محمد يحيى شريف
New member
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله وبعد
إنّ ما ذكرته في البحث : "أصول ومصادر الشاطبية لورش عن نافع" يخضع لبعض الضوابط والأسس التي بُنيت عليها هذه التحريرات ، وهذه الضوابط هي :
أوّلاً : حصر طرق الشاطبية بما رواه الداني عن مشايخه الثلاثة : ابن خاقان وأبو الحسن وأبو الفتح ، وذلك من التيسير وجامع البيان والمفردات. والشاهد في ذلك ما ذكره الشيخ سلطان مزاحي رحمه الله تعالى حيث قال : "فإن قلت : من أين يعلم أنّ مكياً وابن بليمة ليسا من طرق الشاطبي ؟ قلت : لأنّ الشاطبي ينتهي سنده للداني لأنّه أخذ القراءة عن أبي الحسن عن ابن هذيل عن أبي داود الأموتي عن الداني وكلّ ما كان من طريق الداني سواء كان في التيسير أو جامع البيان أم المفردات فهو طريق له ، وما خرج عن ذلك ليس من طريقه ، ومكي وابن بليمة ليسا من طريق الداني. أمّا مكي فإنّه كان معاصراً للداني وتوفي قبله بستّ سنين وأشهر لأنّ مكياً توفي ثاني المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة ، والداني توفي في نصف شوال سنة أربعة وأربعين ، ولا يكون من طريقه إلاّ إن كان شيخاً له ، ولا نعلم أحداً ذكره من مشايخه ، إذ مشايخ الداني الذي أسند قراءة ورش عنهم : أبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد بن خاقان ، وأبو الفتح فارس بن أحمد ، وأبو الحسن طاهر بن غلبون كما يعلم ذلك من مراجعة النشر ، وأمّا ابن بليمة فتأخرت وفاته عن الداني بثمانية وستين سنة ، فهو إن كان موجوداً عند وفاة الداني لم يكن متأهّلاً لأن يأخذ القراءة عنه حتى يكون رواية الأكابر عن الأصاغر إذ لو كان كذلك لذكره في مشايخه ، فاتضح أنّهما ليسا من طرقه ، ومن هنا يعلم أنّ كلّ من تأخرت وفاته كصاحب التجريد والإعلان والمبهج وأبي العز القلانسي والغرناطي صاحب الإقناع والشهروزري صاحب المصباح وصاحب الكامل والمفيد أو كان معاصراً له لم يُعد من مشايخه ليس من طريقه.(رسالة الشيخ سلطان مزاحي في أجوبة المسائل العشرين ص24).
ثانياً : طول البدل للداني من جامع البيان خاصّ بما قرأه على شيخه أبي الفتح وهو مذهب الشيخ سلطان المزاحي كذلك في رسالته (انظر ص 21إلى ص29). ووجه تخصيص طول البدل للداني عن شيخه أبي الفتح ثبوت وجه التوسط في البدل عن ابن خاقان من التيسير مع عدم ثبوت الخلاف عنه في تمكين البدل دلّ ذلك على أنّ طول البدل هو من قراءة الداني على أبي الفتح من جامع البيان والله أعلم.
ثالثاً : قصر البدل مع الفتح من التذكرة وبه قرأ الداني على أبي الحسن ، ولا يختلف واحد منّا على أنّ كتاب التذكرة هو من طرق الداني.
رابعاً : قراءة الداني بالتقليل في ذوات الياء على ابن خاقان وأبي الفتح كما هو ظاهر في النشر والتيسير وجامع البيان وكلام المحققين.
