خزانة المواعظ ... (تحديث مستمر)

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع الطبيب
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
التوبة النصوح

جاء في تزكية النفوس لأحمد فريد:

قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ (التحريم : من الآية 8).
والنصحُ فى التوبة : هو تخليصها من كل غش ونقص وفساد ،قال الحسن البصرى : " هى أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لايعود فيه ".
وقال الكلبي : " أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن " وقال سعيد بن المسيب : " توبة نصوحاً تنصحون بها أنفسكم " .
قال ابنُ القيّم : " النصح فى التوبة يتضمن ثلاثة أشياء :
الأول : تعميم الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
الثاني : إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لايبقى عنده تردد ولا تلّوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته عزيمته مبادراً بها .
الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة فى إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ حاجته وحرمته ومنصبه ورياسته أو لحفظ وقته وماله أو استدعاء حمد الناس أوالهرب من ذمهم أولئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح فى صحتها وخلوصها لله عز وجل .
فالأول : يتعلق بما يتوب منه ، والأوسط :يتعلق بذات التائب ، والثالث : يتعلق بمن يتوب إليه، فنصح التوبة : الصدقُ فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها ، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهى أكمل ما يكون من التوبة .

وتوبة العبد إلى الله محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه بعدها فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة فإنه تاب عليهه:
أولاً : إذناً وتوفيقاً وإلهاماً ، فتاب العبد ، وتاب الله عليه .
ثانياً : قبولاً وإثابة لقوله عز وجلّ : ﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (التوبة: الآية 118).
فأخبر سبحانه: أن توبته عليهم سبقت توبتهم ، وأنها هى التى جعلتهم تائبين فكانت سببا مقتضيا لتوبتهم وهذا القدر من سر اسميه " الأول والآخرُ" فهو المعد والممد ومنه السبب والمسبب، والعبد تواب والله تواب ، فتوبة العبد رجوعه إلى سيده بعد الأباق ، وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق، وقبول وإمداد .
والتوبة لها مبدأ ومنتهى ، فمبدؤها : الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيمم الذى أمرهم بسلوكه بقوله تعالى : ﴿ وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ (الأنعام: من الآية 153).
ونهايتها : الرجوع إليه فى المعاد وسلوك صراطه الذى نصبه موصلاً إلى جنته ، فمن رجع إلى الله فى هذه الدار بالتوبة رجع إليه فى المعاد بالثواب ، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ (الفرقان: الآية 71)."
 
