دراسة للتشابه اللفظي في: أنظرني ..... رب فأنظرني

د محمد الجبالي

Well-known member
إنضم
24/12/2014
المشاركات
400
مستوى التفاعل
48
النقاط
28
الإقامة
مصر
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) الأعراف
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) الحجر
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) ص

في هذا الموطن من المتشابه اللفظي مسألتان:

الأولى ما وجه الإيجاز في آية الأعراف بحذف النداء [رب] والعطف بالفاء في آية الأعراف وثبوتهما في آيتي الحجر و[ص]؟

الثانية: لماذا عطف بالفاء ؟

لقد نظرتُ في بعض التفاسير التي أعلم أنها تقف أحيانا عند بعض مواطن المتشابه اللفظي وتوازن بينها وتؤولها كصاحب البحر والزمخشري والشوكاني وأبي السعود وابن عاشور لكني لم أقف على شيء ؛ إذ مروا جميعا على هذه الآيات كل منها في منزلها من السورة ولم يلتفتوا إلى نظيرتيها في السورتين الأخريين.
فهذا أبو السعود كرر تأويله لآية الحجر بلفظه - أو يكاد – في آية [ص][1] ،
أما ابن عاشور رحمه الله فحين وصل إلى آية [ص] قال: "وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَتَفْسِيرُهَا هُنَاكَ مُسْتَوفى"[2].

وتلك كانت عادة المفسرين مع المتشابه اللفظي، إذ لم يتلفتوا إليه إلا نادرا.

إن أكثر المفسرين يرون أن تأويل الآية المتقدمة يمكن إسقاطه على الآية المتأخرة المشابهة لها، إذا لا فرق بينهما في المعنى، وهذا ما لا نُقِرُّه ولا نقبله، إذ أن "التشابه اللفظي في القرآن إنما هو تكرار في اللفظ، واللفظ فقط دون المعنى، فاللفظ المكرر في القرآن وعاء يحمل معنى، يتغير هذا المعنى بتغير المنازل الذي ينزلها اللفظ المكرر، فالألفاظ المكررة أوعية متشابهة القوام والأحجام والأشكال كل منها يحمل في جوفه معنى مخالفا للآخر"[3].

أما السلف من علماء توجيه المتشابه اللفظي فإنهم - أكثرهم -لم يلتفتوا إلى سياق الآيات الثلاث وإنما سلطوا أنظارهم على اللفظ وتأويلاته النحوية والبلاغية.

هذا الخطيب الإسكافي يقول: " للسائل أن يسأل عن إدخال الفاء في قوله: (رب فأنظرني) في سورتي الحجر وص، وحذفها منه في سورة الأعراف؟ والجواب أن يقال: إن قوله: (أنظرني) في سورة الأعراف وقد مستأنفا، غير مقصود به عطف على ما يقع به هذا السؤال عقيبه فلم يحتج إلى الفاء. والجواب أيضا: لما لم يكن إجابة له إلى ما طلب لم يكن أيضا معطوفا عليه بالفاء، وإنما سأل تأخير اجله، فقال: (إنك) فحكمي ممن أخر أجله، لا لأجل مسألتك..... دخول الفاء في الموضعين لتقدم ذكر العن وأن المعنى: وأن المعنى: إن آيستني من رحمتك فأخر أجلي لأنال من عدوي الذي كان سبب ذلك ما أقدر عليه من الإغواء له"[4].