ومن لاحظ منهاج الشيخ سلطان رحمه الله تعالى في حصره لطرق الشاطبية لورش يجد تناقضاً فيه ، وهذا التناقض يتمثّل في حصره لطرق الشاطبية بما رواه الداني دون غيره من جهة ، وإثباته لبعض الأوجه من الشاطبية التي ما قرأ بها الداني ولا رواها عن مشايخهه الثلاثة ولم يذكرها في أمهات كتبه أي التيسير وجامع البيان والمفردات من جهة أخرى. مثاله : وجه الطول في البدل مع الفتح في الذات وكذا وجه الطول في اللين المهموز نحو {شيء} وغير ذلك مما لم يثبت عن الداني ، ومع ذلك فقد أثبتها الشيخ سلطان في رسالته. إضافة إلى ذلك لا يمكن القطع بأنّ الشاطبي قرأ بجميع ما رواه الداني عن مشايخه الثلاثة بمضمون كتبه الثلاثة ودليل ذلك ما نقله السخاوي في فتح الوصيد من أسانيد للشاطبيّ عليه رحمة الله والتي تتضمن كتاب التيسير والكتاب الاقتصاد للداني دون غيرهما. قال النفزي شيخ الشاطبيّ : " إنّ صاحبنا أبا محمد قاسم بن فيرّه بن أبي القاسم الرعيني حفظه الله وأكرمه قرأ عليّ القرءان كمه مكرّراً ومردداً ، مفرداً لمذهب القرأة السبعة أئمّة الأمصار رحمهم الله من رواياتهم المشهورة وطرقهم المعروفة التي تضمنها كتاب التيسير والاقتصاد للحافظ أبي عمرو المقرئ " ثمّ قال " قراءة نافع من رواية ورش فقرأت بها القرءان كلّه وبغيرها من الروايات والطرق المتضمنة في الكتابين المذكورين على الفقيه الأجلّ...". (فتح الوصيد 1/116،117).
أقول : طريق كتاب التيسير معروف وهو قراءة الداني على أبن خاقان ، أمّا كتاب الاقتصاد فلا ندري هل مضمونه هو من قراءة الداني على ابن خاقان أم هو من قراءته على أبي الفتح أم هي على أبي الحسن أم هي عليهم جميعاً أم على بعضهم. وبالتالي فلا يمكننا القطع بأنّ الشاطبيّ قرأ بمضمون جميع مرويات الداني عن أبي يعقوب الأزرق.
كلام العلامة المتولي في طرق الشاطبية ومصادرها :
قد وجدتّ كلاماً للعلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى يشير إلى أنّ زيادات الشاطبية على التيسير مجهوله وليست من طرق الطيّبة. وهذا كلام في غاية الأهمّية لا أدرى كيف غفل عنه المعتنون بكتاب روض النضير حفظاً ودراسة : قال العلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى : " وكذلك منع الشيخ سلطان وتابعوه – أي ترقيق ذكراً- على التوسط – أي توسط البدل- من الشاطبية ، ولا أدري ما علّة ذلك لأنّ الترقيق من زيادات القصيدة على التيسير وطرقها مجهولة ، وليس في كلامهم ما يُعيّنها وغاية ما في النشر أنّه أوصل سند الشاطبي عن النفزي إلى صاحب التيسير من قراءته على ابن خاقان فقط وسكت عن ما وراء ذلك له في طريق الأزرق ، وقد أقرّ بذلك حيث قال- أي ابن الجزري- "مع أنّا لم نعد للشاطبي – رحمه الله – وأمثاله إلى صاحب التيسير وغيره سوى طريق واحدة وإلاّ فلو عددنا طرقنا وطرقهم لتجاوزت الألف ، وهذا علمٌ أُهمل وباب أُغلق وهو السبب الأعظم في ترك الكثير من القراءات والله تعالى يحفظ ما بقي " . ومن تأمّل قوله : " فلو عددنا طرقنا وطرقهم " قطع بأنّ ما زاده الشاطبي على التيسير ليس من طرق النشر ، فلا يُقال :" الترقيق مثلاً للنشر من الشاطبية " وهذه دقيقة لم أر من نبّه عليها ، فمن زعم بعد ذلك أنّ تحرير هذه الزيادة يؤخذ من النشر لم يدر حقيقة ما يقول " (روض النضير ص 268 و269).
وقال عند تعرّضه لتحرير أوجه اللين المهموز لورش ، فقال عليه رحمة الله تعالى : " وأمّا تحرير المسألة – أي أوجه اللين - من طريق الشاطبية فكما ذكرنا ، فهذا مشهورٌ وتفريعنا عليه ولكنّي لا أدري من أين ذلك ؟ لأنّ طرق الشاطبية التي زادها على التيسير مجهولة وهذا أمرٌ متوقّف على معرفتها ، ولم يُبرّر أحد ممن قال بذلك شيئاً منها " ( روض النضير ص253 طبعة دار الصحابة).
