ذكريات غانم قدوري الحمد.. (الحلقة الحادية عشرة)

إنضم
29/04/2005
المشاركات
158
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
العراق
إحصاء وتصنيف
الأربعاء 19 آذار 1975م = 6 ربيع الأول 1395هـ
بدأت أعمل منذ أمس في ميدان جديد ، فبعد أن أتممت تصنيف القراءات العشر من كتاب النشر ، على حسب ظواهر الاختلاف ، بدأت عملاً جديداً وهو محاولة تتبع كلمات المصحف التي رُسِمَتْ بطريقة خاصة ، ومحاولة جمع المثال إلى نظيره ، وحصر الكلمات التي رُسِمَتْ بالألف أو بحذفها ، والتي رُسِمَتْ فيها الألف واواً ، وما رُسِمَ من الهمزة ، وما وُصِلَ أو فُصِلَ ، وكل ذلك جعلت له سجلاً على شكل جداول ، ولكني أجد أن العمل يمر ببطء ، فأنا أجلس الآن إلى المصحف كل يوم عشر ساعات تقريباً ، ثم أجد نفسي لم أنجز أكثر من جزأين ، وبعد كل هذا لم أجد الطريق الأنسب في حصر كلمات المصحف بسهولة ، وأخيراً اقتنعت بما وصلت إليه ، وبدأت أعمل وقد انقطعتُ عن كل عمل إلا هذا العمل الذي أعتبر إنجازه عملاً كبيراً يدفع البحث خطوة ، وبدأت أحس أن عظمة هذا القرآن إنما يستشعرها الإنسان أكثر كلما نظر فيه أكثر ، وكلما تأمله وعرف معاني آياته ومناسباتها وأحداثها ، ثم اتضح لي أن رسم المصحف قد قام على فهم وعلم دقيق قبل أن يوضع النحو وقبل أن تُعْرَفَ علوم العربية ، لا بل يمكن القول إن رسم المصحف يعتبر أول خطوة لوضع علوم العربية :نحوها وكتابتها ، فرَضِيَ الله عن الصحابة الذين خدموا كتابه هذه الخدمة الجليلة الحكيمة ، وألهمني اللهم الصواب.


عيد الأم
الخميس 20 آذار 1975م = 7 ربيع الأول 1395هـ
لأن الحياة العصرية الجديدة عجزت أن تقدم مثالاً للإنسانية أو قيماً يمكن أن تُكَرِّمَ بها الإنسان لجأت إلى اختراع الأعياد والمناسبات ، فهذا عيد للعمال ، وذاك عيد للفلاح ، وآخر للطالب ، وأخيراً عيد الأم الذي يحل يوم غد ، والذي كانت وسائل الأعلام تتحدث عنه منذ أيام ، ويكثر الحديث هذه الأيام عن حقوق المرأة وعن حريتها ، وكأن الشيطان لا يزال يطمع في إذلال المرأة وتحطيمها بعد ما فعلت بها الحضارة البراقة ما فعلت ، وبعد ما أفسدت من الأخلاق والنفوس ، فبعد أن خرجت من البيت وجدت نفسها مضطرة للعمل ، وفي أي عمل ؟ في أعمال لا تتناسب مع ما خُلِقَتْ له ، وبدأت تتصور أن الرجل منافس لها ، وانفصلت عرى البيت الذي يمكن أن ينشئ جيلاً قادراً على النهوض بمهام الحياة الكريمة ، ومع كل ما تعانيه المرأة المسكينة الآن من جراء خروجها إلى العمل ، والأنشطة الأخرى التي لا يمكن أن تتفوق على الرجل فيها ، لأنها ملكة في البيت شيء تافه خارجه ، مع كل ذلك فإن دعاة حقوق المرأة وحريتها لا يزالون في شرقنا يتحدثون عن تحرير المرأة وإعطائها حقوقها ، وما يتبعون في ذلك إلا داعي الشيطان الذي يجرجر بالمرأة في أرض تصطدم مع فطرتها ، وهم كاذبون في دعواهم ، فلم تشهد هذه الدنيا تكريماً للمرأة وللأم مثل ما كَرَّمَهَا به الإسلام ، لأنه حكم الله في هذه الأرض ، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة لقوم يعقلون!


رياضة صباحية
الجمعة 21 آذار 1975م = 8 ربيع الأول 1395هـ
كان استيقاظنا اليوم في وقت مبكر كأنا نتهيأ لاستعراض صباحي ، وما إن أشرقت الشمس حتى كنا نستقل سيارة إلى ملاعب الجامعة حيث الساحات المهيأة للرياضة ، وكانت هذه الرحلة نقلة لطيفة إلى الماضي وعودة إلى عهد الشباب ، ثم مع كل ذلك كله كانت غذاء يفتقده الجسم ، رحلة رياضية ، وأجمل ما فيها الوقت المناسب مع نسائم الربيع في القاهرة والأرض المخضلة بالندى ، وجرينا سريعاً حول ساحة للعب كرة القدم ، وبعد أن درنا دورة أو دورتين واستلقينا قليلاً ، درجت الكرة على ساحة الملعب ، وجرينا وراءها كالأطفال ، خرج الكبار عن وقارهم ، ولكنها كانت تسلية وضرورة كان يجب مزاولتها بين الحين والحين ، وبعد أن بلغ منا الجهد والتعب مبلغه ، واسترحنا قليلاً ، تحولنا إلى لعبة كرة السلة ، واهتزت الأجسام من كل جانب ، وتطايرت حبات العرق من الجباه مع ارتفاع حرارة الجو بارتفاع شمس الضحى وازدياد دقات القلب ودفعات التنفس ، كل ذلك تم خلال ساعتين أو أكثر قليلاً و ..عدنا إلى البيت حيث تناولنا طعام الإفطار في موعده تقريباً ، ولكن كان بشهية مَن عَمِلَ طيلة النهار وجلس إلى مائدة الطعام ، ثم كان لا بد أن نستلقي ساعات نداري آثار الجري والقفز ، ولا شك أن ذلك سيخلف بعض الذكريات في العضلات ، لكنها ستعود أكثر نشاطاً ، إن شاء الله.


السعي في مصالح
السبت 22 آذار 1975م = 9 ربيع الأول 1395هـ
كانت هناك بعض الأمور التي كان لا بد لي من أن أنجزها أو أنتهي بها إلى نهاية مما كلفني به بعض الإخوة ، فخرجت أسابق الموظفين إلى مكاتبهم ، إلى الكلية لمتابعة أكثر من قضية ،عمل شهادة تخرج الأستاذ رشيد نعمان ، وورقة من المشرف تشهد بأن بحثه للماجستير كان يقتضي إقامته في العراق مدة ، ثم استخراج تصديق للأخ محمود المشهداني ، وقد تضايقت كثيراً في أول النهار خرجت من البيت ولم أجد ما أركبه كان الناس معلقون بأبواب السيارات ، ثم قررت الركوب بتاكسي ولكن أين تجدها ! وصلت وبدأت رحلة جديدة مع الأستاذ عبد المجيد حسين مسجل الكلية ، وظهرت بعض المشاكل من عدم وجود الصور ، والأوراق لا تزال معروضة على القسم ، وقبل الثانية عشرة خرجت من الكلية بعد أن حققت بعض النتائج ، ومررت بدائرة الوافدين لتوقيع ورقة تخص الأستاذ رشيد ، وبعدها ذهبت إلى دار الكتب والحر بدأ يضايق الناس هذا اليوم بشدة ، لأنهم لا يزالون يرتدون ملابس الشتاء ، وهناك بدأت رحلة جديدة مع السيد خليل إبراهيم سكرتير السيد صلاح عبد الصبور مدير الدار ، والذي يعمل وسيطاً – أي خليل – لاستخراج مصورات لبعض المخطوطات ، وكنت قد وعدت الأخ عبد الستار القدسي(1) بمحاولة تصوير مخطوطة كتاب التقييد لابن نقطة الذي يعمل في تحقيقه ، وكان سيد خليل وعدني بتصويرها ، والحمد لله كانت قد تم تصويرها ، وأخذ الثمن والعمولة ! ثم ذهبت إلى السفارة لتصديق الورقة ، وعدت إلى البيت وأنا أحمد الله على ما يسر.


