خطبة الجمعة 16/شوال/1436 تفسير سورة الكوثر في مدينة الرمادي المثخنة بالجراح

ماهر الفحل

New member
إنضم
25/10/2005
المشاركات
450
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الحمد لله الذي جمعنا على القرآن ، وألف بين قلوبنا بالقرآن وهدانا إلى رحمته بالقرآن ، والحمد لله الذي أكرمنا بنزول القرآن وشرّفنا بالقرآن وجعلنا أهلاً لتحمل كلامه وتلقي خطابه.
والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الذي ربّاه وزكاه ربُّه بالقرآن ، قال تعالى : (( وإنك لعلي خلق عظيم )) وربى أصحابه بمجالس الذكر والقرآن ففتح الله به قلوباً غُلفاً وأعيناً عُمّياً وآذاناً صُمّاً وسلم تسليماً كثيراً ما ترددت على الألسن آيات الرحمن وتليت في المحاريب هدايات الفرقان .
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصاً له الدين ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين صلى الله عليه وسلم .
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرَضِينَ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
وارض اللهم عن الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
عبادَ الله اتقوا الله حقَّ التقوى ؛ فإنَّ أجسادنا على النار لا تقوى ، والزموا القرآن فهو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان يحُيها حياةً أبديةً سرمديةً ، وعليكم بالعلم النافع فإنَّه ذخيرةُ القبر ونور القلب ، وافعلوا الخير فإنَّ منْ يفعل الخير لا يعدم جوائزه ، وعليكم بكثرة العبادة فإنَّها دليلُ صدق التوجه إلى الله ، وعليكم بالهمة فإنَّها طريق القمة .
أما بعد :
موعدنا اليوم مع سورة الكوثر ، وتسمى بـ سورة النحر وسمَّاها البخاري في صحيحه : سورة (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)
وهي سورة مكية وأقصر سورة في كتاب الله ، وهي ثلاث آيات
وفيها خطاب على غرار قوله تعالى : ((وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)) .
وسورة الكوثر على قصرها وإيجاز آياتها فيها إعجازٌ ظاهرٌ ويقع في قلب المؤمن أنَّ عطاء الله لعباده من الخير هبةٌ وامتنانٌ وجودٌ وإحسانٌ ، ويجب أنَّ يقابل بالشكر اعتقاداً بالقلب ونطقاً وعملاً .
وهذه السورة في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نحو جو سورة الضحى والانشراح والقدر ، وفيها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم .
ولسورة الكوثر تناسب مع السورة التي قبلها ؛ فلما توعَّد الله المفرطين الساهين عن بقوله : ((فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)) وفي سورة الكوثر أمر الله نبيه بعكس ذلك فأمر بالصلاة بقوله : (( فَصَلِّ )) فأمره بالإخلاص وعدم الرياء في قوله (( لِرَبِّكَ )) فكان المعنى : صلِ لربك مريداً بعملك وجه الله ، وكذلك جاءت المناسبة بقوله : ((وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)) وجاء في سورة الكوثر الأمر بالنحر والذبح في قوله : (( وَانْحَرْ )) ففي النحر إطعام الفقراء والمساكين من المنحور فجاء في سورة الكوثر ما يضاد ذلك الفعل المشين.
ثم تأمل أخي الكريم ما جاء في أول السورة من اللطف الإلهي بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء الخطاب بضمير التعظيم والتفخيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وفي خطاب الله لنبيهِ تعزيرٌ وتعظيمٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ عظمة العطية ينظر إليها من جهة مقام المعطي العظيم ، ومعلوم أنَّ الهدية على قدْر مُعطيها ونستفيد من هذه الآية (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) عظمة المعطي سبحانه وتعالى من خلال الضمير (إِنَّا) وعظمة العطية لعظمة معطيها وعظمة المعطى له وهو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ؛ إذ إنَّ الله مالكُ الملك شرّف نبيَّه إذ أعطاه هذه العطية ، والآية الكريمة ابتدأتْ بضمير العظمة العائد إلى الله سبحانه وتعالى ثم ثنتْ بضمير خطاب النَّبيِّ ثم ثلثتْ بالعطية (الكوثر) وسر هذه العظمة من عظمة مصدرها.