أقول : من خلال ما ذكره العلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى يظهر ما يلي :
أوّلاً : إنّ ابن الجزريّ عليه رحمة الله تعالى اقتصر على طريق واحد من الشاطبية وهي قراءة الداني على ابن خاقان اختصاراً وليس اختياراً لأنّه أثبت جميع ما تضمنته الشاطبية من الأحكام في كتابه النشر وأسنده من طريق واحد ، ومن هنا نشأ الإشكال وصارت الطرق الأخرى للشاطبية مبهمة ومجهولة بالنسبة لنا ، وهذه هي العلّة التي من أجلها ما استطاع المحققون حصر طرق الشاطبية وضبطها ، قيُحتمل أن يكون الشاطبيّ رحمه الله تعالى قرأ بقصر البدل مع الفتح من غير طريق الداني والتذكرة ، ويُحتمل أن يكون قد قرأ بالطول مع الفتح وهكذا. أمّا طرق الداني من طريق أبي الحسن وأبي الفتح فهي ثابتة في النشر ولكن مع غير طريق الشاطبيّ عليه رحمة الله تعالى.
ثانياً : إذا كانت بعض الطرق من الشاطبية مجهولة فعلى أيّ أساس يقوم المحققون بتحرير أوجه الشاطبية ؟ وعلى أيّ أساس يُحكَم على الوجه أنّه خارج من طرق الشاطبية ومصادرها إذ يُحتمل أن يكون ذلك الوجه من الطرق المجهولة.
ثالثاً : كيف يُقال أنّ طرق الشاطبية هي جزء من طرق الطيّبة في الجملة أو أنّ طرق الطيّبة زادت على ما الشاطبية مع أنّ البعض منها مجهول ولم تثبت من الطيّبة كما ذكر المتولي رحمه الله ، وحتّى ابن الجزريّ نفسه صرّح بذلك ؟ أمّا من حيث المضمون فالشاطبية هي جزء من مضمون الطيّبة ، إلاّ أنّ الإشكال يكمل في المصادر والطرق والأسانيد وليس في المضمون.
رابعاً : زيادات القصيدة على التيسير انقطع سندها من وقت ابن الجزريّ عليه رحمة الله تعالى حيث اقتصر على إسناد الداني عن ابن خاقان اختصاراً وأهمل الأسانيد التي تضمنتها تلك الزيادات. وأعتقد أنّ السبب الذي حمل ابن الجزريّ عليه رحمة الله الاقتصار على إسناد واحد للشاطبية هو انتشارها في الأمصار وتواتر ما تضمنته من القراءات والروايات والطرق والأوجه إضافة أنّ الأمّة قد تلقتها بالقبول في سائر الأعصار والأمصار واعتنى بها أهل الأداء حفظاً و رواية وشرحاً حتّى قال ابن الجزريّ رحمه الله تعالى " ولا أعلم كتاباً حُفِظ وعُرِض في مجلس واحد وتسلسل بالعرض إلى مصنّفه كذلك إلاّ هو ".
خامساً : الظاهر والله أعلم أنّ الأسانيد التي حكم عليها المتولي بأنّها مجهولة هي التي ذكرها السخاوي في فتح الوصيد وسأنقلها فيما يلي :
قال السخاوي : " يقول محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي المقرئ وفقه الله- شيخ الشاطبي- : إنّ صاحبنا أبا محمد قاسم بن فيرّه بن أبي القاسم الرعيني حفظه الله وأكرمه قرأ عليّ القرءان كله مكرّراً ومردّداً ، مفرداً لمذاهب القرأة السبعة أئمّة الأمصار رحمهم الله من رواياتهم المشهورة وطرقهم المعروفة التي تضمنها كتاب التيسير والاقتصاد للحافظ أبي عمرو المقرئ وغيرهما وهم ............." ثم قال " فأمّا قراءة نافع من رواية ورش عنه : فقرأت بها القرءان كلّه وبغيرها من الروايات والطرق المتضمنة في الكتابين المذكورين على الفقيه الأجلّ الشيخ المقرئ الإمام الأوحد أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد رحمه الله. قال قرأت بها القرءان كلّه أيضاً على الفقهاء الأجلّة الشيوخ المقرئين الأئمّة : أبي الحسن علي عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الدوش وأبي داود سليمان بن أبي القاسم العموي ، وأبي الحسن يحيى بن إبراهيم بن أبي زيد رحمه الله عليهم. قال أخبروني بها عن الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ ، مؤلّف الكتابين المذكورين تلاوةً منهم عليه رضي الله عنه بالأسانيد المذكورة فيهما عن الأئمّة السبعة الموصولة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأغني ذلك عن ذكرها هاهنا.