أما الغرناطي: فقد نظر نظرة أوسع وإن كانت غير متعمقة ؛ إذ وجد أن السياق في آيتي الحجر و [ص] أطول منه في آية الأعراف فأرجع زيادة [رب] والفاء إلى المناسبة ، مناسبة الإيجاز بالإيجاز والإطناب بالإطناب.
قال رحمه الله : " أن مناسبة ما تقدم كل واحدة من الآى الثلاث من الاسهاب والتأكيد أو الإيجاز ألا ترى أن مجموع الكلم الواقعة من لدن قوله فى سورة الأعراف "ولقد خلقناكم " وهو ابتداء القصة إلى قوله: "قال أنظرنى إلى يوم يبعثون " بضع وأربعون كلمة، والوارد فى الحجر من لدن قوله: "ولقد خلقنا الإنسان " إلى قوله: "قال رب فأنظرنى " بضع وسبعون كلمة وفى سورة ص من لدن قوله "إذ قال ربك " إلى الآية بضع وستون كلمه، فقد وضح ما قصد فى الأعراف من إيجاز الاخبار فى القصة وما فى السورتين بعد من الإطناب ثم إنه ورد فى سورتى الحجر وص التأكيد بكل وأجمع فى قوله: "كلهم أجمعون " ولم يرد ذلك فى الأعراف فقصد ما قلناه وتناسب الإطناب والتأكيد ولاءم ما ورد من الزيادة فى السورتين الأخيرتين ولم يكن ليناسب العكس والله أعلم بما أراد"[5]


أما الكرماني رحمه الله فقال:" قَوْله {أَنْظرنِي إِلَى يَوْم يبعثون} وفِي الْحجر وص {رب فأنظرني} لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لما اقْتصر فِي السُّؤَال على الْخطاب دون صَرِيح الاسم فِي هَذِه السُّورَة اقْتصر فِي الْجَواب أَيْضا على الْخطاب دون ذكر المنادى وَأما زِيَادَة الْفَاء فِي السورتين دون هَذِه السُّورَة فَلِأَن دَاعِيَة الْفَاء مَا تضمنه النداء من أَدْعُو أَو أنادى نَحْو {رَبنَا فَاغْفِر لنا} أَي أَدْعُوك وَكَذَلِكَ دَاعِيَة الْوَاو فِي قَوْله {رَبنَا وآتنا} فَحذف المنادى فِي هَذِه السُّورَة فَلَمَّا حذفه انحذفت الْفَاء"[6]


أما ابن جماعة فلم يذهب بعيدا عما ذهب إليه الإسكافي وإن أوجز قال: قوله تعالى: (أَنْظِرْنِي) وفى الحجر: (فَأَنْظِرْنِي) بالفاء؟ جوابه: أن آية الأعراف استئناف سؤال غير مسبب عما قبله، فلا وجه للفاء وكذلك: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) خبر مستأنف غير مسبب عما قبله، تقديره: إن أخرتني فأنظرني"[7].


أما الأنصاري فقال: "قوله تعالى: (قَالَ أَنْظِرْني إلَى يَوْمِ يبعثونَ) قاله هنا بحذف الفاء، موافقةً لحَذفِ ( يَا إبليس) هنا، وقال في الحِجْر و [ص ] بذكرها، موافقة لذكره ثَمَّ، لما تضمَّنه النداء من ( أدعوك ) وأناديك، كما في قوله تعالى ( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا )"[8].

أما الدكتور فاضل السامرائي - حفظه الله -
فقد فتح الله عليه بما لم يرزقه الله أحدا ممن تقدم، ووفقه الله إلى ما لم يوفق إليه أحدا قبله في هذا العلم [توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم] ففي كتابه [التعبير القرآني]

تحت موضوع [الحشد الفني في القصص القرآني] عقد السامرائي موازنة بين قصة آدم في سورة الأعراف وقصة آدم في سورة الحجر، ثم أتم جوانب الصورة بموازنة أخرى بين قصة آدم في سورة الحجر وسورة [ص]، فقدم بيانا رائعا ، وأدلة قاطعة ، وحججا دامغة على التفاوت أو التشابه اللفظي ومن ثم تفاوت مقاصد وتوجيه الآيات والمعاني بين آيات قصة آدم في السور الثلاث [الأعراف، والحجر ، و(ص)].

إن أهم الأسس التي يقوم عليها علم [توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم] هو السياق، بل هو العماد الأول لهذا العلم ، أما الاعتماد على التأويل اللفظي لغة ونحوا وبلاغة فإن من يفعل ذلك لن يزيد على أن يسبح على سطح بحر هذا العلم دون الغوص في أعماقه لاكتشاف الدرر واصطياد واللآلئ.