ثم تأمل أخي رونق التعبير إذ قال : (أَعْطَيْنَاكَ) ولم يقل (آتيناك) كما جاء في قوله تعالى : (( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ )) فـــــ(أَعْطَيْنَاكَ) تدل على المِلكية والخصوصية والحيازة أمَّا (آتيناك) فهي قد لا تكون في شيءٍ خاصٍّ ؛ فإنزالُ القرآن ليس خاصاً بالرسول ، بل يجب عليه بيانه أما (الكوثر) يدل على شيء خاص له صلى الله عليه وسلم
وفي قوله تعالى : (أَعْطَيْنَاكَ) دليلٌ أنَّ هذه العطية لا يرجع فيها وربنا جل جلاله أكرمُ وأعظمُ مِنْ أنْ يعود في عطيته ، بخلاف الإيتاء فقد يُنزع المؤتى لحكمة يريدها العزيزُ الحكيم ُكما قال تعالى : ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) وتأمل المفردة القرآنية (تُؤْتِي) ولم يقل (تعطي) .
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) ويزداد النص إسعاداً للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ إذ جاء الفعل بصيغة الماضي (أعطى) لِيُفهم أنَّ العطية قد حصلت وتحقَّقت ، وفي ذلك الفرح والبهاء لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ هي عطيةٌ منجزةٌ . قال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : (( يَا سُفْيَانُ لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثَةٍ : بِتَعْجِيلِهِ ، وَتَصْغِيرِهِ ، وِسترِهِ )) .

وسترُهُ أنْ لا تذكره للناس أمَّا ذكرُ العطية هنا بقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)
فهو غاية في التشريف لمقام النَّبيِّ المنيف صلى الله عليه وسلم ، ففي ذلك رفع لمقام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بينَ عباد الله وهذا من رفع الذكر له صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : ((وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك )) .
وتأمل وعاود التدبر في قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) وهذه العطية منَ الله الكريم لنبيِّه المصطفى ورسوله المجتبى فضلٌ ابتدائيٌّ ، فمنْ نعم الله الكثيرة على نبيِّه أنْ أعطاه الله الكوثر ، وقد خصّه الله بهذا الفضْل العظيم والعطاءِ الكبير ثُمَّ أمره وأوصاه بالصلاة والنحر على سبيل الشكر .
و(الْكَوْثَر) على وزن (فوعل) من الكثرة ، والواو زائدة ؛ لإفادة التكثير والمبالغة ، ومعنى (الْكَوْثَر) في اللغة الخير الكثير ، والكثير جداً من كل شيء ، يقال : تكوثر الغبار ، أي : كثر كثرة زائدة ، ويقال : رجل كوثر ، أي : كثير العطاء والخير ، والكوثر السيد الكثير الخير ، و(الْكَوْثَر) مثل زورق ، جوهر دوسر ، وهي أسماء جامدة تدل على الكثرة في الشيء ؛ فدوسر ، أي : كثرة في القوة والضخامة .
فتفسير (الْكَوْثَر) في الآية ، هو : الخير الكثير ، العظيم الكثرة بما لا مزيد عليه أخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي بشر عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ : الكَوْثَرُ : الخَيْرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ : قُلْتُ لِسَعِيدٍ : إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الجَنَّةِ ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ : ((النَّهَرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ)) وعلى هذا نعلم أنَّ الذين عبَّروا بأنَّ الكوثر نهرٌ في الجنة قصدوا التفسير بالمثال .
ومن معاني الكوثر : كثرة علماء الأمة ؛ لأنَّ الله يحفظ هذه الأمة بالعلماء الصادقين الناطقين بالحق ، والعلماء ورثة الأنبياء .
ومن معاني الكوثر : كثرة أتباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وما أكثرهم بحمد الله في كل زمان ومكان على الرغم من كل المحاولات لوئد الإسلام والمسلمين ، كما هم الآن رمونا عن قوس واحدة ، ولكن الله يحفظ بيضة الإسلام .
ويشمل معنى (الْكَوْثَر) الخير المعنوي ، مثل : أنَّ الله شرّفه بالنبوة والرسالة وآتاه الله الإسلام والإيمان والإحسان والقرآن ووحيَّ السنة ورفعة الذكر .
وبعد ذكر هذا العطاء العظيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) جاء التفريع على هذا العطاء ؛ لِتُستقبل النِّعم بالشكر وتُستبقى العطايا بالحمد ، فقال تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) فيكون المعنى : نحن أعطيناك فصل ، وفي ذلك تقرير لعقيدة البراء من الكفرة الفجرة ، فقد أمره الله بما نهاه عنه الكفار كما قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ولذا خُتمتْ سورة العلق بقوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب) ولذا فإنَّ معركة الصلاة تنتهي بفوز الصلاة .
وتأملْ كيفَ أنَّ الله أمرَ نبيَّه بالشكر على عطية (الْكَوْثَر) بالصلاة ؛ لأنَّ الصلاة جامعةٌ لكل معاني الشكر ، والشكر يكون بثلاثة أشياء بالقلب : وهو إيمانُ القلب بأنَّ النِّعمة من الله عزّ وجلّ ، وأنَّ له المنة في ذلك ؛ ويكون باللسان : وهو التحدث بنعمة الله اعترافاً لا افتخاراً ؛ كما قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث) ويكون بالجوارح : وهو القيام بطاعة المنعِم ووضعِ النِّعم في مرضاة مسديها ؛ فالصلاةُ التي أمرَّ الله بها تتضمن كلَّ ذلك ، أخرج البخاري في صحيحه عن المُغِيرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ - أَوْ سَاقَاهُ - فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ : ((أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)) وجاء هذا أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .
وتأمل هذه في صلاة الضحى وأنها زكاة الجسد ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (( يُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنَ ابْنِ آدَمَ صَدَقَةٌ " ثُمَّ قَالَ: "إِمَاطَتُكَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى النَّاسِ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَمُبَاضَعَتُكَ أَهْلَكَ صَدَقَةٌ " قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَقْضِي الرَّجُلُ شَهْوَتَهُ، وَتَكُونُ لَهُ صَدَقَةٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَ تِلْكَ الشَّهْوَةَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ، أَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ " قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا فِيمَا أَحَلَّ اللهُ فَهِيَ صَدَقَةٌ " قَالَ: وَذَكَرَ أَشْيَاءَ صَدَقَةً صَدَقَةً، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : "وَيُجْزِئُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رَكْعَتَا الضُّحَى )) .
لذا فإنَّ الصلاة شكرٌ ، بل هي رأسُ الشكر ، وتأملْ كيفَ جاءت اللام لتحقيق الإخلاص (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) بمعنى : صل لربك موحِداً إياه مخلصاً له ، واختير الاسم الظاهر بدل الضمير وهو لفظ (ربك) للإشعار بأنَّ من له صفة الربوبية التي لا يشاركه فيها أحد هو المستحق وحده بأنْ تكون له الصلاة والنُّسك فأغنى هذا المعنى عن استعمال صيغة من صيغ الحصر للدلالة على وجوب إفراد الله بالصلاة والنسك .
واختير الاسم الظاهر (ربك) لأنَّه اللائق بمقام العبودية لله ، وفيه إيماءٌ إلى رعاية الله وحفظه لأنَّه الذي ربّاك في الماضي وتعاهدك وأعطاك الكوثر .
والنحر نوعٌ خاصٌ منَ الذبح ، وهو خاصٌّ بالإبل تُنحر قائمةً معقولةً يدُها اليسرى تُطعن في لَبّتها فتسقط أمَّا الذبح فهو للغنم والبقر .
والنحر يطلق ويراد به مطلق القربان ، ولذلك يسمى يوم العيد (يوم النحر) مع أنَّ ما يذبح من الغنم والبقر أكثر مما ينحر من الإبل .
وقوله تعالى : (إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر)
والشانيء هو المبغض ، والأبتر هو المقطوع ، ويطلق الأبتر عند العرب على من لا يأتيه أولاد ذكور ، وقد تولى الله عز وجل الدفاع عن نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم لما كان بعض المشركين يعير النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعدم حياة أولاد ذكور له .
 
عودة
أعلى