وقال لي : قرأت أنا أيضاً برواية ورش على الشيخ أبي الحسن يحيى بن أبي زيد المذكور على الفقيه الفاضل الإمام المقرئ أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيه رضي الله عنهما ، قال أبو الحسن : حدثنا بها الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب المقري عن أبي عدي عبد العزيز بن علي ،
وقال أبو الحسن : قرأت بها على الشيخ أبي محمد عبد الله بن سهل المقرئ ، وأخذ عليّ بالتحقيق ، وأخبرني أنّه قرأ بهما على أبي القاسم عبد الجبار ابن أحمد الطرسوسي بمصر ، وتلقاها أبو القاسم من أبي عدي المذكور ، وتلقاها أبو عدي من أبي بكر عبد الله بن سيف ، وتلقاها أبو بكر من أبي يعقوب يوسف بن عمرو الأزرق.... " اتنهى كلامه.(فتح الوصيد 1/118 إلى 120).
من خلال ما نقل السخاوي من كلام شيخ النفزي الشاطبي يتبيّن أن للشاطبي ثلاثة أسانيد
الأول : إسناده إلى الداني : من كتاب التيسير والاقتصاد لأبي عمرو الداني دون غيرهما .
الثاني : طريق مكي القيسي بصيغة التحديث وهذه في حدّ ذاتها علّة ، وهو ليس من طرق الشاطبي على ما في النشر ، ولا ندري أي الزيادات على التيسير تختصّ بهذا الطريق خاصّة أنّ مكي القيسي قرأ لورش على أبي عدي وعلى أبي الطيّب بن غلبون صاحب الإرشاد وعلى أبي بكر بن علي الأذفوي كما في التبصرة ، وطريقته في كتابه التبصرة ألاّ يعزُوَ الوجه إلى واحد أو إلى بعض مشايخه الثلاثة ، وبالتالي فلا ندري أي الزيادات على التيسير التي قرأها مكي القيسي على أبي عدي ، وحينئذ لا يمكننا حصر تلك الزيادات من طريق مكي القيسي من جهة. إضافة إلى ذلك فقد أهمل الشاطبي الكثير من الأوجه التي رواها مكي القيسي في كتابه التبصرة من غير خلاف عنه كالتقليل في ها {طه} مع أنّ الشاطبيّ لم يذكر إلاّ وجه الإمالة فيها ، فلو كان كتاب التبصرة لمكي القيسي من طرق الشاطبية فلماذا أهمل الشاطبيّ وجه التقليل في هاء {طه} ، اللهمّ إلاّ إذا وُجد طريق آخر لمكي القيسي خارج من طريق كتاب التبصرة فتكون جهالة الطريق آكدة.
الثالث : طريق الطرسوسي عن أبي عدي عن بن سيف : قال ابن الجزري : الثانية : طريق الطرسوسي من طريقي العنوان والمجتبى قرأ بها أبو طاهر بن خلف على أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي. أقول : وليس هو من طرق الشاطبية على ما في النشر ولا ندري أي الزيادات على التيسير تختصّ بهذا الطريق ، فيبقى المضمون مجهولاً وإن اتضح الطريق.
فنخلص مما سبق أنّ طريق الشاطبيّ من النشر هو من قراءة الداني على ابن خاقان. وأمّا زيادات القصيد فهي وإن كانت معلومة الطريق والإسناد على ما نقله السخاوي في فتح الوصيد إلاّ أنّ مضمون تلك الزيادات ببقى مجهولاً لعدم إمكان عزوها إلى مصادرها الأصلية جزئية جزئية.
وبهذا يتضح ولله الحمد لماذا عجز المحققون من أهل الأداء على حصر طرق ومصادر الشاطبية وعزو زيادات القصيد إلى مصادرها جزئية جزيئة ، وبالتالي فالأولى لنا أن نأخذ بما قرره إمام الفنّ في مسائله التبريزية من إثبات الأوجه الأربعة من الشاطبية وهي قصر البدل مع الفتح في الذوات ، وتوسطه مع التقليل ، وطوله مع الوجهين. ولا بدّ من التحفظ من كلّ ما يُحكم عليه أنّه خارج من طرق الشاطبية إذ لا يمكن إثبات ذلك ما دامت الطرق والمصادر غير واضحة.