مراقبة الله

جاء في كتاب المواعظ لابن الجوزي:
أيها العبد‏:‏
راقب من يراك على كل حال، وما زال نظره إليك في جميع الأفعال، وطهر سرك فهو عليم بما يخطر بالبال.
المراقبة على ضربين: مراقبة الظاهر لأجل من يعلم، وحفظ الجوارح عن رذائل الأفعال واستعمالها حذراً ممن يرى؛ فأما مراقبة الباطن فمعناها: أدب القلب من مساكنة خاطر لا يرضاه المولى و جد السير في مراعاة الأولى.
وأما مراقبة الظواهر: فهي ضبط الجوارح، قال سري‏:‏ "الشوق والأنس يرفرفان على القلب فكان هناك الإجلال والهيبة حلا ولا رحلا"، ومن ظهر الخشوع على قلبه دخل الوقار على جوارحه، قال حاتم الأصم‏:‏ "إذا عملت فانظر نظر الله إليك وإذا شكرت فاذكر علم الله فيك"، وقال أبو الفوارس الكرماني‏:‏ "من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة‏":‏
[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
كانَ رَقيباً مِنكَ يَرعَى خواطِري =وآخرٌ يَرعَى نَاظِرِي ولساني
فما نَظرَت عينايَ بعدك منظراً =لعمرك إِلاَّ قُلتَ‏:‏ قَد رمقاني
وَلا بَدَرَت مِن فِيَّ بَعدَكَ لَفظَةً =لِغيركَ إِلاَّ قُلتَ‏:‏ قَد رمقاني
وَلا خَطَرَت فِي ذِكرِ غيركَ خَطرَةً =على القَلبِ إِلاَّ عَرجَا بعنان
وَفتيان صِدقٍ قد سمِعتَ كَلامُهُم=وعُفِّفَ عَنهُم خاطِري وجِناني
وَما الدَّهرُ أَسلاً عنهُم غيرَ أَنَني =أَراكَ على كل الجهاتِ تراني[/poem]
إِلى متى تميل إلى الزخارف، وإلى كم ترغب لسماع الملاهي المعازف، أما آن لك أن تصحب سيداً عارف، قد قطع الخوف قلبه وهو على علمه عاكف، يقطع ليله قياماً ونهاره صياماً لا يميل ولا آنف، دائم الحزن والبكاء متفرغٌ له ومنه خائف، ومع ذلك يخشى القطيعة والانتقال إلى صعب المتالف، وأنت في غمرة هواك وعلى حب دنياك واقف؟!
كأني بك وقد هجم عليك الحمام العاسف، وافترسك من بين خليلك وصديقك المؤالف، وتخلَّلى عنك حبيبك وقريبك ومن كنت عليه عاطف، لا سيتطيعون رَدَّ ما نزل بك ولا تجد له كاشف، وقد نزلت بفناء من له الرحمة والإحسان واللطائف، فلو عاتبك لكان عتبه على نفسك من أخوف المخاوف، وإن ناقشك في الحساب فأنت تألف ...
أين مقامك من مقام الأبطال يا بطال؟ يا كثير الزلل والخطايا يا قبيح الفعال، كيف قنعت لنفسك بخساسة الدون يا معنون، وغرتك أمانيك بحب الدنيا يا مفتون، هلا تعرضت لأوصاف الصدق فاستحليت بها القالب الحق‏:‏ ﴿ ‏التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ ﴾‏.
إلى متى أنت مريض بالزكام، ومتى تستنشق ريح قميص يوسف عليه السلام، يا غلام لعله يرفع عن بصيرتك حجاب العمى، وتقف متذللاً على باب إله الأرض والسماء، خرج قميص يوسف مع يهوذا من مصر إلى كنعان فلا أهل القافلة علموا بريحه ولا حامل القميص علم، وإنما قال صاحب الوجد‏:‏ ‏‏﴿ ‏إِنِّي لأََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ‏ ﴾.
كل واحد منكم في فقد قلبه كيعقوب في فقد يوسف، فلينصب نفسه في مقام يعقوب ويتحسر وليبك على ما سلف، ولا ييأَس .
 
توبة الخواص

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فصل​
وفوق هذا مقام آخر من التوبة أرفع منه وأخص لا يعرفه إلا الخواص المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم فلا يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يَرضَوا نفوسهم وأعمالهم له فهم أشد شيء احتقاراً لها وإزراء بها وإذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه : تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبدا وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون ﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾ [ يوسف : 76 ] وكلما ازدادوا حبا له ازدادوا معرفة بحقه وشهودا لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم.
وبالجملة : فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه : هي التوبة وسواهم محجوب عنها، وفوق هذه توبة أخرى الأولى بنا الإضراب عنها صفحا.

 
من حِكَم الله في الذنوب

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم وأنواع التعرفات إلى خلقه وتنويع آياته ودلائل ربوبيته ووحدانيته وإلهيته وحكمته وعزته وتمام ملكه وكمال قدرته وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة.

[poem=font="Traditional Arabic,6,,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ولله في كل تحريكة =و تسكينة أبداً شاهد
و في كل شيء له آية=تدل على أنه واحد[/poem]
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم كآيته في إغراق قوم نوح وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه وأهل معرفته وتوحيده فكم في ذلك من آية وعبرة ودلالة باقية على ممر الدهور وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود، وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر.
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم وإلقائهم له في النار حتى صارت تلك الآية حتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة، وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم، وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات، إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية.