وقد كان للسامرائي مهارة عجيبة في الغوص ؛ إذ بلغ مبلغا عظيما في التعمق والتأمل حتى ليكاد يصل إلى أبعد أغوار هذا العلم.

وفي هذا الموطن لم يقف السامرائي عند تأمل سياق الآيات موطن البحث فقط بل إنه بحث ونظر وتأمل السياق في السور الثلاث جميعا من أول آية حتى آخر آية في السورة ، مما مكنه من الوقوف على توجيهات رائعة سائغة ، تقوم على أدلة قوية وبراهين سديدة.

وإني حين عزمتُ على البحث في توجيه هذا الموطن من مواطن المتشابه كنتُ آمل أن أقف على جديد أضيفه إلى ما وقف عليه السابقون ، حتى أني بعد أن طالعتُ كتب المفسرين وكتب علماء توجيه المتشابه اللفظي القدامى ظننتُ أني سأُوَفَّقُ إلى جديد أضيفه، إذ لم يشفِ صدري توجيه القدامى ، ولم يطمئن له قلبي، لكني حين وقفتُ على توجيه السامرائي سكن صدري واطمئن قلبي ووجدتُ أنه ليس لدي ما أقدمه في هذا الموطن إلا البحث والترتيب والإيجاز ما استطعت.

وهذا هو قدمه السامرائي في إيجاز :

" أما من حيث السياق فإن القصة وقعت في الأعراف في سياق العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم، وفي سياق غضب الرب سبحانه فقد قال قبلها: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ...
في الأعراف: {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} وقال فيها أيضاً: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا}.

وقال في خاتمة السورة: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] فناسب بين القصة وخاتمة السورة، ذلك أنه نفى عن ملائكة التكبر وأثبت لهم السجود، بخلاف إبليس الذي أثبت له لتكبر ونفى عنه السجود....

أما القصة في سورة (ص) فقد وردت بعد ذكر الخصومة في الملأ الأعلى {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} .
وهذا هو الموطن الوحيد الذي ورد فيه ذكر لهذه الخصومة، ولم يرد مثل ذلك في أي موطن آخر من القرآن الكريم. وهذا هو المقام المناسب لذكرها، ذلك أن جو السورة مشحون بالخصومات فقد افتتحت السورة بالخصومة والشقاق: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} وهل الشِّقاقُ إلا خصومة؟

ووردت فيها قصة الخصومة التي فصل فيها نبي الله داود قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} .
وخصومة نبيِّ الله أيوب مع زوجه حتى إنه حلف لَيَضْرِبَنَّها مائة جلدة، فأفتاه الله بقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} .
وخصومة أهل النار وتبادل الشتائم فيما بينهم: {هاذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار} .
ثم ختم هذه الخصومة بقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار}.
وخصومة الملأ الأعلى في أمر آدم: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
فانظر كيف جاء ذكر الخصومة ههنا مناسباً لجو السورة تماماً.

مما مر يتبين أنَّ القصة وقعت ههُنا في سياق الخصومات وما تقتضيه من أخذ ورد ومحاجّة، بخلاف القصة في سورة الأعراف.
فقد ذكرنا فيما سبق أن القصة فيها وقعت في سياق العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم وفي سياق غضب الرب سبحانه فقد قال قبلها: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.

فقد ذكر أنه عاقب قسماً من بني آدم وأنزل عليهم بأسه لظلمهم.
فمقام السخط والغضب في قصة الأعراف أكبر مما هو في (ص) .
وقد بُنيت كلّ قصة على ما جاء في سياقها...

ثم إن مقام السخط والغضب في قصة الأعراف أكبر كما ذكرنا، فناسب ذلك الزيادة في التوكيد والغلظة في القول، ويدل على ذلك أمور منها:
أنه طوى اسم إبليس فلم يذكره في الأعراف فقال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} في حين ذكر اسمه في (ص) فقال: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} .

ويدل على ذلك صيغة الطرد في الأعراف قال: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} فقد كرر الطرد مرتين وهما قوله: (فاهبط) وقوله: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} .
وكرر الطرد مرة أخرى في الآية الثامنة عشرة قائلاً: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً}.