وما دام الأمر غير واضح فما لنا إلاّ أن نتّبع إمام الفنّ بلا منازع الإمام ابن الجزريّ عليه رحمة الله ، نسأل الله تعالى أن يرفعه في الدرجات العلى
أكتفي بما ذكرت وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
إنّ ما ذكرته في البحث : "أصول ومصادر الشاطبية لورش عن نافع" يخضع لبعض الضوابط والأسس التي بُنيت عليها هذه التحريرات ، وهذه الضوابط هي :
أوّلاً : حصر طرق الشاطبية بما رواه الداني عن مشايخه الثلاثة : ابن خاقان وأبو الحسن وأبو الفتح ، وذلك من التيسير وجامع البيان والمفردات. والشاهد في ذلك ما ذكره الشيخ سلطان مزاحي رحمه الله تعالى حيث قال : "فإن قلت : من أين يعلم أنّ مكياً وابن بليمة ليسا من طرق الشاطبي ؟ قلت : لأنّ الشاطبي ينتهي سنده للداني لأنّه أخذ القراءة عن أبي الحسن عن ابن هذيل عن أبي داود الأموتي عن الداني وكلّ ما كان من طريق الداني سواء كان في التيسير أو جامع البيان أم المفردات فهو طريق له ، وما خرج عن ذلك ليس من طريقه ، ومكي وابن بليمة ليسا من طريق الداني. أمّا مكي فإنّه كان معاصراً للداني وتوفي قبله بستّ سنين وأشهر لأنّ مكياً توفي ثاني المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة ، والداني توفي في نصف شوال سنة أربعة وأربعين ، ولا يكون من طريقه إلاّ إن كان شيخاً له ، ولا نعلم أحداً ذكره من مشايخه ، إذ مشايخ الداني الذي أسند قراءة ورش عنهم : أبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد بن خاقان ، وأبو الفتح فارس بن أحمد ، وأبو الحسن طاهر بن غلبون كما يعلم ذلك من مراجعة النشر ، وأمّا ابن بليمة فتأخرت وفاته عن الداني بثمانية وستين سنة ، فهو إن كان موجوداً عند وفاة الداني لم يكن متأهّلاً لأن يأخذ القراءة عنه حتى يكون رواية الأكابر عن الأصاغر إذ لو كان كذلك لذكره في مشايخه ، فاتضح أنّهما ليسا من طرقه ، ومن هنا يعلم أنّ كلّ من تأخرت وفاته كصاحب التجريد والإعلان والمبهج وأبي العز القلانسي والغرناطي صاحب الإقناع والشهروزري صاحب المصباح وصاحب الكامل والمفيد أو كان معاصراً له لم يُعد من مشايخه ليس من طريقه.(رسالة الشيخ سلطان مزاحي في أجوبة المسائل العشرين ص24).
ثانياً : طول البدل للداني من جامع البيان خاصّ بما قرأه على شيخه أبي الفتح وهو مذهب الشيخ سلطان المزاحي كذلك في رسالته (انظر ص 21إلى ص29). ووجه تخصيص طول البدل للداني عن شيخه أبي الفتح ثبوت وجه التوسط في البدل عن ابن خاقان من التيسير مع عدم ثبوت الخلاف عنه في تمكين البدل دلّ ذلك على أنّ طول البدل هو من قراءة الداني على أبي الفتح من جامع البيان والله أعلم.
ثالثاً : قصر البدل مع الفتح من التذكرة وبه قرأ الداني على أبي الحسن ، ولا يختلف واحد منّا على أنّ كتاب التذكرة هو من طرق الداني.
رابعاً : قراءة الداني بالتقليل في ذوات الياء على ابن خاقان وأبي الفتح كما هو ظاهر في النشر والتيسير وجامع البيان وكلام المحققين.