 
خوف المقربين

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح:
وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه ، وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله ﴿ يخافون ربهم من فوقهم ﴾ ، والأنبياء بقوله ﴿ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله ﴾ ، وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ، ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة ، فالعبد إن كان مستقيما فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى: ﴿ يحول بين المرء وقلبه ﴾ أو نقصان الدرجة بالنسبة ، وإن كان مائلا فخوفه من سوء فعله . وينفعه ذلك مع الندم والإقلاع ، فإن الخوف ينشأ من معرفة قبح الجناية والتصديق بالوعيد عليها ، وأن يحرم التوبة ، أو لا يكون ممن شاء الله أن يغفر له ، فهو مشفق من ذنبه طالب من ربه أن يدخله فيمن يغفر له.
 
علل القلب والنفس

قال ابن القيّم رحمه الله في المدارج:
فلا إله إلا الله كم فى النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه !
وإنّ العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبتة وهو غير خالص لله !!
ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله !!
ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها، فبين العمل وبين القلب مسافة وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا، ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه، وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وبين الرب مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى فى طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة.
 
وصف المنافقين (1)

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه !
وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه !
وكم من علم له قد طمسوه !
وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه !
وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوها !
وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها !
فلا يزال الإسلام وأهله منهم فى محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ﴿ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾ [ البقره : 12 ]، ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾ [ الصف : 8 ].
اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، ﴿ وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ [ المؤمنون : 53 ]، ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾ [ الأنعام : 112 ] ولأجل ذلك ﴿ اتخذوا هذا القرآن مهجورا ﴾ [ الفرقان : 30 ].
درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها.
لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا، خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين.
نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع فى الصدور منها والأعجاز، وقالوا : ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز
أعدوا لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين، وقالوا لما حلت بساحتهم : مالنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين، وعوامهم قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وأقوم بطرائق الحجج والبراهين، وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور، ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور، فطريقة المتأخرين : أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين : ( أجهل! لكنها أسلم !! )
أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع، والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع.
 
وصف المنافقين (2)

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران.
فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: ﴿ آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ﴾.
رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون ﴿ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾.
قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون ﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ﴾.
من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون، ﴿ وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ﴾.
المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول، وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون ﴿ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ﴾.
لكل منهم وجهان: وجه يلقى به المؤمنين، ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين، وله لسانان : أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون، ﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ﴾.
قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذى لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا، فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون ﴿ الله يستهزىء بهم ويمدهم فى ظغيانهم يعمهون ﴾.
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات، فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين ﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾.
أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال، ثم طفىء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ﴾.
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن، وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾.
صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا فى الهرب والطلب فى آثارهم والصياح، فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم : المناظرين والمقلدين فقيل :﴿ أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ﴾.
ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه، وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه، لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير ﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ﴾.
 
وصف المنافقين 3

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا، وألطفهم بيانا، وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا.
فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، ﴿ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴾.
يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شَرَق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان.
هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق، فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر والسماء والطارق .
ولا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير، ﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ .
فما أكثرهم ! وهم الأقلون
وما أجبرهم ! وهم الأذلون
وما أجهلهم ! وهم المتعالمون
وما أغرهم بالله ! إذ هم بعظمته جاهلون
﴿ يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ﴾ .

إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم، ولا يستوي من موروثه الرسول، ومن موروثهم المنافقون، ﴿ إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ .
وقال تعالى فى شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط : ﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ﴾.
كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم، وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى: ﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾.
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين: ﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ﴾ .
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها، وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها، ولقد هتك الله أستارهم وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم.
واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال ﴿ ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ﴾ ، هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص، فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها (بالفصوص) فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم ﴿ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ﴾.
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان، ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم ﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ﴾.
فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق، وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق، ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون ﴿ خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ﴾.
أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام، وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام، فقسمت بين الناس الأنوار، وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار، يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح، فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح، باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة، ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان ﴿ انظرونا نقتبس من نوركم ﴾، لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور ﴿ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ﴾، حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق، فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق، وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق، فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار، كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار ﴿ ألم نكن معكم ﴾ نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور ﴿ قالوا بلى ﴾ ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور ﴿ ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ﴾ !!
 