فشل جهود كيسنجر
الأحد 23 آذار 1975م = 10 ربيع الأول 1395هـ
كان هنري كيسنجر قد وصل إلى (الشرق الأوسط) منذ يوم 8/3 حين بدأ رحلاته بين العواصم العربية ، معرجاً على (تل أبيب)منزل أبناء عمومته ، وقد تركزت في الأيام الأخيرة جهوده بين أسوان حيث يقيم الرئيس المصري أنور السادات منذ وصول هنري ، وبين تل أبيب ، في محاولة للتوصل إلى اتفاق جديد لفصل القوات تمهيداً لعقد مؤتمر جنيف ، لكن اليهود في إسرائيل لا يريدون أن يتخلوا عن الأرض التي أخذوها ظلماً وعدواناً بسهولة ، يساومون ويخادعون والصديق هنري يحمل بين الجانبين وجهات نظر كل جانب إلى الجانب الآخر ، وكانت مصر تصر منذ بداية الأمر على أن يشمل الفصل الجديد منطقة الممرات الجبلية في سيناء وحقول النفط في أبو رديس ، ولكن إسرائيل ترفض ذلك إلا إذا وَقَّعَت مصر معاهدة إنهاء الحرب مع إسرائيل ، ومصر تعلن من جانبها أن مثل ذلك مستحيل قبل جلاء آخر جندي يهودي عن الأرض ، وقبل استرداد حقوق شعب فلسطين وقيام الدولة الفلسطينية ، وطوال الأسبوعين الماضيين كان هنري يجتمع هنا وهناك ويطيل الاجتماعات ، لكن مهمته وجهوده وصلت آخر يوم أمس إلى طريق مسدود عندما حمل مقترحات وردود مصرية جديدة إلى إسرائيل التي لم تبد من جانبها أية تنازلات ذات بال ، مما جعل جهود هنري غير ذات فائدة أو نتيجة، فقرر إيقاف مهمته وتوجه إلى بلاده أمريكا ، وظلت المنطقة تتأزم من جديد وأمريكا ترسل السلاح إلى إسرائيل مما يشجعها على التفكير بالحرب وشن الهجوم ، ولكن من غير المعروف ما سيؤدي إليه فشل مهمة كيسنجر هل الذهاب إلى مؤتمر جنيف لبحث المشكلة بأسرها وفقا لقرارات مجلس الأمن ، أم يدفع بالمنطقة بحرب لا يمكن أن تنتهي أو تتوقف قبل زوال إسرائيل !



مقتل الملك فيصل
الأربعاء 26 آذار 1975م = 13 ربيع الأول 1395هـ
بعد ظهر يوم أمس فوجئ الناس بخبر اغتيال ملك السعودية الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ، على يد أحد أبناء إخوته ، وهو الأمير فيصل بن مساعد ، وتناقلت وسائل الإعلام الخبر بسرعة وصار حديث الناس بكل مكان ، في العالم العربي وخارجه ، حتى كادت أخبار الحادث وما أثاره من انفعالات تطغى على تطورات الأحداث في الشرق الأوسط بعد فشل كيسنجر بالتوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ومصر لفصل جديد للقوات ، وتُجْمِعُ الأخبار أن السعودية خسرت قائداً محنكاً وخبيراً مارس السياسة طيلة خمسين عاماً، ومعها الأمة العربية والإسلامية والسلام ! ومهما قيل فإن الملك فيصل -رحمه الله – قد ساهم في توفير الأمن في البلاد السعودية ودفع العمران والبناء وتطوير الحياة مع تحكيم الشريعة الإسلامية ، ومع ذلك فإن هناك علامة استفهام كبيرة تقف خلف علاقات السعودية بأمريكا ، ونقلت الأخبار أن الأمراء في الأسرة السعودية الحاكمة قد اختاروا خالد بن عبد العزيز ، وهو أخو الملك الراحل ملكاً ، وفهد بن عبد العزيز ولياً للعهد ، وتمت البيعة صباح اليوم ، أما مراسيم الدفن فقد جرت بعد صلاة العصر هذا اليوم في الرياض ، حيث حضر العديد من رؤساء الدول العربية والإسلامية ، وانطوت بذلك صفحة يرجى أن تكون التي بعدها مثلها إن لم تكن أفضل ، أما القاتل فإنه حاصل على شهادة جامعية في الاقتصاد والعلوم السياسية من أمريكا ، ويوصف بأنه كان سكيراً ويتعاطى المخدرات ، وأن الحكومة السعودية قد منعته من السفر بعد عودته إلى السعودية ، ويقال إنه انتقم لنفسه من الملك ، حين أطلق الرصاص عليه صباح أمس في مكتبه فأرداه قتيلاً ! رحمه الله .


فقراء
الجمعة 28 آذار 1975م = 15 ربيع الأول 1395هـ
كان حافي القدمين أشعث شعر الرأس أغبر الوجه ، كان قد شد أطراف الجلابية إلى بطنه ، فبدت ساقاه النحيفتان المغبرتان تحكيان قصة الكفاح من أجل لقمة العيش ، التقيت به وجهاً لوجه ، وسلمت عليه فأجفل ولم يرد السلام ، وكأنه أسرع في مشيه ، ولم أدعه يذهب ، بل أمسكت بطرف كمه ، وأنا أكرر التحية وأسأله عن اسمه ، وهو يحاول أن يبتعد وهو يتمتم (عمال في العمارة) ، لم يكن يتصور أن أحداً ممن يلبسون لباس (الأفندية) يمكن أن يلتفت إليه ويتحدث معه ، كان لا يفهم من موقفي شيئاً سوى أنَّ متطفلاً غريباً حاول أن يفسد عليه هدوء البال والتفكير في لقمة العيش له وللعيال ، وناولته كيساً من ورق كنت أحمله وبداخله شيء ، فكان خوفه أشد ورفض أن يمسه ، وكأنه فكر أن هذا الغريب قد وضع في هذا الكيس شيئاً مؤذياً ، كان الشارع مزدحماً بالسيارات والمارة على الرصيف وحاولت أن أنهي الموقف بسرعة ، وفتحت الكيس لأريه أن ما فيه شيء يمكن أن يفيده ويفرح به ، وأخيراً تناوله بعد تردد ، وهو يحكي بموقفه هذا نظرة كل هؤلاء الذين قد قُدِرَ عليهم رزقهم ولا يجدون إلا ما يخطفون به لقمة العيش إلى من أقبلت عليهم الدنيا ، هناك فاصل كبيرة وفجوة بعيدة القرار بين جيلين من الناس ، لا يفرق بينهم إلا أن هؤلاء قد ضاقت بفلوسهم الخزائن وهؤلاء لا يجدون ما يقتاتون به !


إكمال تصنيف ظواهر الرسم
السبت 29 آذار 1975م = 16 ربيع الأول 1395هـ
تذكرت اليوم الخبر الذي يروى عن الإمام علي رضي الله عنه أنه أقسم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يضع رداء على كتفه لغير صلاة حتى يجمع القرآن ، تذكرت ذلك لأني وجدت نفسي محصوراً في البيت طيلة خمسة عشر يوماً تقريباً لا أكاد أخرج إلا لصلاة أو إنجاز حاجة ضرورية ، لأعود إلى البيت من دون تأخير ، إذ إنني بعد أن أكملت تصنيف القراءات العشر بدأت بدراسة ميدانية لرسم المصحف ، واعتمدت في ذلك على الطبعة المصرية (الأميرية) التي قام برسم المصحف فيها الشيخ محمد علي بن خلف الحسيني شيخ المقارئ المصرية سابقاً ، وقيل إنها أصح الطبعات أو أدقها بتعبير أصح(2) ، وكنت خلال هذه الأيام أتتبع كلمات القرآن وأحاول أن أضع كل ما يدخل في إطار واحد في جدول واحد ، ولا أزال أتابع ما حُذِفَتْ منه الألف ، وما رُسِمَتْ فيه الهمزة بهيئة خاصة ، وما رُسِمَتْ فيه الألف ياء أو واواً ، ثم ما رُسِمَ مفصولاً أو موصولاً ، وما يشبه ذلك ، حتى انتهيت منه ، والحمد لله ، وقد تبين لي من هذه الرحلة ضخامة العمل الذي قام به الصحابة وعلى رأسهم زيد - رضي الله عنهم - حين كتبوا المصحف في ذلك الوقت ، بما تيسر لهم من وسائل وأدوات ، ومع أن تركيزي كان موجهاً إلى الرسم فإني كنت ألاحظ المعاني ، وخرجت بضرورة دراستي للقرآن دراسة جادة عميقة في أقرب وقت ، إن شاء الله .