ومن لاحظ منهاج الشيخ سلطان رحمه الله تعالى في حصره لطرق الشاطبية لورش يجد تناقضاً فيه ، وهذا التناقض يتمثّل في حصره لطرق الشاطبية بما رواه الداني دون غيره من جهة ، وإثباته لبعض الأوجه من الشاطبية التي ما قرأ بها الداني ولا رواها عن مشايخهه الثلاثة ولم يذكرها في أمهات كتبه أي التيسير وجامع البيان والمفردات من جهة أخرى. مثاله : وجه الطول في البدل مع الفتح في الذات وكذا وجه الطول في اللين المهموز نحو {شيء} وغير ذلك مما لم يثبت عن الداني ، ومع ذلك فقد أثبتها الشيخ سلطان في رسالته. إضافة إلى ذلك لا يمكن القطع بأنّ الشاطبي قرأ بجميع ما رواه الداني عن مشايخه الثلاثة بمضمون كتبه الثلاثة ودليل ذلك ما نقله السخاوي في فتح الوصيد من أسانيد للشاطبيّ عليه رحمة الله والتي تتضمن كتاب التيسير والكتاب الاقتصاد للداني دون غيرهما. قال النفزي شيخ الشاطبيّ : " إنّ صاحبنا أبا محمد قاسم بن فيرّه بن أبي القاسم الرعيني حفظه الله وأكرمه قرأ عليّ القرءان كمه مكرّراً ومردداً ، مفرداً لمذهب القرأة السبعة أئمّة الأمصار رحمهم الله من رواياتهم المشهورة وطرقهم المعروفة التي تضمنها كتاب التيسير والاقتصاد للحافظ أبي عمرو المقرئ " ثمّ قال " قراءة نافع من رواية ورش فقرأت بها القرءان كلّه وبغيرها من الروايات والطرق المتضمنة في الكتابين المذكورين على الفقيه الأجلّ...". (فتح الوصيد 1/116،117).
أقول : طريق كتاب التيسير معروف وهو قراءة الداني على أبن خاقان ، أمّا كتاب الاقتصاد فلا ندري هل مضمونه هو من قراءة الداني على ابن خاقان أم هو من قراءته على أبي الفتح أم هي على أبي الحسن أم هي عليهم جميعاً أم على بعضهم. وبالتالي فلا يمكننا القطع بأنّ الشاطبيّ قرأ بمضمون جميع مرويات الداني عن أبي يعقوب الأزرق.
كلام العلامة المتولي في طرق الشاطبية ومصادرها :
قد وجدتّ كلاماً للعلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى يشير إلى أنّ زيادات الشاطبية على التيسير مجهوله وليست من طرق الطيّبة. وهذا كلام في غاية الأهمّية لا أدرى كيف غفل عنه المعتنون بكتاب روض النضير حفظاً ودراسة : قال العلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى : " وكذلك منع الشيخ سلطان وتابعوه – أي ترقيق ذكراً- على التوسط – أي توسط البدل- من الشاطبية ، ولا أدري ما علّة ذلك لأنّ الترقيق من زيادات القصيدة على التيسير وطرقها مجهولة ، وليس في كلامهم ما يُعيّنها وغاية ما في النشر أنّه أوصل سند الشاطبي عن النفزي إلى صاحب التيسير من قراءته على ابن خاقان فقط وسكت عن ما وراء ذلك له في طريق الأزرق ، وقد أقرّ بذلك حيث قال- أي ابن الجزري- "مع أنّا لم نعد للشاطبي – رحمه الله – وأمثاله إلى صاحب التيسير وغيره سوى طريق واحدة وإلاّ فلو عددنا طرقنا وطرقهم لتجاوزت الألف ، وهذا علمٌ أُهمل وباب أُغلق وهو السبب الأعظم في ترك الكثير من القراءات والله تعالى يحفظ ما بقي " . ومن تأمّل قوله : " فلو عددنا طرقنا وطرقهم " قطع بأنّ ما زاده الشاطبي على التيسير ليس من طرق النشر ، فلا يُقال :" الترقيق مثلاً للنشر من الشاطبية " وهذه دقيقة لم أر من نبّه عليها ، فمن زعم بعد ذلك أنّ تحرير هذه الزيادة يؤخذ من النشر لم يدر حقيقة ما يقول " (روض النضير ص 268 و269).
وقال عند تعرّضه لتحرير أوجه اللين المهموز لورش ، فقال عليه رحمة الله تعالى : " وأمّا تحرير المسألة – أي أوجه اللين - من طريق الشاطبية فكما ذكرنا ، فهذا مشهورٌ وتفريعنا عليه ولكنّي لا أدري من أين ذلك ؟ لأنّ طرق الشاطبية التي زادها على التيسير مجهولة وهذا أمرٌ متوقّف على معرفتها ، ولم يُبرّر أحد ممن قال بذلك شيئاً منها " ( روض النضير ص253 طبعة دار الصحابة).