مشهد التوفيق والخذلان

قال ابن القيم في المدارج:
فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له.
فهو دائر بين توفيقه وخذلانه فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله.
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحفظ وطرفة عين، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى لو تخلى عنه طرفة عين لثُلَّ عرش توحيده، ولخرت سماء إيمانه على الأرض وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فهجّيرى [أي: الكلمة التي لا يتركها] قلبه ودأب لسانه( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ( يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك)، ودعواه (يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك).
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه، كما يشهد ربوبيته وخلقه، فيسأله توفيقه مسألة المضطر، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه، مستسلما له، ناكس الرأس بين يديه، خاضعا ذليلا مستكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياةً، ولا نشورا.
 
مشهد التوحيد

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وأن الخلق مقهورون تحت قبضته، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه، فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكاها، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته، هذا فضله وعطاؤه وما فضل الكريم بممنون، وهذا عدله وقضاؤه ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ﴾.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده.
وفي هذه المشهد يتحقق للعبد مقام إياك نعبد وإياك نستعين علما وحالا، فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع والعطاء والمنع والهدى والضلال والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره، وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها وأرقها وأصفاها وأشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا فكان أحب إليه من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه وأرجى له من كل ما سواه، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب فتنساق المحاب تبعا لها، كما ينساق الجيش تبعا للسلطان، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء فينساق كل رجاء تبعا لرجائه، فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب، والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية أي باب توحيدالإلهية هو توحيدالربوبية.
 
زيادة الإيمان بعد الذنوب للمؤمن

قال ابن القيم رحمه الله في المدارج:
والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملة، فلو زال عنه ذلك الالتفات لصاح من شدة الألم !
فما الظن بعذاب القلوب وآلامها !
وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها، وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة وحزازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة، قال ابن عباس : ( إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق ).
وهذا يعرفه صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره، فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال تعالى : ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ [ الشورى : 30 ] ، وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه : ﴿ أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : 165 ]، وقال : ﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ [ النساء : 79 ].
والمراد بالحسنة والسيئة هنا: النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله، ولهذا قال: ﴿ ما أصابك ﴾ ولم يقل : ﴿ ما أصبت ﴾؛ فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال: أمر مشهود في العالم لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر والبر والفاجر، وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته: مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل وبالثواب والعقاب فإن هذا عدل مشهود محسوس فى هذا العالم ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة كما قال بعض الناس : إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة : انتظرت أثره السيء فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت يكون هجيراي : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه، وليس هذا لكل أحد بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئا من ذلك، ولا يشعر به ألبتة وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه فهو يشاهد هذا وهذا ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة وتكفئها ولا سيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب إذا أريد به الخير، وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر، ومتى انفتح هذا الباب للعبد : انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم وماجريات الخلق بل انتفع بماجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس، وفهم حينئذ معنى قوله تعالى : ﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾ [ الرعد : 33 ]، وقوله : ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ [ آل عمران : 18 ]، فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم فالمسلط له أعدل العادلين كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض : ﴿ بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ﴾ الآية [ الإسراء : 5 ] .
فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك كما قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت، فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه وتغير القلوب عليه، وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه، وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى ووقوعه على السبب الموجب لذلك : مما يقوي إيمانه فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن، والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه، وازداد إيمانا مع إيمانه فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا من الذين قال الله فيهم: ﴿ ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ﴾ [ الزمر : 35 ]، وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء من خلقه والله أعلم.
 
عودة
أعلى