغالة جديدة ، ثم محاولة رأب الصدع بعد أن سرقتنا الشغالة الجديدة ، وفي هذا الأسبوع ترددت إلى مكتبة الجامع الأزهر بعد أن قضيت يوما في الحصول على كتاب من الكلية ، ويوم الاثنين الماضي مساء حضرت مناقشة رسالة : (رسم المصحف ونقطه) لعبد الحي الفرماوي في جامعة الأزهر بكلية أصول الدين ، وكنت قلقاً قبل هذه المناقشة ، إذ كنت أعتقد أننا نبحث في موضوع واحد واتجاه واحد ، وقد تبين أن بحثه يتركز على الحكم الشرعي في جواز أو عدم جواز الخروج على الرسم العثماني وكتابة المصحف بالإملاء الحديث ، وحصل الطالب على الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية ، وفي اليومين الأخيرين : الثلاثاء والأربعاء كنت أذهب مع الأخ خليل إلى بيت الأستاذ كاظم الراوي الذي توفيت والدته - رحمها الله - في العراق منذ أيام ، وجاءه نعيها هذه الأيام ، ومضى هذان الأسبوعان ، لا أقول بدون فائدة ، ولكن بفائدة محدودة ، وبدأت أحس أن الوقت يمضي بسرعة ، والذي يزيد همومي هو أن المصادر كثيرة ، ولكنها ليست في صلب الموضوع وكثير منها مخطوط .
[align=center]الشيخ عايش الكبيسي
الجمعة 14 شباط 1975م = 3 صفر 1395هـ[/align]
ذهبت صباح هذا اليوم إلى الإخوة السوريين في جسر السويس : سعد وعبد المهيمن وحسام ، وذلك لأن أبا عامر مسافر قريباً إلى سوريا ، وتكفل بأن يساعدني في تصوير مخطوطة التنزيل في هجاء المصاحف(1) ، من الدار الظاهرية في دمشق ، إذ إنه سيسافر قريباً بعد أن يكون قد أكمل الدراسة في الكلية الطبية في الأزهر ، ثم يعود لقضاء سنة الامتياز ، وعدت من هناك مسرعاً ، وصليت الجمعة في مسجد الجمعية الخيرية في شارع الجلاء قرب ميدان رمسيس ، حيث كانت الصلاة بأذان واحد ، وكانت الخطبة تمس واقع الناس والمسلمين ، وعدت إلى البيت لأجد الأخ خليل مع الأخ الأستاذ الشيخ عايش بانتظاري ، إذ إن الأستاذ عايش قد دعانا إلى تناول الغداء في بيتهم ، ذهبنا وكان الغداء على شرف محمد الكبيسي(2) على ما يبدو ، وحضر الدكتور عناد الكبيسي الملحق الثقافي ، وحضر بعض معارف الأخ عايش ، الذي أنهى الآن الماجستير في كلية الحقوق ، بعد أن نجح في امتحان الدبلومين ، وينتظر التسجيل في قسم الدكتوراه في الحقوق أيضاً ، وهو يعمل في العراق في الأوقاف خطيباً وإماماً لجامع الحيدرخانة في بغداد .
لعل هناك أحداثاً عظيمة تدور الآن في المجتمعات العربية والإسلامية والعالم تستحق التسجيل أو الإشارة ولكني أوثر تسجيل ذكرياتي الخاصة ، لعلها تكون مؤنسة لي في ساعة الوحشة ، والله المستعان .
[align=center]متاعب
السبت 15 شباط 1975م = 4 صفر 1395هـ[/align]
خرجت صباح اليوم على عجل ، ووقفت أنتظر الأتوبيس رقم 190 الذي يأتي من إمبابة ويذهب إلى الدرَّاسة مارًّا بالأزهر ، وجاء وإذا الناس معلقون بالأبواب ، قلت أنتظر التالي ، ومر أكثر من نصف ساعة وجاءت السيارة الثانية وكانت كالتي سبقتها ، ولكني كنت مرغماً على التعلق بالباب وقطعت تذكرة ، وطلب منا الجابي(الكمساري) أن ننزل ونصعد من باب النزول الأمامي فربما يوجد فراغ ، نزلنا اثنان أو ثلاثة ، وما كدت أقف في مقدمة السيارة حتى وجدت الجابي يصعد من أمام ويصيح بعصبية ويطلب قطع تذكرة ، ولما مددت يدي تناولها بسرعة وأمسك بالتذكرة التي قطعها لي وأعتذر بأنه شك ، وقفت السيارة في إشارة للمرور وكانت أمامها سيارة تكسي قد ارتكب سائقها مخالفة ، وحاول الشرطي أن يسجل عليه محضراً ولكن سائق السيارة مد يده إلى الشرطي ببضعة قروش فأعفاه ، وصلت بعد جهد وجهاد إلى مكتبة الجامع الأزهر ، وإذا بالقاعة مظلمة : (النور مأطوع) ، وتذكرت أنه انقطع ظهر يوم الأربعاء الماضي ، وكنت قد حضرت الخميس ، وكان أيضاً مقطوعاً ، واليوم مقطوع أيضاً ، والموظفون مكدسون على المناضد يطردون الطلاب ، وبعد كلام غير مُجْدٍ مع الموظفين خرجت إلى مكتبة المشهد الحسيني التي تبيع أكثر ما تبيع المصاحف ، كنت قد استوهبت مصحفاً بالخط المغربي ، وكانت لديهم طبعتان ، وأردت أن أبدل الطبعة ، وبعد أخذ ورد مع صاحب المكتبة خرجت من غير عمل شيء ، وقلت لأذهب إلى دار الكتب في البناية الجديدة لأطلع على بعض المخطوطات ، وكنت هناك في الساعة الحادية عشرة ، ومكثت أكثر من ساعتين ، وخرجت وإذا بالموظف يطلب تفتيش ما أحمله شكاً منه بأني سرقت مخطوطاً ! وعدت إلى البيت ، وحاولت في المساء أن أدرس ساعتين، أو ثلاثاً .. وبين تنظيف الأواني وأمور تافهة أخرى وأخرى جادة انتهى اليوم ، وأويت إلى الفراش ، وأنا أنتظر الفراغ من هذه السطور لأنام !
[align=center]أمسية جميلة
الأحد 16 شباط 1975م = 5 صفر 1395هـ[/align]
حين تمضي الأيام والمرء يتعامل مع عامة الناس هنا في القاهرة فإنه يصاب بخيبة أمل كبيرة لفساد هذه العامة ، أينما تتجه لا ترى إلا تهاون الناس واستشعارهم الذل والمهانة أمام بريق الدنيا ورنين الفلوس ، ولكن بين الحين والحين كانت تنتشلنا من هذه المشاعر ومن اليأس والقنوط نقلات كأنها الحلم لكنها واقع ، ربما قبل شهر كانت إحدى تلك النقلات عندما خرجنا خارج القاهرة إلى بلدة (العرب) واليوم كانت نقلة أخرى ، فقد كان الإخوة سعد و عبد المهيمن قد أكملا الدراسة في الكلية الطبية ، وأقاموا مأدبة عشاء دعونا إليها ، وكانت لقاء رائعاً ، فقد حضر إخوة لنا من هذا البلد غسلوا هذا الهباب الذي يغطي وجه مصر ، وقدموا صفحة من واقع مصر لا يكاد المرء يتصور أنها موجودة ، ويحس المرء أنه تحت ضغط هذا الواقع البائس المضطرب المنحل تكمن عوامل بقاء المجتمع وعوامل بناء الغد المنشود ، وأن هذا الرماد لا يمكن أن يخفي جذوة النار إلى الأبد ، ولكن تظل الأمور على كل هذا القدر من الغموض حتى يأذن الله بالجولة الفاصلة التي ينتصر فيها الحق على يد القلة المؤمنة الخيرة ، ويندحر الشيطان وأخلاقيات الطواغيت ، وكأن ساعة تلك الجولة لم تحن بعد !
[align=center]التراث المخطوط
الاثنين 17 شباط 1975م = 6 صفر 1395هـ[/align]
قد فتح لي بحث الماجستير آفاقاً واسعة لم أكن أحلم بها من قبل ، ووضعني على جوهر لم أكن أتصور أني سوف أصل إليه ، جوهر الأصالة في الثقافة الإسلامية ، وبدأت أدرك كثيراً من الأمور التي كانت غائمة في تصوري ، واتضحت لي أمور كانت شائكة ، وعرفت فساد كثير مما يذهب إليه جنود الباطل في تشويه حقيقة هذا الدين والطعن عليه ، إضافة إلى أني بدأت أُلِمُّ بموضوع القراءات القرآنية وأعرف الكثير من تفاصيلها بعد أن كنت لا أكاد أعرف أسماء القراء ، لكن علامات الاستفهام لا تزال كثيرة من حولي وأجد دائماً الجواب في الداخل ، وأنتظر لعلي أجده في طيات الكتب ، وهنا تبدو الأمور محزنة فأكثر التراث لا يزال مخطوطاً ، وكثير من المخطوطات قد ذهبت به الأيام ، وما وصل مشتت في أرجاء العالم ، ومن يستطيع أن يصل إليها ؟ وما يوصل إليه لا يخلو من المشاكل والصعاب ، وهذا التراث ينتظر مجهوداً ضخماً لكي يخرج إلى نور الحياة من ظلمات المكتبات ، ويطلع العالم على حقيقة ناصعة من خلال هذا التراث ، لكن ذلك أمر قد تعجز عنه جهود المؤسسات والحكومات بله الأفراد والهيئات ، وكيف مع هذا الخمول الذي تخفيه هذه الشعارات الكاذبة والدعاوى الفارغة من اهتمام بالتراث وحرص عليه ابتغاء عرض زائل ، ولكن لا يخلو الأمر من الجهود المخلصة.
[align=center]العمة مائير!
الثلاثاء 18 شباط 1975م = 7 صفر 1395هـ[/align]
قبل أيام كان كيسنجر يغدو ويروح بين عواصم المنطقة في جولته الثامنة ، أو أكثر من ذلك ، جاء ليتم ما بدأ به أو أن يخطو خطوة أخرى نحو توفير السلام لإسرائيل ، وقد مضى على حرب رمضان سنة ونصف تقريباً ، والأحوال تتجمد وأمريكا وروسيا ودول أخرى تلعب لعبتها وتنفذ سياساتها في الشعوب الفقيرة المستضعفة وتبيع السلاح والطعام وتمتص الدماء ، وإسرائيل لها في تلك الدول من الوسائل ما ترهب به القائمين على الأمر فيها ، وتُسَيِّرُهُم كما تريد هي ، والعرب مستضعفون خذلوا أنفسهم حين تخلوا عن الدين الذي ارتضاه الله لهم ولغيرهم ، وهم يملكون الآن من الموارد ما لا يحصل عليه بلد آخر مما يبيعون من النفط وما يمكن أن تأتي به الأرض من معادن أخرى ومن غلال ، ولكن لا يزالون ينتظرون السلام من أمريكا وروسيا على يد كيسنجر وگروميكو الذي ساهم في زرع هذا السرطان في ديار الإسلام ، والمحزن أن هنري كان يصرح في أمريكا قبل أسابيع باحتمال غزو الدول المنتجة للبترول والاستيلاء على حقوله ، ثم اليوم يُسْتَقْبَلُ بالأحضان كما يقولون ، هنري الذي يسمي گولدا مائير العمة ، ولا شك في أن اليهود كلهم أبناء للعمة ، هو المؤتمن الآن على مستقبل هذه البلاد التي خان حكامها الأمانة منذ أن تعلقوا بالشرق والغرب ، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً .
[align=center]شرح العقيلة للجعبري
الأربعاء 19 شباط 1975م = 8 صفر 1395هـ[/align]
كنت أتردد هذا الأسبوع على قسم المخطوطات في دار الكتب المصرية ، إذ لا تزال هناك مجموعة من المخطوطات القيمة التي ينبغي أن أطلع عليها ، وقد اطلعت هذا الأسبوع على جامع البيان في القراءات السبع المشهورة لأبي عمرو الداني ، وجمال القراء وكمال الإقراء لعلم الدين السخاوي ، ومنذ يوم أمس بدأت أقرأ في شرح الجعبري على عقيلة أتراب القصائد ، ويبدو لي أن هذا الشرح من أوسع الشروح ، فالشاطبي المتوفى سنة 590هـ نظم كتاب المقنع لأبي عمرو الداني في قصيدة رائية سماها عقيلة أتراب القصائد ، وضمنها إضافات عليه ، ثم بدأت الشروح عليها ، وكان أول من شرحها تلميذ الشاطبي علم الدين السخاوي ، وشرحها الحصاري تلميذ السخاوي أيضاً ، ثم شرحها الجعبري شرحاً بسيطاً سماه جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد ، ومنه ثلاث نسخ خطية :(3) إحداها في دار الكتب المصرية ، والأخرى في المكتبة الأزهرية ، والثالثة مصورة في معهد المخطوطات العربية عن إحدى المكتبات في السعودية ، إن ذهابي إلى دار الكتب صباحاً طبعاً ، ثم أمكث في المساء في البيت أدرس المراجع التي أملكها أو أستعيرها من المكتبة ، قبل أن ألجأ إلى الفراش لأستريح من متاعب النهار والاستعداد لرحلة الغد ، ولا تزال هموم البحث في ازدياد ، إذ مضى الآن ما يقرب من أربعة أشهر على عملي وأشعر أني لم أحقق إلا القليل ، وأنا حريص على إنجاز هذا البحث بعون اله في أقرب وقت، لعلي أتمكن من العودة إلى العراق .