مناقشة رسالة ماجستير
الاثنين 31 آذار 1975م = 18 ربيع الأول 1395هـ
حضرت اليوم صباحاً مناقشة رسالة علمية مقدمة لنيل درجة الماجستير في آداب اللغة العربية في (أساليب القسم) وقد حصل صاحب الرسالة على الماجستير بدرجة امتياز ، وكنت على اتصال بهذه الرسالة منذ أن كانت أوراقاً مفرقة حين كان صاحبها يجمع المادة من بطون الكتب ، ثم وهي أوراق مفرقة قبل أن تطبع ، وتابعت الطبع بل إني ساهمت في تصحيح بعض الأصول ، فهذه الرسالة تربطني بها وبصاحبها قبل ذلك روابط متينة يبدو أنها كانت قد نشأت منذ زمن لكن اكتشافها كان حديثاً في القاهرة فقط ، إذ إني لم أكن أعرف صاحب هذه الرسالة قبل وصولي القاهرة وقبل وصوله هو ، لكن ما إن تعارفنا حتى وجدت ما يدفعني إلى هذا الرجل البالغ الطيبة والخلق ومتانة الدين ، ومع فارق السن الكبير بيننا ، إذ إني بمنزلة أحد التلاميذ الذين درسهم ، إلا أنه يتعامل معنا كأخ كبير وصديق عزيز ، تلك العلاقة التي جمعتنا لم يكن الأمر أكثر من اكتشافها فإذا الأمور تأخذ مجرى يهتدي بسنة النبي عليه الصلاة والسلام والأجيال الأولى ومن نهج ذلك النهج ، إن وشيجة الإيمان ورابطة الإسلام لا يمكن أن تعلو عليها رابطة ، كم من العراقيين في هذا البلد وكم منهم من معارف ، ومن مناطقنا ومن غيرهم ، ولكن حتى لو التقينا فإنا لا نرغب في أن نكلم بعضنا بعضاً ، ولكن رابطة الإيمان تشد بقوة وتجعل الشعور الأخوي المتبادل أدنى درجات تلك الرابطة(3).


مراجعة مخطوطات
الثلاثاء 1 نيسان 1975م = 19 ربيع الأول 1395هـ
كأني اليوم أعبر إلى مرحلة جديدة في البحث بعد أن أكملت تتبع خصائص الرسم المصحفي ، وبدأت اليوم عملية جمع المادة من جديد، وأبدو مسرعاً كأني أسابق الأيام ، وقد رأيت أن أخطو خطوة أخرى تحررني من بعض القيود وتدفعني إلى التعامل مع المصادر بحرية أكثر ، فبعد أن أتممت تصنيف القراءات العشر وخصائص رسم المصحف أجد لزاماً عليَّ أن أنتهي من تحقيق موضوع الاختلاف في بعض الأحرف بين المصاحف ، وعليه فقد قررت قبل أن أمضي في هذا السبيل أن أدرس ثلاث مخطوطات صَوَّرْتُهَا سابقاً من معهد المخطوطات ، وأُدَوِّنُ ما فيها من معلومات جديدة ، ثم أقوم بعد ذلك بتصنيف أحرف الخلاف في دفتر على شكل جداول ، ثم أحاول النظر في أكبر عدد من المصاحف المخطوطة والمطبوعة الموجودة في القاهرة ، وأحقق طريقة رسم تلك الأحرف فيها ، ولعلي أنتهي من هذه المهمة خلال أيام ، وقد انتهيت اليوم من أول تلك المخطوطات ، ولا يمر هذا الأسبوع إن شاء الله إلا وقد انتهيت من ثلاثتها ، وأكون قد صنفت الأحرف في سِجِلٍّ أعددته لذلك ، وأشعر أن شيئاً قد بدأت أفكر به حول تأخري أو عدم تقدمي السريع في البحث فأنا أعمل الآن وهذا الشعور يدفعني إلى السرعة ، ولكن أرجو أن تكون السرعة الهادئة التي لا تضيع شيئاً .


متابعة من غير نتيجة
الأربعاء 2 نيسان 1975م = 20 ربيع الأول 1395هـ
منذ أكثر من شهر ذهبت إلى كلية أصول الدين في جامعة الأزهر ، وقابلت السيد (س) الذي ... وعدني أنه سيتيح لي الاطلاع على رسالته ... واليوم ربما للمرة الرابعة ذهبت إلى هناك ولكنه لم يجلبها ، وتضايقت من هذا الأمر ، واستعنت بالله وخرجت من حرم الجامعة(4).
توقفت عند أكشاك المكتبات الصغيرة القريبة من الأزهر، كان أحدهم قد وعدني أن يحضر لي كتاباً في الرسم مطبوعاً في تركيا ، كنت أحسب أنه المقنع وذهبت إليه أكثر من ثلاث مرات ، وفي كل مرة يقول : كنت مريضاً (عَيَّان والله ، مَعْلِشْ مُرْ بعد كم يوم) ولكني هذه المرة أنهيت الأمر معه ، ولن أعود إليه مرة أخرى ، وبعد ذلك جئت إلى مكتبة الجامع الأزهر ، دخلت ولم يكن هناك من الموظفين إلا الساعي ذي الوجه القرمزي والشعر الأبيض والعينين الصغيرتين ، مرة يجتمعون أكثر من عشرة ومرة لا تجد أحداً ، وحضر وهو أكثرهم تذمراً ، (مِشْ عايز أشتغل) هذا هو شعاره ، طلبت كتاباً ، وبعد قليل جاء الرد (مش موجود ..النور ..الظلام ) ليتهم غاصوا في الظلام ! وعدت إلى البيت متعباً من غير فائدة.


گلالَهْ
الخميس 3 نيسان 1975م = 21 ربيع الأول 1395هـ
تناقلت الإذاعات أخبار الأوضاع في شمال العراق ، وأُعْلِنَ أمس أن الجيش العراقي دخل مدينة (گلالَهْ) معقل الأكراد ومركز حركتهم وقيادتهم ، دخلها من غير مقاومة بعد ما ذُكِرَ أن حركة الأكراد انهارت بعد أن قطعت إيران عونها لهم على أثر اتفاق الجزائر بين صدام حسين والشاه ، ذلك الاتفاق الذي حل خلافات البلدين ، ومن ضمنها قطع العون الإيراني عن الثوار الأكراد ، وأَثَّرَ ذلك على الحركة الكردية ، بل قطع الشريان الذي يمدها بالبقاء ، دخلت القوات الحكومية گلاله ، وستصل إلى كل بقعة في الشمال بعد أن غادر الملا مصطفى مقره مع بعض أبنائه وأتباعه ، غادر العراق إلى إيران ، وربما طلب اللجوء السياسي إلى أمريكا ، ربما تكون الحرب قد انتهت الآن ، لكن الأزهار التي نمت الآن في شمال العراق إنما نمت على أرض قد غطاها رفات أشلاء الجنود والمقاتلين والشيوخ والنساء والأطفال ، وتغذت من تكلم الدماء التي روت الأرض في الشمال ، ولهذا فإن لون تلك الأزهار حمراء داكنة حزينة .. صامته ، الصمت يخيم على الشمال والهرج يعقد السحب في الجنوب ، وبدأت بقايا المقاتلين من الأكراد يعودون إلى بيوتهم يعمرونها ، ومزارعهم المحترقة يزرعونها ، بعد أن أصدرت الحكومة عفواً لمدة أسابيع ، حرب الشمال ذكرى يذكرها كل عراقي وعربي ومسلم يذكرها العالم ، ولكن لماذا كانت تلك الحرب ، إنها النزعة القومية ، ترى هل ماتت نوازع القومية في النفوس(5) ؟!


مع الدكتور محمود فهمي حجازي
الجمعة 4 نيسان 1975م = 22 ربيع الأول 1395هـ
كان أحد المشاركين بمناقشة رسالة الأستاذ كاظم الراوي (أساليب القسم في اللغة العربية) التي نوقشت الاثنين الماضي الدكتور محمود فهمي حجازي ، أستاذ علم اللغة في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ويبدو أنه حصل على الدكتوراه من ألمانيا ، فَكَّرْتُ في وقت سابق أن ألتقي به لأعرض عليه فكرة عن موضوعي للماجستير ، والاستفسار منه عن بعض الأفكار المتعلقة بالموضوع ، وبعد الفراغ من المناقشة سلمت عليه ، وشرحت له رغبتي في أخذ رأيه في بعض الموضوعات ، فَرَحَّبَ وطلب مني أن أحضر إلى بيتهم قرب شارع الهرم ، وضرب لي موعداً الساعة السابعة من مساء الجمعة ، وذهبت مع الأستاذ كاظم الراوي ، وجرى الحديث مع الدكتور حجازي حول موضوعات عامة أولاً ، ثم طلب مني أن أعرض عليه ما أريد عرضه ، وكانت هناك عدة نقاط استشكلتها ، منها : أصل الخط العربي ، ومشكلة الهمزة : نطقها رسمها ، وكتابة الألف واواً في الصلوة والزكوة ، وكتابة الألف ياء ، وتناقشت معه مناقشة أحسست بأنها مفيدة ، وكان بين الحين والحين يقوم إلى مكتبته داخل البيت ، ويحضر مصدراً ، وكتبت بعض المصادر بالانكليزية ، وواحد منها في الموضوع نفسه ، وبعدها انصرفنا ، ومع أني لم أتعرف على كل جوانب شخصيته فإنه يبدو شاباً نشطاً معتزًّا بالتراث ، وذي خلق سمح مع تبسط وتواضع ... جزى الله المخلصين خيراً.