أقول : من خلال ما ذكره العلامة المتولي عليه رحمة الله تعالى يظهر ما يلي :
أوّلاً : إنّ ابن الجزريّ عليه رحمة الله تعالى اقتصر على طريق واحد من الشاطبية وهي قراءة الداني على ابن خاقان اختصاراً وليس اختياراً لأنّه أثبت جميع ما تضمنته الشاطبية من الأحكام في كتابه النشر وأسنده من طريق واحد ، ومن هنا نشأ الإشكال وصارت الطرق الأخرى للشاطبية مبهمة ومجهولة بالنسبة لنا ، وهذه هي العلّة التي من أجلها ما استطاع المحققون حصر طرق الشاطبية وضبطها ، قيُحتمل أن يكون الشاطبيّ رحمه الله تعالى قرأ بقصر البدل مع الفتح من غير طريق الداني والتذكرة ، ويُحتمل أن يكون قد قرأ بالطول مع الفتح وهكذا. أمّا طرق الداني من طريق أبي الحسن وأبي الفتح فهي ثابتة في النشر ولكن مع غير طريق الشاطبيّ عليه رحمة الله تعالى.
ثانياً : إذا كانت بعض الطرق من الشاطبية مجهولة فعلى أيّ أساس يقوم المحققون بتحرير أوجه الشاطبية ؟ وعلى أيّ أساس يُحكَم على الوجه أنّه خارج من طرق الشاطبية ومصادرها إذ يُحتمل أن يكون ذلك الوجه من الطرق المجهولة.
ثالثاً : كيف يُقال أنّ طرق الشاطبية هي جزء من طرق الطيّبة في الجملة أو أنّ طرق الطيّبة زادت على ما الشاطبية مع أنّ البعض منها مجهول ولم تثبت من الطيّبة كما ذكر المتولي رحمه الله ، وحتّى ابن الجزريّ نفسه صرّح بذلك ؟ أمّا من حيث المضمون فالشاطبية هي جزء من مضمون الطيّبة ، إلاّ أنّ الإشكال يكمل في المصادر والطرق والأسانيد وليس في المضمون.
رابعاً : زيادات القصيدة على التيسير انقطع سندها من وقت ابن الجزريّ عليه رحمة الله تعالى حيث اقتصر على إسناد الداني عن ابن خاقان اختصاراً وأهمل الأسانيد التي تضمنتها تلك الزيادات. وأعتقد أنّ السبب الذي حمل ابن الجزريّ عليه رحمة الله الاقتصار على إسناد واحد للشاطبية هو انتشارها في الأمصار وتواتر ما تضمنته من القراءات والروايات والطرق والأوجه إضافة أنّ الأمّة قد تلقتها بالقبول في سائر الأعصار والأمصار واعتنى بها أهل الأداء حفظاً و رواية وشرحاً حتّى قال ابن الجزريّ رحمه الله تعالى " ولا أعلم كتاباً حُفِظ وعُرِض في مجلس واحد وتسلسل بالعرض إلى مصنّفه كذلك إلاّ هو ".
خامساً : الظاهر والله أعلم أنّ الأسانيد التي حكم عليها المتولي بأنّها مجهولة هي التي ذكرها السخاوي في فتح الوصيد وسأنقلها فيما يلي :
قال السخاوي : " يقول محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي المقرئ وفقه الله- شيخ الشاطبي- : إنّ صاحبنا أبا محمد قاسم بن فيرّه بن أبي القاسم الرعيني حفظه الله وأكرمه قرأ عليّ القرءان كله مكرّراً ومردّداً ، مفرداً لمذاهب القرأة السبعة أئمّة الأمصار رحمهم الله من رواياتهم المشهورة وطرقهم المعروفة التي تضمنها كتاب التيسير والاقتصاد للحافظ أبي عمرو المقرئ وغيرهما وهم ............." ثم قال " فأمّا قراءة نافع من رواية ورش عنه : فقرأت بها القرءان كلّه وبغيرها من الروايات والطرق المتضمنة في الكتابين المذكورين على الفقيه الأجلّ الشيخ المقرئ الإمام الأوحد أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد رحمه الله. قال قرأت بها القرءان كلّه أيضاً على الفقهاء الأجلّة الشيوخ المقرئين الأئمّة : أبي الحسن علي عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الدوش وأبي داود سليمان بن أبي القاسم العموي ، وأبي الحسن يحيى بن إبراهيم بن أبي زيد رحمه الله عليهم. قال أخبروني بها عن الإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ ، مؤلّف الكتابين المذكورين تلاوةً منهم عليه رضي الله عنه بالأسانيد المذكورة فيهما عن الأئمّة السبعة الموصولة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأغني ذلك عن ذكرها هاهنا.