[align=center]صلاة الفجر مرة أخرى
الخميس 20 شباط 1975م = 9 صفر 1395هـ[/align]
لم أشعر بارتياح قط مثل تلك الأيام التي كنت أصلي فيها صلاة الفجر في وقتها قبل طلوع الشمس ، فإني كنت أشعر بفرحة داخلية عظيمة كل يوم كنت أصلي فيه الفجر في وقتها ، ولكن ما أقل تلك الأيام منذ نزولي في القاهرة ، وكنت في الأيام التي تطلع الشمس وأنا نائم أظل طيلة اليوم أحس بأني مقصر وأشعر أن بركة عمل ذلك اليوم تذهب ، ولا تزال الحال كذلك وأنا أُمَنِّي النفس وأقول إن المستقبل كفيل بوضع حد لهذا التهاون ، ولكن من الذي يضمن لك المستقبل ؟ من الذي يضمن لك اليوم أو غد ، وأنت بلغت مبلغ الرجال ؟ أجل فقد ودعت أيام الصبا التي قد يحصل معها الإهمال ، ولكن ما العذر الآن وقد جاوزت الخامسة والعشرين ، ثم إني الآن أعد نفسي لخدمة القرآن ، وليست كذلك أخلاق حملة القرآن ، ألا فانتبه ، وعاهد الله في مستقبل الأيام ، واغتنم هذه الفرص قبل فوات الأوان (يوم يعض الظالم على يديه) ، وعندها تتذكر قوله تعالى : (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) ، فاغتنم هذه الأيام إن كتب الله لك فيها حياة ، اللهم إني راجع فأعني على طاعتك ، اللهم إني تائب فإن قضيت أجلي قبل هذا الصباح فاغفر لي وٱؤجرني أجر التائبين ، اللهم وبارك لي في عملي واجعله لك لا أبغي به جاهاً ولا دنيا ، اللهم وعلمنا أحب الأعمال إليك وأعنا على أدائها ، اللهم اقبل هذه التوبة وأعني عليها إنك أنت الغفور الرحيم !
[align=center]أحاديث الوحدة العربية
السبت 22 شباط 1975م = 11 صفر 1395هـ[/align]
منذ أن تفتحت عيناي وأبصرتا الناس بوضوح ، وسمعت أذناي ما يهرج به الناس ، ومنذ أن عَقِلْتُ بعض الأمور ، كانت لفظة الوحدة تتردد على مسامعي ، كنا طلاباً في الدراسة الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية ، فنشارك مع الجم الغفير من الناس يقودهم عتاة مجرمون يرددون شعارات كاذبة جوفاء : الوحدة العربية ، وأحياناً الحرية ، وأخيراً ثالوثهم المقدس : الوحدة والحرية والاشتراكية ، ويمكن أن تُقْرَأَ على غير هذا الترتيب في غرب العالم العربي ، وحدثت الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 وتحطمت ، ثم سنة 1963 بين العراق وسوريا ومصر وماتت في مهدها ، ثم بين مصر وسوريا وليبيا والسودان وظلت حبراً على ورق ، وكلام فارغ كثير حول الوحدة القومية ، وقلوب الناس متباعدة وأطماعهم متضاربة ومتعارضة وأحقادهم لا حد لها ، والأعداء يُنَمُّونَ الدعوات المريضة ، إن وحدة بدون عقيدة تحيطها ستنقلب وبالاً على أهلها من أول يومها ، وما أثار في نفسي هذه المعاني وتلك الذكريات ما جرى اليوم من عطلة في المدارس والجامعات بمناسبة ذكرى الوحدة مع سوريا ، والتي كانت نهايتها محزنة ، والحديث عن الوحدة والاتحاد كثير ، يجري على لسان أكثر رؤساء الدول العربية وكأنها المُهَدِّئُ الذي ينفثونه في أسماع الناس يلهونهم به إلى حين ، ويَذُرُّونَ في عيونهم الرماد والملح حتى لا يبصروا بعض ما يدبرون وما بأيديهم يجرحون ، كلام كثير في هذا الشرق المسكين أهله .
[align=center]الشاهد
الاثنين 24 شباط 1975م = 13 صفر 1395هـ[/align]
حين يحصي المرء المصلين الذين يؤمون المساجد لصلاة الجمعة فإنه سيندهش للرقم الذي يصل إليه ، عدد ضخم ذلك الذي نشاهده كل جمعة في أي مسجد نصلي فيه في القاهرة ، والحال كذلك في غير القاهرة ، وغير مصر من بلاد العرب والمسلمين ، ولكن هنا يظهر سؤال كبير : ما هو الدور الذي ينتظر هؤلاء القيام به أو ما هو الواجب المكلفون به ؟ وهل أن حضورهم صلاة الجمعة وصيامهم رمضان وذهابهم للحج هو وحده كاف أو فيه إجابة كاملة لدعوة الله أو إقامة حكمه وتطبيق شريعته ، كان ذلك التساؤل مدار بحث ونقاش بل وجدل مع أحد الإخوة ، فهو يرى أن دور المسلم الآن هو دور الشاهد ، ثم ينتقل من ذلك إلى وجوب عرض النموذج الكامل للمسلم ، ولو كان ذلك في ظل الجاهلية ، وأن كل محاولة أو تفكير في حكومة إسلامية يعتبر خروجاً على واقع العصر ومحاولة للقفز في الهواء ، واستعجالاً للأمور قبل أوانها ، وهو يرى أن موعد ذلك لم يحن بعد ، وأنه لم يلمس من الحكومات ضغطاً على المسلمين في أداء شعائرهم ، وهذا هو مفترق الطرق ، هو يرى أن الإسلام يمكن أن ينحصر في شعائر التعبد وأن الحكومة الإسلامية ليست شرطاً في ذلك ، ولكن أليس تعطيل شريعة الله في إقامة الحدود وتحكيم شرع الله في أمور الناس أليس ذلك نقضاً لركن عظيم من أركان الإسلام ، أليست المعاناة اليومية التي يعانيها المسلم جراء اضطراره للتعامل مع مجتمع جاهل توجب التغيير ، ألم يأمر الله تعالى أمراً واجباً بالجماعة التي تقيم الشرع وتحمل الناس على اتباع منهج الحق ، لكنه يرى أن موعد ذلك لم يحن بعد ، ولكن مع ذلك فإن عدم التفكير فيه يعد تقصيراً وقصوراً في فهم أبعاد هذا الدين الحنيف.
[align=center]خطبة الجمعة
الجمعة 28 شباط 1975م = 17 صفر 1395هـ[/align]
ربما لم أسمع في حياتي خطبة جمعة أثرت في نفسي والحاضرين كالتي سمعت اليوم ، كان مسجداً صغيراً تحت إحدى العمارات القريبة ، لكنه نظيف والقائمون عليه أناس طيبون كما يبدو ، مسجد عمر بن عبد العزيز في حي الإعلام في القاهرة ، كنا نصلي فيه بعض الأوقات وبعض الجمعات ، وكان أن ذهبنا اليوم لصلاة الجمعة فيه ، ليس فيه خطيب دائم وإنما يتناوب على الخطبة فيه عدد من الخطباء ، كان خطيب اليوم جديداً علينا ولأول مرة نراه ، كان كهلاً قد غلب الشيب على لحيته القصيرة ، وهو يلبس لباس الحضارة العصرية ، وعلى رأسه طاقية بيضاء خفيفة ، موضوع الخطبة كنت قد سمعته أكثر من مرة من عدة خطباء لكن هذه المرة سمعت ما لم أسمعه من قبل ، كان الحديث يدور حول قوله تعالى : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، والله خبير بما تصنعون ، وقل للمؤمنات ...) غاص في الأعماق ونثر الدر وتناثرت دموع الحاضرين ، وراح كل يعاهد نفسه ويجدد التوبة بالإقلاع عن شيء مما نهت عنه الآيات ، والتزام ما أمر الله به ، كان يتكلم بصراحة عن مشاكل ومفاسد الناس الاجتماعية الأخلاقية ويضع مقابلها فضائل الدين وفضائل المسلمين ، النقاء والطهر مع الإيمان ، والقذارة والرذيلة مع الكفر ، خرجنا من الصلاة ونحن شبه ذاهلين ، والخطيب يقول أثقلت على المسلمين وهم ينادون جزاك الله عنا خيراً ، الإسلام لا يحتاج إلا إلى الفرصة التي يظهر بها على الناس بنصاعته ونقائه فيسلمون ، ولكن أين تلك الفرصة وأين جنودها ؟
[align=center]متعة السباحة في المحيط !
السبت 1 آذار 1975م = 18 صفر 1395هـ[/align]
كأني قد غصت في بحر تصطخب لججه ، ويتباعد قراره ، وتمتد جنباته ، منذ أن بدأت البحث في موضوع (رسم المصحف) وقد مضت اليوم أربعة أشهر على بداية البحث ، وكلما مرت الأيام كلما وجدت نفسي أسبح في محيط أوسع ، واحتاج إلى يد أطول وتجديف أسرع ، ولكني بدأت أحس أني قد قطعت بعض الشوط ، بعد أن استنفدت كثيراً من مصادر البحث الرئيسية ، وبعد أن كدت أستنفد ما عثرت عليه من كتب مخطوطة تتعلق بالبحث ، وقد كانت رحلة طويلة وممتعة عبر العديد من المخطوطات : فضائل القرآن لأبي عبيد ، ثم جمال القراء للسخاوي ، وجامع البيان لأبي عمرو الداني ، ثم عقيلة أتراب القصائد وشروحها الكثيرة ، لكني آثرت دراسة شرحين : أولهما شرح علم الدين السخاوي تلميذ الناظم والثاني شرح الجعبري إذ هو أوسع الشروح ، وقد أكملت نسخ القصيدة، وسأظل إن شاء الله طيلة هذا الشهر أتردد على دار الكتب ومكتبة الأزهر ، حتى أستنفد كل ما يمكن أن أستفيد منه من الكتب المخطوطة لأتفرغ لما ينتظرني من كتب مطبوعة ، وخاصة في موضوع الكتابة والقراءات ، ولكني رغم ما أنجزته من خطوات في البحث أشعر أن الطريق لا يزال طويلاً ، وأن نهايته غير واضحة تماماً ، وإن كنت قد اطمأننت إلى بعض النتائج الآن ، لكن التفاصيل لا تزال طي الغيب ، والله المستعان .
[align=center]عوائق
الأحد 2 آذار 1975م = 19 صفر 1395هـ[/align]
ليس للوقت قيمة في هذا البلد ، فالموظف الذي يتربع عرش المسؤولية في دائرة ما تشعر أنه يعاملك بمستوى التفضل والإحسان لا من مبدأ الواجب والإلزام ، خرجت في الصباح متصنعاً السرعة قاصداً دار الكتب المصرية ، فلا تزال بعض المخطوطات التي أجد من الضروري الاطلاع عليها أو بعضها ، ربما كنت أول داخل إلى قسم المخطوطات ، وجلست أنتظر قدوم الموظف الذي يناول الكتب ، وقدمت الطلب ، وبعد وقت من الانتظار ، رجع ليخبرني أن باب مخزن المخطوطات مقفول ، وأن المفتاح أو القفل عطلان ، ويجب الانتظار لحين حضور (الباش مهندس) بعد يوم أو يومين حتى يصلح الباب ، ووجدت نفسي مجبراً على الخروج ، قلت لعلي أستطيع أن أستفيد من بقية هذا الصباح ، وركبت الأوتوبيس مُعَلَّقاً على الباب ، ونزلت في العتبة لأركب مرة أخرى أو أمشي ربع ساعة ، ركبت إلى مكتبة الأزهر ، ودخلت المكتبة ، كنت قد غادرتها من قبل ، منذ وقت طويل عندما كان النور مقطوعاً ، وتذكرني الموظفون ، وطلبت كتاباً ولم تمضِ إلا برهة من الوقت حتى نادى المنادي تفضلوا يا أسياد الساعة الواحدة والنصف ، وخرجت من المكتبة ، ولم أكن قد كتبت إلا الشيء اليسير ، وعدت إلى البيت متعباً ، وتتكرر هذه الحالة تقريباً في أكثر الأيام ، تقوم المعوقات في طريق الحصول على المصدر النافع ، وإني أشعر أن وقتاً كثيراً يذهب من غير فائدة ، ولكن ليس إلى غير ذلك سبيل.
[align=center]الشروح المتأخرة!
الاثنين 3 آذار 1975م = 20 صفر 1395هـ[/align]
شعرت أني قضيت مع بعض المخطوطات أكثر مما يجب ، أو أكثر مما يمكن أن يحقق القدر القليل من الفائدة التي استفدتها منها ، ولا شك في أن بعضها كان يستحق وقفة أطول ، ولكن كل الكتب المتأخرة(4) كان يمكن أن أضرب عن أكثرها صفحاً ، وخاصة شروح العقيلة ، التي كان يمكن أن أقتصر منها على شرحين اثنين هما شرح السخاوي وشرح الجعبري ، ومع أني اعتمدت عليهما أساساً إلا أني أنفقت وقتاً طويلاً مع غيرهما ، وقد أنفقت حوالي الأسبوع في نقل قصيدة الشاطبي في الرسم من بعض المخطوطات ، إذ كان جهدي كله متجهاً لإنجاز نقل نص القصيدة في الأسبوع الماضي ، ولكن عندما ذهبت اليوم إلى مكتبة الحلبي وسألت عن القصيدة التي عرفت أنها طُبِعَتْ عندهم ، قدموا لي شرح ابن القاصح لها متضمناً النص ، عندها ندمت على تلك الجهود وذلك الأسبوع المُضَاع من العمل ، ومع ذلك فإن الذي نقلته كان كثير الغلط ، بالنسبة إلى هذه النسخة المطبوعة ، ومن هنا بدأت أصرف النظر عن بعض المصادر التي أجدها لا تمت إلى البحث بصلة قوية أو أنها تمثل تكراراً واجتراراً لأمور قد قيلت ، ومع ذلك فإني لا أزال أشعر بحيرة حول ما يجب أن أنهجه في العمل في مستقبل الأيام ، والجهة التي يجب أن أركز الجهد عليها ، ولا بد من تجميع تصور موجز لخطوات العمل اللاحق ، إن شاء الله.