أول محاضرة في الإنكليزية
الأحد 6 نيسان 1975م = 24 ربيع الأول 1395هـ
ذهبت عصر اليوم لحضور أول محاضرة في المعهد البريطاني للغات ، حيث سجلت منذ فترة ، وسأحضر ثلاث ساعات في الأسبوع ، يومي الأحد والأربعاء من الساعة الخامسة إلى الساعة السادسة والنصف ، وجلسنا في غرفة ضيقة ، كنا أربعة عشر متعلماً في الفصل ، رجالاً ونساء ، شيوخاً وشباناً ، وكان المعلم إنكليزياً قد أطلق شعر رأسه مثل النساء ، لكنه ممثل رائع في المحاضرة ، ويبدو أن الدراسة ستعتمد أساساً على المحادثة ، وقد بدا نطقنا مضحكاً تجاه نطقه الذي لا شك أنه يمثل واقع النطق الإنجليزي ، ووعد بأنهم سيجهزوننا بكتب خلال أيام ، إذ لا يزال المعهد في أيامه الأولى ، فقد افتتح في الشهر الماضي ، والبناية جديدة لما تكتمل ، ومع ما يمكن أن أستفيده من تحسين نطقي بالانجليزية غير أني لن أستفيد كثيراً من هذه الدراسة في مجال المصادر الإنجليزية للبحث ، إذ إن لتلك المصادر لغة خاصة ، ومع ذلك فإن هذه الدراسة ستفتح لي الطريق إلى اللفظ الصحيح وإلى عدد من الألفاظ التي تتعلق بالأمور الحياتية العامة ، ولو أني شاركت في سبيل تعلم الإنجليزية في عدة دورات لبلغت مستوى جيداً ، ذلك ما أُمَنِّي به نفسي إلا أنني الآن لا أجد من الوقت ما يسمح لي في المشاركة في هذه المشاريع الجانبية ، الضرورية في المستقبل(6).


ثلاث قضايا
الاثنين 7 نيسان 1975م = 25 ربيع الأول 1395هـ
أحسب أن البحث الذي أعمل فيه الآن - الرسم المصحفي – لن يكون واسعاً(7) ، إن شاء الله ، إن أنجزت كتابته ، ومع ذلك يبدو أن علي أن أجمع مادة كثيرة ، وأن أقدم من الأتعاب ما لا يتناسب مع حجم البحث ، فإن البحث يتصل بثلاث قضايا كبرى تحتاج إلى الدقة والعمق والفهم الصحيح : (1) تاريخ القرآن وجمعه ونسخ المصاحف (2) القراءات ونشأتها وتقسيمها وشروطها (3) ثم الكتابة العربية من خلال رسم المصحف ، ومع أن القضيتين الأوليين تعتبران مقدمة للقضية الثالثة التي هي محور البحث إلا أن كلاً منها تصلح أن تكون بحثاً جاداً ، وأنا لا أزال أعمل وأدَّعِي الجدية في العمل ، لكني كثيراً ما أشعر أني أحرك رجلي في نفس المكان ، دون أن أتقدم خطوات إلى الأمام ، إلا قليلا ، فقد بدأت منذ أن سجلت الموضوع بدراسة الكتب التي تتعلق برسم المصحف وتاريخ القرآن من الكتب المطبوعة ، ثم تحولت إلى المخطوطات ، ثم إلى تصنيف القراءات ، وبعدها الانقطاع لمدة نصف شهر في محاولة لتصنيف كلمات المصحف كلا في مكانه ، والآن بدأت مرحلة جديدة بأن أدرس المصاحف المخطوطة الموجودة في دار الكتب المصرية ومعهد المخطوطات ، ذهبت يوم السبت إلى دار الكتب ، ولكن ظهرت في سبيل الاطلاع على تلك المصاحف العقبات الكثيرة ، ولكني لم أقنط ، وتحولت أمس واليوم إلى معهد المخطوطات ، والأمور فيه أيسر لكنها لا تخلو من الصعوبات ، فعملية قراءة الأفلام على الجهاز لمدة طويلة عملية متعبة .


مخطوطات المصاحف القديمة
الأحد 13 نيسان 1975م = 1 ربيع الآخر 1395هـ
كنت في الأسبوع الماضي متجهاً إلى دراسة المصاحف المخطوطة القديمة ، ولكني لم أستطع الاطلاع إلا على مصحف واحد قديم في معهد المخطوطات ، وهناك نسخ أخرى في المعهد تبدو حديثة ، أما دار الكتب فقد دخلت مع موظفيها في معمعة مخجلة ! وذلك أنني في بداية الأسبوع الماضي التقيت بالسيد عبد الحفيظ شلبي أمين قسم المخطوطات ، واعتذر عن إمكانية اطلاعي على شيء منها ، وفي أثناء حديثي معه قال : (أنا راح أقابل وزير ، وممكن نتكلم في الموضوع تان) ومضى ومضيت ، ثم التقيت بخليل إبراهيم سكرتير السيد فلان الذي يعمل مسؤولاً في دار الكتب أو الهيئة المصرية للكتب ، وتلفن إلى السيد وجدي (مسؤول صغير في المخطوطات) .. وتحت أمرك وما شاكل ذلك ، وتم الاتفاق على أنهم يكلمون سيد شلبي ، ولا شك في أنهم سيحصلون على شيء مقابل الأتعاب ، وكأن العملية قد أحكمت بليل ، هم يقفون بوجه أي عمل يمكن أن يؤدوه للباحث ، ومن الباب الخلفي يدخل كل من أراد الدخول بسهولة ويسر وترحاب ، بعد أن يدفع ثمن التذكرة ، بلد هذه عاداته في كل هيئاته ومؤسساته وموظفيه ، طبعاً إلا في النادر .
هذا الأسبوع بدأت أعمل من جديد في جمع المادة من البقية الباقية من الكتب المطبوعة على أمل الانتهاء من ذلك خلال شهر لآخذ راحة ذهنية محدودة أبدأ بعدها بعملية ترتيب المادة واستكمالها ، إن شاء الله.


تحريك المياه الراكدة!
الاثنين 14 نيسان 1975م = 2 ربيع الآخر 1395هـ
إن ما تسمعه مهما كان خافتاً ، وما تبصره مهما كان غائماً ، لحظة أو ساعة لا بد أن يترك في النفس أثراً قد لا يُحَسُّ في لحظتها لكنه يترسب في القاع كمن يلقي ذرة صغيرة من رمل في بحر من المياه ، تترسب بهدوء وتأخذ مكانها في الأعماق ، وذرة أخرى وأخرى .. وذات يوم تكون طبقة ، وتكون شيئاً محسوساً ومؤثراً ، كل هذا طبيعي ، ولكن المحزن والمؤسف أن ينفجر الموقف بسرعة وعنف من غير ما ذرات ترسبت في الظاهر على الأقل ، فيكون الأثر هذه المرة كبيراً كأنك ألقيت حجراً ضخماً في ذلك البحر الهادئ من المياه ، فَيُحْدِثُ تَمَوُّجًا وفرقعة ثم بعدها يقف الحجر عثرة في سبيل أمور كثيرة ، ثم يعود سطح الماء إلى الهدوء ، لكنه يحتضن ذلك الحجر الكبير الذي لا يمكن إخفاؤه ، فيظل شاهداً على كل حركة ، هل يمكن أن تحدث كل تلك الفرقعة فجأة من غير مقدمات ، أستبعد ذلك ، لأنه لا يمكن أن تتمخض الأمور الهادئة بسرعة عن كل ذلك ، فلا بد أن ذلك هو رصيد الأيام الماضية ظهر اليوم على شكل حجر كبير يرمى في تلك البركة الهادئة ، لكن سطح الماء عاد إلى هدوئه من جديد مع بطء شديد لكنه عاد ، وهو يحتضن هذا الحجر الذي سيعطل أو يعيق الحركة الهادئة ، وسيكن نواة لانفجارات أخرى ، وهناك مادة داخل مياه تلك البركة تعمل على تفتيت أمثال تلك الجلاميد ولكن أيهما أسبق في العمل هل الجلاميد المتكاثرة أم المادة التي تذيبها ولا تبقي لها أثراً ؟!