وليس الأمر كذلك في سورة (ص) فإنه قال: {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ولم يكرر الطرد مرة أخرى.

لقد طرده في الأعراف كما طرده في (ص) ثم زاد عليه فقال في الأعراف: {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين}
وقال أيضاً: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} ،
وقال في (ص) : {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}
فكرر الطرد بصيغة الخروج مرتين في الأعراف ومرة في (ص) .
وزاد على ذلك في الأعراف فقال: {قَالَ فاهبط مِنْهَا} والهبوط أشد طرداً من الخروج إذ الهبوط لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، بخلاف الخروج فقد لا يكون كذلك.
فهو أخرجه أولاً ثم أهبطه مما يدل على شدة الغضب في الأعراف.

ومما يدل على أن مقام السخط في قصة الأعراف أكبر: عدم التبسط مع إبليس في الكلام بخلاف ما ورد في (ص) . وأن عدم التبسط في الكلام مما يَدُلُّ علكى السخطِ الكبير يدل على ذلك أنه قال في (الأعراف) : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}.

في حين قال في (ص) : {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} والتبسط واضح في القول الأخير.
وقال في الأعراف: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
في حين قال في (ص) : {قَالَ رَبِّ فأنظرني إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
فزاد (ربِّ) والفاء.
وقال في الأعراف: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} .
في حين قال في (ص) : {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم}.
فزاد الفاء وزاد {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم}.

ثم انظر من الناحية الفنية كيف أنه في (ص) لما ذكر الفاء في قوله: {قَالَ رَبِّ فأنظرني} كان الجواب بالفاء كذلك {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ،
ولما لم يذكر الفاء في قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كان الجواب بدون فاء كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ}.

فانظر كيف أنه لما رأى أن الله يبسّط معه في الكلام تبسّط هو أيضاً، بخلاف ما في الأعراف فإنه لما رأى السخط الكبير لم يجرؤ أن يتسبّط في الكلام بل جعله على أوجز صورة وأقصر تعبير، ولكل مقام مقال.
فانظر يا رعاك الله علو هذا الكلام وفخامته والبصير يرى.


ذكر في الحجر أن إبليس (أبى) .
وذكر في (ص) أنه استكبر.
قال تعالى في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} .
وقال في ص: {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
ومعنى (أبى) غير معنى (استكبر) فإن معنى (أبى) : رفض وامتنع. ومعنى (استكبر): رأى نفسه خيراً من الآخرين.

والرفض والامتناع قد يكونان لغير الاستكبار. وقد بينت كلُّ قصة على ما ذُكِرَ فيها. فقد بُنيت قصة الحجر على الإباء والرفض، وبينت قصة (ص) على الاستكبار، يدلك على ذلك أمور منها:

أنه لما قال في (ص) : (استكبر) كان سؤال رب العزة له: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} وهذا هو المناسب للاستكبار.
ولم يقل مثل ذلك في الحجر.
ثم انظر إلى جواب إبليس في (ص) كيف كان مناسباً للاستبكار، ذلك أنه قال: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وهو تكبر واضح يدلك على ذلك أنه لما قال ذلك في قصة الأعراف قال له رب لعزة: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] .
ولم يقل مثل ذلك في الحجر ولكن قال: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}
وهذا هو المناسب لكلمة (أبى) ذلك أن هذا القول يدل على الرفض والامتناع لا على الاستكبار.
فإنك إذا قلت: (لم أكن لأفعل هذا) لم يُفِدْ قولكَ الاستكبار عن فعله، ولكن يفيد الامتناع عنه.


هذا علاوة على أن جوّ سورة الحجر عموماً هو الامتناع والرفض، وجوّ سورة (ص) هو الاستكبار والعلو.

فقد ذكر في الحجر أن قسماً من الكفار يرفضون الهداية ولو جئتهم بكل أسبابها قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} .

وذكر فيها أن قوم لوط رفضوا عرض نبيهم لهم حين طلب منهم الكَفَّ عن التعرض لضيفه، قال تعالى على لسان نبيه لوط: {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} فأجابوه قائلين: {أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} .

وذكر فيها أن أصحاب الحجر رفضوا الآيات التي جاء بها نبيهم وأعرضوا عنها، قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} .

في حين أن جوّ سورة (ص) يشيع فيه الاستكبار والعلو - كما أسلفنا -.
فقد ذكر في أول السورة أن الذين كفروا في عِزَّةٍ وشقاق.
والمراد بالعزة ههنا "الاستكبار عن الحق" وعدم الانقياد له.
وهذا كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206] .


ثم ذكر قصة الخصمين اللذين بغى أحدهما على صاحبه واستكبر عليه.
والباغي مُسْتعلٍ ظالم مستكبر.

وذكر الطاغين وعذابهم قال تعالى: {هاذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد} .

والطاغية: هو الأحمق المستكبر الظالم الذي لا يبالي ما أتى.
وذكر الذين اتخذوا غيرهم سخرياً، والذي يسخر من الناس مستكبر عليهم يراهم دونه.
قال تعالى: {وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار} .

ومن هذا نرى أن كل قصة وضعت في مكانها أحسن موضع وأجمله، وأن الجانب الذي عرضت له متلائم أحسن ملاءمة مع جوّ السورة الذي وردت فيه.

ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما جاء في البقرة بالقصة كاملة ما يتعلق منها بآدم وما يتعلق بإبليس جمع فيها ما تفرق في الحجر و (ص) فقال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] .
في حين قال في الحجر (أبى) وقال في (ص) {استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .

قال في الحجر: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} .
وقال في (ص) : {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
فذكر السجود في الحجر ولم يذكره في (ص) ذلك أن جو السجود شائع في قصة الحجر وسورتها أكثر مما في (ص) .
فقد ورد السجود في قصة الحجر ست مرات، في حين ورد في قصة (ص) ثلاث مرات.
وقد ختمت السورة بالسجود أيضاً فقال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} .

وهذا بخلاف ما في (ص) فإنه حتى إنَّ نبي الله داود لما كتاب لم يذكر أنه سجد بل قال: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} .
فوضع كل تعبير في المكان الذي هو أليق به.
ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما قال في إ بليس: {أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} أمر رسوله بأن يكون من الساجدين فقال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} .
وهذا تناسق في التعبير جميل ومخالفة أصيلة لإبليس.

أضاف اللعنة إلى نفسه في قصة (ص) فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي إلى يَوْمِ الدين} .

ولم يفعل مثل ذلك في الحجر بل قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} .

وذلك أنه لما قال في (ص) : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فأضاف الخلق إلى ذاته وإلى يديه العليتين قال: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتيا} فأضاف اللعنة إلى نفسه.
ولما لم يكن كذلك في الحجر قال: (اللعنة) .

ثم إنه في قصة (ص) ذكر نفسه أكثر مما في الحجر، فإنه ذكر نفسه في (ص) ست مرات وفي الحجر ثلاث مرات.
قال في الحجر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} .

وقال في (ص) مثل ذلك وزاد عليه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لعنتي}
فكان كل تعبير مناسباً لجو القصة التي ورد فيها....."[9]


أخوكم د. محمد الجبالي

[1]راجع تفسير أبي السعود[ إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: (5/ 77)، و (7/ 237)
[2]ابن عاشور ، التحرير والتنوير (23/ 305)
[3] محمد الجبالي، توجيه المتشابه اللفظي بين القدامى والمحدثين، ج1، ص49
[4] الخطيب الإسكافي ، درة التنزيل وغرة التأويل، تحقيق مصطفى آيدين ، ج2 ، ص576
[5] ألغراناطي، ملاك التأويل، ج1، ص179
[6] الكرماني، أسرار التكرار في القرآن، تحقيق عبد القادر عطا، ص118
[7] ابن جماعة، كشف المعاني، تحقيق عبد الجواد خلف، ص175
[8] الأنصاري، فتح الرحمن، تحقيق محمد علي الصابوني، ص188
[9] السامرائي، التعبير القرآني، ص285-311 بتصرف.
 
عودة
أعلى