[align=center]الطير الهائمة
الثلاثاء 4 آذار 1975م = 21 صفر 1395هـ[/align]
الطير هائمة تحوم في السماء
ليس لها في الأرض مهبط
قد عافت الأرض من نتن الدماء
من الوحوش الضاريات من البشر
من لهب تأجج يحرق أزهار الربيع
وتطلعتْ نحو السماء لعلها تصل النجوم
ورفرفت بجناحها خلف السحاب
قد غاب عنها منظر الأرض الحزين
حتى الطيور لم تعد تحتمل العيش في هذي الربوع
فالناس قد قتلوا بسمة الطفل الوليد
وأماتوا نشوة الروح
أماتوا سر الحياة
[align=center]زيارة مريض
الأربعاء 5 آذار 1975م = 22 صفر 1395هـ[/align]
خرجت في الصباح على مهل ، إذ إن ورقة الكفالة الخاصة بالمنحة المالية الخاصة بي قد وصلت إلى الملحقية الثقافية العراقية ، كما علمت ، وخرجت اليوم لإنهاء ما تحتاج إليه المعاملة ، وصلت الملحقية ، والتقيت عند الباب برجل اسمه عبد الملك من بيت (وَيِّس) من تكريت ، جاء حديثاً موظفاً في الملحقية العسكرية ، وبعد كلام وسلام عرض علي المساعدة قبل أن يخرج على حد قوله ، فشكرته ودخلت ، واستفتحت بتلك الوجوه غير المريحة التي تقف على باب الدخول ، ينهرون الناس بطريقة مهينة ، ولما كان أكثر المراجعين للسفارة هذه الأيام من المصريين : مهندسين وسواقين وزراعيين ، فقد أطال ذلك ألسنة هذه الشرذمة القليلة ، وحاولت بكل حذر تفادي أي غلط قد يوقعني في مشادة معهم ، ودخلت وإذا بالأمر لا يحتاج إلى أكثر من توقيع ، ودفع نصف جنيه مصري ، وسوف تُعَادُ الكفالة إلى بغداد ليبعثوا من هناك بإذن الصرف الذي من المقرر أن يكون نافذاً من 18/12/1974، وقبل مغادرة السفارة سألت عن السيد (س) الذي سمعت أنه قد وصل إلى القاهرة منذ زمن يسير قنصلا في السفارة ، وعلمت أنه قد مرض وأنه في المستشفى ، فأخذت عنوان المستشفى (الإيطالي) وذهبت لزيارته ، وقد وجدته قد برئ من إصابته ويوشك أن يخرج من المستشفى خلال يومين ، ولم أكن قد اختلطت معه في بيجي ، إلا أني وجدته لطيفاً ، رغم ما يبدو عليه من الرقة في الدين .
[align=center]عملية فدائية في تل أبيب
الخميس 6 آذار 1975م = 23 صفر 1395هـ[/align]
بينما كانت دول منطقتنا المنكوب أهلها بحكامها تستعد لاستقبال اليهودي الكبير الصديق هنري كيسنجر استعداداً لجولة جديدة تمهيداً لمزيد من الخطوات نحو أوهام السلام الكاذب مع اليهود - فَجَّرَ الفدائيون العرب قنبلة مدوية فجر هذا اليوم في تل أبيب ودَوَّى صداها في أرجاء الأرض ، فقد تسللت مجموعة منهم عن طريق البحر ونزلت على شاطئ فلسطين بعد منتصف الليل ، وقامت المجموعة بإطلاق نار كثيف وتفجير قنابل واقتحموا فندقاً واستولوا عليه (فندق سافوي) وظل الرصاص يمزق قلوب اليهود في تل أبيب طول الليل ، وسقط جرحى وقتلى ، وطلبت المجموعة التي احتجزت عدداً من الرهائن إطلاق سراح عدد من الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل ، ولكن اليهود جُنُّوا لهذا العمل ، وقررت الحكومة الإسرائيلية اقتحام الفندق ونسفه ، وراح من الفلسطينيين سبعة شهداء ، وذُكِرَ أن ما لا يقل عن مئة من اليهود جُرِحُوا أو قُتِلُوا في العملية ، حدث هذا قبل يوم واحد من وصول كيسنجر إلى أسوان ليبدأ جولته الجديدة (ربما التاسعة بعد الحرب) ليقوم بدور الوسيط بين حكام الدول العربية المجاورة لإسرائيل وقادة إسرائيل ، في محاولة لإنهاء حالة التوتر الدائم في المنطقة منذ قيام دولة إسرائيل وبدء تطلعاتها العدوانية وأعمالها الإجرامية ، ولا في شك أن المنطقة والعالم تعصف بها رياح أزمات اقتصادية وسياسية عاتية لا يُدْرَى أين تقذفها!
[align=center]اتفاق بين الشاه وصدام
الجمعة 7 آذار 1975م = 24 صفر 1395هـ[/align]
عُقِدَ في أواخر هذا الأسبوع مؤتمر رؤساء دول منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وكان هدف المؤتمر وضع استراتيجية موحدة لتلك الدول ، واتخاذ موقف موحد من الأزمة الاقتصادية الحاضرة ، وكان من بين المشتركين شاه إيران وصدام حسين نائب الرئيس العراقي ، وقد قام الرئيس الجزائري هواري بو مدين بالتوسط بينهما لبحث المشاكل المعلقة بين إيران والعراق والتي مضت سنوات طويلة عليها ، وهي بين فتور وتوتر إلى درجة التراشق بالرصاص ، وفي ختام مؤتمر الأوبك أعلن الرئيس الجزائري بأن اتفاقاً شاملاً قد تَمَّ بين الشاه وصدام حول القضايا المعلقة بين البلدين ، وظهرت جريدة (الأهرام) اليوم وعلى صفحتها الأولى الشاه وصدام يتعانقان بعد توقيع الاتفاقية التي قال عنها صدام بأنها حدث تاريخي ، وقال عنها الشاه بأنها فرصة لتسوية الخلافات بين البلدين ، ولعل هذه الاتفاقية وما سيعقبها من خطوات تضع نهاية لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح في شمال العراق ، لأن الحركة الكردية دائماً تجد دافعاً من إيران نحو الحرب ، ولكن هل سيكون ذلك الاتفاق فعلاً إنهاءً حقيقياً للخلافات فَتُفْتَحَ صفحة جديدة في العلاقات والمواقف، أم أنها مجرد مرحلة وتعود الأمور بعد أمد ولو طويل إلى التوتر من جديد ، وإلى الضغط على العراق من خلال الأكراد ، ونقض الاتفاقات بشأن شط العرب وحرية الملاحة ، إن الأيام هي التي ستوضح ذلك!
[align=center]فكرة
الأربعاء 12 آذار 1975م = 29 صفر 1395هـ[/align]
كلما قرأت في جريدة الأخبار اجتاحني شعور من التعجب ، ويزداد ذلك حينما أقرأ الحقل الصغير المعنون (فكرة) التي طالعتنا زماناً في جريدة الأهرام ، ثم استقرت في الأخبار تعاود مسيرتها الأولى ، ولا يزال علي أمين من خلالها يبشر ويزف البشائر للإنسان المصري ومن بعده العربي بالحياة السعيدة التي تنتظره ، والتي سيفيض منها خير على الجيران ، يحلم ويُشْرِكُ الناس في أحلامه ، ومنذ الأيام الأولى لحضور كيسنجر بعد الحرب عام 1973 ، وعلى مدار تلك الأيام وإلى اليوم وكيسنجر يروح ويغدو بين أسوان وتل أبيب ، كان علي أمين يُعَلِّقُ على ما يحمله كيسنجر الآمال التي ستنقذ مصر بزعمه من بؤس الحرب وويلاتها التي ذاقتها على مدى 23 عاماً ، لتعيش مصر حياة ناعمة وتبني حضارة بدايتها تغور في التاريخ 6 آلآف سنة ، ويكفي ما لاقت مصر وشعب مصر من الحرمان والعذاب والفقر من أجل العرب الذين شكت بنوك أوربا من ضيقها عن استيعاب أموالهم ، والحل الذي يُخَطَّطُ له ليرسم المنطقة من جديد يتركز على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعد 1967 وقيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وتظل إسرائيل تمتد نحو البحر الأحمر وتتربع على البحر المتوسط ، وحَدَّثْتُ نفسي يوماً بطريق بري يربط شرق العالم العربي وغربه أو سكة قطار فوجدت خنجر إسرائيل مغروزاً في قلب الوطن يشقه نصفين ، لو كان يعي ذلك دعاة السلام !
[align=center]ورقة الأكراد
الخميس 13 آذار 1975م = 30 صفر 1395هـ[/align]
لم يمض على اتفاق الجزائر بين العراق وإيران لحل المشاكل بينهما إلا أسبوع واحد حتى تناقلت الأنباء عن اشتداد هجوم قوات الحكومة العراقية على معاقل الثوار الأكراد في أعالي الجبال ، وأن الطائرات والدبابات والمدفعية تشترك في هجوم واسع يزعم الأكراد أنهم صدوه وكبدوا قوات الجيش خسائر فادحة ، ويبدو أن الاتفاق الذي تم بين إيران والعراق كان من بين بنوده تصريحاً أو تلميحاً أن تتخلى الحكومة الإيرانية عن الأكراد ، وأن تدع العراق يفعل معهم ما يشاء ، لأن قوة الأكراد الفعلية في شمال العراق إنما هي من إيران ، وإن لم تكن من إيران فإن إيران هي الباب الذي تدخل المساعدات منه إلى الأكراد ، ولما كانت الخلافات بين العراق وإيران محتدمة كانت إيران تجد أن خير وسيلة للضغط على العراق هو استغلال الأكراد لإشغال العراق واستنفاد جهده وطاقته في معارك جانبية تحول بين العراق وبين مواجهة إيران بقوة حقيقية يمكن أن تعرض النفوذ الإيراني المتزايد في الخليج إلى الخطر ، ومع كل ذلك فإن الاتفاق علامة وبداية على انتهاء الحركة الكردية المسلحة في شمال العراق ، ولو إلى حين ، ذلك لأن الأكراد لا يمكن أن ينسوا أنهم قومية تعيش في ثلاث دول مبنية على أساس قومي ، فمتى يكون الإسلام هو الحل بين هذه القوميات المتقاتلة ، فيحل الوئام في شمال العراق؟
[align=center]في المعهد الدولي البريطاني
الأحد 16 آذار 1975م = 3 ربيع الأول 1395هـ[/align]
قبل يومين قرأت في الجريدة إعلانا عن بدء التسجيل في المعهد الدولي البريطاني للغات الذي سيفتتح قريباً في القاهرة ، وسيبدأ التسجيل من اليوم ، ولعل مما شجعني على الالتحاق به هو قربه من منزلنا الذي نسكن فيه الآن ، وتذكرت يوم ذهبت إلى الجامعة الأمريكية للتسجيل في دورة تعليم اللغة الانكليزية وتأخرت ربع ساعة عن موعد بداية التسجيل فوجدت كل شيء قد انتهى ، كنت حريصاً هذه المرة أن أكون موجوداً في اللحظة التي يبدأ فيها التسجيل ، وفعلاً كنت الساعة العاشرة صباحاً عند بناية المعهد ، ولكن وجدت من البشر ما يفوق الأعداد التي تتجمع أمام أية جمعية استهلاكية ، رجال وشباب نساء وفتيات كبار وصغار ، والأعجب بل الأغرب أن هناك شيوخاً في سن متقدمة يتدافعون للتسجيل ، ويبدو أن المسؤولين عن المعهد قد حاروا في مواجهة هذا الزحام ، وبدأوا في إدخال كل ثلاثين سوية ، يؤدون امتحاناً شفهياً وتحريرياً ، وبعد ذلك يكون التصنيف ، وأنا مرة أقف على شاطئ البشر أرقب ، وأخرى أغوص دون جدوى، ولكني قررت أخيراً أن أتغلغل بين الجموع ، واقتربت من الباب ، وفُتِحَ وكنت مع أول موجه دخلت ، بعد أن أكون قد وقفت أكثر من ساعتين ! ومرة أخرى وقوف وانتظار ودخلت الامتحان ، وكان مستواي تحت المتوسط ، وسَجَّلْتُ للدراسة ثلاث ساعات في الأسبوع ، اعتباراً من 6/4/1975 ولمدة ثلاثة أشهر ، إن شاء الله.