وقال لي : قرأت أنا أيضاً برواية ورش على الشيخ أبي الحسن يحيى بن أبي زيد المذكور على الفقيه الفاضل الإمام المقرئ أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الملك بن شفيه رضي الله عنهما ، قال أبو الحسن : حدثنا بها الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب المقري عن أبي عدي عبد العزيز بن علي ،
وقال أبو الحسن : قرأت بها على الشيخ أبي محمد عبد الله بن سهل المقرئ ، وأخذ عليّ بالتحقيق ، وأخبرني أنّه قرأ بهما على أبي القاسم عبد الجبار ابن أحمد الطرسوسي بمصر ، وتلقاها أبو القاسم من أبي عدي المذكور ، وتلقاها أبو عدي من أبي بكر عبد الله بن سيف ، وتلقاها أبو بكر من أبي يعقوب يوسف بن عمرو الأزرق.... " اتنهى كلامه.(فتح الوصيد 1/118 إلى 120).
من خلال ما نقل السخاوي من كلام شيخ النفزي الشاطبي يتبيّن أن للشاطبي ثلاثة أسانيد
الأول : إسناده إلى الداني : من كتاب التيسير والاقتصاد لأبي عمرو الداني دون غيرهما .
الثاني : طريق مكي القيسي بصيغة التحديث وهذه في حدّ ذاتها علّة ، وهو ليس من طرق الشاطبي على ما في النشر ، ولا ندري أي الزيادات على التيسير تختصّ بهذا الطريق خاصّة أنّ مكي القيسي قرأ لورش على أبي عدي وعلى أبي الطيّب بن غلبون صاحب الإرشاد وعلى أبي بكر بن علي الأذفوي كما في التبصرة ، وطريقته في كتابه التبصرة ألاّ يعزُوَ الوجه إلى واحد أو إلى بعض مشايخه الثلاثة ، وبالتالي فلا ندري أي الزيادات على التيسير التي قرأها مكي القيسي على أبي عدي ، وحينئذ لا يمكننا حصر تلك الزيادات من طريق مكي القيسي من جهة. إضافة إلى ذلك فقد أهمل الشاطبي الكثير من الأوجه التي رواها مكي القيسي في كتابه التبصرة من غير خلاف عنه كالتقليل في ها {طه} مع أنّ الشاطبيّ لم يذكر إلاّ وجه الإمالة فيها ، فلو كان كتاب التبصرة لمكي القيسي من طرق الشاطبية فلماذا أهمل الشاطبيّ وجه التقليل في هاء {طه} ، اللهمّ إلاّ إذا وُجد طريق آخر لمكي القيسي خارج من طريق كتاب التبصرة فتكون جهالة الطريق آكدة.
الثالث : طريق الطرسوسي عن أبي عدي عن بن سيف : قال ابن الجزري : الثانية : طريق الطرسوسي من طريقي العنوان والمجتبى قرأ بها أبو طاهر بن خلف على أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي. أقول : وليس هو من طرق الشاطبية على ما في النشر ولا ندري أي الزيادات على التيسير تختصّ بهذا الطريق ، فيبقى المضمون مجهولاً وإن اتضح الطريق.
فنخلص مما سبق أنّ طريق الشاطبيّ من النشر هو من قراءة الداني على ابن خاقان. وأمّا زيادات القصيد فهي وإن كانت معلومة الطريق والإسناد على ما نقله السخاوي في فتح الوصيد إلاّ أنّ مضمون تلك الزيادات ببقى مجهولاً لعدم إمكان عزوها إلى مصادرها الأصلية جزئية جزئية.
وبهذا يتضح ولله الحمد لماذا عجز المحققون من أهل الأداء على حصر طرق ومصادر الشاطبية وعزو زيادات القصيد إلى مصادرها جزئية جزيئة ، وبالتالي فالأولى لنا أن نأخذ بما قرره إمام الفنّ في مسائله التبريزية من إثبات الأوجه الأربعة من الشاطبية وهي قصر البدل مع الفتح في الذوات ، وتوسطه مع التقليل ، وطوله مع الوجهين. ولا بدّ من التحفظ من كلّ ما يُحكم عليه أنّه خارج من طرق الشاطبية إذ لا يمكن إثبات ذلك ما دامت الطرق والمصادر غير واضحة.
وما دام الأمر غير واضح فما لنا إلاّ أن نتّبع إمام الفنّ بلا منازع الإمام ابن الجزريّ عليه رحمة الله ، نسأل الله تعالى أن يرفعه في الدرجات العلى
أكتفي بما ذكرت وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين