الأستاذ الفاضل العليمي
الأخوة الأفاضل
السلام عليكم ورحمة الله
أتابع هنا الرد على السؤال الذي جاءني أعلى، وبدأت الرد عليه في المداخلة السابقة:
يقول الشق الثاني من السؤال: [ أبقيت على معنى (
ثم) الأصلى فى الآية 29 من سورة البقرة ، مع أنها لا تختلف فى شىء عن الآية 11 من سورة فصلت ، فالموضوع فيهما واحد، فلماذا نلجأ إلى التأويل مع تلك الأخيرة دون الأولى ؟]
أقول أن السؤال وجيه جداً، ... رغم أني كنت قد أشرت إلى الإجابة عنه في
المقالة مدار الحوار، ويبدو أن الأمر يحتاج مزيداً من التفصيل. وهذا ما سأقوم به الآن:
أولاً، الآيتان اللتان بدى أن موضوعهما واحدٌ (كما جاء في نص السؤال) هما:
- قوله تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ"(البقرة:29)
- وقوله تعالى "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ
الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ...(9-10)،
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ... (11)"(فصلت)
الفرق الجوهري بين الآيتين: هو أن المُتحدث عنه قبل (ثم) (ومن حيث اللفظ) في سورة البقرة هو (
ما في الأرض جميعاً)،وفي سورة فصلت هو (
الأرض .. والجبال والبركة والأقوات).
وما تبادر إلى الذهن أن (
ما في الأرض جميعاً) هو (جميع ما في هذه الأرض)، وأن هذا هو (
الأرض .. والجبال والبركة والأقوات).
ويأتي الإشكال الكبير مع هذا الفهم إذا استحضرنا قول الله تعالى "أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)"(النازعات)
حيث أتت الآية صريحة للغاية وقاطعة في أن دحو الأرض قد تم (بعد) بناء السماء ورفع سمكها، وإخراج ضحاها (خلق نجومها)
وذلك لأن (
بَعْدَ ذَلِكَ) قاطعة في الترتيب الزمني. بمعنى أن الأرض قد دحيت وأخرج منها الماء والمرعى وأرسيت الجبال بعد رفع السماء وخلق نجومها على نحو ضروري لا فكاك منه. وما من سبيل يمكن أن يختلف معه الترتيب الزمني مهما حاول المتأولون.
والنتيجة الأخيرة تلزمنا بأنه ليس كل ما في الأرض (مثل الماء ورسو الجبال) يمكن أن يكون قد خُلق قبل الاستواء إلى السماء، وذلك كما فهمنا من آية (البقرة:29).
وهذا هو الإشكال الأكبر.
ولللخروج من هذا الإشكال يجب تقديم أقوى الدليلين لأن الجمع بينهما مستحيل:
1- دليل سورة النازعات بأن الاستواء إلى السماء حدث قبل خلق (كل ما في الأرض)
2- دليل سورة البقرة بأن خلق (كل ما في الأرض) حدث قبل الاستواء إلى السماء.
وحيث أن دليل سورة النازعات أقوى، بل قاطع (بسبب قوة أسلوب
بعد ذلك في الترتيب الزمني من
ثم)، لزمنا إعادة تاويل آية (البقرة:29) لتتسق مع (النازعات:27-32).
إعادة تأويل آية (البقرة:29):
دفعنا إلى ذلك دفعاً، التصادم مع آيات الخلق في سورة النازعات، والتي جاءت أقوى في إفادة الترتيب الزمني. وبناءاً عليه، يجب أن يتفق التأويل الجديد في آية (البقرة:29) مع ترتيب الخلق في سورة النازعات، أي مع كون الاستواء إلى السماء قد حدث قبل خلق (كل ما في الأرض).
وبالنظر جيداً في آية (البقرة:29) والتي يقول الله تعالى فيها " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ"
سنجد أننا فهمنا (مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) على أنه هو هو (كل ما في كرة الأرض بما يشمل الجبال والماء). ويبدو لنا أن الإشكال يعود إلى هذا الفهم.
وللخروج من ذلك، نحلل المقطع (مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا) – في صورة تساؤلات وإجابات - كالآتي:
- هل (
جميعاً) تصف (
ما في الأرض) فتكون بمعنى (كل ما في الأرض) وهو المعنى الذي أخذناه بداهة لِعِلْمِنا الفريد بأن الأرض هي فقط ما تقع تحت أقدامنا دون غيرها؟
- أم أن (
جميعاً) تصف (
الأرض) فتكون بمعنى (ما في كل الأرض)، وهنا يكون الحديث على ذلك الخلق المودع (المكنون) في كل أرض خُلقت حتى تلك اللحظة، فيشمل ذلك أرضنا وغيرها من أراضي (أجرام)؟!
وإذا لم يكن أمامنا إلا هذين الاختيارين، ونعلم أن الأول تصادم مع سورة النازعات الأقوى، ومن ثم يجب استبعاده، فلن يتبقى إلا المعنى الثاني، وهو أن (
مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) تعني فقط (
ما في كل أرض)
ولكن،
(1) - هل يصمد معنى (الأرض) ليتحمل أن يؤول إلى (كل أرض في الكون)؟
(2)- وما عساه يكون (ما في كل الأرض)؟ ..هل هو شيء مشترك تحتويه كل هذه الأراضي، ويكون قد خُلق بالفعل قبل أن يحدث الاستواء إلى السماء وتسويتها إلى سبع سموات؟
الإجابة عن (1) هي نعم، بمعنى أن معنى (الأرض) يقبل – حسب السياق – أن يؤول إلى (كل أرض في الكون)، ونجد ذلك في كلام أبي حامد الغزالي في كتابه (محك النظر) حين قال:
[الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس، وقد يُسمَّى لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل: كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه.
فاعلم أن هذا الوهم غلط، فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس اللفظ، بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عدداً، لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول، لم يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ، بل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة.
فإن فرضنا عوالم، وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل، فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة (يقصد انغماساً وشطحاً) في النظريات من حيث لا يدري.]
وأما عن ماهية ذلك الشيء المحتوى في كل أرض في الكون، ويكون قد خُلق بالفعل قبل أن يحدث الاستواء إلى السماء وتسويتها إلى سبع سموات، فيمكن فهمه على أنه ما نراه يخرج من المادة وينعتق في صورة طاقة. بمعنى أن المادة الأرضية التي نراها ذات كتلة، هي طاقة منحبسة في ما نعرفه بجسيمات وذرات المادة، وذلك قبل أن تتواجد هذه الجسيمات والذرات. وإذا تحررت، فهي طاقة. وهذه الطاقة محتواة في كل مادة، أي في كل أرض، بل وكل ذرة في الكون. أي أنه قبل أن تتألف المادة في ذرات كانت طاقة. فالطاقة إذاً هي المحتوى المشترك في كل مادة الكون، أي في كل أراضي الكون. فإن قيل: وماذا عن النجوم، أقول أن النجوم هي الهيئة التفاعلية التي يجري فيها تحول الطاقة إلى مادة، أي إلى ذرات. ... وهذا يؤكد أن وجود الطاقة لابد وأن يكون سابقاً على النجوم وعلى كل أجرام الكون المادية، أي الأراضي. وعليه تكون الطاقة هي أول ما خُلق، لأن منها وما نبت فيها من ذرات أولية تتهيج النجوم، ومن نتاج تهيج النجوم، تتخلق المادة، التي بتراكمها تظهر الأراضي. ... والخلاصة المتناغمة والمتسقة مع كل هذه السيرورة، أن تكون الطاقة هي الشيء الوحيد الممكن أن يؤول إليه (
ما في الأرض جميعاً) أي: ما في الكواكب (والنجوم بحكم وحدة جنس الطاقة) جميعا. وذلك أن (ما في النجوم) هو تهيئة هذه الطاقة إلى مادة، فمحتوى النجوم هو من جنس ما في الأرض جميعاً، وإن كان مزيجاً من المادة الخام (الطاقة) والمادة المصنعة (ذرات المادة)، وذلك قبل أن تتكون السدم من الذرات، والغبار، وتتراكم في أجرام كوكبية مثل أرضنا.
وبناءاً على كل ذلك يكون معنى قول الله تعالى في سورة البقرة " هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ " أن ما خلقه الله تعالى أولاً كان طاقة خالصة (تمثل الآن ما في كل مادة الأجرام)، وبعد خلقها سوّى
محيطها المتسامي عنها (
السماء) إلى سبع هيئات وجودية (سبع سموات).
أما قول الله تعالى في سورة فصلت "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ .. (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ... (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ...(12)"
فالحكاية فيه (في الأية (9)) عن
كوكب الأرض خصيصاً، بدليل الجبال والبركة المنسوبة إليها في آية (10)، وهذه لن تنشأ إلا بعد خلق ذراتها في النجوم، والنجوم لن تنشأ إلا بعد خلق السماء وتسويتها. (وهذه الأخيرة - كما جاء في (البقرة:29)- لن تنشأ إلا بعد خلق الطاقة الخالصة الكلية في الكون والتي هي بمثابة الهيئة الخام - والتي تعرفنا عليها أنها المقصودة بـ "ما في جميع الأجرام" أي ما في الأرض جميعاً)
والخلاصة:
أن آية (البقرة:29) تتكلم عن: خلق طاقة الكون يليها تسوية السموات.
أما آيات (فصلت: 9-12) فتتكلم عن: تسوية السموات يليها تخلق المادة الأرضية (أقوات الأرض)، يليها تشكل كوكب الأرض.
أي أن موضوع الآيتين مختلف، ومن ظن أن الحكاية واحدة بين هذه وتلك، وأنها مجملة في الأولى ومفصلة في الثانية، فقد اختلط عليه الأمر.
وقد رافق اختلاف الموضوع بين الآيتين، اختلاف معنى (
ثم) بينهما أيضاً، بما استلزمه سياق كل منهما، فكان في الأولى عطف زمني، وكان في الثاني عطف إخباري، ثم تبين بالتحليل أنه عطف زمني منعكس، من الخبر الأحدث إلى الأقدم. (تراجع
مقالة "الرد على الدكتور محمود الصادق عرجون" لمزيد من التفصيل).
هذا والله تعالى أعلم