[align=center]البحث عن البحث
الاثنين 17 آذار 1975م = 4 ربيع الأول 1395هـ[/align]
منذ زمن غير يسير بدأت أشعر أن عملي في البحث يتأرجح ، وأن أتعاباً كثيرة قد بذلتها ولكنها لا تأتي بكبير فائدة ، فمنذ أن حضرت مناقشة الدكتور عبد الحي الفرماوي وأنا أذهب بين الحين والحين إلى كلية أصول الدين في جامعة الأزهر حتى أطلع على رسالته لعل فيها ما يفيد ، التقيت به يوم السبت قبل الماضي ووعدني بأنه سوف يأتي بالرسالة ويودعها في مكتبة الكلية ، وذهبنا معاً إلى أمين المكتبة ليسمح لي بالاطلاع عليها كلما حضرت ، وذهبت يوم الاثنين الماضي ولم أجده قد أتى بها ، وذهبت اليوم ومرة أخرى لم يحضرها ، ولا أدري ما سر ذلك.
ووجدت أن الوقت قد تقدم ، وأن النهار يوشك أن ينتصف ، فقررت أن أذهب إلى إدارة الأزهر لأبحث عن بحثين يقال إنهما قد أُلْقِيَا في مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر ، وبدأت رحلة الصعود والهبوط على السلالم ، وأخيراً قالوا إن السكرتارية الفنية لمجمع البحوث في مدينة ناصر للبعوث في منطقة الدرَّاسة ، وربما تجد هناك ما تريد ، وأسرعت أتعلق بأول أتوبيس يذهب إلى هناك ، وصلت وبعد أن وقفت في الباب دقائق دخلت إلى الأستاذ صبار ، وقَلَّبَ في أوراق قديمة ، وناولني مجموعة أوراق فيها أسماء محاضرات وبحوث ، وعثرت فيها على بعض ما يفيد ، وأخبرني أنها نشرت في مؤتمرات مجمع البحوث ، ولكن أين توجد هذه النشرات ؟ قال : ربما تجدها في أكشاك المكتبات حول الأزهر ! أو لا تجدها ، وعدت إلى البيت ولكن بقليل من الفائدة.
نُشرت هذه الحلقة يوم الجمعة 24/4/1431هـ
ــ الحواشي ـــ :
(1) اشتريت الكتاب من معرض السنة اللاحقة على ما يبدو ، فهو موجود في مكتبتي ، وتاريخ شرائه هو 27/1/1976م.
(2) أحضر لي بعد مدة نسخة مصورة من الكتاب على المكروفلم ، جزاه الله خيراً ، وأفدت منها في البحث ، مع أنها لم تكن واضحة تماماً ، وطلب مني النسخة بعد ذلك الدكتور أحمد شرشال ، في أثناء عمله في تحقيق الكتاب في إحدى جامعات المملكة العربية السعودية ، وصدر الكتاب مطبوعاً من مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة سنة 1421هـ، بعنوان : مختصر التبيين لهجاء التنزيل ، والحمد لله .
(3) الأستاذ الدكتور محمد عبيد الكبيسي ، عميد كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد الآن ، وهو من بيت علم ودين ، فأخوه الدكتور حمد الكبيسي ، رحمه الله ، وأخوه أيضاً الدكتور أحمد الكبيسي ، الداعية المشهور .
(4) حققه الدكتور محمد مضحي الزوبعي في أطروحته للدكتوراه التي قدمها إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية في بغداد سنة 2004م ، وأخبرني قبل أيام أنه قد اكتمل طبعه في دار الغوثاني في دمشق ، وعلمت أنه قد حقق في إحدى الجامعات السعودية أيضاً .
(5) تغيرت عندي هذه النظرة ، فقد وجدت أفكاراً متميزة من دراسة المراجع المتأخرة حين بحثت موضوع علم التجويد ، وأحسب أن مراجع رسم المصحف المتأخرة لا تخلو من مثل تلك الأفكار .
الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)
4- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الرابعة)
5- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الخامسة)
6- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السادسة)
7- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السابعة)
8- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثامنة)
9- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة التاسعة)
السبت 1 شباط 1975م = 20 محرم 1395هـ[/align]
منذ أيام نقلت الصحف والأخبار أن أم كلثوم (المغنية) الشهيرة قد انتكست صحتها انتكاسة شديدة ، وظلت الصحف تطالعنا كل يوم بالجديد عن صحتها ، والناس متعلقون بتلك الأخبار متلهفون ! وتحسنت صحتها ، وقالوا إنها قرأتِ الصحف وشربتِ الشاي ، واستقبلتِ الزوار ، وفجأة في ليلة الخميس الماضي انتكست صحة سيدة الغناء العربي مرة أخرى ، ولكن هذه المرة كانت الانتكاسة أشد ، إغماء تام وانفجارات ! في المخ ونزيف ، وتوقع الناس نهايتها ، وصار الأمر حديث الناس ، أكثر الناس ، ومادة للصحف ونشرات الأخبار ، وفي الليلة الماضية وقبيل الحادية عشرة أُعْلِنَ عن موت أم كلثوم ، وتناقلت ذلك وكالات الأنباء ، وبدأت الإذاعة المصرية بتلاوة القرآن ، وأعلنت إذاعة لندن النبأ نقلاً عن راديو القاهرة ، ولكن قبل الثانية عشرة في نفس الليلة أُعْلِنَ أنها لا تزال على قيد الحياة ، وظهرت الصحف في صباح هذا اليوم وعلى صفحاتها الأولى كثير من الأخبار عنها ، وعلي أمين يطلب من قراء الأخبار (أن يُصَلُّوا من أجل أم كلثوم) . قبل أكثر من شهر مات المشير أحمد إسماعيل علي قائد القوات المسلحة المصرية ووزير الحربية واحتفل الناس بتشييعه ، ولكن لم يكن تعلق المصرين به بمثل هذه الطريقة ولا بهذه الشدة والحماسة ، فقد خُصِّصَ لأم كلثوم لها جناح في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي ويقوم على علاجها لجنة من الأطباء ، والاهتمام بها من أعلى مسؤول في الدولة.
[align=center]تعقيب معاملات
الأحد 2 شباط 1975م = 21 محرم 1395هـ[/align]
خرجت مبكراً هذا الصباح ، كنت أريد الذهاب إلى جامعة عين شمس ، وركبت في (الأوتوبيس) وبعد أكثر من نصف ساعة وصلت العباسية ، ومن هناك سرت بضع دقائق لأجد نفسي عند باب الجامعة ، لم يكن في الجامعة دوام لأن الطلبة يقضون العطلة الربيعية ، ولكن إدارة التسجيل في الكليات مستمرة في الدوام ، ذهبت إلى تسجيل كلية الآداب ، أتابع أوراق أبي مجاهد (جليل رشيد) التي قدمتها يوم 22/12 أو ربما في شهر11 إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة عين شمس للقبول لدراسة الدكتوراه في موضوع البلاغة ، وذهبت منذ ذلك التاريخ أكثر من مرة مستفسراً عن مصير الأوراق ونتيجة ذلك التقديم ، أخيراً طلبوا إحضار رسالة الماجستير ، وأرسلت إلى بغداد في طلبها وجاء الجواب من دون نتيجة ، ذهبت اليوم ووجدت الأوراق قد عادت إلى التسجيل ومؤشر عليها أن القسم يعتذر عن قبوله ، وكانت هذه الرحلة بعد رحلة سابقة في دار العلوم حيث قدمت الأوراق هناك ، ولكن الكلية رفضتها ، فقمت بعمل معاملة جديدة عن طريق السفارة والوافدين وتقديمها إلى جامعة عين شمس ، والنتيجة اليوم قد ظهرت صفراً . والوقت والجهد يذهب ثم يبقى بعد ذلك أن الإخوة الذين يكلفون شخصاً بعمل ما ربما يظنون أنه قد قصر في مساعدتهم ، ولا تزال بعض الوصايا غير منجزة ، ولكني أحاول أن أبذل الجهد وما يسمح به وقتي ، إذ ليس عملي الأول هنا تعقيب المعاملات ، ولكن لا بد من مساعدة من لا سبيل له من الإخوة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
[align=center]مع كتاب الدكتور خليل يحيى نامي
الاثنين 3 شباط 1975م = 22 محرم 1395هـ[/align]
كان الدكتور خليل يحيى نامي قد كتب سنة 1935 بحثاً جيداً عن تاريخ الخط العربي قيل الإسلام في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ونشره في كتيب منفصل ، ولما كان الحصول على المجلة غير يسير حاولت العثور على نسخة من الكتاب المطبوع ، وهناك نسخة في مكتبة جامعة القاهرة كما في الفهارس ، لكن يأتي الجواب عند طلبه بأنه غير موجود ، ووجدت نسخة في جامعة عين شمس استفدت منها في السنة الماضية في كتابة بحث فصلي عن الكتابة العربية ، وبالأمس ذهبت إلى جامعة عين شمس لتعقيب معاملة الأخ أبي مجاهد ، وبعدها ذهبت إلى مكتبة جامعة عين شمس ، كنت قد خرجت مبكراً ، وقاربت الساعة العاشرة ولما يحضر من يحتفظ بمفاتيح القاعة ، وحين قّدَّمْتُ طلبا للاطلاع على الكتاب كان الجواب أن الموظف المسؤول عن المخزن غير موجود هذا اليوم (في أجازة) ، ودخلت إلى غرفة المدير فسألته المعونة في الوصول إلى الكتاب ، فقال لي أنت طالب ؟ قلت : نعم في جامعة القاهرة ، قال : إذن لا حق لك في الدخول إلى مكتبة جامعة عين شمس ، وبعد أخذ ورد ، وبعد أن أعرب مدير المكتبة أنه ليس من اختصاصه مثل هذه الأمور الصغيرة بل الحقيرة ! بعد كل ذلك أبدى أحد الموظفين استعداده لإحضار الكتاب ربما بعد أن فهم من لهجتي أني (من بَرَّه) وقاربت الساعة الحادية عشرة وحضر الكتاب ، واستغرقتُ كتابةً وقراءةً فيه ، وكنت حريصاً على الدقة في فهم الموضوع ، لأن هذا البحث من أهم ما كتب عن أصل الكتابة العربية ، وقبل أن تصل الساعة الواحدة والنصف صاح الموظف بأن الوقت انتهى ، لأن هناك عطلة نصف السنة ، وخرجت دون أن أكمل الكتاب ، وعدت اليوم لإكمال مراجعة الكتاب ، وبعد انتظار طويل حضر الموظف قريباً من الحادية عشرة ، أمراض متأصلة عند كثير من الموظفين .
[align=center]وتوفيت أم كلثوم!
الثلاثاء 4 شباط 1975م = 23 محرم 1395هـ[/align]
منذ الخميس الماضي وأخبار أم كلثوم تستأثر باهتمام الناس ، يسمعونها من الراديو أو يقرؤونها في الصحف ، بحوث تكتب عن الأمراض التي ألمت بأم كلثوم ، بحوث وكلام فارغ عن الوحدة التي حققتها أم كلثوم بين الشعوب العربية ، قبل أن يفكر الساسة في ذلك ، وعلي أمين يدعو أن صلوا لأم كلثوم ، ليس هذا فقط فالمسؤولون في الدولة من أعلى مستوى إلى أدناه مهتمون بالوقوف على صحتها من رئيس الوزراء ... لا بل إن كثيراً من الناس في البلاد العربية قد تعلقوا بتلك الأخبار ، السيدة زوجة أبو رقييه ترسل أختها وابن شقيق زوجها .. الأمير فلان يتصل من السعودية للاستفسار ، وهناك لجنة على مستوى عال من الأطباء يشرفون على سير العلاج (ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) وكانت تقارير رئيس اللجنة الطبية منذ يوم الخميس تشير إلى تدهور صحتها ، وتعطل كل نشاط في الجسم ماعدا ضربات القلب الذي يضطرب أحيانا ، الأطباء جادون في استخدام وسائل العلم الحديث في عمل شيء لسيدة مصر ، وفي الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر اليوم أُعْلِنَ أن أم كلثوم لفظت أنفاسها الأخيرة ، ونعتها الحكومة المصرية من أعلى مستوى في الساعة السادسة من مساء هذا اليوم ، وكان الخبر هذه المرة صادقاً ، وذهبت أم كلثوم التي شغلت الشعب العربي مدة خمسين عاما لتلقى جزاء ما فعلت في هذه الأمة المنكوبة بها وبأمثالها ، ولكن كثيراً منهم لا يفقهون !
[align=center]تشييع
الأربعاء 5 شباط 1975م = 24 محرم 1395هـ[/align]
حديث الصحف والناس هذا اليوم عن أم كلثوم ، والعناوين البارزة في الصحف : الشعب يودع أم كلثوم ، في الصباح ذهبتُ إلى مكتبة الجامعة العربية في ميدان التحرير ، ولكن بناية الجامعة كانت مغلقة في وجه الزوار لاجتماع مجلس الدفاع العربي ، ورجعت في نية العودة إلى البيت ، ورأيت ميدان التحرير قد أغلقت الشوارع المؤدية إليه والناس يتدفقون من كل صوب ، وأكاليل الورد تتكدس ، حيث ستشيع أم كلثوم من جامع عمر مكرم إلى جامع (مرسي) ثم تنقل بالسيارة ، وكان إمام جامع الحسين قد صلى عليها في المستشفى فجر هذا اليوم ، ونقلت في الصباح إلى جامع عمر مكرم انتظاراً لبدأ التظاهرة في الحادية عشرة صباحاً ، وقبل ذلك بقليل صُلِّيَ عليها مرة ثانية في جامع عمر مكرم حيث أَمَّ الناس وزير الأوقاف، وبدأت المسيرة يتصدرها رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب والوزراء ، ولكن ما إن تحرك الموكب حتى تدفق الناس واختل برنامج السير ، فلاذ رجال الحكومة بالتنحي جانباً .. وسارت الجموع تحمل الجنازة إلى ميدان طلعت حرب ، ومن هناك تغير اتجاه الجنازة تحت ضغط الجماهير ، وتحولت المسيرة عبر شارع قصر النيل إلى العتبة ، ثم إلى جامع الحسين حيث صُلِّيَ عليها للمرة الثالثة ، ثم نقلت من هناك إلى حيث توارى في مثواها الأخير ، إن الإنسان ليصاب بخيبة شديدة حين يرى كل هذا التعلق بمغنية ، ولتكن ما تكن ، فالاهتمام بالأمر من أعلى رجل في الدولة إلى رجل الشارع الذي لا يجد ما يسد به رمقه .