أسئلة ليس لها جواب
الأربعاء 23 نيسان 1975م = 11 ربيع الآخر 1395هـ
كنت أشعر أني أدور أو أن الأرض تدور ، كان ذلك أثر صداع من زكام قد مرت عليه أيام ، لكني الليلة بدأت أشعر أني أدور دوراناً مقلوباً ، أو أن الأرض راحت تدور بجنون ، فأظلمت أطراف الأرض ، وانتقلتُ إلى عالم مسحور ، أي أنه غريب ، كنت أدور على أطراف حديقة مدورة قد رُصِفَتْ أطرافها لمرور الناس ، كان المكان نصف مُضَاءٍ ، ووسط الحديقة مظلم ، ومع أن الجو كان ربيعياً لطيفاً لكن ذلك الدوران المتعدد الأطراف والجهات أفقدني المتعة بكل ما حولي سوى أني أدور في عالم مسحور ، كان يحدثني من أعماقه ، وأنا أستجمع كل حواسي لألتقط ما يقول لأفهم ، لأهيئ ما يمكن أن أقول ، كنت أخشى أن أقول كلمة يمكن أن تثير أثراً سيئاً ، وكان يقول لي : لماذا ينظر الناس إلي ، ما هذا الانتباه ؟! م يحدثني الناس حين ألتقي بهم ، ثم يسألوني عن أمور في السياسية وفي قضايا الساعة ، لماذا هذا التركيز هل هناك سر؟! لماذا هذه المجاملة من كل من ألقاهم ، وكثير مثل هذا الكلام ، وأنا أحاول أن أقنعه أن كل ذلك طبيعي ، وأن كل إنسان يعيش في مجتمع يمكن أن يلتقي بالناس ويحدثونه ويسألونه ويحدثهم ويسألهم ، لكنه كان يأبى لا بد أن هناك شيئاً ما ، ولكني لا أعتقد أن هناك شيئاً أي سراً إلا بالقدر الذي يمكن أن يكون حين نتساءل لماذا نمشي في الأسواق ، لماذا نذهب إلى الجامعة ، لماذا نلتقي بالناس ، لماذا نأكل ونشرب ، وننام ، لماذا أشياء كثيرة من هذا القبيل ، هذه مثل تلك ، لكنه كان يأبى إلا أن يكون هناك سر ، وراح هو يسرع في الدوران ، وكنت أخشى أن يرهقه الدوران فيقع على الأرض ، قبل أن يذهب كل إلى سبيله وقد انتصف الليل!(8)

رسالة سعيد بن أمجد الزهاوي
الأربعاء 30 نيسان 1975م = 18 ربيع الآخر 1395هـ
ذهبت بعد الظهر مع الأخ خليل لتوديع الأستاذ كاظم الراوي ، إذ إنه سافر اليوم مساء إلى العراق ليلتقي بأهله ويطمئن عليهم ، بعد أن حصل على درجة الماجستير ، وهو الآن يعد للدكتوراه ، ذهبت بعدها إلى معهد اللغات لتعليم الانجليزية فأنا مستمر بالحضور منذ افتتاح الدورة يوم 6/4 ، ومع أن الدروس غير جادة كثيراً فإنها لا تخلو من فائدة ، بل ربما ستكون ذات قيمة حين أتعلم اللفظ الصحيح للغة الانجليزية ، الدروس التي أحضرها يومان في الأسبوع : الأحد والأربعاء من الساعة الخامسة حتى السادسة والنصف من مساء هذين اليومين ، وبعد أن أنهيت درس اليوم ذهبت إلى كلية الحقوق في جامعة القاهرة ، حيث تناقش رسالة السيد سعيد ابن عالم العراق ومُفْتِيهِ المرحوم الشيخ أمجد الزهاوي ، كانت الرسالة حول التعسف في استعمال الحق ، سَجَّلَها منذ ما يقرب من 25 سنة! وظل يعمل ويسافر إلى فرنسا أحياناً للاطلاع على المصادر ، وهو يعمل في العراق مدرساً في الجامعة ، واليوم وُضِعَتْ جهوده أمام لجنة المناقشة ، وهو يبدو عالماً في المادة أكثر من مناقشيه ، لكن الأستاذ سعيد قد فُطِرَ على صفة تعوقه من إيصال أفكاره بسهوله إلى مستمعيه ، فإنه يعاني من لُكْنَةٍ في لسانه ، أو حُبْسَةٍ بعبارة أصح ، تخفي ذلك العلم ، لكن الناس في هذا الزمن لا يبحثون أكثر مما تسمعه آذانهم ، فَعَوَّضَهُ الله خيراً ، وقد حصل على الدكتوراه بدرجة جيد جداً .

عيد العمال
الخميس 1 مايس 1975م = 19 ربيع الآخر 1395هـ
نسينا أنفسنا فصرنا نفرح لفرح أعدائنا ونحزن لحزنهم ، على أساس أننا جزء من العالم المتمدن . في العالم الرأسمالي أو الشيوعي يحتفلون في هذا اليوم بما يسمى بعيد العمال المرتبط بحادثة العمال في أمريكا قبل ما يقرب من مئة سنة ، رحنا ننافس الشرق والغرب في الاحتفال بهذا اليوم ، والتملق للعمال وإلقاء الخطب على أسماعهم ، اليوم كانت الدوائر معطلة هنا وخاصة دوائر العمال ، وتوقعنا أن المكتبات أيضا مقفلة ، فكنا نشعر في هذا الصباح باسترخاء ، خاصة أن هذا اليوم هو أول أيام التوقيت الصيفي إذ قُدِّمَ الوقت ساعة ، خرجت مع الأخ خليل لزيارة الأخ عبد الستار القدسي الذي خرج من المستشفى ، وهو يستريح الآن في بيت أحد أصدقائه في شارع جسر السويس ، ومن هناك نزلنا إلى مركز المدينة وذهبنا إلى بعض المكتبات ، واشتريت كتاباً في القراءات هو مختصر ابن خالويه في القراءات الشاذة ، وزرنا مكتبة وهبة ، ووقفنا أمام كتبها لحظات ، وتذكرنا بعض ذلك التاريخ الحافل ، ثم عدنا إلى البيت مسرعين بعد أن شعرنا أن التوقيت الجديد قد عَجَّلَ بسير عجلة الزمن ، إذ وصلت الساعة الواحدة والنصف سريعاً ، وهي في الحقيقة التي نراها كل يوم من قبل لم تجاوز الثانية عشرة والنصف .

أحداث
الجمعة 2 مايس 1975م = 20 ربيع الآخر 1395هـ
مضت أيام وأنا لا أجد الفرصة لأكتب هذه السطور ، كنت أختلس دقائق قبل أن آوي إلى الفراش لأكتب ، وأنا بين النوم واليقظة ، وحتى هذه الدقائق لم أجدها خلال تلك الأيام ، وقد كانت هناك أحداث كان علي أن أواكبها لأنها ملفتة للنظر ، غَيَّرَتْ وجهة حياة أقوام ، وبدلت أحوال أناس ، وأنهت مآسي وبدأت أخرى ، ففي بلدنا تسير الأمور في اتجاه يخالف تماماً الاتجاه الذي كانت تأخذه قبل أشهر ، فمنذ اتفاق الجزائر بين العراق وإيران فإن الأمور وخاصة سياسة العراق الخارجية أخذت تتغير على أثر ذلك الاتفاق ، توقفت حركة الأكراد وشُلَّتْ فاستسلمت ، تَحَسُّنٌ ظاهر في علاقات العراق مع إيران تُوِّجَتْ بزيارة هويدا للعراق ، وزيارة صدام حسين لإيران قبل أيام ، ثم إنهاء الخلافات مع السعودية وتحسين العلاقات مع الكويت ، ثم ظهور مشكلة الفرات وحبس سوريا للمياه ، وعلى صعيد العرب استمرار حالة الركود في ما يسمى بأزمة الشرق الأوسط بعد فشل مهمة كيسنجر ، ثم الأحداث الدموية التي حدثت قبل أيام بين فصائل المقاومة وأفراد مليشيا حزب الكتائب اليميني ، حتى قيل إنها حرب طائفية بين المسلمين والمسيحيين ، ذلك لأن جيش الكتائب وحزب الكتائب يمثل كتلة مسيحية ، وأسفرت الأحداث عن مقتل وإصابة ما لا يقل عن 200 ، وفي نطاق العالم هناك في جنوب شرقي آسيا حيث تجري أكبر الجرائم من قتل واعتداء على الحرمات إن كانت هناك حرمات ، سقطت حكومة كمبوديا ، ثم تبعتها حكومة سايگون قبل أيام ، وبذلك انتهت سنوات من التدخل الأمريكي ، لتنحرف هذه الدول وتخضع تحت نفوذ المعسكر الشيوعي ، أحداث كثيرة وسريعة لكني لا أستطيع مواكبتها.


نعمة الإيمان
السبت 3 مايس 1975م = 21 ربيع الآخر 1395هـ
ذهبت صباحاً إلى السفارة لتجديد جواز السفر ولاستلام مبلغ المنحة الشهرية التي احتسبت لي من بداية سنة 1975 تقريباً ، خرجت بعد الظهر من مبنى السفارة بعد أن أنهيت ما ذهبت لأجله من أعمال ، وأنا أحمد الله لا لأني تسلمت بضعة جنيهات ، ولكن لنعمة قد غفلتُ عنها وهي تغمرني وأعيش معها دائماً ، تلك هي نعمة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، إنها لنعمة عظيمة حقاً تحقق لمن أخلص معها السعادة في الدارين ، وإني لأحس ببعض تلك السعادة بقدر ما أحاول الارتفاع إلى ذلك المرتقى السامي ، إن الدنيا في عين المؤمن لا تساوي شيئاً أكثر من كونها وسيلة لأداء الرسالة التي كُلِّفَ بها الإنسان ، إنها جزء من مادة ذلك الامتحان الذي نستشعره من قوله تعالى : (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ..) ، أما في نظر غير المسلم فإنها شيء له بريق يخطف الألباب والعقول ، إنها غايته فهو يمتطي إليها كل صعب وحَزْنٍ ، وكل مُلْتَوٍ ومظلم ، لأنها مُنَاهُ وغايته ، لا يعرف حلالاً ولا حراماً ولا خيراً ولا شراً ، يغرق في متعتها ويسكر حتى يفقد الوعي والذاكرة ، حتى إذا طرق ملك الموت بابه استيقظ ، لكنه لم يعد يملك شيئاً ، استيقظ ليشهد على نفسه ويتحسر في ظلمة موحشة وأهوال الله أعلم بها ، وما سيعبر إليه بعدها (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم)، وكل هذه المعاني وغيرها أوحت بها رحلة اليوم ، حيث التقيت بأحدهم ، كنت أعرفه أو كان يُعْرَفُ بالاستقامة وخفة الروح ، وهو لم يزل خفيفاً لأنه فقد أشياء كثيرة ، إنه يحض على المنكر ويدعو إليه هنا في القاهرة ، ويتكفل بتيسيره لضيوفه ، وهم فرحون !

مع مصحف طشقند
الاثنين 5 مايس 1975م = 23 ربيع الآخر 1395هـ
بدأت اليوم القراءة في مصحف طشقند الموجود منه نسخة مصورة في دار الكتب المصرية ، ودراسة ما فيه من ظواهر الرسم وتسجيلها .


الانتهاء من مصحف طشقند
الثلاثاء 13 مايس 1975م = 1 جمادى الأولى 1395هـ

انتهيت اليوم من دراسة مصحف طشقند.


مناقشة
الثلاثاء 20 مايس 1975م = 8 جمادى الأولى 1395هـ
حضرت اليوم مناقشة رسالة السيد مجيد رشيد التكريتي عن النظام الگمرگي في الدول (المتخلفة) مع دراسة تطبيقية عنه في العراق ، وقد منح شهادة الماجستير بدرجة جيد .


معالجة
الخميس 29 مايس 1975م = 17 جمادى الأولى 1395هـ
بدأت اليوم بتنظيف وحشو أسناني المتحاتة حتى القعر ، عند طبيب الأسنان د. نصر الله ناشد رئيس قسم طب الأسنان في عين شمس.


أحداث لم تسجل
الخميس 5 حزيران 1975م = 24 جمادى الأولى 1395هـ
مضت أيام ولم تتح لي فرصة أن أكتب بضعة سطور في هذه الصفحات التي أستعيد بها أيام الماضي ، وأتطلع فيها إلى المستقبل ، ولا شك أن في كل يوم يمر وفي كل ساعة ولحظة هناك ميلاد جديد وموت وليد ، وأحداث جسام تخص مجموع البشر القاطنين ظهر هذه الأرض وأحداث تخص أفراداً ، شرور يتقلب في جنباتها الشيطان وكفر بالله والمسجد الحرام ، وبصيص من الأمل يقود خطى السائرين يرجون رحمة الله ، مضى شهر وكم سُجِّلَ فيه للناس وعليهم ، أحصاه الله ونسوه ، وأنا لم أزل أجوب رياض الكتب وأقطف من ثمارها ، والشوق يهزني كل حين ، ولكن إلى من ؟ لاشك أن كثيراً منه إلى الأهل بعيداً هناك ، والله أعلم بالكثير الباقي! وهناك العتاة يأخذون بخطام السفينة ، رحل السادات في مطلع الشهر الماضي أو في بداية العشر الثانية منه إلى دول الخليج وزار العراق وسوريا ، والتقى بفورد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في سالزبورج نهاية الشهر ، والأزمة بين سوريا والعراق تتضارب عنها الأنباء ، والناس كما يقال يتطلعون إلى مياه الفرات الحبيسة خلف السدود ، كذلك في الشهر الماضي صدرت الأحكام على من اشترك بما يسمى بقضية الفنية العسكرية (في القاهرة) ولحقهم أيضاً جماعات أخرى من أهل الكهف وحُرَّاق الأضرحة ، ولكن اليوم يختلط الألم بالأمل ، فُتِحَتْ اليوم قناة السويس بعد مرور ثماني سنوات على غلقها ، يوم ذَبَحَ جنود اليهود أطفال القرى العربية.

مصحف جامع عمرو بن العاص
الخميس 12 مايس 1975م = 2 جمادى الآخرة 1395هـ
منذ يوم أمس فُتِحَ أمامي الطريق للقراءة في المصحف المخطوط على الرَّقِّ ، والمجلوب من جامع عمرو بن العاص ، والمحفوظ في دار الكتب المصرية ، وهو ناقص في عدة مواضع ومُكَمَّلٌ بورق عادي ، لكن الأصل المخطوط على الرق لا يزال مقروءاً ومحتفظاً بكل خصائصه تقريباً ، وهو قديم لا شك ، وربما يعود إلى القرن الأول الهجري ، فهو غير منقوط ولا مشكول إلا من طريقة غريبة للإعجام ، وهي الإشارة إلى إعجام الحروف بواسطة ( الخطوط الصغيرة) ، وهو مكتوب بخط كوفي ثقيل ، وقد لاحظت أن الخط يختلف بين ثلاثة أنواع : مُنَسَّقٌ ومُسَطَّرٌ جيداً ، وبدائي غير منسق ، وبينهما نوع هو غير منسق لكن الحروف تكتب فيه أحياناً غاية في الفن والروعة ، وقد وصلت اليوم في القراءة قريباً من الجزء العشرين ، وسأحاول بإذن الله أن أكمل قراءته في الأسبوع القادم ، وأنا آخذ منه أمثلة تعين في دراسة بعض ظواهر الرسم ، وقد ثبت لي أن أي مصحف قديم مخطوط يعين في تفهم الظواهر التي تبدو غير منضبطة ، مثلا زيادة الياء في كلمة (بأييد) لا يزال الناس حائرين بهذه الياء الزائدة ، ومنهم من يُجِلُّ الصحابة عن أن ينسب إليهم الخطأ حتى ولو كان ذلك في الخط ، ومنهم من يقول إنهم أخطؤوا وأن الخط ليس كمالاً في حقهم ، ولكني وجدت في المصحف أن كلمة (بآية) مكتوبة بياءين إحداهما زائدة أيضا ، وأحسب أني عثرت على الخيط المُوصِلِ إلى الفهم الصحيح لهذا الرسم، إن شاء الله.

جولة بين المصاحف القديمة
الثلاثاء 24 حزيران 1975م = 14 جمادى الآخرة 1395هـ
كنت في الأيام الماضية أخرج إلى المكتبة كل يوم ، متنقلاً بين مكتبة معهد الدراسات العربية ، ومكتبة جامعة القاهرة ، ومكتبة الأزهر ، ودار الكتب ، أحاول أن أصل إلى آخر مصادر البحث تهيؤاً لبدء الكتابة بعد ذلك إن شاء الله ، وكان قد بقي بعض من مصحف جامع عمرو بن العاص المحفوظ في دار الكتب لم أقرأه ، كذلك لم أقرأ في المصحف الآخر أو بعض المصحف المنقوط على طريقة أبي الأسود ، فذهبت إلى دار الكتب الجديدة أمس ، وبعد جهد سُمِحَ لي بالدخول إلى قاعة المصاحف وبدأت أقرأ بسرعة ، حتى إني انتهيت من قراءة مصحف جامع عمرو مع تدويني بعض الظواهر التي يمكن الإفادة منها ، وجئت اليوم مبكراً مع علمي أن فتح القاعة لن يتم قبل التاسعة والنصف بل وحتى العاشرة ، وسُمِحَ لي بالدخول أيضاً للقراءة في المصحف المنقوط ، وبدأت أعمل بسرعة محاولاً أخذ وتدوين ما يمكن الإفادة منه ، وخلال ذلك كان أحد موظفي الدار يمر عليَّ ويهمس في أذني كل حين : حافظ على المصحف ، احذر من تمزيق الأوراق ، ومن سقوط الحبر على الصفحات ، وانتهيت من قراءة المصحف المنقوط ، لأنه لا يتجاوز المئة صفحة ، وفي كل صفحة سبعة أسطر ، وبدأت أحاول القراءة في مصحف آخر أو النصف الأول منه منسوباً إلى جعفر الصادق ، لكن إبراهيم طلع مرة أخرى ، ودخل هذه المرة مزمجراً ، وقال : ممنوع الاطلاع على المصحف هنا ، لا بد أن تنزل إلى قاعة المطالعة ، وكنت أدخل قاعة المصاحف لصعوبة إنزال المصاحف إلى قاعة المطالعة خشية أن يحلق بها أذى ، فوافقت على أن يجلب لي مصحف جعفر الصادق ، وهنا انبرى يقول : إن هذا المصحف لا يمكن الاطلاع عليه ، ولا يمكن إنزاله لأنه يتلف بسرعة ، (وهو مكتوب على الرق = جلد الغزال) وبعد أخذ ورد ، وهو يزداد عناداً ، فلم أملك إلا أن أتكلم بكلام لا أعلم الآن حدوده ، وجاء من كان موجوداً في قسم المخطوطات ، وانسحب أستاذ إبراهيم ، ووافق من حضر على أن أبقى في القاعة وأقرأ بقية اليوم في ذلك المصحف ، وجلست برهة من الزمن مشتت الفكر ، أعالج آثار الانفعال الحاد وجفاف الريق ، ثم قرأت بعض الصفحات لأستوضح طريقة شكل ذلك المصحف الذي تبين لي أنه مشكول على أكثر من قراءة ، وخرجت من الدار قبل انتهاء الدوام ، وأنا أفكر في ما ستصير إليه الأمور مع هؤلاء ، فأنا متيقن أن كل ما حدث من منعي من الاطلاع على المصاحف أمس ، ومن قبل ذلك ، كان محاولة لدفعي إلى رشوتهم ، كان ذلك واضحاً من كل كلمة تقال ، وكنت أعرف ذلك جيداً ، فإذا كان الاستقبال حاراً أول الأيام إلى حيث صار بارداً قاسياً في آخرها ، بعد أن لم أقدم لهم شيئاً عامداً ، لأني لم أعتد على هذه الطريقة في التعامل ، وفي أمر يتعلق بالمصحف ! والحمد لله الذي يسر لي القراءة في أربعة مصاحف من المصاحف القديمة ، وهو ما يعطي مادة جيدة للبحث .

متاعب لا تنتهي
الأربعاء 30 تموز 1975م = 21 رجب 1395هـ
مضت أيام كثيرة لم أجد الفرصة التي أتمكن فيها أن أكتب بعض هذه السطور ولا الهمة التي تدفعني إلى تكلف بعض هذا الهذر الذي أرجو أن يعفو الله عما فرطت فيه ، وكنت مشغولاً بين الذهاب إلى المكتبة أو الجلوس إلى كتاب في البيت أو الخلود في ساعة إلى الراحة أو الانقطاع إلى عتبة الذكريات الحزينة والهموم الثقيلة والآمال البعيدة : بعيدة المنال بعيدة في عليائها ، لكني أحلم وما على الإنسان في أن يحلم ، ومنذ أن نزلت القاهرة أو غمرتني القاهرة بهرجها ومرجها ، كانت تكاليف الحياة تأخذ قسطاً من الوقت والجهد والتفكير إلا أن ذلك لم يكن ليعيقني كثيراً أو أنه يطغى على حياتي ، وتمر الأيام ... ومع أني قد لازمني حسن الطالع منذ أن نزلت مع الأخ خليل في هذه الشقة التي نسكنها إلى الآن ، إلا أن وحشة المدينة المخترقة أطرافها والآسنة أعماقها لم تزل تتسور علينا جدران الشقة وتقذف ببعض خبثها علينا ، وما لنا في ذلك من حيلة ، وما نملك من رده من سبيل ، كنا مضطرين أن ندخل في الشقة شغالة تعيننا على أمور إعداد الطعام وتنظيف البيت ، وكنا نجد من خشية الله وتقواه ما يدفعنا إلى حسن معاملة الشغالة وإكرامها ، وتمر الأيام وتذهب شغالة وتجيء أخرى ، لكن كل ذلك الإكرام وتلك المعاملة الكريمة تذهب هباء كأن لم يكن شيء مذكوراً ، وكل مرة تكشف الأيام عن جوهر تعبان مغطى بظاهر بشرى براق ، كل مرة يخيب الظن ونفقد الأمل ، نفقد الأمل في هذه الأمور الحقيرة ، لكن لنا أملاً أكبر لن نفقد الثقة به أبداً ، إن شاء الله . وعلى كل حال فقد أيدت الأيام زعماً كنا نسمعه أن الشاذ في طبقة الشغالات من لا تسرق ، أي أن السرقة صفة غالبة عامة لا يخرج من ذلك إلا الواحدة أو العدد المحدود ، وكانت عندنا شغالة لأشهر طويلة وكانت موضع ثقتنا ، ما راعنا إلا تكشف الجريمة وكانت خيبة أمل كبيرة ، وقلنا لقد صدق الزعم الذي سمعناه ، وأفقنا من غفلتنا ، ولكن جرت الأمور ومرت الأيام وراحت تلك وجاءت أخرى ، وكنا هذه المرة أكثر حذراً ، لكن يبدو أن الحذر يجب أن يكون دائماً من حيث لا يتوقع الإنسان الشر ، ولم تمض إلا أيام حتى خُدِعْنَا بدماثة الحركة والمظهر ، وزعمت أنها تريد أن تشتري لنا من حارتهم الشعبية رزاً وسكراً وزيتاً ، وطلبت منا مزيداً من الفلوس لتملأ البيت بذلك ، ومرت علينا اللعبة وانطلت وذهبت بالفلوس وبكل ذلك ، وزادت فينا ألم المرارة وخيبة الأمل ، وقلنا إننا سنواجه الأمر بحذر أكثر هذه المرة ، وجاءت أخيراً أم سعيد ، قد قاربت الخامسة والأربعين ، وهي أم لرجال أو شباب يعملون ، وزوجة لرجل كهل مقعد ، ومضت الأيام ، ونحن نحاول أن نحسن المعاملة لعلها تكون وقاء من الشرور ، ومضى الآن ما يقرب من الشهرين على عملها ، وكلما مر يوم تأكد ذلك الزعم المؤسف ، مؤسف لأنه يدل على شيوع تلك الظاهرة ، وليس حالة فردية ، فقد أزعجنا يوماً أن رائحة كريهة أخذت تغرق البيت وتخنق الأنفاس ، وحاولنا أن ننظف كل شيء ، وأخيراً اقتنعنا أنها زالت ، وقبل أيام تكررت نفس الحادثة ، وازدادت الرائحة كانت تنبعث من المطبخ ، وبعد بحث وجدنا كيس لحم صغير مخبأ تحت الثلاجة ، وقد تُرِكَ حتى تعفن ، وصارت رائحته كريهة ، وكان كل شيء في تلك الأثناء من مستلزمات الأكل يتعرض للنقص ، حتى تم لنا اليوم الوقوف عياناً على سرقة اللحم ، فأم سعيد تسرق بغير حياء أكياس اللحم التي نحتفظ بها في الثلاجة ، إذ إننا نشتري كل أسبوع مرة ما يكفي من اللحم ، ونحفظه في أكياس النايلون مجمداً ، وحاولت الإنكار ولكن الحقيقة كانت أكبر من أن تغطى ومع ذلك فإنها غادرت دون حياء ، ونحن تحت وطأة الحاجة إلى شغالة واقعون ، فما الحيلة !


صياغة خطة البحث
الاثنين 4 آب 1975م = 26 رجب 1395هـ
منذ بداية هذا الأسبوع حاولت أن أخطو خطوة جديدة في منهج العمل ، فإني كنت قبل ذلك منصرفاً كلية إلى جمع المادة من الكتب ، ولكني أخيراً وجدت نفسي قد استغرقت كثيراً من الوقت في ذلك ولم يبق علي إلا أن أبحث في بعض الكتب لجمع المادة التاريخية وبعض ما تبقى مما يتعلق بالبحث ، كنت قبلاً أخرج صباحاً إلى إحدى المكتبات لأعود أعمل بعد الظهر في كتاب أستعيره من إحدى المكتبات أو كتاب أمتلكه ، أما الآن فإني أخرج صباحاً إلى إحدى المكتبات أحاول أن أصل إلى نهاية مع المكتبات أو قريباً منها ، وبعد الظهر بدأت بقراءة ما تجمع لدي من مادة محاولاً تصنيف البطاقات ، وقد رسمت نهاية الأسبوع الماضي خيوط خطة جديدة على ضوء الرحلة بين الكتب ، فقد جعلت البحث في بابين يتصدرهما فصل تمهيدي مهم يتصل بتاريخ الكتابة العربية قبل الرسم العثماني ، وجعلت الباب الأول في جمع القرآن وكتابته وقراءاته ، والباب الثاني في دراسة الرسم العثماني وبيان خصائصه وتتبع تطوره وعلاقة بالإملاء الحديث ، لا شك في أن هذه الخطة تنتظر موافقة الأستاذ المشرف وتنتظر نظرات أخرى ، المهم أني بدأت أصنف المادة ، أحيانا اقرأ البطاقات بعناية كبيرة وأخرى أكتفي بعنوانها لأضع لها رقماً يشير إلى الفصل والمبحث ، وآمل أن أنتهي من هذه العملية نهاية هذا الأسبوع ، إن شاء الله.

مغادرة أم سعيد
السبت 16 آب 1975م = 8 شعبان 1395هـ
مع أننا أقل الناس معاناة من أمر الشغالات إلا أننا رأينا منهن كثيراً من المزعجات ، وقد كانت آخرهن أم سعيد ، امرأة كبيرة في السن ، وتفاءلنا أول أيام عملها خيراً ، لكن الأيام خيبت ظننا ، وجرى عليها ما يجري على كل الشغالات من السرقة والختل ورضينا بذلك ، وكانت السرقة تتم على أعيننا ، ولكن نقول أشياء بسيطة ، وليس من اليسير التعامل مع شغالة جديدة لتبدأ نفس المسيرة ، وعادت إلينا اليوم بعد الظهر لتخبرنا أنها تعتذر عن مواصلة العمل لأنها اتفقت مع عائلة من إحدى دول الخليج على تربية طفل لهم ، وأنها ستسافر معهم ، ولم يعنها أمر الاتفاق معنا ، وبعد أخذ ورد أعطيناها الحساب ومضت لسبيلها ، وعادت من جديد مشاكل الغسيل والتنظيف والطبيخ ، وبدأت من جديد تظهر عوامل تبعث أحياناً بعض الحرج والضيق ، وليس لدينا من الوقت الفائض ما نشغله في هذه الأعمال الجديدة سوى أن نقتطع من وقت الدراسة ، وهكذا تطول الأيام من غير أن يكون هناك تقدم ملموس في العمل ، ونحن الآن ملزمون بالبحث من جديد عن وجه جديد، لكنه نسخة من الوجوه القديمة ! والله المستعان .

نشرت هذه الحلقة يوم الجمعة 2/5/1431هـ

ــ الحواشي ــ
(1) الأخ الدكتور عبد الستار عبد الحميد القدسي البغدادي ، أبو معاذ ، عرفته في القاهرة في أثناء إقامتي لدراسة الماجستير ، كان يدرس الحديث في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر ، وزاملته مدرساً في كلية الشريعة بجامعة بغداد ، ثم عاد إلى مصر لدراسة الدكتوراه ، وعمل في المملكة العربية السعودية ، في كلية التربية في الطائف ، وتوفاه الله منذ سنوات ، رحمه الله .
(2) كان ذلك قبل صدور مصحف المدينة النبوية .
(3) كاتب هذه الرسالة الأستاذ الفاضل المربي كاظم فتحي الراوي ، وطُبِعَتِ الرسالة في كتاب بعنوان ( أساليب القسم في اللغة العربية ) سنة 1397هـ = 1977م ، بمساعدة الجامعة المستنصرية ببغداد ، وبلغ عدد صفحات الكتاب (566) صفحة ، وهو والد المهندس أحمد الراوي الذي التقينا به في القاهرة , وأقام عندنا في الشقة فترة ، وتوفي الأستاذ كاظم قبل أسابيع في مدينة راوة في العراق ، رحمه الله تعالى .
(4) طلبت نسخة الرسالة من الشيخ أحمد الكومي ، رحمه الله ، أستاذ التفسير في كلية |أصول الدين بجامعة الأزهر ، فرحب بي ودعاني إلى بيته ، وأخذت النسخة معي ، وأعدتها إليه بعد مراجعتها .
(5) الجواب أن نوازع القومية لم تمت ، وجرت أحداث خلال السنين الماضية في شمال العراق ، وسالت دماء في ظل تلك النوازع ، وعادت بقوة مدعومة هذه المرة من الأمريكان .
(6) لم تعد هذه المسألة تشغلني كثيراً ، فقد حاولت منذ عقود تحسين لغتي بالإنكليزية ، وحاولت التقديم لدراسة الدكتوراه في إحدى جامعات بريطانيا ، لكن لم يتحقق ذلك ، واليوم أجد أن تلك الأماني صارت من الماضي ، وأنا راض بما تحقق لي من فرص للدراسة والبحث ، والحمد لله رب العالمين .
(7) كان ذلك ظناً غير دقيق ، فقد جاء البحث واسعاً جداً ، جاوز ثماني مئة صفحة !
(8) يبدو أن هذه الصفحة تحكي لقاء مع أحد معارفي ، كان يدرس الماجستير في القاهرة ، وكان يعاني من مرض انفصام الشخصية ، وكثيراً ما كانت تنتابه نوبات من القلق غير المبرر.





الحلقات السابقة :
1- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الأولى)
2- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثانية)
3- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثالثة)
4- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الرابعة)
5- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الخامسة)
6- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السادسة)
7- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة السابعة)
8- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة الثامنة)
9- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة التاسعة)
10- ذكريات غانم قدوري الحمد........ (الحلقة العاشرة)
 
جزاك الله خيراً يا دكتور ورفع قدرك ، أمتعتنا كعادتك بهذه الخواطر والذكريات ، تلك أمة قد خلت، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم العاقبة ...
 
بارك الله في عمرك وجزاك خيرا على هذه الذكريات المفيدة الممتعة .
 
ما أعذب هذه اليوميات والذكريات ، ويزيدها جمالاً أننا نقرأ ثمراها اليوم في المؤلفات التي كتبها الدكتور غانم وفقه الله . وفيها دروس للباحث المبتدئ والمنتهي على حد سواء ، ففي الوقت الذي عانى فيه الدكتور غانم صعوبة الاطلاع على مصادر بحثه وأنفق الكثير من الوقت والجهد والمال في سبيل الوصول إليها والاطلاع عليها، فالمصادر اليوم متاحة للباحثين ، ولكنهم يقصرون تقصيراً كبيراً في الاستفادة منها وتوظيفها التوظيف الصحيح. فحين توفرت المصادر ضعفت الهمم .
 
بارك الله فيك أستاذنا الفاضل على هذه الذكريات المليئة بمصاعب الحياة التي واجهتموها خلال مسيرتكم المباركة وأسأل الله تعالى أن يجزل لكم الأجر على ما تحملتم وأن يرفع درجاتكم في عليين. سبحان الله وصلنا كتابكم في رسم المصحف فقرأناه مستمتعين طالبين المعرفة ولكن بعد قراءة ذكرياتكم ينبغي إعادة قراءته حتى نستشعر متاعب كل مراحل وفصول الكتاب فجزاكم الله تعالى عنا كل خير وجعل كل ما مررتم به في ميزان حسناتكم ورفعة في درجاتكم إنه جواد كريم.
بانتظار الحلقة القادمة لكم كل التقدير والاحترام والشكر على مشاركتنا هذه الذكريات وشكر الله لشيخنا الفاضل الدكتور عبد الرحمن على هذه الفكرة القيمة في نشر هذه اليوميات.
 
لا زلت أجد طعما مميزا ونكهة خاصة لكل حلقة من هذه الحلقات!
ما أجمل حكاية التجارب، وقراءة السير، إذ تُقدَّم فيها العلوم الكبيرة بأعذب أسلوب وأحبه إلى النفس .
هنا نجد شاهدا على عصر من أهم العصور، وفترة من أدق فترات تاريخنا المعاصر، اشتدت فيها على المسلمين الوطأة، وتكالبت فيه الأمم، كل ينهش جهده، ويبث من السموم ما يقدر عليه فما هو موقف الشباب المسلم وسط ذاك التيار الهادر والعصف المدمر؟
وما هو دور المثقفين؟ وعمل المعلمين؟ ودور أهل التربية؟
هنا تحكى التجارب وتعرف دقائق ما كان يعيشه شباب ذلك اليوم، وليس أي شباب، بل السراة منهم والمبرزون الذي كانت عليهم التُكأة لصوغ مستقبهم الذي نعيش اليوم حلوه ومره .
هنا تجتمع الخبرة مع العلم، ويجتمع الفكر مع النظر، ويجتمع النصح مع التجربة، فتصاغ جميعا في قالب واحدٍ جذابٍ طيبٍ للواردين، ينهل منه الشبيبة ما يطفئ عطشهم ويروي غليلهم .

فأسأل الله لكم -دكتور غانم- السداد والتوفيق، والبركة في المال والأهل والوقت، وتمام الأجر، وكتابة القبول والبركة في كل ما تكتبون.
 
ما أجمل هذه الذكريات ،
جهد وعزمٌ وثبات ..
حققتم بها قفزاتٍ ووثباتٍ ..
أحسن الله إليكم وبارك فيكم ..
زدنا زادك الله من فضله يا دكتور ، فما ملَّت أعيننا ولا كلَّت أنفسنا ..
 
أشكر جميع الإخوة والأخوات الذين قرؤوا هذه اليوميات ووجدوا فيها ما أمتعهم ، فدعوا لكاتبها بالخير ، فجزاهم الله كل خير ، والحمد لله الذي وفق لكتابتها ، ولم يخطر ببال كاتبها أنها ستقرأ في يوم ما من قبل مئات القراء ، وتحظى باهتمامهم ، شكر الله لمن سعى في نشرها ، وأسهم في إعدادها .
 
عودة
أعلى