[align=center]شغالة أخرى
الخميس 6 شباط 1975م = 25 محرم 1395هـ[/align]
من المشاكل التي يعانيها المقيم في القاهرة هي مشكلة أعمال البيت بالنسبة لغير المتزوجين خاصة ، إذ إن وجودهم هنا مرتبط بأعمال وواجبات عليهم أن يسعوا في إنجازها ، ولهذا فهم مضطرون إلى الاستعانة بشغالة تقوم بأمر البيت من طبخ وغسل وتنظيف ، ولكن عالم الشغالات هنا يبدو أنه غير موثوق إلا في النادر ، ونحن لم نعانِ من المشكلة إلا القليل ، منذ السنة الماضية كانت أم محمود تعمل عندنا ، وهي ليست محترفة أصلاً ، وعملت عند بعض العراقيين ، فكنا مطمئنين إلى عملها ووجودها في الشقة وقت خروجنا منها ، لكنها انقطعت عن العمل منذ نهاية الشهر الماضي ، وبدأنا بالعمل على تأجير شغالة جديدة ، ووعد البواب بإحضار شغالة على معرفته وبضمانته ، وحضرت الشغالة مساء أمس ، واتفقنا أن تحضر صباح اليوم للاتفاق على الأجر ، فإذا بها تدعي أنها كانت تعمل بخمسة عشر جنيها ، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون تسعيرة ، وعندما أخبرها الأخ خليل أن الذي ندفعه هو ستة جنيهات ، انهارت وتنازلت إلى الثمانية ، وأخيراً وافقت على الستة ، وبدأت تعمل وحاولنا أن نشعرها بأننا سنزيدها جنيهاً إن هي أحسنت التصرف ، وهي لا تعرف من طبخ العراقيين شيئاً ، فإننا نحتاج إلى طبخ التمن والمرق . ولكن الأهم من ذلك أن تتوافر فيها الأمانة ، التي هي أهم شيء ، وبدونها تفسد كل الأمور.
[align=center]زيارة معرض الكتاب
الجمعة 7 شباط 1975م = 26 محرم 1395هـ[/align]
اليوم هو آخر أيام افتتاح معرض الكتاب ، ذهبت منذ افتتاحه ثلاث مرات واشتريت من الكتب بأكثر من ثلاثين جنيهاً ، ولكن ظلت في نفسي رغبة كبيرة في شراء بعض الكتب ، فقلت لا ينبغي أن أضيع آخر فرصة ، وذهبت بعد صلاة الجمعة برفقة الأخ محمد أحمد محمود ، وكنت أتذكر أماكن الكتب التي أرغب في شرائها ، وكذلك كنت أرغب في شراء مصحف كريم بطبعة رائعة ومجلد تجليداً لطيفاً ، أحدث نفسي بإرساله إلى العراق هدية للوالد الذي يقرأ بمصحف ربما كان مطبوعاً في الإستانة منذ زمن بعيد ، وعند الغروب كنا نهم بالخروج ، اشتريت مع المصحف هذه المرة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ، وكتاب منهج الفن الإسلامي ، وكتاب الأفكار في العالم الإسلامي ، وكنت أرغب في شراء بعض الكتب الأخرى ، وقد تعاون عاملان على إهمالي شراءها ، أولاً ذكرى نقلها إن شاء الله وأنهيت الدراسة ، وثانياً ارتفاع الثمن ، فالأسعار بصورة عامة مرتفعة ولكن بعضها مرتفع جداً ، فمثلا كتاب اللغة العربية للدكتور محمود فهمي حجازي بأربع جنيهات ربما ونصف ، وهو كتاب عام يتحدث عن اللغة العربية وعلاقاتها ومصادر اللغة والنحو وبعض الظواهر اللغوية ، ليس فيه عمق بل اتساع من غير تركيز ، وراجعت المكتبة التي تعرضه أكثر من مرة وأصروا على السعر ، وقررت ألا أشتريه(1) ، كذلك الحال مع بعض الكتب الأخرى . ومهما يكن من أمر فإن معرض الكتاب كان فرصة لحصولي على بعض الكتب التي كنت أعتبر الحصول عليها حلماً ، والحمد لله أولاً وآخراً.
[align=center]مشاغل جانبية
السبت 8 شباط 1975م = 27 محرم 1395هـ[/align]
أشعر الآن أن عملي ليس بالمرضي ، خاصة بعد أن أنهيت الاطلاع على أكثر مخطوطات دار الكتب المصرية ، أحياناً يكون العذر الانشغال بمتابعة معاملة صديق ، وأحيانا طلب مصدر قد لا أجده إلا بصعوبة ، فاليوم خرجت من الصباح لأقرأ ساعة واحدة في مكتبة معهد الدراسات العربية في كشف الظنون ، ثم ذهبت إلى الكلية في متابعة بعض القضايا ، وأهمها تكليف السيد رشيد نعمان التكريتي بأن أقدم أوراقه إلى قسم الأدب لتسجيله بقسم الدكتوراه ، وكذلك الحصول على الرسالة المناقشة في دار العلوم (الواقعية في الشعر المصري) وأنجزت بعضها وظل الكثير ، وكذلك كنت أحاول مقابلة الأستاذ المشرف للحصول منه على ورقة إلى المسجل لتزويدي بكتاب إلى بعض المكتبات : الأزهر ، والجامعة الأمريكية ، ولم أحقق من ذلك شيئاً ، وقبل نهاية الدوام ذهبت من الكلية إلى جامعة القاهرة لأقف على نتيجة تقديم أوراق الأخ منذر كمال إلى كلية الحقوق لدراسة الماجستير ، وكنت قد راجعت أكثر من مرة حول الموضوع ، وفي هذه المرة كان جواب جهات الأمن قد وصل ، وحاولت أن أنجز له شهادة لأبعثها إليه ، ولم يبق إلا تصديق دائرة الوافدين والسفارة ، وهذا ما سأفعله غداً، إن شاء الله ، وعدت إلى البيت وأنا أشعر بتعب ليس بالقليل ، وربما كان يرافق ذلك إحساس بحزن وأسى في الداخل من غير وضوح السبب ، وجاء المساء وحاولت أن أقتنص ساعات أراجع فيها بعض الموضوعات ، لأبدأ في الصباح من جديد ، إن شاء الله .
[align=center]سرقة
الأحد 9 شباط 1975م = 28 محرم 1395هـ[/align]
الشغالة الجديدة كانت تبدو مسكينة جداً ، وقد اطمأننا إلى ذلك حتى نسينا أنا في مصر ، حضرتْ للعمل يوم الخميس وعملت يومين فقط ، ولكنها قد أبدت جملة من التصرفات كنا في غفلة منها ، فقد طلبتْ من أول يوم عملت فيه أجرها ، ورأفة بحالها ونتيجة إلحاحها أعطيناها جنيهين ، وبدأت تلعب لعبتها ، كنا في حاجة إلى سمن وسكر ، وراحت إلى الجمعية القريبة ، وعادت تدعي أنها ليس فيها شيء ، وقالت إنها ستجلب هذه المواد من منطقة سكناها في إمبابة ، ولهذا أخذت بعض الفلوس ، وكانت تحاول إقناعنا أن تجلب كميات كبيرة ، ولم نحس مع كل ذلك بأدنى شك في نياتها ، وأخذت جنيها وعشرة قروش ، ولم تعد منذ صباح اليوم الماضي ، وفي مساء هذا اليوم خرجت مع الأخ خليل للبحث عنها ، أخذنا عنوانها من البواب الذي يزعم أن عنوانها هو 65 شارع المسجد الأقصى في الكيت كات في إمبابة ، خرجنا مع صلاة المغرب وصلينا في جامع خالد بن الوليد في إمبابة ، وسألنا هنا وهناك والكل لا يعرفون شيئاً عنها ، وأخيراً ذهبنا للقسم (الشرطة) وإذا بهم لا يقلون فوضى عن غيرهم ، ولم نعثر عندهم على شيء ، وسألنا في دائرة بريد إمبابة ، فعرف أحد الموظفين العنوان ، ويبدو أنه موزع رسائل ، عرف اسم الشارع ودلنا عليه ، ولكنه استغرب من الرقم لأن الشارع ليس فيه أكثر من عشرة أرقام ، وركبنا إلى مدينة المهندسين ، وأخيراً وجدنا الشارع وإذا به كما وصفه موزع البريد ، ثم هو في منطقة راقية وقصور جميلة مشيدة ليس لأم عماد موطئ قدم فيها ، وبعد ثلاث ساعات من البحث أيقنا أننا خدعنا ، وأن أم عماد لا سامحها الله قد سرقتنا ، والمشكلة ليست في سرقة ثلاثة جنيهات ، وإنما في العثور على شغالة أخرى !
[align=center]مناقشة رسالة في رسم المصحف
الخميس 13 شباط 1975م = 2 صفر 195هـ[/align]
مضى أسبوعان قبل اليوم ، ولكني لم أستفد منهما إلا القليل ، كان الأسبوع الأول أيام افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب ، فإني ذهبت مرات عديدة ، وهذا الأسبوع تخلله قلق وبحث عن شغالة جديدة ، ثم محاولة رأب الصدع بعد أن سرقتنا الشغالة الجديدة ، وفي هذا الأسبوع ترددت إلى مكتبة الجامع الأزهر بعد أن قضيت يوما في الحصول على كتاب من الكلية ، ويوم الاثنين الماضي مساء حضرت مناقشة رسالة : (رسم المصحف ونقطه) لعبد الحي الفرماوي في جامعة الأزهر بكلية أصول الدين ، وكنت قلقاً قبل هذه المناقشة ، إذ كنت أعتقد أننا نبحث في موضوع واحد واتجاه واحد ، وقد تبين أن بحثه يتركز على الحكم الشرعي في جواز أو عدم جواز الخروج على الرسم العثماني وكتابة المصحف بالإملاء الحديث ، وحصل الطالب على الدكتوراه بمرتبة الشرف الثانية ، وفي اليومين الأخيرين : الثلاثاء والأربعاء كنت أذهب مع الأخ خليل إلى بيت الأستاذ كاظم الراوي الذي توفيت والدته - رحمها الله - في العراق منذ أيام ، وجاءه نعيها هذه الأيام ، ومضى هذان الأسبوعان ، لا أقول بدون فائدة ، ولكن بفائدة محدودة ، وبدأت أحس أن الوقت يمضي بسرعة ، والذي يزيد همومي هو أن المصادر كثيرة ، ولكنها ليست في صلب الموضوع وكثير منها مخطوط .
[align=center]الشيخ عايش الكبيسي
الجمعة 14 شباط 1975م = 3 صفر 1395هـ[/align]
ذهبت صباح هذا اليوم إلى الإخوة السوريين في جسر السويس : سعد وعبد المهيمن وحسام ، وذلك لأن أبا عامر مسافر قريباً إلى سوريا ، وتكفل بأن يساعدني في تصوير مخطوطة التنزيل في هجاء المصاحف(1) ، من الدار الظاهرية في دمشق ، إذ إنه سيسافر قريباً بعد أن يكون قد أكمل الدراسة في الكلية الطبية في الأزهر ، ثم يعود لقضاء سنة الامتياز ، وعدت من هناك مسرعاً ، وصليت الجمعة في مسجد الجمعية الخيرية في شارع الجلاء قرب ميدان رمسيس ، حيث كانت الصلاة بأذان واحد ، وكانت الخطبة تمس واقع الناس والمسلمين ، وعدت إلى البيت لأجد الأخ خليل مع الأخ الأستاذ الشيخ عايش بانتظاري ، إذ إن الأستاذ عايش قد دعانا إلى تناول الغداء في بيتهم ، ذهبنا وكان الغداء على شرف محمد الكبيسي(2) على ما يبدو ، وحضر الدكتور عناد الكبيسي الملحق الثقافي ، وحضر بعض معارف الأخ عايش ، الذي أنهى الآن الماجستير في كلية الحقوق ، بعد أن نجح في امتحان الدبلومين ، وينتظر التسجيل في قسم الدكتوراه في الحقوق أيضاً ، وهو يعمل في العراق في الأوقاف خطيباً وإماماً لجامع الحيدرخانة في بغداد .
لعل هناك أحداثاً عظيمة تدور الآن في المجتمعات العربية والإسلامية والعالم تستحق التسجيل أو الإشارة ولكني أوثر تسجيل ذكرياتي الخاصة ، لعلها تكون مؤنسة لي في ساعة الوحشة ، والله المستعان .
[align=center]متاعب
السبت 15 شباط 1975م = 4 صفر 1395هـ[/align]
خرجت صباح اليوم على عجل ، ووقفت أنتظر الأتوبيس رقم 190 الذي يأتي من إمبابة ويذهب إلى الدرَّاسة مارًّا بالأزهر ، وجاء وإذا الناس معلقون بالأبواب ، قلت أنتظر التالي ، ومر أكثر من نصف ساعة وجاءت السيارة الثانية وكانت كالتي سبقتها ، ولكني كنت مرغماً على التعلق بالباب وقطعت تذكرة ، وطلب منا الجابي(الكمساري) أن ننزل ونصعد من باب النزول الأمامي فربما يوجد فراغ ، نزلنا اثنان أو ثلاثة ، وما كدت أقف في مقدمة السيارة حتى وجدت الجابي يصعد من أمام ويصيح بعصبية ويطلب قطع تذكرة ، ولما مددت يدي تناولها بسرعة وأمسك بالتذكرة التي قطعها لي وأعتذر بأنه شك ، وقفت السيارة في إشارة للمرور وكانت أمامها سيارة تكسي قد ارتكب سائقها مخالفة ، وحاول الشرطي أن يسجل عليه محضراً ولكن سائق السيارة مد يده إلى الشرطي ببضعة قروش فأعفاه ، وصلت بعد جهد وجهاد إلى مكتبة الجامع الأزهر ، وإذا بالقاعة مظلمة : (النور مأطوع) ، وتذكرت أنه انقطع ظهر يوم الأربعاء الماضي ، وكنت قد حضرت الخميس ، وكان أيضاً مقطوعاً ، واليوم مقطوع أيضاً ، والموظفون مكدسون على المناضد يطردون الطلاب ، وبعد كلام غير مُجْدٍ مع الموظفين خرجت إلى مكتبة المشهد الحسيني التي تبيع أكثر ما تبيع المصاحف ، كنت قد استوهبت مصحفاً بالخط المغربي ، وكانت لديهم طبعتان ، وأردت أن أبدل الطبعة ، وبعد أخذ ورد مع صاحب المكتبة خرجت من غير عمل شيء ، وقلت لأذهب إلى دار الكتب في البناية الجديدة لأطلع على بعض المخطوطات ، وكنت هناك في الساعة الحادية عشرة ، ومكثت أكثر من ساعتين ، وخرجت وإذا بالموظف يطلب تفتيش ما أحمله شكاً منه بأني سرقت مخطوطاً ! وعدت إلى البيت ، وحاولت في المساء أن أدرس ساعتين، أو ثلاثاً .. وبين تنظيف الأواني وأمور تافهة أخرى وأخرى جادة انتهى اليوم ، وأويت إلى الفراش ، وأنا أنتظر الفراغ من هذه السطور لأنام !
[align=center]أمسية جميلة
الأحد 16 شباط 1975م = 5 صفر 1395هـ[/align]
حين تمضي الأيام والمرء يتعامل مع عامة الناس هنا في القاهرة فإنه يصاب بخيبة أمل كبيرة لفساد هذه العامة ، أينما تتجه لا ترى إلا تهاون الناس واستشعارهم الذل والمهانة أمام بريق الدنيا ورنين الفلوس ، ولكن بين الحين والحين كانت تنتشلنا من هذه المشاعر ومن اليأس والقنوط نقلات كأنها الحلم لكنها واقع ، ربما قبل شهر كانت إحدى تلك النقلات عندما خرجنا خارج القاهرة إلى بلدة (العرب) واليوم كانت نقلة أخرى ، فقد كان الإخوة سعد و عبد المهيمن قد أكملا الدراسة في الكلية الطبية ، وأقاموا مأدبة عشاء دعونا إليها ، وكانت لقاء رائعاً ، فقد حضر إخوة لنا من هذا البلد غسلوا هذا الهباب الذي يغطي وجه مصر ، وقدموا صفحة من واقع مصر لا يكاد المرء يتصور أنها موجودة ، ويحس المرء أنه تحت ضغط هذا الواقع البائس المضطرب المنحل تكمن عوامل بقاء المجتمع وعوامل بناء الغد المنشود ، وأن هذا الرماد لا يمكن أن يخفي جذوة النار إلى الأبد ، ولكن تظل الأمور على كل هذا القدر من الغموض حتى يأذن الله بالجولة الفاصلة التي ينتصر فيها الحق على يد القلة المؤمنة الخيرة ، ويندحر الشيطان وأخلاقيات الطواغيت ، وكأن ساعة تلك الجولة لم تحن بعد !
[align=center]التراث المخطوط
الاثنين 17 شباط 1975م = 6 صفر 1395هـ[/align]
قد فتح لي بحث الماجستير آفاقاً واسعة لم أكن أحلم بها من قبل ، ووضعني على جوهر لم أكن أتصور أني سوف أصل إليه ، جوهر الأصالة في الثقافة الإسلامية ، وبدأت أدرك كثيراً من الأمور التي كانت غائمة في تصوري ، واتضحت لي أمور كانت شائكة ، وعرفت فساد كثير مما يذهب إليه جنود الباطل في تشويه حقيقة هذا الدين والطعن عليه ، إضافة إلى أني بدأت أُلِمُّ بموضوع القراءات القرآنية وأعرف الكثير من تفاصيلها بعد أن كنت لا أكاد أعرف أسماء القراء ، لكن علامات الاستفهام لا تزال كثيرة من حولي وأجد دائماً الجواب في الداخل ، وأنتظر لعلي أجده في طيات الكتب ، وهنا تبدو الأمور محزنة فأكثر التراث لا يزال مخطوطاً ، وكثير من المخطوطات قد ذهبت به الأيام ، وما وصل مشتت في أرجاء العالم ، ومن يستطيع أن يصل إليها ؟ وما يوصل إليه لا يخلو من المشاكل والصعاب ، وهذا التراث ينتظر مجهوداً ضخماً لكي يخرج إلى نور الحياة من ظلمات المكتبات ، ويطلع العالم على حقيقة ناصعة من خلال هذا التراث ، لكن ذلك أمر قد تعجز عنه جهود المؤسسات والحكومات بله الأفراد والهيئات ، وكيف مع هذا الخمول الذي تخفيه هذه الشعارات الكاذبة والدعاوى الفارغة من اهتمام بالتراث وحرص عليه ابتغاء عرض زائل ، ولكن لا يخلو الأمر من الجهود المخلصة.
[align=center]العمة مائير!
الثلاثاء 18 شباط 1975م = 7 صفر 1395هـ[/align]
قبل أيام كان كيسنجر يغدو ويروح بين عواصم المنطقة في جولته الثامنة ، أو أكثر من ذلك ، جاء ليتم ما بدأ به أو أن يخطو خطوة أخرى نحو توفير السلام لإسرائيل ، وقد مضى على حرب رمضان سنة ونصف تقريباً ، والأحوال تتجمد وأمريكا وروسيا ودول أخرى تلعب لعبتها وتنفذ سياساتها في الشعوب الفقيرة المستضعفة وتبيع السلاح والطعام وتمتص الدماء ، وإسرائيل لها في تلك الدول من الوسائل ما ترهب به القائمين على الأمر فيها ، وتُسَيِّرُهُم كما تريد هي ، والعرب مستضعفون خذلوا أنفسهم حين تخلوا عن الدين الذي ارتضاه الله لهم ولغيرهم ، وهم يملكون الآن من الموارد ما لا يحصل عليه بلد آخر مما يبيعون من النفط وما يمكن أن تأتي به الأرض من معادن أخرى ومن غلال ، ولكن لا يزالون ينتظرون السلام من أمريكا وروسيا على يد كيسنجر وگروميكو الذي ساهم في زرع هذا السرطان في ديار الإسلام ، والمحزن أن هنري كان يصرح في أمريكا قبل أسابيع باحتمال غزو الدول المنتجة للبترول والاستيلاء على حقوله ، ثم اليوم يُسْتَقْبَلُ بالأحضان كما يقولون ، هنري الذي يسمي گولدا مائير العمة ، ولا شك في أن اليهود كلهم أبناء للعمة ، هو المؤتمن الآن على مستقبل هذه البلاد التي خان حكامها الأمانة منذ أن تعلقوا بالشرق والغرب ، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً .
[align=center]شرح العقيلة للجعبري
الأربعاء 19 شباط 1975م = 8 صفر 1395هـ[/align]
كنت أتردد هذا الأسبوع على قسم المخطوطات في دار الكتب المصرية ، إذ لا تزال هناك مجموعة من المخطوطات القيمة التي ينبغي أن أطلع عليها ، وقد اطلعت هذا الأسبوع على جامع البيان في القراءات السبع المشهورة لأبي عمرو الداني ، وجمال القراء وكمال الإقراء لعلم الدين السخاوي ، ومنذ يوم أمس بدأت أقرأ في شرح الجعبري على عقيلة أتراب القصائد ، ويبدو لي أن هذا الشرح من أوسع الشروح ، فالشاطبي المتوفى سنة 590هـ نظم كتاب المقنع لأبي عمرو الداني في قصيدة رائية سماها عقيلة أتراب القصائد ، وضمنها إضافات عليه ، ثم بدأت الشروح عليها ، وكان أول من شرحها تلميذ الشاطبي علم الدين السخاوي ، وشرحها الحصاري تلميذ السخاوي أيضاً ، ثم شرحها الجعبري شرحاً بسيطاً سماه جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد ، ومنه ثلاث نسخ خطية :(3) إحداها في دار الكتب المصرية ، والأخرى في المكتبة الأزهرية ، والثالثة مصورة في معهد المخطوطات العربية عن إحدى المكتبات في السعودية ، إن ذهابي إلى دار الكتب صباحاً طبعاً ، ثم أمكث في المساء في البيت أدرس المراجع التي أملكها أو أستعيرها من المكتبة ، قبل أن ألجأ إلى الفراش لأستريح من متاعب النهار والاستعداد لرحلة الغد ، ولا تزال هموم البحث في ازدياد ، إذ مضى الآن ما يقرب من أربعة أشهر على عملي وأشعر أني لم أحقق إلا القليل ، وأنا حريص على إنجاز هذا البحث بعون اله في أقرب وقت، لعلي أتمكن من العودة إلى العراق .
[align=center]صلاة الفجر مرة أخرى
الخميس 20 شباط 1975م = 9 صفر 1395هـ[/align]
لم أشعر بارتياح قط مثل تلك الأيام التي كنت أصلي فيها صلاة الفجر في وقتها قبل طلوع الشمس ، فإني كنت أشعر بفرحة داخلية عظيمة كل يوم كنت أصلي فيه الفجر في وقتها ، ولكن ما أقل تلك الأيام منذ نزولي في القاهرة ، وكنت في الأيام التي تطلع الشمس وأنا نائم أظل طيلة اليوم أحس بأني مقصر وأشعر أن بركة عمل ذلك اليوم تذهب ، ولا تزال الحال كذلك وأنا أُمَنِّي النفس وأقول إن المستقبل كفيل بوضع حد لهذا التهاون ، ولكن من الذي يضمن لك المستقبل ؟ من الذي يضمن لك اليوم أو غد ، وأنت بلغت مبلغ الرجال ؟ أجل فقد ودعت أيام الصبا التي قد يحصل معها الإهمال ، ولكن ما العذر الآن وقد جاوزت الخامسة والعشرين ، ثم إني الآن أعد نفسي لخدمة القرآن ، وليست كذلك أخلاق حملة القرآن ، ألا فانتبه ، وعاهد الله في مستقبل الأيام ، واغتنم هذه الفرص قبل فوات الأوان (يوم يعض الظالم على يديه) ، وعندها تتذكر قوله تعالى : (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) ، فاغتنم هذه الأيام إن كتب الله لك فيها حياة ، اللهم إني راجع فأعني على طاعتك ، اللهم إني تائب فإن قضيت أجلي قبل هذا الصباح فاغفر لي وٱؤجرني أجر التائبين ، اللهم وبارك لي في عملي واجعله لك لا أبغي به جاهاً ولا دنيا ، اللهم وعلمنا أحب الأعمال إليك وأعنا على أدائها ، اللهم اقبل هذه التوبة وأعني عليها إنك أنت الغفور الرحيم !
[align=center]أحاديث الوحدة العربية
السبت 22 شباط 1975م = 11 صفر 1395هـ[/align]
منذ أن تفتحت عيناي وأبصرتا الناس بوضوح ، وسمعت أذناي ما يهرج به الناس ، ومنذ أن عَقِلْتُ بعض الأمور ، كانت لفظة الوحدة تتردد على مسامعي ، كنا طلاباً في الدراسة الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية ، فنشارك مع الجم الغفير من الناس يقودهم عتاة مجرمون يرددون شعارات كاذبة جوفاء : الوحدة العربية ، وأحياناً الحرية ، وأخيراً ثالوثهم المقدس : الوحدة والحرية والاشتراكية ، ويمكن أن تُقْرَأَ على غير هذا الترتيب في غرب العالم العربي ، وحدثت الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 وتحطمت ، ثم سنة 1963 بين العراق وسوريا ومصر وماتت في مهدها ، ثم بين مصر وسوريا وليبيا والسودان وظلت حبراً على ورق ، وكلام فارغ كثير حول الوحدة القومية ، وقلوب الناس متباعدة وأطماعهم متضاربة ومتعارضة وأحقادهم لا حد لها ، والأعداء يُنَمُّونَ الدعوات المريضة ، إن وحدة بدون عقيدة تحيطها ستنقلب وبالاً على أهلها من أول يومها ، وما أثار في نفسي هذه المعاني وتلك الذكريات ما جرى اليوم من عطلة في المدارس والجامعات بمناسبة ذكرى الوحدة مع سوريا ، والتي كانت نهايتها محزنة ، والحديث عن الوحدة والاتحاد كثير ، يجري على لسان أكثر رؤساء الدول العربية وكأنها المُهَدِّئُ الذي ينفثونه في أسماع الناس يلهونهم به إلى حين ، ويَذُرُّونَ في عيونهم الرماد والملح حتى لا يبصروا بعض ما يدبرون وما بأيديهم يجرحون ، كلام كثير في هذا الشرق المسكين أهله .
[align=center]الشاهد
الاثنين 24 شباط 1975م = 13 صفر 1395هـ[/align]
حين يحصي المرء المصلين الذين يؤمون المساجد لصلاة الجمعة فإنه سيندهش للرقم الذي يصل إليه ، عدد ضخم ذلك الذي نشاهده كل جمعة في أي مسجد نصلي فيه في القاهرة ، والحال كذلك في غير القاهرة ، وغير مصر من بلاد العرب والمسلمين ، ولكن هنا يظهر سؤال كبير : ما هو الدور الذي ينتظر هؤلاء القيام به أو ما هو الواجب المكلفون به ؟ وهل أن حضورهم صلاة الجمعة وصيامهم رمضان وذهابهم للحج هو وحده كاف أو فيه إجابة كاملة لدعوة الله أو إقامة حكمه وتطبيق شريعته ، كان ذلك التساؤل مدار بحث ونقاش بل وجدل مع أحد الإخوة ، فهو يرى أن دور المسلم الآن هو دور الشاهد ، ثم ينتقل من ذلك إلى وجوب عرض النموذج الكامل للمسلم ، ولو كان ذلك في ظل الجاهلية ، وأن كل محاولة أو تفكير في حكومة إسلامية يعتبر خروجاً على واقع العصر ومحاولة للقفز في الهواء ، واستعجالاً للأمور قبل أوانها ، وهو يرى أن موعد ذلك لم يحن بعد ، وأنه لم يلمس من الحكومات ضغطاً على المسلمين في أداء شعائرهم ، وهذا هو مفترق الطرق ، هو يرى أن الإسلام يمكن أن ينحصر في شعائر التعبد وأن الحكومة الإسلامية ليست شرطاً في ذلك ، ولكن أليس تعطيل شريعة الله في إقامة الحدود وتحكيم شرع الله في أمور الناس أليس ذلك نقضاً لركن عظيم من أركان الإسلام ، أليست المعاناة اليومية التي يعانيها المسلم جراء اضطراره للتعامل مع مجتمع جاهل توجب التغيير ، ألم يأمر الله تعالى أمراً واجباً بالجماعة التي تقيم الشرع وتحمل الناس على اتباع منهج الحق ، لكنه يرى أن موعد ذلك لم يحن بعد ، ولكن مع ذلك فإن عدم التفكير فيه يعد تقصيراً وقصوراً في فهم أبعاد هذا الدين الحنيف.
[align=center]خطبة الجمعة
الجمعة 28 شباط 1975م = 17 صفر 1395هـ[/align]
ربما لم أسمع في حياتي خطبة جمعة أثرت في نفسي والحاضرين كالتي سمعت اليوم ، كان مسجداً صغيراً تحت إحدى العمارات القريبة ، لكنه نظيف والقائمون عليه أناس طيبون كما يبدو ، مسجد عمر بن عبد العزيز في حي الإعلام في القاهرة ، كنا نصلي فيه بعض الأوقات وبعض الجمعات ، وكان أن ذهبنا اليوم لصلاة الجمعة فيه ، ليس فيه خطيب دائم وإنما يتناوب على الخطبة فيه عدد من الخطباء ، كان خطيب اليوم جديداً علينا ولأول مرة نراه ، كان كهلاً قد غلب الشيب على لحيته القصيرة ، وهو يلبس لباس الحضارة العصرية ، وعلى رأسه طاقية بيضاء خفيفة ، موضوع الخطبة كنت قد سمعته أكثر من مرة من عدة خطباء لكن هذه المرة سمعت ما لم أسمعه من قبل ، كان الحديث يدور حول قوله تعالى : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ذلك أزكى لهم ، والله خبير بما تصنعون ، وقل للمؤمنات ...) غاص في الأعماق ونثر الدر وتناثرت دموع الحاضرين ، وراح كل يعاهد نفسه ويجدد التوبة بالإقلاع عن شيء مما نهت عنه الآيات ، والتزام ما أمر الله به ، كان يتكلم بصراحة عن مشاكل ومفاسد الناس الاجتماعية الأخلاقية ويضع مقابلها فضائل الدين وفضائل المسلمين ، النقاء والطهر مع الإيمان ، والقذارة والرذيلة مع الكفر ، خرجنا من الصلاة ونحن شبه ذاهلين ، والخطيب يقول أثقلت على المسلمين وهم ينادون جزاك الله عنا خيراً ، الإسلام لا يحتاج إلا إلى الفرصة التي يظهر بها على الناس بنصاعته ونقائه فيسلمون ، ولكن أين تلك الفرصة وأين جنودها ؟
[align=center]متعة السباحة في المحيط !
السبت 1 آذار 1975م = 18 صفر 1395هـ[/align]
كأني قد غصت في بحر تصطخب لججه ، ويتباعد قراره ، وتمتد جنباته ، منذ أن بدأت البحث في موضوع (رسم المصحف) وقد مضت اليوم أربعة أشهر على بداية البحث ، وكلما مرت الأيام كلما وجدت نفسي أسبح في محيط أوسع ، واحتاج إلى يد أطول وتجديف أسرع ، ولكني بدأت أحس أني قد قطعت بعض الشوط ، بعد أن استنفدت كثيراً من مصادر البحث الرئيسية ، وبعد أن كدت أستنفد ما عثرت عليه من كتب مخطوطة تتعلق بالبحث ، وقد كانت رحلة طويلة وممتعة عبر العديد من المخطوطات : فضائل القرآن لأبي عبيد ، ثم جمال القراء للسخاوي ، وجامع البيان لأبي عمرو الداني ، ثم عقيلة أتراب القصائد وشروحها الكثيرة ، لكني آثرت دراسة شرحين : أولهما شرح علم الدين السخاوي تلميذ الناظم والثاني شرح الجعبري إذ هو أوسع الشروح ، وقد أكملت نسخ القصيدة، وسأظل إن شاء الله طيلة هذا الشهر أتردد على دار الكتب ومكتبة الأزهر ، حتى أستنفد كل ما يمكن أن أستفيد منه من الكتب المخطوطة لأتفرغ لما ينتظرني من كتب مطبوعة ، وخاصة في موضوع الكتابة والقراءات ، ولكني رغم ما أنجزته من خطوات في البحث أشعر أن الطريق لا يزال طويلاً ، وأن نهايته غير واضحة تماماً ، وإن كنت قد اطمأننت إلى بعض النتائج الآن ، لكن التفاصيل لا تزال طي الغيب ، والله المستعان .
[align=center]عوائق
الأحد 2 آذار 1975م = 19 صفر 1395هـ[/align]
ليس للوقت قيمة في هذا البلد ، فالموظف الذي يتربع عرش المسؤولية في دائرة ما تشعر أنه يعاملك بمستوى التفضل والإحسان لا من مبدأ الواجب والإلزام ، خرجت في الصباح متصنعاً السرعة قاصداً دار الكتب المصرية ، فلا تزال بعض المخطوطات التي أجد من الضروري الاطلاع عليها أو بعضها ، ربما كنت أول داخل إلى قسم المخطوطات ، وجلست أنتظر قدوم الموظف الذي يناول الكتب ، وقدمت الطلب ، وبعد وقت من الانتظار ، رجع ليخبرني أن باب مخزن المخطوطات مقفول ، وأن المفتاح أو القفل عطلان ، ويجب الانتظار لحين حضور (الباش مهندس) بعد يوم أو يومين حتى يصلح الباب ، ووجدت نفسي مجبراً على الخروج ، قلت لعلي أستطيع أن أستفيد من بقية هذا الصباح ، وركبت الأوتوبيس مُعَلَّقاً على الباب ، ونزلت في العتبة لأركب مرة أخرى أو أمشي ربع ساعة ، ركبت إلى مكتبة الأزهر ، ودخلت المكتبة ، كنت قد غادرتها من قبل ، منذ وقت طويل عندما كان النور مقطوعاً ، وتذكرني الموظفون ، وطلبت كتاباً ولم تمضِ إلا برهة من الوقت حتى نادى المنادي تفضلوا يا أسياد الساعة الواحدة والنصف ، وخرجت من المكتبة ، ولم أكن قد كتبت إلا الشيء اليسير ، وعدت إلى البيت متعباً ، وتتكرر هذه الحالة تقريباً في أكثر الأيام ، تقوم المعوقات في طريق الحصول على المصدر النافع ، وإني أشعر أن وقتاً كثيراً يذهب من غير فائدة ، ولكن ليس إلى غير ذلك سبيل.
[align=center]الشروح المتأخرة!
الاثنين 3 آذار 1975م = 20 صفر 1395هـ[/align]
شعرت أني قضيت مع بعض المخطوطات أكثر مما يجب ، أو أكثر مما يمكن أن يحقق القدر القليل من الفائدة التي استفدتها منها ، ولا شك في أن بعضها كان يستحق وقفة أطول ، ولكن كل الكتب المتأخرة(4) كان يمكن أن أضرب عن أكثرها صفحاً ، وخاصة شروح العقيلة ، التي كان يمكن أن أقتصر منها على شرحين اثنين هما شرح السخاوي وشرح الجعبري ، ومع أني اعتمدت عليهما أساساً إلا أني أنفقت وقتاً طويلاً مع غيرهما ، وقد أنفقت حوالي الأسبوع في نقل قصيدة الشاطبي في الرسم من بعض المخطوطات ، إذ كان جهدي كله متجهاً لإنجاز نقل نص القصيدة في الأسبوع الماضي ، ولكن عندما ذهبت اليوم إلى مكتبة الحلبي وسألت عن القصيدة التي عرفت أنها طُبِعَتْ عندهم ، قدموا لي شرح ابن القاصح لها متضمناً النص ، عندها ندمت على تلك الجهود وذلك الأسبوع المُضَاع من العمل ، ومع ذلك فإن الذي نقلته كان كثير الغلط ، بالنسبة إلى هذه النسخة المطبوعة ، ومن هنا بدأت أصرف النظر عن بعض المصادر التي أجدها لا تمت إلى البحث بصلة قوية أو أنها تمثل تكراراً واجتراراً لأمور قد قيلت ، ومع ذلك فإني لا أزال أشعر بحيرة حول ما يجب أن أنهجه في العمل في مستقبل الأيام ، والجهة التي يجب أن أركز الجهد عليها ، ولا بد من تجميع تصور موجز لخطوات العمل اللاحق ، إن شاء الله.
[align=center]الطير الهائمة
الثلاثاء 4 آذار 1975م = 21 صفر 1395هـ[/align]
الطير هائمة تحوم في السماء
ليس لها في الأرض مهبط
قد عافت الأرض من نتن الدماء
من الوحوش الضاريات من البشر
من لهب تأجج يحرق أزهار الربيع
وتطلعتْ نحو السماء لعلها تصل النجوم
ورفرفت بجناحها خلف السحاب
قد غاب عنها منظر الأرض الحزين
حتى الطيور لم تعد تحتمل العيش في هذي الربوع
فالناس قد قتلوا بسمة الطفل الوليد
وأماتوا نشوة الروح
أماتوا سر الحياة
[align=center]زيارة مريض
الأربعاء 5 آذار 1975م = 22 صفر 1395هـ[/align]
خرجت في الصباح على مهل ، إذ إن ورقة الكفالة الخاصة بالمنحة المالية الخاصة بي قد وصلت إلى الملحقية الثقافية العراقية ، كما علمت ، وخرجت اليوم لإنهاء ما تحتاج إليه المعاملة ، وصلت الملحقية ، والتقيت عند الباب برجل اسمه عبد الملك من بيت (وَيِّس) من تكريت ، جاء حديثاً موظفاً في الملحقية العسكرية ، وبعد كلام وسلام عرض علي المساعدة قبل أن يخرج على حد قوله ، فشكرته ودخلت ، واستفتحت بتلك الوجوه غير المريحة التي تقف على باب الدخول ، ينهرون الناس بطريقة مهينة ، ولما كان أكثر المراجعين للسفارة هذه الأيام من المصريين : مهندسين وسواقين وزراعيين ، فقد أطال ذلك ألسنة هذه الشرذمة القليلة ، وحاولت بكل حذر تفادي أي غلط قد يوقعني في مشادة معهم ، ودخلت وإذا بالأمر لا يحتاج إلى أكثر من توقيع ، ودفع نصف جنيه مصري ، وسوف تُعَادُ الكفالة إلى بغداد ليبعثوا من هناك بإذن الصرف الذي من المقرر أن يكون نافذاً من 18/12/1974، وقبل مغادرة السفارة سألت عن السيد (س) الذي سمعت أنه قد وصل إلى القاهرة منذ زمن يسير قنصلا في السفارة ، وعلمت أنه قد مرض وأنه في المستشفى ، فأخذت عنوان المستشفى (الإيطالي) وذهبت لزيارته ، وقد وجدته قد برئ من إصابته ويوشك أن يخرج من المستشفى خلال يومين ، ولم أكن قد اختلطت معه في بيجي ، إلا أني وجدته لطيفاً ، رغم ما يبدو عليه من الرقة في الدين .
[align=center]عملية فدائية في تل أبيب
الخميس 6 آذار 1975م = 23 صفر 1395هـ[/align]
بينما كانت دول منطقتنا المنكوب أهلها بحكامها تستعد لاستقبال اليهودي الكبير الصديق هنري كيسنجر استعداداً لجولة جديدة تمهيداً لمزيد من الخطوات نحو أوهام السلام الكاذب مع اليهود - فَجَّرَ الفدائيون العرب قنبلة مدوية فجر هذا اليوم في تل أبيب ودَوَّى صداها في أرجاء الأرض ، فقد تسللت مجموعة منهم عن طريق البحر ونزلت على شاطئ فلسطين بعد منتصف الليل ، وقامت المجموعة بإطلاق نار كثيف وتفجير قنابل واقتحموا فندقاً واستولوا عليه (فندق سافوي) وظل الرصاص يمزق قلوب اليهود في تل أبيب طول الليل ، وسقط جرحى وقتلى ، وطلبت المجموعة التي احتجزت عدداً من الرهائن إطلاق سراح عدد من الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل ، ولكن اليهود جُنُّوا لهذا العمل ، وقررت الحكومة الإسرائيلية اقتحام الفندق ونسفه ، وراح من الفلسطينيين سبعة شهداء ، وذُكِرَ أن ما لا يقل عن مئة من اليهود جُرِحُوا أو قُتِلُوا في العملية ، حدث هذا قبل يوم واحد من وصول كيسنجر إلى أسوان ليبدأ جولته الجديدة (ربما التاسعة بعد الحرب) ليقوم بدور الوسيط بين حكام الدول العربية المجاورة لإسرائيل وقادة إسرائيل ، في محاولة لإنهاء حالة التوتر الدائم في المنطقة منذ قيام دولة إسرائيل وبدء تطلعاتها العدوانية وأعمالها الإجرامية ، ولا في شك أن المنطقة والعالم تعصف بها رياح أزمات اقتصادية وسياسية عاتية لا يُدْرَى أين تقذفها!
[align=center]اتفاق بين الشاه وصدام
الجمعة 7 آذار 1975م = 24 صفر 1395هـ[/align]
عُقِدَ في أواخر هذا الأسبوع مؤتمر رؤساء دول منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وكان هدف المؤتمر وضع استراتيجية موحدة لتلك الدول ، واتخاذ موقف موحد من الأزمة الاقتصادية الحاضرة ، وكان من بين المشتركين شاه إيران وصدام حسين نائب الرئيس العراقي ، وقد قام الرئيس الجزائري هواري بو مدين بالتوسط بينهما لبحث المشاكل المعلقة بين إيران والعراق والتي مضت سنوات طويلة عليها ، وهي بين فتور وتوتر إلى درجة التراشق بالرصاص ، وفي ختام مؤتمر الأوبك أعلن الرئيس الجزائري بأن اتفاقاً شاملاً قد تَمَّ بين الشاه وصدام حول القضايا المعلقة بين البلدين ، وظهرت جريدة (الأهرام) اليوم وعلى صفحتها الأولى الشاه وصدام يتعانقان بعد توقيع الاتفاقية التي قال عنها صدام بأنها حدث تاريخي ، وقال عنها الشاه بأنها فرصة لتسوية الخلافات بين البلدين ، ولعل هذه الاتفاقية وما سيعقبها من خطوات تضع نهاية لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح في شمال العراق ، لأن الحركة الكردية دائماً تجد دافعاً من إيران نحو الحرب ، ولكن هل سيكون ذلك الاتفاق فعلاً إنهاءً حقيقياً للخلافات فَتُفْتَحَ صفحة جديدة في العلاقات والمواقف، أم أنها مجرد مرحلة وتعود الأمور بعد أمد ولو طويل إلى التوتر من جديد ، وإلى الضغط على العراق من خلال الأكراد ، ونقض الاتفاقات بشأن شط العرب وحرية الملاحة ، إن الأيام هي التي ستوضح ذلك!
[align=center]فكرة
الأربعاء 12 آذار 1975م = 29 صفر 1395هـ[/align]
كلما قرأت في جريدة الأخبار اجتاحني شعور من التعجب ، ويزداد ذلك حينما أقرأ الحقل الصغير المعنون (فكرة) التي طالعتنا زماناً في جريدة الأهرام ، ثم استقرت في الأخبار تعاود مسيرتها الأولى ، ولا يزال علي أمين من خلالها يبشر ويزف البشائر للإنسان المصري ومن بعده العربي بالحياة السعيدة التي تنتظره ، والتي سيفيض منها خير على الجيران ، يحلم ويُشْرِكُ الناس في أحلامه ، ومنذ الأيام الأولى لحضور كيسنجر بعد الحرب عام 1973 ، وعلى مدار تلك الأيام وإلى اليوم وكيسنجر يروح ويغدو بين أسوان وتل أبيب ، كان علي أمين يُعَلِّقُ على ما يحمله كيسنجر الآمال التي ستنقذ مصر بزعمه من بؤس الحرب وويلاتها التي ذاقتها على مدى 23 عاماً ، لتعيش مصر حياة ناعمة وتبني حضارة بدايتها تغور في التاريخ 6 آلآف سنة ، ويكفي ما لاقت مصر وشعب مصر من الحرمان والعذاب والفقر من أجل العرب الذين شكت بنوك أوربا من ضيقها عن استيعاب أموالهم ، والحل الذي يُخَطَّطُ له ليرسم المنطقة من جديد يتركز على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها بعد 1967 وقيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وتظل إسرائيل تمتد نحو البحر الأحمر وتتربع على البحر المتوسط ، وحَدَّثْتُ نفسي يوماً بطريق بري يربط شرق العالم العربي وغربه أو سكة قطار فوجدت خنجر إسرائيل مغروزاً في قلب الوطن يشقه نصفين ، لو كان يعي ذلك دعاة السلام !
[align=center]ورقة الأكراد
الخميس 13 آذار 1975م = 30 صفر 1395هـ[/align]
لم يمض على اتفاق الجزائر بين العراق وإيران لحل المشاكل بينهما إلا أسبوع واحد حتى تناقلت الأنباء عن اشتداد هجوم قوات الحكومة العراقية على معاقل الثوار الأكراد في أعالي الجبال ، وأن الطائرات والدبابات والمدفعية تشترك في هجوم واسع يزعم الأكراد أنهم صدوه وكبدوا قوات الجيش خسائر فادحة ، ويبدو أن الاتفاق الذي تم بين إيران والعراق كان من بين بنوده تصريحاً أو تلميحاً أن تتخلى الحكومة الإيرانية عن الأكراد ، وأن تدع العراق يفعل معهم ما يشاء ، لأن قوة الأكراد الفعلية في شمال العراق إنما هي من إيران ، وإن لم تكن من إيران فإن إيران هي الباب الذي تدخل المساعدات منه إلى الأكراد ، ولما كانت الخلافات بين العراق وإيران محتدمة كانت إيران تجد أن خير وسيلة للضغط على العراق هو استغلال الأكراد لإشغال العراق واستنفاد جهده وطاقته في معارك جانبية تحول بين العراق وبين مواجهة إيران بقوة حقيقية يمكن أن تعرض النفوذ الإيراني المتزايد في الخليج إلى الخطر ، ومع كل ذلك فإن الاتفاق علامة وبداية على انتهاء الحركة الكردية المسلحة في شمال العراق ، ولو إلى حين ، ذلك لأن الأكراد لا يمكن أن ينسوا أنهم قومية تعيش في ثلاث دول مبنية على أساس قومي ، فمتى يكون الإسلام هو الحل بين هذه القوميات المتقاتلة ، فيحل الوئام في شمال العراق؟
[align=center]في المعهد الدولي البريطاني
الأحد 16 آذار 1975م = 3 ربيع الأول 1395هـ[/align]
قبل يومين قرأت في الجريدة إعلانا عن بدء التسجيل في المعهد الدولي البريطاني للغات الذي سيفتتح قريباً في القاهرة ، وسيبدأ التسجيل من اليوم ، ولعل مما شجعني على الالتحاق به هو قربه من منزلنا الذي نسكن فيه الآن ، وتذكرت يوم ذهبت إلى الجامعة الأمريكية للتسجيل في دورة تعليم اللغة الانكليزية وتأخرت ربع ساعة عن موعد بداية التسجيل فوجدت كل شيء قد انتهى ، كنت حريصاً هذه المرة أن أكون موجوداً في اللحظة التي يبدأ فيها التسجيل ، وفعلاً كنت الساعة العاشرة صباحاً عند بناية المعهد ، ولكن وجدت من البشر ما يفوق الأعداد التي تتجمع أمام أية جمعية استهلاكية ، رجال وشباب نساء وفتيات كبار وصغار ، والأعجب بل الأغرب أن هناك شيوخاً في سن متقدمة يتدافعون للتسجيل ، ويبدو أن المسؤولين عن المعهد قد حاروا في مواجهة هذا الزحام ، وبدأوا في إدخال كل ثلاثين سوية ، يؤدون امتحاناً شفهياً وتحريرياً ، وبعد ذلك يكون التصنيف ، وأنا مرة أقف على شاطئ البشر أرقب ، وأخرى أغوص دون جدوى، ولكني قررت أخيراً أن أتغلغل بين الجموع ، واقتربت من الباب ، وفُتِحَ وكنت مع أول موجه دخلت ، بعد أن أكون قد وقفت أكثر من ساعتين ! ومرة أخرى وقوف وانتظار ودخلت الامتحان ، وكان مستواي تحت المتوسط ، وسَجَّلْتُ للدراسة ثلاث ساعات في الأسبوع ، اعتباراً من 6/4/1975 ولمدة ثلاثة أشهر ، إن شاء الله.
[align=center]البحث عن البحث
الاثنين 17 آذار 1975م = 4 ربيع الأول 1395هـ[/align]
منذ زمن غير يسير بدأت أشعر أن عملي في البحث يتأرجح ، وأن أتعاباً كثيرة قد بذلتها ولكنها لا تأتي بكبير فائدة ، فمنذ أن حضرت مناقشة الدكتور عبد الحي الفرماوي وأنا أذهب بين الحين والحين إلى كلية أصول الدين في جامعة الأزهر حتى أطلع على رسالته لعل فيها ما يفيد ، التقيت به يوم السبت قبل الماضي ووعدني بأنه سوف يأتي بالرسالة ويودعها في مكتبة الكلية ، وذهبنا معاً إلى أمين المكتبة ليسمح لي بالاطلاع عليها كلما حضرت ، وذهبت يوم الاثنين الماضي ولم أجده قد أتى بها ، وذهبت اليوم ومرة أخرى لم يحضرها ، ولا أدري ما سر ذلك.
ووجدت أن الوقت قد تقدم ، وأن النهار يوشك أن ينتصف ، فقررت أن أذهب إلى إدارة الأزهر لأبحث عن بحثين يقال إنهما قد أُلْقِيَا في مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر ، وبدأت رحلة الصعود والهبوط على السلالم ، وأخيراً قالوا إن السكرتارية الفنية لمجمع البحوث في مدينة ناصر للبعوث في منطقة الدرَّاسة ، وربما تجد هناك ما تريد ، وأسرعت أتعلق بأول أتوبيس يذهب إلى هناك ، وصلت وبعد أن وقفت في الباب دقائق دخلت إلى الأستاذ صبار ، وقَلَّبَ في أوراق قديمة ، وناولني مجموعة أوراق فيها أسماء محاضرات وبحوث ، وعثرت فيها على بعض ما يفيد ، وأخبرني أنها نشرت في مؤتمرات مجمع البحوث ، ولكن أين توجد هذه النشرات ؟ قال : ربما تجدها في أكشاك المكتبات حول الأزهر ! أو لا تجدها ، وعدت إلى البيت ولكن بقليل من الفائدة.
نُشرت هذه الحلقة يوم الجمعة 24/4/1431هـ
ــ الحواشي ـــ :
(1) اشتريت الكتاب من معرض السنة اللاحقة على ما يبدو ، فهو موجود في مكتبتي ، وتاريخ شرائه هو 27/1/1976م.
(2) أحضر لي بعد مدة نسخة مصورة من الكتاب على المكروفلم ، جزاه الله خيراً ، وأفدت منها في البحث ، مع أنها لم تكن واضحة تماماً ، وطلب مني النسخة بعد ذلك الدكتور أحمد شرشال ، في أثناء عمله في تحقيق الكتاب في إحدى جامعات المملكة العربية السعودية ، وصدر الكتاب مطبوعاً من مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة سنة 1421هـ، بعنوان : مختصر التبيين لهجاء التنزيل ، والحمد لله .
(3) الأستاذ الدكتور محمد عبيد الكبيسي ، عميد كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد الآن ، وهو من بيت علم ودين ، فأخوه الدكتور حمد الكبيسي ، رحمه الله ، وأخوه أيضاً الدكتور أحمد الكبيسي ، الداعية المشهور .
(4) حققه الدكتور محمد مضحي الزوبعي في أطروحته للدكتوراه التي قدمها إلى كلية الآداب في الجامعة المستنصرية في بغداد سنة 2004م ، وأخبرني قبل أيام أنه قد اكتمل طبعه في دار الغوثاني في دمشق ، وعلمت أنه قد حقق في إحدى الجامعات السعودية أيضاً .
(5) تغيرت عندي هذه النظرة ، فقد وجدت أفكاراً متميزة من دراسة المراجع المتأخرة حين بحثت موضوع علم التجويد ، وأحسب أن مراجع رسم المصحف المتأخرة لا تخلو من مثل تلك الأفكار .
الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)
4- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الرابعة)
5- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الخامسة)
6- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السادسة)
7- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السابعة)
8- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثامنة)
9- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة التاسعة)